دلال
14-08-2009, 05:37 PM
الإسهامات البناءة للتشيع في الاجتماع الإسلامي المعاصر
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الشيخ زكريا داود *بتصرف
لمعرفة مدى الإسهام أو عمقه لأي جماعة داخل محيط ما نحتاج لدراسة معمقة ومجهودات كبيرة لا يمكن أن تكون دقيقة إلا من خلال بحث جماعي تقوم به مؤسسة بحثية ويتفرغ له عدد كبير من الباحثين، لأن تأثيرات مثل هذا البحث وحساسيته تحتاج إلى حيادية وموضوعية، ومن الطبيعي ونحن نبحث في مسألة الإسهام أن نقر ونحدد مجموعة من البديهيات التي سوف تتأثر وتسير عليها هذه الدراسة.
1- أن الإسهام قضية جمعية متعددة الأطراف.
2- الإسهام في أي فعل أو قضية يتداخل فيه الفعل وردة الفعل.
3- تمتلك بعض الثقافات من خلال أبنيتها وأصولها دوافع ومحركات نحو الإسهام الإيجابي(البناء)، وأخرى نحو الإسهام السلبي (الهدم).
4- قد يكون إسهام فئة ما تواصلاً لما قامت به فئة أخرى نضب وجف ينبوع حركتها، وقد يمثل عملاً تأسيسياً مبتكراً.
5- حتى يفرض المنتج أو الإسهام حضوره وبقاءه، لابد من توفره على عدة مميزات منها:
أ- أن تكون فائدته عامة.
ب- أن يصبح جزءاً من ضروريات الحياة.
ت- أن يشعر ويعي الطرف الآخر أهميته وفائدته.
من المهم جداً ونحن نلقي الضوء على إسهامات أتباع آل البيت، أن نعرف أن فكر وثقافة أهل البيت ليست موجهة لفئة خاصة من الأمة، بل هي ثقافة القرآن ورسول الله، فهي موجهة لكل الأمة، كما أن إسهامات آل البيت تستهدف الأمة بكل فئاتها وقومياتها ولغاتها، لكن المستفيد الحقيقي هو من ينفتح على عطاءات وتوجيهات آل الرسول أما من يغلق قلبه وعقله عن علومهم وتوجيهاتهم فمن الطبيعي أن تفوته تلك الإبداعات والإسهامات التي تمثل أصالة قيم الوحي وتجلياته في حياتنا.
ولعل هذا ما تفقده الأمة التي تجهل مكانة أهل البيت، فتزيغ عن طريقهم لتأخذ ممن يحتاجون إلى التوجيه والتعليم، فعندما تطالع فقه الآخر فإنك تجد بعضهم يورد في قضية ما كل الآراء لكل العلماء حتى المجهولين والذين ليس لهم مكانة علمية مرموقة، لكنه يتجاهل أهل البيت، ومن ثم يدعي أنه يحب أهل البيت وأنه ممن يتبعهم، بينما القرآن عندما يتحدث عن الإتباع فإنه يوضح منهجاً متكاملاً، ويرفض مجرد الادعاء.
ولأن الشيعة يحملون رسالة أهل البيت فإنهم كانوا وفي كل مراحل حياتهم يشعرون أنهم ملزمون بتوصيلها للآخر، لكن ثقافة الإقصاء والتدليس التي حكمت العقل العربي مدة من الزمن والتي لا زالت حاكمة تقف حائلاً دون تحقيق استفادة كبيرة ومهمة لهذه الأمة، وكي نحقق هذا الهدف لابد من تعريف الأمة بحقيقة أهل البيت حتى يمكن لهم أن يحظوا بشرف الاستفادة من معينهم.
إن الإسهام لأي فئة اجتماعية لا يمكن أن يؤتي ثماره إذا لم يشعر الآخرون بضرورته وأهميته، ولهذا السبب كانت توجيهات العترة الطاهرة للفقهاء والتابعين لنهجهم هو إشاعة ثقافة احترام الآخر والحوار والتثاقف، ونبذ ثقافة الإقصاء والكذب والتدليس.
* نظرة الفكر الشيعي لمبدأ الإسهام.
