بنت الوادي المقدس
19-10-2009, 12:35 PM
http://international.daralhayat.com/files/imagecache/medium_thumb/files/rbimages/1255611449730816900.jpg
مشهد الانتخابات العراقية أقلع مبكراً، وهو من دون شك لا ينتمي الى معهود المشاهد في ذلك البلد، وربما في المنطقة المحيطة به، إذا استثنينا تركيا التي باشرت ابتعادها عن «ثقافة المنطقة» منذ قرن تقريباً، واستأنف إسلامها مساراً مختلفاً.
ولغربة المشهد العراقي مضمونان مختلفان، فهو من جهة صورة عن مآل مختلف في المعنى والجوهر أنتجته ظروف كثيرة، ومن جهة ثانية هو انعكاس لرفض عربي ضمني للتجربة الجديدة في العراق، وحان الوقت لكلام صريح على هذا الصعيد!
يشعر غالبية السياسيين العراقيين ممن يلتقيهم المرء في الدول التي يزورونها أنهم لا يُستقبلون كممثلين لدولتهم ومجتمعهم على نحو ما يُستقبل أقرانهم من الدول الأخرى، على رغم ان صحة تمثيلهم من يمثلون تفوق صحة ما يمثله غيرهم، إذ أن معظمهم وصل الى موقعه عبر انتخابات فاقت بنزاهتها أي انتخابات أخرى أجريت في المنطقة.
ما زال العراق الجديد ثقيلاً في وعي النخب العربية، وما زال للعراق القديم، أي «عراق البعث» جاذبية ما تعيق العلاقة التي من المفترض استئنافها.
الأسئلة التي يُواجه فيها السياسي العراقي عند زيارته عاصمة عربية لا تكترث للوضع الأمني في ذلك البلد، ولا يُبدي مطلقوها حساسية حيال قضايا تتصل بهموم العراقي العادي. تُستحضر القضايا «الكبرى» ويُهمل كل ما عداها. علماً ان قضايا العراقيين الكبرى مختلفة عن قضايا النخب العربية سواء الحاكمة أو شبه الحاكمة. وهنا يكمن سوء التفاهم الكبير.
في الشكل «الاحتلال الأميركي» هو جوهر التحفظ العربي، وهو ما تدور حوله أسئلة من يلتقي بهم المسؤول العراقي أينما حل. لا بأس، فالاحتلال قضية جوهرية في التجربة العراقية الجديدة، لكن الأسئلة حول الاحتلال تُدار بعقل مُدنس بمقدسات بالية بالفعل، وهذه ليست مبالغة، فالمتغير الفعلي، القانوني والعملي الذي يمكن رصده في مقولة الاحتلال في العراق يتمثل في الاتفاقية الأمنية التي وقعها العراق مع المحتل الأميركي العام الماضي، والتي حُددت بموجبها مراحل الانسحاب وسلطة الحكومة على الجيش المحتل، وصلاحيات هذا الأخير... هذه مسائل لا تعني السائلين، بل ما يعنيهم هو «المقاومة» من دون أي سعي للتمييز بينها وبين القتل الأعمى، وبينها وبين الحرب الأهلية، وبينها وبين حقيقة تحولها الى وسيلة تدخل دول الجوار في الشأن العراقي. وانعدام التمييز هذا صحيح لكونه يؤكد اقتران «المقاومة» بهذه المعاني، لكن انعدامه في الوعي العربي ناجم عن نكرانٍ للبعد الدموي لـ «المقاومة». انها «مقاومة»، وهل من الممكن اتهامها بذلك؟ لا مجال للنقاش على رغم القرائن والأدلة!
لطالما وُوجه مسؤولون عراقيون بأسئلة «المقاومة» في العواصم العربية التي يزورونها، وهذه الأسئلة هي مركز سوء الفهم الدائم، ولكنها قشرته وليست جوهره، وحان الوقت للذهاب أكثر في محاولة تفسير سوء الفهم هذا، إذ أن «المقاومة» كقيمة وكصورة هي في غالبها انعكاس لمأزق النخب العربية، ولتخبط مجتمعاتنا بحروب أهلية مقنعة.
طبعاً لا تقتصر التحفظات العربية حيال التجربة الجديدة في العراق على النخب العربية، بل تتعداها الى الأنظمة، ولعل أكثر ما يُعبر عن ذلك هو حال عدم الثقة بين الحكومة في العراق وبين الجامعة العربية، اذ ان الأخيرة غالباً ما كانت في أزمات العراق مع محيطه العربي أقرب الى هذا المحيط منها الى بغداد، أو هذا ما يشعر به المسؤولون العراقيون، وهم لم يخفوه في الكثير من المناسبات. وقال أكثر من مسؤول عراقي العبارة نفسها لكاتب هذه السطور: «الجامعة العربية مع صدام حسين، ولم تقتنع بعد بأنه أُعدم».
