جند النور
24-10-2009, 01:50 PM
إنشغل البعض لإسباب خفيّة، أو إنسياقاً وراء الهوس الطائفي في البحث عن النسب الطائفية في العراق، ودبجوا المقالات التي لا تستحق عناء قراءتها حول نسبة الشيعة أو نسبة السنة، وأيهما الأكثرية وأيهما الأقلية، وهم بهذا – شاؤوا أم أبوا- ينهلون من المنهل الطائفي المقيت ، حتى إذا زعموا أنهم يقفون بالضد منه .
إنه لأمر مُثير للقرف إنشغال البعض بأمر لا ينبغي أن يشغل أحداً اللهم إلا أولئك الذين يعملون وفق أجندات طائفية تتعارض كلياً مع الوطنية العراقية التي أصبحت آخر إنشغالات من أبتلي بهم العراق .
نتحدث اليوم عن التركيبة السكانية في العراق، ولكن ليس بحثاً عن نسبة هذه الطائفة أم تلك ، فذلك أمر أوكلناه للمهبولين ولمن يعاني من إعاقة عقلية .
لقد حسب البعض أن ما ذكره اساتذة علم الإجتماع العراقيين الأوائل( علي الوردي مثلاً) عن التركيبة السكانية الإجتماعية في العراق ( قول فصل) ، وأن لا مزيد لمُزيد بعده. وبالتالي لم تعد ثمة حاجة للتقصي والتمحيص، فهل الأمر هكذا حقاً ؟
لقد ألبس العراق عباءة البداوة قسراً، وأصبحت هذه المقولة قضية غير خاضعة للنقاش، وتبارى الكتاب في التأكيد على أن العراق لم يخرج بعد من عنق االبداوة ، وفسرت العديد من القيم والمفاهيم الإجتماعية بكونها قيم ومفاهيم البداوة، ومن ثم إنتقلوا تبعاً للحاجة إلى عشائرية العراق، وبات العراق محكوماً حسب زعمهم وإدعائهم بالعشائر، يتحرك ناسه ويتصرفون وفق العرف العشائري ، لا المدني !
لا محطات مدنية في مسيرة العراق التأريخية، وكأنما هذ البلد الموغل بالقدم ، لا يخرج من مرحلة البداوة إلا كي يدخل مرحلة العشائرية ، المخلوطة بالطائفية . يُبين المرحوم الدكتور محمد سلمان حسن في بحثه الذي نشره معهد الإحصاء في جامعة إكسفورد، أن عدد نفوس العراق عام (1867) لا يتجاوز المليون وربع المليون نسمة، ينقسمون إلى ما يلي :
القبائل البدوية 35%، القبائل الريفية 41% ، أهل المدن24% . يلاحظ أولاً أن هذا الإحصاء ( إحصاء إفتراضي ، تخميني ) إذ لم تجر في الدولة العثمانية وقتذاك أي إحصاءات لتحديد التركيبة السكانية في العراق .
كما يلاحظ ثانياً أن العراق المقصود في البحث أعلاه إنما هو العراق العثماني في أواسط القرن السابع عشر، وهو يشمل ما يُعرف بولايات العراق الثلاث ، بغداد- البصرة – الموصل ، وحدودهما يومئذ تمتد بالعمق الصحراوي وتلامس هضبة الشام شمالاً ، ونجد وسطاً ، كما تلامس ما يُعرف الآن بدولة قطر جنوباً، وبهذا تكون أغلب مساحة العراق يومذاك صحراء، وبالتالي يكون إعطاء هذه النسبة من السكان للقبائل البدوية أمراً مبرراً، ومع هذا فإن السكان الحضر حتى في هذه الإحصائية التخمينية يشكلون ما نسبته 65% من السكان .
