عاشق الامام الكاظم
19-09-2009, 01:11 AM
إن المعرفة هي نصف الطريق، فالذي لا يعرف أينَ الطريق؛ لا يصل إلى شيء.. بعض الناس لديهم همم عالية، ولديهم رغبة في التكامل، والخروج من جاذبية الهوى إلى عالم الهُدى.. ولكن لا يعلم إلى أينَ يسير؛ هذهِ هي المشكلة الأساسية في هذا المجال.. ولطالما بدأ الناس بداية طيبة في حياتهم، مثلا: أقام صلاة الليل فترة من الزمن، والتزم ببعض المستحبات والأوراد؛ ولكنه لم يعرف كيف يسلك، فوقعَ في المهالك.. ولهذا نلاحظ أن الكثيرين يحبون الكمال، ولكن الذين وصلوا هم قلة.. الحب كثير، والميل كثير؛ ولكن الوصول قليل.
إن أواخر سورة الفرقان، تعطينا المعالم الأساسية لعباد الرحمن، ولكن يجب عدم الاكتفاء بهذا الحديث المختصر، فبحمد الله هذهِ الأيام وسائل الثقافة الحديثة وسائل متعددة، بإمكان أحدنا أن يطلع على عشرات التفاسير، من خلال قرص مدمجٍ واحد.. ولى ذلك الزمان الذي كان العلماء الأبرار، يتعبون أنفسهم الزكية فيه.. فالعلماء السلف لهم فضل كبير في نشر العلم والفضيلة.. رحم الله صاحب كتاب "عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار" هذا العالم الكبير له مؤلفات رائعة وراقية في بلاد الهند!.. الإنسان العابد عندما يموت، تظهر آثار العبادة عادة على جبهته وعلى ركبتيه، ولكن هذا العالم الكبير رأوا آثار الثفنات: لا على جبهته، ولا على ركبتيه؛ وإنما على صدره!.. وذلك لأنه في السنوات الأخيرة من عمره، كانَ مقعدا ممددا بالفراش، وكان لابدَ أن يطالع، فيضع الكتاب على صدره.. والكتب القديمة كبيرة وثقيلة، فأثرت هذه الكتب على لحمِ بدنه.. هكذا تعلموا العلم!.. أما نحنُ فإننا نستلقي على فراشنا، وبهذهِ الأقراص المدمجة ننظر إلى ما نريد.. ولكن هذه النعمة، هي سلاحٌ ذو حدين هما: الاستفادة، والفساد.. وإن كانَ -مع الأسف- ضحايا الحد الثاني، لا يقاس بمن استفاد من هذهِ الوسائل استفادة جيدة.
إن البعض قد يقرأ هذهِ الآيات: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}...الخ، وينسى تلك الآيات التي قبل آيات عباد الرحمن.. فالنظرة الكونية للوجود، وهي أن ينظر الإنسان إلى نفسه، على أنه مرتبطٌ برب السموات والأرض؛ تجعل الإنسان لا يعيش الغُربة أبداً، ولا يعيش الوحشة أبداً أينما يذهب {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}.. عندئذ يصبح هذا الإنسان في قمة الأمنِ والأمان.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ}.. لو طبقنا هذهِ الآية في حياتنا، هل يبقى قلق في الحياة؟!.. كل واحد منا هذهِ الأيام لهُ: هاجس، وخوف، وقلق.. كل واحد منا أسير أمرين لا ثالث لهما: إما خوفٌ من المستقبل، أو حزنٌ على الماضي.. هكذا حياتنا؛ مزيج من الخوف والحزن: الخوف مما سيأتي، وهذهِ الأيام الكرة الأرضية ملتهبة، يصبح الصباح وإذا بالعالم قد تغير، لا نعلم ماذا سيحصل؟!.. وهنالكَ حزنٌ على الماضي، من منا راضٍ عن ماضيه؟!.. الإنسان دائماً يقول: لو كانَ كذا، لكانَ كذا.. ولذا جاء في الأدب النبوي قوله -صلى الله عليه وآله و-سلم: (فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا؛ لكان كذا وكذا.. ولكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل.. فإن لو تفتح عمل الشيطان).. في عالم المادة لا تقل: لو اشتريت هذهِ القسيمة قبل عشرين سنة، كنت اليوم من أصحاب الملايين؛ نعم هذه الـ(لو) لو شيطانية؛ أما إذا قلت: لو قمت بهذا العمل الرحماني لكانَ كذا؛ هذه الـ(لو) لو رحمانية؛ لأنَ التدارك ممكن.. فالذي يقول: لو كنت أحسنت علاقتي مع زوجتي، لما كنت الآن كذا وكذا!.. ما عليه إلا أن يحسم أمره من الآن، ويرفع عنه سوء المزاج والحدة والغضب.. في القضايا الإلهية، رب العالمين يقبل التوبة من عباده، ويكفر السيئات.