تشوب التجربة الجديدة في العراق تحفظات عربية ينبغي النظر فيها، وينبغي إزاحة «المقاومة» بصفتها قناع هذه التحفظات وليست جوهرها، على رغم ان لهذا القناع أثماناً تفوق ما قد يتوقعه المرء من وظيفة القناع. أثمان متمثلة بدم مُراق وبتهديد بتمزيق دولة ومجتمع على ضفاف بحيرة من وهم أسمها «المقاومة». وسنحاول هنا تعداد ما يمكن ان يشكل جوهر هذه التحفظات العربية:
التجربة الجديدة في العراق من الواضح ان الغلبة فيها للشيعة، من دون الوقوع في فخ توصيفها بأنها تجربة شيعية في حكم العراق، إذ أن في الإدارة العراقية الراهنة ثقل ملحوظ للأكراد، والسنة العرب غير مغيبين عن مراكز القرار فيها. ويبدو ان هذه الحقيقة جديدة على الوعي العربي، ونكران إثارتها تحفظات ضمنية وغير ضمنية هو تجاوز لحقيقة واضحة.
للتجربة الجديدة في العراق وجه كردي، إذ ان الأكراد في صلب النظام وقضيتهم شديدة التأثير في القرار العراقي، ناهيك عن فيديراليتهم وحقوقهم الثقافية، وعن وجود نسخة من الدستور مكتوبة بلغتهم. هذا الأمر يُشكل من دون شك مصدراً يغذي التحفظ العربي على التجربة، فالأقليات القومية والدينية نادراً ما وجدت استقبالاً إيجابياً في الثقافة العربية، ولم تعتد الأنظمة والنخب على التفكير بمنحها حقوقاً قد تتنافى مع «وحدة الأمة». فكيف سيكون الحال عندما يُنتخب رئيس لجمهورية العراق وان يُختار وزير لخارجيته من خارج هذه الأمة.
.
والتحفظ العربي عن «مصدر النظام العراقي» بصفته «صنيعة الاحتلال»، على رغم ما أعقب التجربة من انتخابات، يبدو غير مفهوم، خصوصاً اذا استعاد المرء حقيقة ان معظم الأنظمة الممارسة للتحفظ صادرة عن «استعمار» كان في حينها انكليزياً وفرنسياً.
العلاقة الواضحة مع الأميركيين تشكل أحد مصادر الحساسية العربية حيال تجربة ما بعد صدام، وكلمة «واضحة» هنا لا تعني تنزيهاً للتجربة بقدر ما هي تبسيطاً لها، فالوعي العربي يستبطن معاني مختلفة لما تعنيه هذه العلاقة، كأن يقول مسؤول عراقي مثل موفق الربيعي انا معين من قبل الحاكم الأميركي، ووقع هذا الكلام على الأذن العراقية مختلف عن وقعه على آذان العرب. في العراق معنى ذلك: «أنا موظف معين من قبل الإدارة الأميركية»، ومعناه في الوعي العربي غير ذلك تماماً.
الحكومة العراقية المنتخبة تتولى اليوم التعيين في المناصب السيادية وغير السيادية.
يُسهل الاعتراف بهذه التحفظات على طرفي المعضلة التعامل مع المعادلة الناجمة عنها. فلكي يفهم العراقيون سر الانجذاب العربي لسفاحيهم عليهم استيعاب ما هو أبعد مما تشكله «المقاومة» ببعدها الدموي لأشقائهم، وأن يتعاملوا مع هذه الحقائق بحيث يُطمئنون من يجب طمأنته ويواجهون من يجب مواجهته، والأرجح ان لدى الحكومة الحالية في بغداد ميلاً الى القيام بمهمة مشابهة.
في مقابل ذلك يبدو من الصعب ولكن من غير المستحيل ان يستوعب العرب بنخبهم وأنظمتهم الحقائق العراقية الجديدة، لكن الخيار البديل لن يجدي نفعاً ولن يؤدي إلا الى مزيد من الدماء المراقة في العراق، ولكن أيضاً في غير العراق.
اليوم ومع اقتراب استحقاق الانتخابات العامة في العراق (30 كانون الثاني/ يناير) يبدو ان ثمة ميلاً عربياً الى تعامل مختلف مع التجربة في العراق، لكنه ميل يستبطن قدراً من تلك التحفظات. انها معركة إزاحة نوري المالكي بصفته مُبلور الموقع العراقي المثير للتحفظات العربية. والغريب ان لا يُمانع عرب «المقاومة» من توظيف خلافات المالكي مع الإدارة الأميركية في معركتهم معه، وأن يستعمل آخرون التحفظات الإيرانية على أدائه في هذه المعركة! وفي هذا كله دليل على زيف «المقاومة» في الخطاب العربي حيال العراق
حازم الامين_كاتب عربي
مشهد الانتخابات العراقية أقلع مبكراً، وهو من دون شك لا ينتمي الى معهود المشاهد في ذلك البلد، وربما في المنطقة المحيطة به، إذا استثنينا تركيا التي باشرت ابتعادها عن «ثقافة المنطقة» منذ قرن تقريباً، واستأنف إسلامها مساراً مختلفاً.