أما إذا حددنا العراق التأريخي ( الحضاري ) ببلاد ما بين النهرين العظيمين وضفافهما ومنابعهما وروافدهما، ومن دون الإنتفاخ والتمدد الصحراوي الذي كان يومذاك، فإن النسبة الحضرية عندئذ تتجاوز الـ (85%)على أقل تقدير . ويكفي أن نشير أيضاً إلى أن عدد أفراد القبائل الرحل وفق إحصاء عام 1947 هو (170) ألف فقط من عدد نفوس العراق آنذاك (أكثر من خمسة ملايين نسمة)، وهم يشكلون نسبة متدنية لا تكاد تذكر، ومن المؤكد أن هذه النسبة تدنت كثيراً فيما بعد بسبب سياسة توطين البدوا الرحل ، وهي سياسة إتبعت في كل الحكومات المتعاقبة في العراق .
لقد عُرف العراق بكونه مهد الحضارة، ويُقال أن على ثرى أرض الرافدين خُطت أولى المدن في التأريخ البشري، وإذا لم تكن (لارسا ) أقدم مدينة في التأريخ فإنها على الأقل من أوائل المدن، شأنها في ذلك شأن أخواتها، ( أوروك، وأور ، ونفر، ونينوى، ونمرود ، وآشور وبابل ووو) ، وعلى أرض العراق أبدع العراقيون المتحضرون القدامى أبجديات الثقافة والتحضر والمعرفة، وإجترحوا اللبنات الأساسية للبناء الحضاري الذي سيغدو كونياً فيما بعد، ولعله من المتعذر بمكان حتى مجرد التطرق إلى تلك الإنجازات التي لا يتسع لها مقال كهذا، ولم يقتصر هذا العطاء على مرحلة ما قبل الميلاد ، وإنما إمتد لما بعد ذلك ، وكان العراق على موعد آخر مع إسهامات كبرى بعد الفتح الإسلامي حيث ستشرق شمس بغداد العباسية على الدنيا كلها .
إذا كان العراق، أرض السواد ، وأول مواطن الإستيطان البشري الحضري، أرض سومر، وأكد ، وآىشور وبابل ، بلد البداوة ، فمن يكون بلد التحضر إذن ؟ إذا كان ناس العراق، أولئك الذين إبتدعوا طرائق العيش المشترك، والإنتفاع المشترك من الماء والخيرات .
الذين إبتدعوا القوانين التي تنظم حياة الناس، والذين إبتدعوا منظومة الري العملاقة، والذين كانوا أول من إبتدع الكتابة وإستعملها على نطاق ما كان معهوداً في أي مكان آخر في العالم وقت ذاك، إذا كان هذا الشعب بدوياً، أو لم يخرج من عباءة البداوة بعد ، فمن هو الشعب المتحضر إذن؟
يقولون أن العراق تعرض لهجمة بدوية، إنتصرت وسادت، وحولته من حال إلى حال، وهذا أمر مخطوء جملة وتفصيلاً، فالذين فتحوا العراق لم يكونوا بدواً وأعراباً، وإنما عرباً متحضرين، يحملون فكراً إرتقائياً إنسانياً، ثورياً وإصلاحياً، فكراً وجد في أرض العراق الحضارية التربة الخصبة لنموه وإنتشاره، وهؤلاء لم يحولوا العراقين لرعاة أبل وسكان خيام، يتنقلون طلباً للعشب والماء، فأرضهم معشبة، والماء يجري جوارهم زلالاً .
الذين فتحوا العراق أعطوا العراق ما كان بحاجة إليه من قيم . مصروا الأمصار ، وشيدوا المدن ، وأسسوا مراكز العبادة والعلم ، ومع الأيام تعرق من كان منهم بدوياً ، وتبغدد من كان إعرابياً ، ولعل في ذكر حكاية ذاك الشاعر البدوي الذي جاء ليمدح الخليفة العباسي ، فقال له ( أنت كالكلب في الوفاء ، وكالتيس في قراع الخطوب) والذي حاولت حاشية الخليفة البطش به ، فمنعهم الخليفة من ذلك ، ثم قال لهم ( خذوه فحضروه ) ، وبعد أن تحضر هذا الشاعر البدوي المُجيد ، وبعد أن بغددته بغداد ، أنشدنا : عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري لقد تبغدد علي بن الجهم ، ولم تلبس بغداد عباءة البداوة . هكذا كانت الأمور ، وهكذا ستبقى ،
د. صباح علي الشاهر
إنه لأمر مُثير للقرف إنشغال البعض بأمر لا ينبغي أن يشغل أحداً اللهم إلا أولئك الذين يعملون وفق أجندات طائفية تتعارض كلياً مع الوطنية العراقية التي أصبحت آخر إنشغالات من أبتلي بهم العراق .