فإذن، إن كل واحدٍ منا إما أنه يعيش: حالة الخوف، أو حالة الحزن.. والقرآن الكريم يقول: إن أردت أن تتخلص من هذين الكابوسين، عليك بقوله سبحانه وتعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.. فالولي هو الذي لا يخاف ولا يحزن، أما أبناء الدنيا فكلهم خوف، وكلهم حزن؛ لأنهم لم يرتبطوا بالمطلق، لم يرتبطوا بالحي القيوم.. النبي الأكرم (ص) كان العدو خلفه، والغار أمامه، فدخل الغار، وإذا بالعنكبوت تنسج بيتها، والحمامة تضع بيضها.. ربُ العالمين إن أرادَ أن يوجد المخرج، هكذا يفعل.. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}:
إن موسى -عليه السلام- كان فرعون وراءه، والبحر إمامه؛ أين المفر: إما القتل، وإما الغرق؛ ولا ثالث لهما.. وإذا برب العالمين يعبد الطريق في هذا البحر، طريق يبس، والجدار من اليمين واليسار عبارة عن مياه.. وهكذا ينجو موسى عليه السلام!..
إن إبراهيم الخليل (عليه السلام) وضع في المنجنيق، ورمي بهِ في النار المشتعلة؛ فواجه ذلك بكل رباطة جأش، روي أنه (لما زج إبراهيم -عليه السلام- في المنجنيق، وأتاه جبريل عليه السلام، فقال: ألك حاجة؟.. قال سيدنا إبراهيم عليه السلام: أما إليك فلا، وأما إلى الله تعالى فبلى.. فقال جبريل عليه السلام: سله، فقال عليه الصلاة والسلام: حسبي من سؤالي علمه بحالي).. يرمى بهِ في النار، هذهِ النار تتحول إلى مكانٍ بارد، ولعلهُ كانَ مزعجاً؛ ولهذا جاءت الآية لتقول: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}؛ نعم رب العالمين يحول النار المحرقة، إلى نار مزعجة ببرودتها، فيقول: {وَسَلامًا}؛ أي بدرجة مئوية معتدلة.
إن مريم (عليها السلام) كانت في ضيق ما بعده ضيق، ولكن فجأة كل الأمور تغيرت: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا}.. {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}.. كانت جائعة، وعطشى، وحامل.. كانت في أشد أنواع التعذيب النفسي، فالتهمة الباطلة ثقيلة على الإنسان، وخاصة التهمة في الشرف.. وإذا برب العالمين بحركات بسيطة، رفع عنها كل هذا العذاب: { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}؛ أي نهر من الماء، فارتفع عطشها.. {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}؛ فارتفع بذلك جوعها.. {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}؛ وهكذا ارتفعت التهمة عنها، ورجعت معززة مكرمة كما كانت.. وبالتالي، فإن رب العالمين إذا أراد أن يفتح أبواب الخير، هكذا يفتح.
قد يتبادر إلى الذهن سؤال مهم، وهو: عندما قالت مريم: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}.. هل هذه الحركة من مريم (عليها السلام) كاشفة عن كمال أم هو نقص؟.. قد يقول البعض: هذا نقص، فما دام القضية إلهية، والحمل حمل إلهي، وفي البطن أمثال روح الله عيسى، لماذا تمني الموت، بل يجب أن يكون هناك فرح وسرور؟.. والبعض يقول: لا، هذه مزية لأنها تراعي مسألة الوجهة الإيمانية.. فهي أيضاً تلاحظ مرة أخرى انعكاس هذا الخبر في المجتمع الإيماني، ولهذا أخذوا يعيرونها {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}؛ أي إن آباءك سلسلة طاهرة، فكيف أصبحت بغية؟.. مريم (ع) ترى بأن هذه التهمة تهمة كبيرة، ومن موجبات الوهن، لكونها: ربيبة زكريا (ع)، الذي كان زاهدا في الذرية، ولكن عندما رأى كرامة مريم {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}؛ أي يا رب إذا كانت الذرية هكذا كمريم، أنا الآن أتمنى الذُرية.. وكذلك هي صاحبة المائدة السماوية، {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}.. مريم تربية زكريا، وتربية بيت المقدس.. يا لها من مزية!.. مريم -عليها السلام- ربُ العالمين لم يبعث لها مرشداً واحداً، وإنما الصالحون والأنبياء تنازعوا على كفالتها {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.. ثم تصبح بغية في نظر الناس؟.. هذا هتك لزكريا، ولمدرسة زكريا، ولحرمة بيت المقدس.. فإذن لعله من هذا الباب تمنت الموت!..