إن الفكر الشيعي يؤسس لثقافة مبدعة وتساهم في الإبداع، ولا يمكن تحقيق هذا الأمر في ظل نفي الآخر، لأن الإبداع يكون نتيجة منظومة فكرية متكاملة ومنفتحة، ولا يمكن للإبداع والإسهام أن ينطلق من محيط ثقافي تشيع فيه ثقافة الإقصاء والتكفير، وهنا تبدأ مساهمة العقل الشيعي الكبرى، وهي إشاعة ثقافة التسامح والتعاون والانفتاح.
* وإذا نظرنا لهذا القرن وتأملنا المدارس الثقافية والفكرية المؤثرة فإننا نحصرها في ثلاثة مدارس:
1- مدرسة أهل البيت وأتباعهم.
2- المدرسة السنية.
3- مدرسة الفكر القومي العروبي.
ومما يؤسف له أن الصوت الذي علا داخل الإطار السني كان للتيار السلفي الذي رفض عصرنة الحياة، وأراد للأمة أن تبقى أسيرة التقليد الفكري والفقهي، وقد كانت لهذا التيار آليات عديدة في رفع صوته كان أكثرها ضرراً هو رفع راية العنف والإقصاء وإشاعة ثقافة الكراهية ونبذ الآخر ومحاربة ثقافة الحوار وتهديد السلم الأهلي في كل المجمعات العربية والإسلامية، وهنا طغى خطاب التفريق بين أبناء الأمة الواحدة.
وهنا بالذات تبدأ مسؤولية الفكر الشيعي ومساهمته الحقيقية، وهي إشاعة ثقافة التسامح والمحبة والوحدة والتعاون واحترام الرأي الآخر، وبناء السلم الأهلي، وبالفعل أثر هذا الخطاب في العديد من المجتمعات التي هالها ما رأت من التيار السلفي الذي جعل الأخوة يتقاتلون بعد أن عاشوا مئات السنين في وئام وسلام، ولعل العراق أبرز مثال على تلك الحقيقة المرة.
الإسلام كدين يؤسس لعقلية تقدس العمل والإبداع والإسهام في كل ميادين الحياة، بل الإسلام يجعل أحد أهداف الإنسان هي الإسهام البناء في تطوير الحياة، قال رسول الله: إن قامت الساعة وفي يد أحدكم الفسيلة‘ فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها.
في هذه الرواية يحث الإسلام على جعل الحياة حتى أخر لحظة منها مثمرة منتجة، لكن ثقافة التواكل وحب الراحة، جعلت العقلية العربية والمسلمة في آخر السلم الحضاري، ويكمن السبب في ذلك إلى غياب تلك الثقافة التي تجعل المساهمة في تطوير الحياة فعلاً مقدساً، وبالطبع هذه الثقافة تتقاطع مع ثقافة القتل والإرهاب والتدمير التي تشيعها العقلية المتخلفة التي لم تفهم روح الإسلام.
إن الإسهام في الحياة إذا كان فعلاً مقدساً، فإنه من الطبيعي أن يخضع لمجموعة من الضوابط التي تجعله مثمراً بناءاً، لأن الإسهام والعمل ليس مطلوباً لذاته بل لما يخلقه من أثار إيجابية كتسهيل وتيسير وتطوير لحياة الإنسان ورفاهيته، وهذا ما أراده أهل البيت، فعندما يعترض أحد الأئمة على مسألة أو عمل ما في المجتمع، فلما تخلفه تلك القضية من آثار سلبية في واقع الإنسان وحياته.
أهل البيت صاغوا العقلية الشيعية من خلال العديد من المبادئ التي تكرس مبدأ العمل والإنتاج، والأهم من ذلك هو خلق روحية وعقلية تؤمن بضرورة كون فائدة ذلك العمل عاماً لكل الناس، ولتتحقق تلك الرؤية يؤصل الفكر الشيعي المبادئ الأخلاقية ويتشكل العقل وفق تلك الأصول لتكون عاملاً مهماً في ترسيخ مبدأ عموم الفائدة، كقولهم: حب لأخيك ما تحب لنفسك، وفي الفقه الشيعي هناك تكريس لحب الآخرين، لتنعكس تلك الروح في كل أبواب الفقه لتتحول بعد ذلك إلى قواعد وأصول تحكم العلاقات الاجتماعية بين أبناء الأمة كقاعدة نفي الضرر، وقاعد احترام مال المسلم، وقاعدة الإحسان وغيرها من القواعد والنصوص التي تسعى لتكريس مبدأ الإسهام للجميع، ومثل هذه الروحية والمبدئية في التعاطي مع المجتمع هي التي تنتج أمة متقدمة متطورة فاعلة نشطة.