نتحدث اليوم عن التركيبة السكانية في العراق، ولكن ليس بحثاً عن نسبة هذه الطائفة أم تلك ، فذلك أمر أوكلناه للمهبولين ولمن يعاني من إعاقة عقلية .
لقد حسب البعض أن ما ذكره اساتذة علم الإجتماع العراقيين الأوائل( علي الوردي مثلاً) عن التركيبة السكانية الإجتماعية في العراق ( قول فصل) ، وأن لا مزيد لمُزيد بعده. وبالتالي لم تعد ثمة حاجة للتقصي والتمحيص، فهل الأمر هكذا حقاً ؟
لقد ألبس العراق عباءة البداوة قسراً، وأصبحت هذه المقولة قضية غير خاضعة للنقاش، وتبارى الكتاب في التأكيد على أن العراق لم يخرج بعد من عنق االبداوة ، وفسرت العديد من القيم والمفاهيم الإجتماعية بكونها قيم ومفاهيم البداوة، ومن ثم إنتقلوا تبعاً للحاجة إلى عشائرية العراق، وبات العراق محكوماً حسب زعمهم وإدعائهم بالعشائر، يتحرك ناسه ويتصرفون وفق العرف العشائري ، لا المدني !
لا محطات مدنية في مسيرة العراق التأريخية، وكأنما هذ البلد الموغل بالقدم ، لا يخرج من مرحلة البداوة إلا كي يدخل مرحلة العشائرية ، المخلوطة بالطائفية . يُبين المرحوم الدكتور محمد سلمان حسن في بحثه الذي نشره معهد الإحصاء في جامعة إكسفورد، أن عدد نفوس العراق عام (1867) لا يتجاوز المليون وربع المليون نسمة، ينقسمون إلى ما يلي :
القبائل البدوية 35%، القبائل الريفية 41% ، أهل المدن24% . يلاحظ أولاً أن هذا الإحصاء ( إحصاء إفتراضي ، تخميني ) إذ لم تجر في الدولة العثمانية وقتذاك أي إحصاءات لتحديد التركيبة السكانية في العراق .
كما يلاحظ ثانياً أن العراق المقصود في البحث أعلاه إنما هو العراق العثماني في أواسط القرن السابع عشر، وهو يشمل ما يُعرف بولايات العراق الثلاث ، بغداد- البصرة – الموصل ، وحدودهما يومئذ تمتد بالعمق الصحراوي وتلامس هضبة الشام شمالاً ، ونجد وسطاً ، كما تلامس ما يُعرف الآن بدولة قطر جنوباً، وبهذا تكون أغلب مساحة العراق يومذاك صحراء، وبالتالي يكون إعطاء هذه النسبة من السكان للقبائل البدوية أمراً مبرراً، ومع هذا فإن السكان الحضر حتى في هذه الإحصائية التخمينية يشكلون ما نسبته 65% من السكان .
أما إذا حددنا العراق التأريخي ( الحضاري ) ببلاد ما بين النهرين العظيمين وضفافهما ومنابعهما وروافدهما، ومن دون الإنتفاخ والتمدد الصحراوي الذي كان يومذاك، فإن النسبة الحضرية عندئذ تتجاوز الـ (85%)على أقل تقدير . ويكفي أن نشير أيضاً إلى أن عدد أفراد القبائل الرحل وفق إحصاء عام 1947 هو (170) ألف فقط من عدد نفوس العراق آنذاك (أكثر من خمسة ملايين نسمة)، وهم يشكلون نسبة متدنية لا تكاد تذكر، ومن المؤكد أن هذه النسبة تدنت كثيراً فيما بعد بسبب سياسة توطين البدوا الرحل ، وهي سياسة إتبعت في كل الحكومات المتعاقبة في العراق .