فإذن، إن الدرس العملي: هو أن مريم (ع) تمثل خط الأنبياء، وتمثل عبادة بيت المقدس، وهي طاهرةٌ مطهرة؛ فعندما تتهم بالزنا -والعياذُ بالله- تقول: يا ربِ، أنا وجودي الآن ضعف في هذا الخط الإيماني، لذا تمنت الموت.. والمؤمن أيضا يمثل المسجد، ويمثل رب العالمين.. البعض منا في العمل، وفي الجامعة، وفي المستشفى؛ يشارُ إليهِ بالبنان: هذا الإنسان إنسان متدين.. هذه الصفة إذا التصقت بالإنسان عن حقٍ أو باطل، عليه أن لا يعمل ما يخالف هذهِ الصفة الإيمانية!.. فربُ العالمين سريع الانتقام؛ لأن ذلك الإنسان أصبح يمثل خط الإيمان، فلابدَ أن يعطي هذا الوصف حقهُ.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ}.. إن المؤمن مرتبطٌ بعالم الغيب أيما ارتباط!.. فهذه ليست قصص، هذهِ عبر لأولي الألباب؛ فلكل نبي قصة.. الرب هو الرب، تعالى علواً كبيراً أن تكون لهُ نسبة مع الأنبياء السلف، نسبتهُ هي نسبة الربوبية.. الإنسان أيضا بإمكانه في جوف الليل، أن يحقق هذهِ النسبة!.. لو أنَ إنسانا عندهُ مشكلة قضائية كبيرة جداً، وأعطى ملفهُ لأقوى محام في هذا البلد؛ هذا الإنسان ينام قرير العين؛ وذلك لأنهُ جعل وكيلهُ أخبر الخبراء.. لذا فليتخذ الإنسان الله -عزَ وجل- وكيلاً، وينام قرير العين!..
إن بعض المؤمنين لهم مشاكل مع الغير، إذا كان الغير مؤمنا، فإن المشكلة محلولة.. يلجأ كل منهما إلى الحكم الشرعي، إلى رجل الدين المتفق عليه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا}، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}.. مثلا: هناك خلاف على مليون دينار، يرسلان برسالة استفتاء لمرجع التقليد، وعندما يأتي الجواب ينفذان دون قيد أو شرط، فأحدهما يأخذ المبلغ والآخر يقول: على الرحبِ والسعة {لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}.. إذا قبل بالحكم وفي قلبه قلق وأرق، فهو ليس بمؤمن؛ إنما هو مسلم؛ وذلك بناء على ما ورد في الآية {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أولاً {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ}.. إذن، المؤمن المثالي هو الذي يعمل بهذهِ الآية.
{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا}.. إن المؤمن يمشي وعينهُ على السماء، فالنظر إلى السماء من موجبات انشراح الصدر.. إذا ضاقت الدنيا بالإنسان فلينظر إلى السماء، هذهِ السماء المادية!.. الذي رفع هذهِ السموات، وخلق الشمس والقمر، هل عاجز عن رعاية الإنسان في مسألته؟.. أينَ التراب وأينَ رب الأرباب؟.. أصحاب النبي (ص) كانوا في الجاهلية يقتلون بناتهم، ويشربون الخمر، ويقاتلون على الأمور التافهة.. عندما دخلوا الإسلام كانت لهم كلمة رائعة، يا ليتنا نحن في القرن الواحد والعشرين نكون كهؤلاء الجاهليين، يقولون: (كنا رعاة الإبل، واليوم صرنا رعاة الشمس)؛ أي ننظر إلى الشمس، متى تشرق ومتى تغرب ومتى تزول؛ حتى نصلي بين يدي الله عز وجل.. أمير المؤمنين (ع) يصف المتقين بوصف يا لهُ من وصف، يقول: (صحبوا الدنيا بأبدان؛ أرواحها معلقة بالملأ الأعلى).. هذا الإنسان سماوي وليس بأرضي؛ جسمهُ يمشي مع الناس، وقلبهُ معلقٌ بالسماء، لا يعيش مشاكل الأرض.