هذا الفكر الذي يؤصل لعقلية تقدس العمل والإسهام في تطوير الحياة وتقدمها، واجه أهم عقبة وهي الإقصاء والتشويه والشك، لكنه أثبت أنه قادر على تجاوز كل تلك العقبات، لذا فإن مطالبة الشيعة بحقوقهم السياسية والدينية في أي بلد في هذا العالم إنما يندرج ضمن السعي نحو الإسهام البناء، فهم يتوقون للعمل والإنتاج والإسهام في بناء مجتمع وأمة متحضرة فاعلة.
ولو نظرنا لإسهام الفكر الشيعي والتشيع في واقعنا المعاصر رغم تنامي عقلية الإقصاء عند الآخر، لعرفنا أن الدوافع التي تحثهم على الإسهام متأصلة وعميقة ولا يمكن لثقافة الإقصاء تغييرها، بل يمكننا الجزم أن تلك الثقافة تزيد الفكر الشيعي إصراراً على العطاء والإنتاج أكثر، والتاريخ البعيد والقريب شاهد على ذلك.
فقد جمع السيد حسن الصدر في كتابه الفذ: تأسيس الشيعة الكرام لعلوم الإسلام، الكثير من تلك العلوم والمعارف التي سبق الموالون لأهل البيت لتأسيسها ورفد العقل المسلم بها، كما يبرز جزءاً من المعاناة التي لقيها علماء وفقهاء الشيعة والتضحيات التي قدموها في سبيل تكريس مفاهيم الإسلام عبر إشاعة المعارف والعلوم، كالنحو والعروض، والبلاغة والبيان، والحديث وعلوم القرآن، وغيرها مما يعد أساساً لفهم الدين في معارفه وأحكامه.
* التشيع والإسهامات المعاصرة
في واقعنا المعاصر نرى أن التشيع كمذهب وكفكر وكفئة مؤمنة به قدم إسهامات كبيرة وكثيرة غيرت هذا القرن، وحتى لا نبالغ ولا نكون كمن يجر النار إلى قرصه، نستعرض مجموعة من الشواهد الحية والتي عايشتها الأمة.
إن الإسهام الأكبر الذي يقدمه التشيع للأمة يتمثل في البعد الابستمولوجي، ليقدم بذلك نظرة متكاملة للحياة في جميع أفاقها، ولأنه يقدم نظرة صلبة متوافقة مع كل مرحلة، تحمل حجج ودلائل صحتها معها، فإنه استطاع أن يتغلب ويتجاوز إيديولوجية السلطة وأتباعها التي يغلب عليها الطابع الإقصائي، فأصبح الفقيه والعالم الشيعي أكثر حضوراً في السجالات التاريخية والمعاصرة، ليلفت العقل المسلم أن هناك نظرة ورؤية أخرى لقضايا الأمة عليه أن يتفحصها ويتعرف على ملامحها.
ولتحقيق مبدأ أن التشيع رؤية الإسلام المتحضرة لطليعة الأمة، كان لزاماً على الفقيه والمتكلم الشيعي أن يسلك الحوار طريقاً لتوضيح تلك المعالم التي تميز تلك الرؤية، فرغم أن التشيع يهتم بتفاصيل بناء الإنسان، إلا أنه في ذات الوقت يسعى لبنائه ليكون طلائعياً رائداً متحرراً من قيود التبعية الفكرية والتخلف الحضاري.
ولا يمكن لأي فكر وعقيدة أن تبني الإنسان ليكون رائداً في ميادين الحياة، وهي تقوم بغرس قيم وثقافة مناقضة لمبدأ الحوار والتعارف والتلاقي، لأن تشكيل الإنسان المتحضر يتم من خلال التفاعل مع التعدد في الأمة، لذا كان العقل الشيعي دائماً سباقاً ومبادراً في هذه الميادين، وكانت الخطوة الأولى لرواد مدرسة أهل البيت في كل المراحل التي مر بها التشيع التأسيس لثقافة التقارب والتحاور والتعارف لتقود الأمة بعيداً عن التعصب والكراهية، وفي القرن المنصرم سعى العقل الشيعي لتكريس ثقافة الحوار مع الذات، حيث انطلقت فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية قبل أكثر من ثلاثة عقود، لتتوج في عصرنا الراهن بفكرة ومبدأ الحوار بين الحضارات.