ولغربة المشهد العراقي مضمونان مختلفان، فهو من جهة صورة عن مآل مختلف في المعنى والجوهر أنتجته ظروف كثيرة، ومن جهة ثانية هو انعكاس لرفض عربي ضمني للتجربة الجديدة في العراق، وحان الوقت لكلام صريح على هذا الصعيد!
يشعر غالبية السياسيين العراقيين ممن يلتقيهم المرء في الدول التي يزورونها أنهم لا يُستقبلون كممثلين لدولتهم ومجتمعهم على نحو ما يُستقبل أقرانهم من الدول الأخرى، على رغم ان صحة تمثيلهم من يمثلون تفوق صحة ما يمثله غيرهم، إذ أن معظمهم وصل الى موقعه عبر انتخابات فاقت بنزاهتها أي انتخابات أخرى أجريت في المنطقة.
ما زال العراق الجديد ثقيلاً في وعي النخب العربية، وما زال للعراق القديم، أي «عراق البعث» جاذبية ما تعيق العلاقة التي من المفترض استئنافها.
الأسئلة التي يُواجه فيها السياسي العراقي عند زيارته عاصمة عربية لا تكترث للوضع الأمني في ذلك البلد، ولا يُبدي مطلقوها حساسية حيال قضايا تتصل بهموم العراقي العادي. تُستحضر القضايا «الكبرى» ويُهمل كل ما عداها. علماً ان قضايا العراقيين الكبرى مختلفة عن قضايا النخب العربية سواء الحاكمة أو شبه الحاكمة. وهنا يكمن سوء التفاهم الكبير.
في الشكل «الاحتلال الأميركي» هو جوهر التحفظ العربي، وهو ما تدور حوله أسئلة من يلتقي بهم المسؤول العراقي أينما حل. لا بأس، فالاحتلال قضية جوهرية في التجربة العراقية الجديدة، لكن الأسئلة حول الاحتلال تُدار بعقل مُدنس بمقدسات بالية بالفعل، وهذه ليست مبالغة، فالمتغير الفعلي، القانوني والعملي الذي يمكن رصده في مقولة الاحتلال في العراق يتمثل في الاتفاقية الأمنية التي وقعها العراق مع المحتل الأميركي العام الماضي، والتي حُددت بموجبها مراحل الانسحاب وسلطة الحكومة على الجيش المحتل، وصلاحيات هذا الأخير... هذه مسائل لا تعني السائلين، بل ما يعنيهم هو «المقاومة» من دون أي سعي للتمييز بينها وبين القتل الأعمى، وبينها وبين الحرب الأهلية، وبينها وبين حقيقة تحولها الى وسيلة تدخل دول الجوار في الشأن العراقي. وانعدام التمييز هذا صحيح لكونه يؤكد اقتران «المقاومة» بهذه المعاني، لكن انعدامه في الوعي العربي ناجم عن نكرانٍ للبعد الدموي لـ «المقاومة». انها «مقاومة»، وهل من الممكن اتهامها بذلك؟ لا مجال للنقاش على رغم القرائن والأدلة!
لطالما وُوجه مسؤولون عراقيون بأسئلة «المقاومة» في العواصم العربية التي يزورونها، وهذه الأسئلة هي مركز سوء الفهم الدائم، ولكنها قشرته وليست جوهره، وحان الوقت للذهاب أكثر في محاولة تفسير سوء الفهم هذا، إذ أن «المقاومة» كقيمة وكصورة هي في غالبها انعكاس لمأزق النخب العربية، ولتخبط مجتمعاتنا بحروب أهلية مقنعة.
طبعاً لا تقتصر التحفظات العربية حيال التجربة الجديدة في العراق على النخب العربية، بل تتعداها الى الأنظمة، ولعل أكثر ما يُعبر عن ذلك هو حال عدم الثقة بين الحكومة في العراق وبين الجامعة العربية، اذ ان الأخيرة غالباً ما كانت في أزمات العراق مع محيطه العربي أقرب الى هذا المحيط منها الى بغداد، أو هذا ما يشعر به المسؤولون العراقيون، وهم لم يخفوه في الكثير من المناسبات. وقال أكثر من مسؤول عراقي العبارة نفسها لكاتب هذه السطور: «الجامعة العربية مع صدام حسين، ولم تقتنع بعد بأنه أُعدم».
