عبد العباس الجياشي
05-09-2009, 03:21 AM
بقلم: سلمان بن فهد العودة
ومن المبالغة في مدحهم ما ذكره ابن الجوزي في المناقب من تأثير موته عند الجن، وأنهم نعوا أحمد بن حنبل قبل موته بأربعين صباحاً (1).
والأمثلة على ذلك كثيرة وهي إن قصد بها تعظيم ابن حنبل وتمجيده، فإنها قد تؤدي عند غير العالمين إلى عكس ذلك، فإن أحمد بن حنبل بفضله وعلمه وورعه وزهده وتقواه، وتوفره على حديث الرسول، ودفاعه عن السنة الشريفة، وذوده عن صلب العقيدة، وشجاعته التي لم تتكرر إلا عند القليل من أمثاله ؛ كل ذلك -دون تلك الحواشي الزائدة والمبالغات غير المقبولة- يضعه في مكان الصدارة بين علماء المسلمين، وفي الصف الأول من أئمتهم العظام (2).
والناظر في كتاب «حلية الأولياء» لأبي نعيم، يجد من ذلك الكثير وخصوصاً الرؤى، التي لا يخفى ما في متونها وأسانيدها من المآخذ، ومن ذلك ما ساقه بسنده عن علي بن سهيل السجستاني، أنه رأى أحمد بن حنبل في المنام، حيث قال : رأيت كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس جاءوا إلى موضع عنده قنطرة لا تترك أحداً يجوز حتى يجيء بخاتم، ورجل ناحية يختم الناس ويعطيهم، فمن جاء بخاتم جاز، فقلت: من هذا الذي يعطي الناس الخواتم؟ فقالوا: هذا أحمد بن حنبل رحمه الله.
قال الذهبي في تاريخ الإسلام : ولقد ساق فيها أبو نعيم الحافظ -أي: في ترجمة أحمد في الحلية- من الخرافات والكذب ما يستحى من ذكره (3).
ومنه قول القاضي عياض :
ومالك المرتضى لا شك أفضلهم *** إمام دار الهدى والوحي والسنن (4)
وقول محمد بن إبراهيم البوشنجي :
وإني حياتي شافعي فإن أمت *** فتوصيتي بعد بأن يتشفعوا
وقول أبي إسماعيل الأنصاري الهروي :
أنا حنبلي ما حييت وإن أمت
فوصيتي للناس أن يتحنبلوا (5)
وقال الصاوي في «حاشيته على الجلالين» عند قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)(الكهف: من الآية 23، 24) « ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة، والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك إلى الكفر، لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر (6) ».
13- وهناك من جفا فيهم، فحط من قدر الجميع، وتنقص مقامهم الرفيع، ووضع من رتبتهم المنيفة، ومنزلتهم الشريفة، فهذا فسّق الشافعية، وذاك كفّر أبا حنيفة، فقد قال محمد بن موسى البلاساغوني الحنفي، قاضي دمشق المتوفى سنة (506) : « لو كان لي أمرٌ لأخذت الجزية من الشافعية (7)».
وقال الفسوي في «المعرفة والتاريخ »: حدثني محمد بن أبي عمر قال: قال سفيان: ما ولد في الإسلام مولود أضر على أهل الإسلام من أبي حنيفة (8).
وقال أيضاً : حدثنا أحمد بن يونس قال: سمعت نعيماً يقول: قال سفيان: ما وضع في الإسلام من الشر ما وضع أبو حنيفة إلا فلان - لرجل صلب (9) -.
وقال : حدثنا نعيم بن حماد ثنا إبراهيم بن محمد الفزاري قال:
كنا عند سفيان الثوري إذ جاءه نعي أبي حنيفة،فقال: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه، لقد كان ينقض عرى الإسلام عروة عروة، ما ولد في الإسلام مولود أشأم منه (10).
وقال : حدثنا نعيم قال: سمعت معاذ بن معاذ، ويحيى بن سعيد يقولان:
سمعنا سفيان الثوري يقول: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين (11).
ومع تصحيح المعلمي -رحمه الله- في « التنكيل « لخبر استتابة أبي حنيفة، وأنه كان ذلك في عهد الرشيد، إلا أن من أثنى عليه أكثر بأضعاف مضاعفة، من ذلك قول أبي معاوية الضرير: « حب أبي حنيفة من السنة وهو من العلماء الذين امتحنوا في الله (12)».
وقال الخريبي : « ما يقع في أبي حنيفة إلا حاسد أو جاهل (13)».
14- ومن ذلك -أي مما اجتمعوا فيه رحمهم الله- أنهم جبلوا على العناية بالوقت وضبطه والانتفاع به، وطووا نفوسهم عن شريحة من الخلق يضيّعون الأوقات، ويفرطون الأعمار بالقيل والقال، فكانوا لا يُرون إلا في حلقة لتعليم الناس العلم، أو في عيادة مريض، أو في تشييع جنازة ولذلك قال أبو بكر بن عياش : لقي أبو حنيفة من الناس عَنَتاً لقلة مخالطته، فكانوا يرونه من زهوٍ فيه، وإنما كان غريزة (14)».