إن المبادرة للتقريب بين المذاهب، تضع لبنة أساسية لحوار الأخوة والتعدد الثقافي والاجتهادات الفقهية في الوطن العربي والإسلامي، على غرار حوار الحضارات، فكما أن حوار الحضارات يستهدف التقريب بين الأمم، فأن فكرة التقريب هذه تهدف إلى خلق الألفة والمحبة بين الأخوة المختلفين داخل الدار،وقد كان الفقيه الشيعي المصلح الشيخ محمد تقي القمي، المؤسس الأول لهذه الفكرة التي لاقت قبولاً من المتنورين في الجامع الأزهر بمصر، لتصبح بعد ذلك داراً نشطة تقوم بجهود بناءة في التبشير للتقارب بين أبناء المذاهب الإسلامية.
وهناك الكثير من الإسهامات التي قدمها التشيع لأمتنا الإسلامية في حياتنا المعاصرة، لكن أبرز عطاء له هو تقديمه فكراً نيراً متحضراً يقدم الحلول الناجعة لأزماتنا وأهمها تلك التي تصب في توحيد الأمة ورص صفوفها، عبر تأسيس وتنظير منفتح يستهدف بناء فلسفة واضحة للدين وعلم الكلام، ونبذ التعصب والإرهاب، وإشاعة روح الاجتهاد والتدبر في النص الديني،وإيمانه بتعددية قراءة هذا النص والانفتاح على المذاهب الأخرى، وعلى الحوار بين الأديان، وقبول الرأي الآخر، والانفتاح على قضايا العصر بما فيها النظرة النقدية للتراث والوقوف إلى جانب الإبداع لا الإتباع؛ والابتكار لا التكرار والاجتهاد لا السلفية.
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعينا حتى تسكنه ارضك طوعا وتمتعه فيها طويلا برحمتك يا ارحم الراحمين
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الشيخ زكريا داود *بتصرف
لمعرفة مدى الإسهام أو عمقه لأي جماعة داخل محيط ما نحتاج لدراسة معمقة ومجهودات كبيرة لا يمكن أن تكون دقيقة إلا من خلال بحث جماعي تقوم به مؤسسة بحثية ويتفرغ له عدد كبير من الباحثين، لأن تأثيرات مثل هذا البحث وحساسيته تحتاج إلى حيادية وموضوعية، ومن الطبيعي ونحن نبحث في مسألة الإسهام أن نقر ونحدد مجموعة من البديهيات التي سوف تتأثر وتسير عليها هذه الدراسة.
1- أن الإسهام قضية جمعية متعددة الأطراف.
2- الإسهام في أي فعل أو قضية يتداخل فيه الفعل وردة الفعل.
3- تمتلك بعض الثقافات من خلال أبنيتها وأصولها دوافع ومحركات نحو الإسهام الإيجابي(البناء)، وأخرى نحو الإسهام السلبي (الهدم).
4- قد يكون إسهام فئة ما تواصلاً لما قامت به فئة أخرى نضب وجف ينبوع حركتها، وقد يمثل عملاً تأسيسياً مبتكراً.
5- حتى يفرض المنتج أو الإسهام حضوره وبقاءه، لابد من توفره على عدة مميزات منها:
أ- أن تكون فائدته عامة.
ب- أن يصبح جزءاً من ضروريات الحياة.
ت- أن يشعر ويعي الطرف الآخر أهميته وفائدته.
من المهم جداً ونحن نلقي الضوء على إسهامات أتباع آل البيت، أن نعرف أن فكر وثقافة أهل البيت ليست موجهة لفئة خاصة من الأمة، بل هي ثقافة القرآن ورسول الله، فهي موجهة لكل الأمة، كما أن إسهامات آل البيت تستهدف الأمة بكل فئاتها وقومياتها ولغاتها، لكن المستفيد الحقيقي هو من ينفتح على عطاءات وتوجيهات آل الرسول أما من يغلق قلبه وعقله عن علومهم وتوجيهاتهم فمن الطبيعي أن تفوته تلك الإبداعات والإسهامات التي تمثل أصالة قيم الوحي وتجلياته في حياتنا.