تشوب التجربة الجديدة في العراق تحفظات عربية ينبغي النظر فيها، وينبغي إزاحة «المقاومة» بصفتها قناع هذه التحفظات وليست جوهرها، على رغم ان لهذا القناع أثماناً تفوق ما قد يتوقعه المرء من وظيفة القناع. أثمان متمثلة بدم مُراق وبتهديد بتمزيق دولة ومجتمع على ضفاف بحيرة من وهم أسمها «المقاومة». وسنحاول هنا تعداد ما يمكن ان يشكل جوهر هذه التحفظات العربية:
التجربة الجديدة في العراق من الواضح ان الغلبة فيها للشيعة، من دون الوقوع في فخ توصيفها بأنها تجربة شيعية في حكم العراق، إذ أن في الإدارة العراقية الراهنة ثقل ملحوظ للأكراد، والسنة العرب غير مغيبين عن مراكز القرار فيها. ويبدو ان هذه الحقيقة جديدة على الوعي العربي، ونكران إثارتها تحفظات ضمنية وغير ضمنية هو تجاوز لحقيقة واضحة.
للتجربة الجديدة في العراق وجه كردي، إذ ان الأكراد في صلب النظام وقضيتهم شديدة التأثير في القرار العراقي، ناهيك عن فيديراليتهم وحقوقهم الثقافية، وعن وجود نسخة من الدستور مكتوبة بلغتهم. هذا الأمر يُشكل من دون شك مصدراً يغذي التحفظ العربي على التجربة، فالأقليات القومية والدينية نادراً ما وجدت استقبالاً إيجابياً في الثقافة العربية، ولم تعتد الأنظمة والنخب على التفكير بمنحها حقوقاً قد تتنافى مع «وحدة الأمة». فكيف سيكون الحال عندما يُنتخب رئيس لجمهورية العراق وان يُختار وزير لخارجيته من خارج هذه الأمة.
.
والتحفظ العربي عن «مصدر النظام العراقي» بصفته «صنيعة الاحتلال»، على رغم ما أعقب التجربة من انتخابات، يبدو غير مفهوم، خصوصاً اذا استعاد المرء حقيقة ان معظم الأنظمة الممارسة للتحفظ صادرة عن «استعمار» كان في حينها انكليزياً وفرنسياً.
العلاقة الواضحة مع الأميركيين تشكل أحد مصادر الحساسية العربية حيال تجربة ما بعد صدام، وكلمة «واضحة» هنا لا تعني تنزيهاً للتجربة بقدر ما هي تبسيطاً لها، فالوعي العربي يستبطن معاني مختلفة لما تعنيه هذه العلاقة، كأن يقول مسؤول عراقي مثل موفق الربيعي انا معين من قبل الحاكم الأميركي، ووقع هذا الكلام على الأذن العراقية مختلف عن وقعه على آذان العرب. في العراق معنى ذلك: «أنا موظف معين من قبل الإدارة الأميركية»، ومعناه في الوعي العربي غير ذلك تماماً.
الحكومة العراقية المنتخبة تتولى اليوم التعيين في المناصب السيادية وغير السيادية.
يُسهل الاعتراف بهذه التحفظات على طرفي المعضلة التعامل مع المعادلة الناجمة عنها. فلكي يفهم العراقيون سر الانجذاب العربي لسفاحيهم عليهم استيعاب ما هو أبعد مما تشكله «المقاومة» ببعدها الدموي لأشقائهم، وأن يتعاملوا مع هذه الحقائق بحيث يُطمئنون من يجب طمأنته ويواجهون من يجب مواجهته، والأرجح ان لدى الحكومة الحالية في بغداد ميلاً الى القيام بمهمة مشابهة.
في مقابل ذلك يبدو من الصعب ولكن من غير المستحيل ان يستوعب العرب بنخبهم وأنظمتهم الحقائق العراقية الجديدة، لكن الخيار البديل لن يجدي نفعاً ولن يؤدي إلا الى مزيد من الدماء المراقة في العراق، ولكن أيضاً في غير العراق.
اليوم ومع اقتراب استحقاق الانتخابات العامة في العراق (30 كانون الثاني/ يناير) يبدو ان ثمة ميلاً عربياً الى تعامل مختلف مع التجربة في العراق، لكنه ميل يستبطن قدراً من تلك التحفظات. انها معركة إزاحة نوري المالكي بصفته مُبلور الموقع العراقي المثير للتحفظات العربية. والغريب ان لا يُمانع عرب «المقاومة» من توظيف خلافات المالكي مع الإدارة الأميركية في معركتهم معه، وأن يستعمل آخرون التحفظات الإيرانية على أدائه في هذه المعركة! وفي هذا كله دليل على زيف «المقاومة» في الخطاب العربي حيال العراق
حازم الامين_كاتب عربي