يقول الإمام علي (ع) في المناجاة الشعبانية: (اِلـهي!.. هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ إِلَيْكَ، وأنر أَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيْكَ، حَتّى تَخْرِقَ أبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ اِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ، وَتَصيرَ أرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ)، أينَ هذهِ المراحل وأين ما نحنُ فيه؟.. الطعام الذي ينقصهُ الملح يثيرُ غضبنا، المرأة عندما تقصر في شؤون المنزل، يقلب كياننا رأساً على عقب؛ عشنا الأرض ومشاكل الأرض ونسينا هذهِ الدرجات العليا.. الإنسان لا يفتح عينهُ على واقعهِ المرير {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}، متى كُشف الغطاء؟.. يكشف الغطاء حيثُ لا رجعة {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
إن الأيام قصيرة.. فأهل الأربعين يعتبرون في حالة الشباب، ولكن إلى الآن كم بقيَ من العمر؟.. عشرونَ سنة باقية لأصحاب الأربعين، ولكن ثلثها يمضي بالنوم، وما يتبع النوم.. يتبقى أربع عشرة سنة؛ ثلثها عمل ووظيفة، يتبقى سبع سنوات.. وكذلك هناك أمور جانبية، فلا يتبقى إلا أربع أو خمس سنوات صافية، لاكتساب الأبدية والخلود.. قد يكون من أهل الأعراف، نحنُ لسنا من أهل جهنم صحيح، فمن ماتَ على التوحيد والولاية؛ هذا الإنسان لا يدخل النار.. ولكن لعله من أهل الأعراف، فيبقى ملايين السنين على ربوة، ينظر إلى أهل جهنم ويقول: الحمد لله الذي ما جعلني منهم.. وينظر إلى أهل الجنة وهم ينعمون؛ فيعيش القلق والأذى ويقول: يا رب، متى تفرج عني، متى أخرج من عالم الأعراف وأدخل الجنة؟.. نعم من الممكن أن يدخل الإنسان الجنة، ولكنه يبقى على باب الجنة.. أينَ هؤلاء والذين هم مع النبي الأكرم كهاتين في مقام النبي وآله؟.. خمس سنوات نشتري بها الأبدية: إما في الأعراف، أو على باب الجنة، أو في جوار النبي وآل النبي.. إنها حقيقة موحشة، ولكنَ الشيطان يسدل الغطاء على قلوبنا وعلى أبصارنا؛ لئلا نفكر بهذهِ المعادلة المصيرية.
الخلاصة: 1- بعض الناس لديهم همم عالية ، ولديهم رغبة في التكامل والخروج من جاذبية الهوى إلى عالم الهدى، لكنه لا يعلم إلى أين يسير، والذي لا يعرف الطريق لا يصل إلى شيء.
2- أن تعدد وسائل الثقافة الحديثة سلاح ذو حدين هما: الاستفادة، والفساد.
3- أن النظرة الكونية للوجود هي أن ينظر الإنسان إلى نفسه على انه مرتبط برب السماوات والأرضين، فالذي ينظر بهذه النظرة لا يعيش غربة أبدا، بل ويكون في قمة الأمن والأمان.
4- أن الولي هو الذي لا يخاف ولا يحزن، أما أبناء الدنيا فكلهم خوف، وكلهم حزن؛ لأنهم لم يرتبطوا بالمطلق جل وعلا،فلو طبقنا هذه الآية في حياتنا( وتوكل على الحي الذي لا يموت) هل يبقى قلق في حياتنا؟.
5- أن صفة التدين إذا التصقت بالإنسان عن حق أو باطل، عليه أن يعطي هذا الوصف حقه، فلا يعمل ما يخالفه، لأنه أصبح يمثل خط الإيمان.
6- إن المؤمن المثالي هو الذي يعمل بهذه الآية( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً) فالذي يقبل بالحكم وفي قلبه أرق وقلق، فهو ليس بمؤمن؛ إنما هو مسلم..