ولعل هذا ما تفقده الأمة التي تجهل مكانة أهل البيت، فتزيغ عن طريقهم لتأخذ ممن يحتاجون إلى التوجيه والتعليم، فعندما تطالع فقه الآخر فإنك تجد بعضهم يورد في قضية ما كل الآراء لكل العلماء حتى المجهولين والذين ليس لهم مكانة علمية مرموقة، لكنه يتجاهل أهل البيت، ومن ثم يدعي أنه يحب أهل البيت وأنه ممن يتبعهم، بينما القرآن عندما يتحدث عن الإتباع فإنه يوضح منهجاً متكاملاً، ويرفض مجرد الادعاء.
ولأن الشيعة يحملون رسالة أهل البيت فإنهم كانوا وفي كل مراحل حياتهم يشعرون أنهم ملزمون بتوصيلها للآخر، لكن ثقافة الإقصاء والتدليس التي حكمت العقل العربي مدة من الزمن والتي لا زالت حاكمة تقف حائلاً دون تحقيق استفادة كبيرة ومهمة لهذه الأمة، وكي نحقق هذا الهدف لابد من تعريف الأمة بحقيقة أهل البيت حتى يمكن لهم أن يحظوا بشرف الاستفادة من معينهم.
إن الإسهام لأي فئة اجتماعية لا يمكن أن يؤتي ثماره إذا لم يشعر الآخرون بضرورته وأهميته، ولهذا السبب كانت توجيهات العترة الطاهرة للفقهاء والتابعين لنهجهم هو إشاعة ثقافة احترام الآخر والحوار والتثاقف، ونبذ ثقافة الإقصاء والكذب والتدليس.
* نظرة الفكر الشيعي لمبدأ الإسهام.
إن الفكر الشيعي يؤسس لثقافة مبدعة وتساهم في الإبداع، ولا يمكن تحقيق هذا الأمر في ظل نفي الآخر، لأن الإبداع يكون نتيجة منظومة فكرية متكاملة ومنفتحة، ولا يمكن للإبداع والإسهام أن ينطلق من محيط ثقافي تشيع فيه ثقافة الإقصاء والتكفير، وهنا تبدأ مساهمة العقل الشيعي الكبرى، وهي إشاعة ثقافة التسامح والتعاون والانفتاح.
* وإذا نظرنا لهذا القرن وتأملنا المدارس الثقافية والفكرية المؤثرة فإننا نحصرها في ثلاثة مدارس:
1- مدرسة أهل البيت وأتباعهم.
2- المدرسة السنية.
3- مدرسة الفكر القومي العروبي.
ومما يؤسف له أن الصوت الذي علا داخل الإطار السني كان للتيار السلفي الذي رفض عصرنة الحياة، وأراد للأمة أن تبقى أسيرة التقليد الفكري والفقهي، وقد كانت لهذا التيار آليات عديدة في رفع صوته كان أكثرها ضرراً هو رفع راية العنف والإقصاء وإشاعة ثقافة الكراهية ونبذ الآخر ومحاربة ثقافة الحوار وتهديد السلم الأهلي في كل المجمعات العربية والإسلامية، وهنا طغى خطاب التفريق بين أبناء الأمة الواحدة.
وهنا بالذات تبدأ مسؤولية الفكر الشيعي ومساهمته الحقيقية، وهي إشاعة ثقافة التسامح والمحبة والوحدة والتعاون واحترام الرأي الآخر، وبناء السلم الأهلي، وبالفعل أثر هذا الخطاب في العديد من المجتمعات التي هالها ما رأت من التيار السلفي الذي جعل الأخوة يتقاتلون بعد أن عاشوا مئات السنين في وئام وسلام، ولعل العراق أبرز مثال على تلك الحقيقة المرة.
الإسلام كدين يؤسس لعقلية تقدس العمل والإبداع والإسهام في كل ميادين الحياة، بل الإسلام يجعل أحد أهداف الإنسان هي الإسهام البناء في تطوير الحياة، قال رسول الله: إن قامت الساعة وفي يد أحدكم الفسيلة‘ فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها.