أما الإمام أحمد فقد قال عنه ابنه عبد الله : كان أصبر الناس على الوحدة، وبِشْرُ لم يكن يصبر على الوحدة، كان يخرج إلى ذا وإلى ذا.
وكان يقول -رحمه الله- أشتهي مكاناً لا يكون فيه أحد من الناس.
ويقول : رأيت الخلوة أروح لقلبي.
وقال محمد بن الحسن بن هارون : رأيت أبا عبد الله إذا مشى في الطريق، يكره أن يتبعه أحد.
ومع هذا كله كان يجيب في العرس، والإملاك، والختان، وكان في حضوره ملاطفاً للناس متواضعاً، أمّاراً بالمعروف نهّاءً عن المنكر، يقوّم السلوك ويزيل المنكر، لم يكن يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذكر العلم تكلم.
وقال الشافعي -رحمه الله- :
إِذا لَم أَجِد خِلّاً وفيّاً فَوِحدَتي
أَلَذُّ وَأَشهى مِن غَوِيٍّ أُعاشِرُه
وَأَجلِسُ وَحدي لِلسفاهة آمِناً
أَقَرُّ لِعَيني مِن جَليسٍ أُحاذِرُه
وقال أيضاً :
لم أجد لذة السلامة حتى
صرت للبيت والكتاب جليسا
إنما الذل في مخالطة الناس
فدعهم تعش أميراً رئيسا (15)
(1) (ص568).
(2) الأئمة الأربعة، أحمد بن حنبل، (ص/214)، الدكتور مصطفى الشكعة.
(3) مجلد حوادث (241-250هـ)(ص/112)، وانظر السير (11/255).
(4) ترتيب المدارك (2/169)
(5) السير للذهبي (18/507)
(6) (3/9)
(7) ميزان الاعتدال (4/52)
(8) (3/95)
(9) المعرفة والتاريخ (3/95)
(10) المعرفة والتاريخ (3/96)
(11) المعرفة والتاريخ (3/96)
(12) تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (141-160)
(13) السير (6/402)
(14) ديوان الشافعي (ص/64)
(15) الديوان (ص/120).
منقول عن جريدة صوت الوطن العربي
الأربعاء 26/08/2009
السنة 14 العدد 5106
ومن المبالغة في مدحهم ما ذكره ابن الجوزي في المناقب من تأثير موته عند الجن، وأنهم نعوا أحمد بن حنبل قبل موته بأربعين صباحاً (1).
والأمثلة على ذلك كثيرة وهي إن قصد بها تعظيم ابن حنبل وتمجيده، فإنها قد تؤدي عند غير العالمين إلى عكس ذلك، فإن أحمد بن حنبل بفضله وعلمه وورعه وزهده وتقواه، وتوفره على حديث الرسول، ودفاعه عن السنة الشريفة، وذوده عن صلب العقيدة، وشجاعته التي لم تتكرر إلا عند القليل من أمثاله ؛ كل ذلك -دون تلك الحواشي الزائدة والمبالغات غير المقبولة- يضعه في مكان الصدارة بين علماء المسلمين، وفي الصف الأول من أئمتهم العظام (2).
والناظر في كتاب «حلية الأولياء» لأبي نعيم، يجد من ذلك الكثير وخصوصاً الرؤى، التي لا يخفى ما في متونها وأسانيدها من المآخذ، ومن ذلك ما ساقه بسنده عن علي بن سهيل السجستاني، أنه رأى أحمد بن حنبل في المنام، حيث قال : رأيت كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس جاءوا إلى موضع عنده قنطرة لا تترك أحداً يجوز حتى يجيء بخاتم، ورجل ناحية يختم الناس ويعطيهم، فمن جاء بخاتم جاز، فقلت: من هذا الذي يعطي الناس الخواتم؟ فقالوا: هذا أحمد بن حنبل رحمه الله.
قال الذهبي في تاريخ الإسلام : ولقد ساق فيها أبو نعيم الحافظ -أي: في ترجمة أحمد في الحلية- من الخرافات والكذب ما يستحى من ذكره (3).
ومنه قول القاضي عياض :
ومالك المرتضى لا شك أفضلهم *** إمام دار الهدى والوحي والسنن (4)
وقول محمد بن إبراهيم البوشنجي :
وإني حياتي شافعي فإن أمت *** فتوصيتي بعد بأن يتشفعوا
وقول أبي إسماعيل الأنصاري الهروي :
أنا حنبلي ما حييت وإن أمت
فوصيتي للناس أن يتحنبلوا (5)
وقال الصاوي في «حاشيته على الجلالين» عند قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)(الكهف: من الآية 23، 24) « ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة، والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك إلى الكفر، لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر (6) ».