7- أن المؤمن إنسان سماوي، وليس أرضي؛ جسمه يمشي مع الناس، وقلبه معلق بالسماء، لا يعيش مشاكل الأرض.
8-إن أيام عمر الإنسان قصيرة، وثلثها يذهب بالنوم، وما يستتبعه، فلا يتبقى لاكتساب الأبدية والخلود إلاّ القليل،ولكن الشيطان يسدل الغطاء على أبصارنا وقلوبنا لئلا نفكر بهذه المعادلة المصيرية.
إن أواخر سورة الفرقان، تعطينا المعالم الأساسية لعباد الرحمن، ولكن يجب عدم الاكتفاء بهذا الحديث المختصر، فبحمد الله هذهِ الأيام وسائل الثقافة الحديثة وسائل متعددة، بإمكان أحدنا أن يطلع على عشرات التفاسير، من خلال قرص مدمجٍ واحد.. ولى ذلك الزمان الذي كان العلماء الأبرار، يتعبون أنفسهم الزكية فيه.. فالعلماء السلف لهم فضل كبير في نشر العلم والفضيلة.. رحم الله صاحب كتاب "عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار" هذا العالم الكبير له مؤلفات رائعة وراقية في بلاد الهند!.. الإنسان العابد عندما يموت، تظهر آثار العبادة عادة على جبهته وعلى ركبتيه، ولكن هذا العالم الكبير رأوا آثار الثفنات: لا على جبهته، ولا على ركبتيه؛ وإنما على صدره!.. وذلك لأنه في السنوات الأخيرة من عمره، كانَ مقعدا ممددا بالفراش، وكان لابدَ أن يطالع، فيضع الكتاب على صدره.. والكتب القديمة كبيرة وثقيلة، فأثرت هذه الكتب على لحمِ بدنه.. هكذا تعلموا العلم!.. أما نحنُ فإننا نستلقي على فراشنا، وبهذهِ الأقراص المدمجة ننظر إلى ما نريد.. ولكن هذه النعمة، هي سلاحٌ ذو حدين هما: الاستفادة، والفساد.. وإن كانَ -مع الأسف- ضحايا الحد الثاني، لا يقاس بمن استفاد من هذهِ الوسائل استفادة جيدة.
إن البعض قد يقرأ هذهِ الآيات: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}...الخ، وينسى تلك الآيات التي قبل آيات عباد الرحمن.. فالنظرة الكونية للوجود، وهي أن ينظر الإنسان إلى نفسه، على أنه مرتبطٌ برب السموات والأرض؛ تجعل الإنسان لا يعيش الغُربة أبداً، ولا يعيش الوحشة أبداً أينما يذهب {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}.. عندئذ يصبح هذا الإنسان في قمة الأمنِ والأمان.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ}.. لو طبقنا هذهِ الآية في حياتنا، هل يبقى قلق في الحياة؟!.. كل واحد منا هذهِ الأيام لهُ: هاجس، وخوف، وقلق.. كل واحد منا أسير أمرين لا ثالث لهما: إما خوفٌ من المستقبل، أو حزنٌ على الماضي.. هكذا حياتنا؛ مزيج من الخوف والحزن: الخوف مما سيأتي، وهذهِ الأيام الكرة الأرضية ملتهبة، يصبح الصباح وإذا بالعالم قد تغير، لا نعلم ماذا سيحصل؟!.. وهنالكَ حزنٌ على الماضي، من منا راضٍ عن ماضيه؟!.. الإنسان دائماً يقول: لو كانَ كذا، لكانَ كذا.. ولذا جاء في الأدب النبوي قوله -صلى الله عليه وآله و-سلم: (فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا؛ لكان كذا وكذا.. ولكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل.. فإن لو تفتح عمل الشيطان).. في عالم المادة لا تقل: لو اشتريت هذهِ القسيمة قبل عشرين سنة، كنت اليوم من أصحاب الملايين؛ نعم هذه الـ(لو) لو شيطانية؛ أما إذا قلت: لو قمت بهذا العمل الرحماني لكانَ كذا؛ هذه الـ(لو) لو رحمانية؛ لأنَ التدارك ممكن.. فالذي يقول: لو كنت أحسنت علاقتي مع زوجتي، لما كنت الآن كذا وكذا!.. ما عليه إلا أن يحسم أمره من الآن، ويرفع عنه سوء المزاج والحدة والغضب.. في القضايا الإلهية، رب العالمين يقبل التوبة من عباده، ويكفر السيئات.