في هذه الرواية يحث الإسلام على جعل الحياة حتى أخر لحظة منها مثمرة منتجة، لكن ثقافة التواكل وحب الراحة، جعلت العقلية العربية والمسلمة في آخر السلم الحضاري، ويكمن السبب في ذلك إلى غياب تلك الثقافة التي تجعل المساهمة في تطوير الحياة فعلاً مقدساً، وبالطبع هذه الثقافة تتقاطع مع ثقافة القتل والإرهاب والتدمير التي تشيعها العقلية المتخلفة التي لم تفهم روح الإسلام.
إن الإسهام في الحياة إذا كان فعلاً مقدساً، فإنه من الطبيعي أن يخضع لمجموعة من الضوابط التي تجعله مثمراً بناءاً، لأن الإسهام والعمل ليس مطلوباً لذاته بل لما يخلقه من أثار إيجابية كتسهيل وتيسير وتطوير لحياة الإنسان ورفاهيته، وهذا ما أراده أهل البيت، فعندما يعترض أحد الأئمة على مسألة أو عمل ما في المجتمع، فلما تخلفه تلك القضية من آثار سلبية في واقع الإنسان وحياته.
أهل البيت صاغوا العقلية الشيعية من خلال العديد من المبادئ التي تكرس مبدأ العمل والإنتاج، والأهم من ذلك هو خلق روحية وعقلية تؤمن بضرورة كون فائدة ذلك العمل عاماً لكل الناس، ولتتحقق تلك الرؤية يؤصل الفكر الشيعي المبادئ الأخلاقية ويتشكل العقل وفق تلك الأصول لتكون عاملاً مهماً في ترسيخ مبدأ عموم الفائدة، كقولهم: حب لأخيك ما تحب لنفسك، وفي الفقه الشيعي هناك تكريس لحب الآخرين، لتنعكس تلك الروح في كل أبواب الفقه لتتحول بعد ذلك إلى قواعد وأصول تحكم العلاقات الاجتماعية بين أبناء الأمة كقاعدة نفي الضرر، وقاعد احترام مال المسلم، وقاعدة الإحسان وغيرها من القواعد والنصوص التي تسعى لتكريس مبدأ الإسهام للجميع، ومثل هذه الروحية والمبدئية في التعاطي مع المجتمع هي التي تنتج أمة متقدمة متطورة فاعلة نشطة.
هذا الفكر الذي يؤصل لعقلية تقدس العمل والإسهام في تطوير الحياة وتقدمها، واجه أهم عقبة وهي الإقصاء والتشويه والشك، لكنه أثبت أنه قادر على تجاوز كل تلك العقبات، لذا فإن مطالبة الشيعة بحقوقهم السياسية والدينية في أي بلد في هذا العالم إنما يندرج ضمن السعي نحو الإسهام البناء، فهم يتوقون للعمل والإنتاج والإسهام في بناء مجتمع وأمة متحضرة فاعلة.
ولو نظرنا لإسهام الفكر الشيعي والتشيع في واقعنا المعاصر رغم تنامي عقلية الإقصاء عند الآخر، لعرفنا أن الدوافع التي تحثهم على الإسهام متأصلة وعميقة ولا يمكن لثقافة الإقصاء تغييرها، بل يمكننا الجزم أن تلك الثقافة تزيد الفكر الشيعي إصراراً على العطاء والإنتاج أكثر، والتاريخ البعيد والقريب شاهد على ذلك.
فقد جمع السيد حسن الصدر في كتابه الفذ: تأسيس الشيعة الكرام لعلوم الإسلام، الكثير من تلك العلوم والمعارف التي سبق الموالون لأهل البيت لتأسيسها ورفد العقل المسلم بها، كما يبرز جزءاً من المعاناة التي لقيها علماء وفقهاء الشيعة والتضحيات التي قدموها في سبيل تكريس مفاهيم الإسلام عبر إشاعة المعارف والعلوم، كالنحو والعروض، والبلاغة والبيان، والحديث وعلوم القرآن، وغيرها مما يعد أساساً لفهم الدين في معارفه وأحكامه.