13- وهناك من جفا فيهم، فحط من قدر الجميع، وتنقص مقامهم الرفيع، ووضع من رتبتهم المنيفة، ومنزلتهم الشريفة، فهذا فسّق الشافعية، وذاك كفّر أبا حنيفة، فقد قال محمد بن موسى البلاساغوني الحنفي، قاضي دمشق المتوفى سنة (506) : « لو كان لي أمرٌ لأخذت الجزية من الشافعية (7)».
وقال الفسوي في «المعرفة والتاريخ »: حدثني محمد بن أبي عمر قال: قال سفيان: ما ولد في الإسلام مولود أضر على أهل الإسلام من أبي حنيفة (8).
وقال أيضاً : حدثنا أحمد بن يونس قال: سمعت نعيماً يقول: قال سفيان: ما وضع في الإسلام من الشر ما وضع أبو حنيفة إلا فلان - لرجل صلب (9) -.
وقال : حدثنا نعيم بن حماد ثنا إبراهيم بن محمد الفزاري قال:
كنا عند سفيان الثوري إذ جاءه نعي أبي حنيفة،فقال: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه، لقد كان ينقض عرى الإسلام عروة عروة، ما ولد في الإسلام مولود أشأم منه (10).
وقال : حدثنا نعيم قال: سمعت معاذ بن معاذ، ويحيى بن سعيد يقولان:
سمعنا سفيان الثوري يقول: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين (11).
ومع تصحيح المعلمي -رحمه الله- في « التنكيل « لخبر استتابة أبي حنيفة، وأنه كان ذلك في عهد الرشيد، إلا أن من أثنى عليه أكثر بأضعاف مضاعفة، من ذلك قول أبي معاوية الضرير: « حب أبي حنيفة من السنة وهو من العلماء الذين امتحنوا في الله (12)».
وقال الخريبي : « ما يقع في أبي حنيفة إلا حاسد أو جاهل (13)».
14- ومن ذلك -أي مما اجتمعوا فيه رحمهم الله- أنهم جبلوا على العناية بالوقت وضبطه والانتفاع به، وطووا نفوسهم عن شريحة من الخلق يضيّعون الأوقات، ويفرطون الأعمار بالقيل والقال، فكانوا لا يُرون إلا في حلقة لتعليم الناس العلم، أو في عيادة مريض، أو في تشييع جنازة ولذلك قال أبو بكر بن عياش : لقي أبو حنيفة من الناس عَنَتاً لقلة مخالطته، فكانوا يرونه من زهوٍ فيه، وإنما كان غريزة (14)».
أما الإمام أحمد فقد قال عنه ابنه عبد الله : كان أصبر الناس على الوحدة، وبِشْرُ لم يكن يصبر على الوحدة، كان يخرج إلى ذا وإلى ذا.
وكان يقول -رحمه الله- أشتهي مكاناً لا يكون فيه أحد من الناس.
ويقول : رأيت الخلوة أروح لقلبي.
وقال محمد بن الحسن بن هارون : رأيت أبا عبد الله إذا مشى في الطريق، يكره أن يتبعه أحد.
ومع هذا كله كان يجيب في العرس، والإملاك، والختان، وكان في حضوره ملاطفاً للناس متواضعاً، أمّاراً بالمعروف نهّاءً عن المنكر، يقوّم السلوك ويزيل المنكر، لم يكن يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذكر العلم تكلم.
وقال الشافعي -رحمه الله- :
إِذا لَم أَجِد خِلّاً وفيّاً فَوِحدَتي
أَلَذُّ وَأَشهى مِن غَوِيٍّ أُعاشِرُه
وَأَجلِسُ وَحدي لِلسفاهة آمِناً
أَقَرُّ لِعَيني مِن جَليسٍ أُحاذِرُه
وقال أيضاً :
لم أجد لذة السلامة حتى
صرت للبيت والكتاب جليسا
إنما الذل في مخالطة الناس
فدعهم تعش أميراً رئيسا (15)
(1) (ص568).
(2) الأئمة الأربعة، أحمد بن حنبل، (ص/214)، الدكتور مصطفى الشكعة.
(3) مجلد حوادث (241-250هـ)(ص/112)، وانظر السير (11/255).
(4) ترتيب المدارك (2/169)
(5) السير للذهبي (18/507)
(6) (3/9)
(7) ميزان الاعتدال (4/52)
(8) (3/95)
(9) المعرفة والتاريخ (3/95)
(10) المعرفة والتاريخ (3/96)
(11) المعرفة والتاريخ (3/96)
(12) تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (141-160)
(13) السير (6/402)
(14) ديوان الشافعي (ص/64)
(15) الديوان (ص/120).
منقول عن جريدة صوت الوطن العربي
الأربعاء 26/08/2009
السنة 14 العدد 5106