فإذن، إن كل واحدٍ منا إما أنه يعيش: حالة الخوف، أو حالة الحزن.. والقرآن الكريم يقول: إن أردت أن تتخلص من هذين الكابوسين، عليك بقوله سبحانه وتعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.. فالولي هو الذي لا يخاف ولا يحزن، أما أبناء الدنيا فكلهم خوف، وكلهم حزن؛ لأنهم لم يرتبطوا بالمطلق، لم يرتبطوا بالحي القيوم.. النبي الأكرم (ص) كان العدو خلفه، والغار أمامه، فدخل الغار، وإذا بالعنكبوت تنسج بيتها، والحمامة تضع بيضها.. ربُ العالمين إن أرادَ أن يوجد المخرج، هكذا يفعل.. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}:
إن موسى -عليه السلام- كان فرعون وراءه، والبحر إمامه؛ أين المفر: إما القتل، وإما الغرق؛ ولا ثالث لهما.. وإذا برب العالمين يعبد الطريق في هذا البحر، طريق يبس، والجدار من اليمين واليسار عبارة عن مياه.. وهكذا ينجو موسى عليه السلام!..
إن إبراهيم الخليل (عليه السلام) وضع في المنجنيق، ورمي بهِ في النار المشتعلة؛ فواجه ذلك بكل رباطة جأش، روي أنه (لما زج إبراهيم -عليه السلام- في المنجنيق، وأتاه جبريل عليه السلام، فقال: ألك حاجة؟.. قال سيدنا إبراهيم عليه السلام: أما إليك فلا، وأما إلى الله تعالى فبلى.. فقال جبريل عليه السلام: سله، فقال عليه الصلاة والسلام: حسبي من سؤالي علمه بحالي).. يرمى بهِ في النار، هذهِ النار تتحول إلى مكانٍ بارد، ولعلهُ كانَ مزعجاً؛ ولهذا جاءت الآية لتقول: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}؛ نعم رب العالمين يحول النار المحرقة، إلى نار مزعجة ببرودتها، فيقول: {وَسَلامًا}؛ أي بدرجة مئوية معتدلة.
إن مريم (عليها السلام) كانت في ضيق ما بعده ضيق، ولكن فجأة كل الأمور تغيرت: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا}.. {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}.. كانت جائعة، وعطشى، وحامل.. كانت في أشد أنواع التعذيب النفسي، فالتهمة الباطلة ثقيلة على الإنسان، وخاصة التهمة في الشرف.. وإذا برب العالمين بحركات بسيطة، رفع عنها كل هذا العذاب: { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}؛ أي نهر من الماء، فارتفع عطشها.. {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}؛ فارتفع بذلك جوعها.. {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}؛ وهكذا ارتفعت التهمة عنها، ورجعت معززة مكرمة كما كانت.. وبالتالي، فإن رب العالمين إذا أراد أن يفتح أبواب الخير، هكذا يفتح.
قد يتبادر إلى الذهن سؤال مهم، وهو: عندما قالت مريم: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}.. هل هذه الحركة من مريم (عليها السلام) كاشفة عن كمال أم هو نقص؟.. قد يقول البعض: هذا نقص، فما دام القضية إلهية، والحمل حمل إلهي، وفي البطن أمثال روح الله عيسى، لماذا تمني الموت، بل يجب أن يكون هناك فرح وسرور؟.. والبعض يقول: لا، هذه مزية لأنها تراعي مسألة الوجهة الإيمانية.. فهي أيضاً تلاحظ مرة أخرى انعكاس هذا الخبر في المجتمع الإيماني، ولهذا أخذوا يعيرونها {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}؛ أي إن آباءك سلسلة طاهرة، فكيف أصبحت بغية؟.. مريم (ع) ترى بأن هذه التهمة تهمة كبيرة، ومن موجبات الوهن، لكونها: ربيبة زكريا (ع)، الذي كان زاهدا في الذرية، ولكن عندما رأى كرامة مريم {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}؛ أي يا رب إذا كانت الذرية هكذا كمريم، أنا الآن أتمنى الذُرية.. وكذلك هي صاحبة المائدة السماوية، {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}.. مريم تربية زكريا، وتربية بيت المقدس.. يا لها من مزية!.. مريم -عليها السلام- ربُ العالمين لم يبعث لها مرشداً واحداً، وإنما الصالحون والأنبياء تنازعوا على كفالتها {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.. ثم تصبح بغية في نظر الناس؟.. هذا هتك لزكريا، ولمدرسة زكريا، ولحرمة بيت المقدس.. فإذن لعله من هذا الباب تمنت الموت!..