* التشيع والإسهامات المعاصرة
في واقعنا المعاصر نرى أن التشيع كمذهب وكفكر وكفئة مؤمنة به قدم إسهامات كبيرة وكثيرة غيرت هذا القرن، وحتى لا نبالغ ولا نكون كمن يجر النار إلى قرصه، نستعرض مجموعة من الشواهد الحية والتي عايشتها الأمة.
إن الإسهام الأكبر الذي يقدمه التشيع للأمة يتمثل في البعد الابستمولوجي، ليقدم بذلك نظرة متكاملة للحياة في جميع أفاقها، ولأنه يقدم نظرة صلبة متوافقة مع كل مرحلة، تحمل حجج ودلائل صحتها معها، فإنه استطاع أن يتغلب ويتجاوز إيديولوجية السلطة وأتباعها التي يغلب عليها الطابع الإقصائي، فأصبح الفقيه والعالم الشيعي أكثر حضوراً في السجالات التاريخية والمعاصرة، ليلفت العقل المسلم أن هناك نظرة ورؤية أخرى لقضايا الأمة عليه أن يتفحصها ويتعرف على ملامحها.
ولتحقيق مبدأ أن التشيع رؤية الإسلام المتحضرة لطليعة الأمة، كان لزاماً على الفقيه والمتكلم الشيعي أن يسلك الحوار طريقاً لتوضيح تلك المعالم التي تميز تلك الرؤية، فرغم أن التشيع يهتم بتفاصيل بناء الإنسان، إلا أنه في ذات الوقت يسعى لبنائه ليكون طلائعياً رائداً متحرراً من قيود التبعية الفكرية والتخلف الحضاري.
ولا يمكن لأي فكر وعقيدة أن تبني الإنسان ليكون رائداً في ميادين الحياة، وهي تقوم بغرس قيم وثقافة مناقضة لمبدأ الحوار والتعارف والتلاقي، لأن تشكيل الإنسان المتحضر يتم من خلال التفاعل مع التعدد في الأمة، لذا كان العقل الشيعي دائماً سباقاً ومبادراً في هذه الميادين، وكانت الخطوة الأولى لرواد مدرسة أهل البيت في كل المراحل التي مر بها التشيع التأسيس لثقافة التقارب والتحاور والتعارف لتقود الأمة بعيداً عن التعصب والكراهية، وفي القرن المنصرم سعى العقل الشيعي لتكريس ثقافة الحوار مع الذات، حيث انطلقت فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية قبل أكثر من ثلاثة عقود، لتتوج في عصرنا الراهن بفكرة ومبدأ الحوار بين الحضارات.
إن المبادرة للتقريب بين المذاهب، تضع لبنة أساسية لحوار الأخوة والتعدد الثقافي والاجتهادات الفقهية في الوطن العربي والإسلامي، على غرار حوار الحضارات، فكما أن حوار الحضارات يستهدف التقريب بين الأمم، فأن فكرة التقريب هذه تهدف إلى خلق الألفة والمحبة بين الأخوة المختلفين داخل الدار،وقد كان الفقيه الشيعي المصلح الشيخ محمد تقي القمي، المؤسس الأول لهذه الفكرة التي لاقت قبولاً من المتنورين في الجامع الأزهر بمصر، لتصبح بعد ذلك داراً نشطة تقوم بجهود بناءة في التبشير للتقارب بين أبناء المذاهب الإسلامية.
وهناك الكثير من الإسهامات التي قدمها التشيع لأمتنا الإسلامية في حياتنا المعاصرة، لكن أبرز عطاء له هو تقديمه فكراً نيراً متحضراً يقدم الحلول الناجعة لأزماتنا وأهمها تلك التي تصب في توحيد الأمة ورص صفوفها، عبر تأسيس وتنظير منفتح يستهدف بناء فلسفة واضحة للدين وعلم الكلام، ونبذ التعصب والإرهاب، وإشاعة روح الاجتهاد والتدبر في النص الديني،وإيمانه بتعددية قراءة هذا النص والانفتاح على المذاهب الأخرى، وعلى الحوار بين الأديان، وقبول الرأي الآخر، والانفتاح على قضايا العصر بما فيها النظرة النقدية للتراث والوقوف إلى جانب الإبداع لا الإتباع؛ والابتكار لا التكرار والاجتهاد لا السلفية.
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعينا حتى تسكنه ارضك طوعا وتمتعه فيها طويلا برحمتك يا ارحم الراحمين