لقد عُرف العراق بكونه مهد الحضارة، ويُقال أن على ثرى أرض الرافدين خُطت أولى المدن في التأريخ البشري، وإذا لم تكن (لارسا ) أقدم مدينة في التأريخ فإنها على الأقل من أوائل المدن، شأنها في ذلك شأن أخواتها، ( أوروك، وأور ، ونفر، ونينوى، ونمرود ، وآشور وبابل ووو) ، وعلى أرض العراق أبدع العراقيون المتحضرون القدامى أبجديات الثقافة والتحضر والمعرفة، وإجترحوا اللبنات الأساسية للبناء الحضاري الذي سيغدو كونياً فيما بعد، ولعله من المتعذر بمكان حتى مجرد التطرق إلى تلك الإنجازات التي لا يتسع لها مقال كهذا، ولم يقتصر هذا العطاء على مرحلة ما قبل الميلاد ، وإنما إمتد لما بعد ذلك ، وكان العراق على موعد آخر مع إسهامات كبرى بعد الفتح الإسلامي حيث ستشرق شمس بغداد العباسية على الدنيا كلها .
إذا كان العراق، أرض السواد ، وأول مواطن الإستيطان البشري الحضري، أرض سومر، وأكد ، وآىشور وبابل ، بلد البداوة ، فمن يكون بلد التحضر إذن ؟ إذا كان ناس العراق، أولئك الذين إبتدعوا طرائق العيش المشترك، والإنتفاع المشترك من الماء والخيرات .
الذين إبتدعوا القوانين التي تنظم حياة الناس، والذين إبتدعوا منظومة الري العملاقة، والذين كانوا أول من إبتدع الكتابة وإستعملها على نطاق ما كان معهوداً في أي مكان آخر في العالم وقت ذاك، إذا كان هذا الشعب بدوياً، أو لم يخرج من عباءة البداوة بعد ، فمن هو الشعب المتحضر إذن؟
يقولون أن العراق تعرض لهجمة بدوية، إنتصرت وسادت، وحولته من حال إلى حال، وهذا أمر مخطوء جملة وتفصيلاً، فالذين فتحوا العراق لم يكونوا بدواً وأعراباً، وإنما عرباً متحضرين، يحملون فكراً إرتقائياً إنسانياً، ثورياً وإصلاحياً، فكراً وجد في أرض العراق الحضارية التربة الخصبة لنموه وإنتشاره، وهؤلاء لم يحولوا العراقين لرعاة أبل وسكان خيام، يتنقلون طلباً للعشب والماء، فأرضهم معشبة، والماء يجري جوارهم زلالاً .
الذين فتحوا العراق أعطوا العراق ما كان بحاجة إليه من قيم . مصروا الأمصار ، وشيدوا المدن ، وأسسوا مراكز العبادة والعلم ، ومع الأيام تعرق من كان منهم بدوياً ، وتبغدد من كان إعرابياً ، ولعل في ذكر حكاية ذاك الشاعر البدوي الذي جاء ليمدح الخليفة العباسي ، فقال له ( أنت كالكلب في الوفاء ، وكالتيس في قراع الخطوب) والذي حاولت حاشية الخليفة البطش به ، فمنعهم الخليفة من ذلك ، ثم قال لهم ( خذوه فحضروه ) ، وبعد أن تحضر هذا الشاعر البدوي المُجيد ، وبعد أن بغددته بغداد ، أنشدنا : عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري لقد تبغدد علي بن الجهم ، ولم تلبس بغداد عباءة البداوة . هكذا كانت الأمور ، وهكذا ستبقى ،
د. صباح علي الشاهر