فإذن، إن الدرس العملي: هو أن مريم (ع) تمثل خط الأنبياء، وتمثل عبادة بيت المقدس، وهي طاهرةٌ مطهرة؛ فعندما تتهم بالزنا -والعياذُ بالله- تقول: يا ربِ، أنا وجودي الآن ضعف في هذا الخط الإيماني، لذا تمنت الموت.. والمؤمن أيضا يمثل المسجد، ويمثل رب العالمين.. البعض منا في العمل، وفي الجامعة، وفي المستشفى؛ يشارُ إليهِ بالبنان: هذا الإنسان إنسان متدين.. هذه الصفة إذا التصقت بالإنسان عن حقٍ أو باطل، عليه أن لا يعمل ما يخالف هذهِ الصفة الإيمانية!.. فربُ العالمين سريع الانتقام؛ لأن ذلك الإنسان أصبح يمثل خط الإيمان، فلابدَ أن يعطي هذا الوصف حقهُ.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ}.. إن المؤمن مرتبطٌ بعالم الغيب أيما ارتباط!.. فهذه ليست قصص، هذهِ عبر لأولي الألباب؛ فلكل نبي قصة.. الرب هو الرب، تعالى علواً كبيراً أن تكون لهُ نسبة مع الأنبياء السلف، نسبتهُ هي نسبة الربوبية.. الإنسان أيضا بإمكانه في جوف الليل، أن يحقق هذهِ النسبة!.. لو أنَ إنسانا عندهُ مشكلة قضائية كبيرة جداً، وأعطى ملفهُ لأقوى محام في هذا البلد؛ هذا الإنسان ينام قرير العين؛ وذلك لأنهُ جعل وكيلهُ أخبر الخبراء.. لذا فليتخذ الإنسان الله -عزَ وجل- وكيلاً، وينام قرير العين!..
إن بعض المؤمنين لهم مشاكل مع الغير، إذا كان الغير مؤمنا، فإن المشكلة محلولة.. يلجأ كل منهما إلى الحكم الشرعي، إلى رجل الدين المتفق عليه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا}، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}.. مثلا: هناك خلاف على مليون دينار، يرسلان برسالة استفتاء لمرجع التقليد، وعندما يأتي الجواب ينفذان دون قيد أو شرط، فأحدهما يأخذ المبلغ والآخر يقول: على الرحبِ والسعة {لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}.. إذا قبل بالحكم وفي قلبه قلق وأرق، فهو ليس بمؤمن؛ إنما هو مسلم؛ وذلك بناء على ما ورد في الآية {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أولاً {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ}.. إذن، المؤمن المثالي هو الذي يعمل بهذهِ الآية.
{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا}.. إن المؤمن يمشي وعينهُ على السماء، فالنظر إلى السماء من موجبات انشراح الصدر.. إذا ضاقت الدنيا بالإنسان فلينظر إلى السماء، هذهِ السماء المادية!.. الذي رفع هذهِ السموات، وخلق الشمس والقمر، هل عاجز عن رعاية الإنسان في مسألته؟.. أينَ التراب وأينَ رب الأرباب؟.. أصحاب النبي (ص) كانوا في الجاهلية يقتلون بناتهم، ويشربون الخمر، ويقاتلون على الأمور التافهة.. عندما دخلوا الإسلام كانت لهم كلمة رائعة، يا ليتنا نحن في القرن الواحد والعشرين نكون كهؤلاء الجاهليين، يقولون: (كنا رعاة الإبل، واليوم صرنا رعاة الشمس)؛ أي ننظر إلى الشمس، متى تشرق ومتى تغرب ومتى تزول؛ حتى نصلي بين يدي الله عز وجل.. أمير المؤمنين (ع) يصف المتقين بوصف يا لهُ من وصف، يقول: (صحبوا الدنيا بأبدان؛ أرواحها معلقة بالملأ الأعلى).. هذا الإنسان سماوي وليس بأرضي؛ جسمهُ يمشي مع الناس، وقلبهُ معلقٌ بالسماء، لا يعيش مشاكل الأرض.
يقول الإمام علي (ع) في المناجاة الشعبانية: (اِلـهي!.. هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ إِلَيْكَ، وأنر أَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيْكَ، حَتّى تَخْرِقَ أبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ اِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ، وَتَصيرَ أرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ)، أينَ هذهِ المراحل وأين ما نحنُ فيه؟.. الطعام الذي ينقصهُ الملح يثيرُ غضبنا، المرأة عندما تقصر في شؤون المنزل، يقلب كياننا رأساً على عقب؛ عشنا الأرض ومشاكل الأرض ونسينا هذهِ الدرجات العليا.. الإنسان لا يفتح عينهُ على واقعهِ المرير {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}، متى كُشف الغطاء؟.. يكشف الغطاء حيثُ لا رجعة {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
إن الأيام قصيرة.. فأهل الأربعين يعتبرون في حالة الشباب، ولكن إلى الآن كم بقيَ من العمر؟.. عشرونَ سنة باقية لأصحاب الأربعين، ولكن ثلثها يمضي بالنوم، وما يتبع النوم.. يتبقى أربع عشرة سنة؛ ثلثها عمل ووظيفة، يتبقى سبع سنوات.. وكذلك هناك أمور جانبية، فلا يتبقى إلا أربع أو خمس سنوات صافية، لاكتساب الأبدية والخلود.. قد يكون من أهل الأعراف، نحنُ لسنا من أهل جهنم صحيح، فمن ماتَ على التوحيد والولاية؛ هذا الإنسان لا يدخل النار.. ولكن لعله من أهل الأعراف، فيبقى ملايين السنين على ربوة، ينظر إلى أهل جهنم ويقول: الحمد لله الذي ما جعلني منهم.. وينظر إلى أهل الجنة وهم ينعمون؛ فيعيش القلق والأذى ويقول: يا رب، متى تفرج عني، متى أخرج من عالم الأعراف وأدخل الجنة؟.. نعم من الممكن أن يدخل الإنسان الجنة، ولكنه يبقى على باب الجنة.. أينَ هؤلاء والذين هم مع النبي الأكرم كهاتين في مقام النبي وآله؟.. خمس سنوات نشتري بها الأبدية: إما في الأعراف، أو على باب الجنة، أو في جوار النبي وآل النبي.. إنها حقيقة موحشة، ولكنَ الشيطان يسدل الغطاء على قلوبنا وعلى أبصارنا؛ لئلا نفكر بهذهِ المعادلة المصيرية.
الخلاصة: 1- بعض الناس لديهم همم عالية ، ولديهم رغبة في التكامل والخروج من جاذبية الهوى إلى عالم الهدى، لكنه لا يعلم إلى أين يسير، والذي لا يعرف الطريق لا يصل إلى شيء.
2- أن تعدد وسائل الثقافة الحديثة سلاح ذو حدين هما: الاستفادة، والفساد.
3- أن النظرة الكونية للوجود هي أن ينظر الإنسان إلى نفسه على انه مرتبط برب السماوات والأرضين، فالذي ينظر بهذه النظرة لا يعيش غربة أبدا، بل ويكون في قمة الأمن والأمان.
4- أن الولي هو الذي لا يخاف ولا يحزن، أما أبناء الدنيا فكلهم خوف، وكلهم حزن؛ لأنهم لم يرتبطوا بالمطلق جل وعلا،فلو طبقنا هذه الآية في حياتنا( وتوكل على الحي الذي لا يموت) هل يبقى قلق في حياتنا؟.
5- أن صفة التدين إذا التصقت بالإنسان عن حق أو باطل، عليه أن يعطي هذا الوصف حقه، فلا يعمل ما يخالفه، لأنه أصبح يمثل خط الإيمان.
6- إن المؤمن المثالي هو الذي يعمل بهذه الآية( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً) فالذي يقبل بالحكم وفي قلبه أرق وقلق، فهو ليس بمؤمن؛ إنما هو مسلم..
7- أن المؤمن إنسان سماوي، وليس أرضي؛ جسمه يمشي مع الناس، وقلبه معلق بالسماء، لا يعيش مشاكل الأرض.
8-إن أيام عمر الإنسان قصيرة، وثلثها يذهب بالنوم، وما يستتبعه، فلا يتبقى لاكتساب الأبدية والخلود إلاّ القليل،ولكن الشيطان يسدل الغطاء على أبصارنا وقلوبنا لئلا نفكر بهذه المعادلة المصيرية.