مصرية موالية
28-10-2009, 02:05 PM
كتبها وائل عزيز ، في 27 أكتوبر 2007 الساعة: 14:14 م
قلت إن تاريخ مصر يساوي تاريخ الأزهر، وإن تاريخ الأزهر يساوي تاريخ شيوخه. ولم أكن مبالغاً، وإنما كنت أختصر للقارئ الكريم خلاصة قراءة مستوعبة لأكثر من 1000 عام من الأحداث التي وقعت في بر مصر منذ فتح الجامع الأزهر أبوابه للمرة الأولي للمصلين ليعلن للمصريين قدوم خلافةالفاطميين في يوم الجمعة السابع من رمضان سنة361هجرية- 971م (اسم الأزهر كان إشارة إلى السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها).
ولمن لا يعرف… فالأزهر الذي يعتبر أحد معاقل الفكر السني في العالم كله أقيم للترويج للمذهب الشيعي في مصر.. ولعل هذا هو السبب الذي أخر بداية الدراسة فيه حتى 365 هـ ليتم الفاطميون إحكامهم على مقاليد الأمور، بعد أن فشلت تجربة مشابهة في شمال إفريقيا قبلها بسنوات. ورغم مرور أكثر من ألف عام علي تلك البداية السياسية فلا يزال الأزهر يتنازعه تيارا الدين والسياسة, بين شيوخ يبحثون عن دور يتخطي حدود المسجدالجامع, وساسة يلجئون لغطاء الدين ليحللوا شئون السياسة التي لا تخلو منالشبهات. نظرة سريعة لمسيرة الأزهر الشريف تكشف أنه لم ينفصل يوما عن السياسة، كما أنها هي الأخرى لم تستطع أن تتجاهله. ومنذ إنشائه وحتى اليوم، ولسنوات كثيرة مقبلة ستظل علاقته بالسياسة شائكة، فقد افتتحه الفاطميون لنشر الفكر الشيعي، غير أن علماءه بمرور الوقت حولوه إلى دراسة الفكر السني ونجحوا في استصدار تعهد من جوهر الصقلي بحرية الدراسة فيه، قبل أن يتم بعد ذلك إنشاء المدارس المعتمدة وفق المذاهب الأربعة وتصميم الدراسة فيه وفق هذا التوجيه.
ولمن لا يعرف… فقد منع صلاح الدين الأيوبي الخطبة في الجامع الأزهر بعد أن استصدر فتوى (حكماً) من قاضي القضاة بأنه لا يجوز عقد الجمعة في مسجدين في بلد واحدة، فاكتفوا بالصلاة في مسجد عمرو بن العاص، وقطع عنه الأيوبيون كثيراً مما أوقفه عليه أسلافهم الفاطميون. وظل الأزهر محروماً من صلاة الجمعة نحو قرن من الزمان قبل أن يستعيد الجامع الأزهر عطف الولاة والأعيان، ولماجاء الملك الظاهر بيبرس قام بتوسعته وشجّع التعليم فيه وأعاد الخطبة إليه في عام665 هـ، كأقل مكافأة لدوره الكبير في حشد المصريين لصد هجمات المغول قبل إيقافهم تماماً في عين جالوت.
ولمن لا يعرف… فقد دخل الأزهر عصراً جديداً حين أسقط المغول بغداد، والأسبان الأندلس، فأصبح الأزهر قبلة النازحين من الشرق والغرب بما استخلصوه من كتبهم التي نجت من التحريق هنا والإغراق هناك، وفتح الأزهر صدره لعلماء الإسلام فاكتسب صفة عالمية ضاعف من أثرها نجاح مصر في صد هجمات المغول والصليبيين بعدها، ومكافأة سلاطين المماليك للمصريين على ذلك بمضاعفة العناية بالأزهر والإغداق عليه بالمال والتأييد. ليصبح مسرحاً لبروز نجم أكبر عدد من الأعلام كالعز بن عبد السلام وابن الفارض والسيوطي والسهروردي وابن خلكان والبوصيري والبلقيني والقلقشندي والسبكي والحلي والدميري والمقريزي والعسقلاني وابن خلدون وابن بطوطة وابن عطاء الله وغيرهم كثير.
ولمن لا يعرف… ففي فترة تالية رأى سلاطين العثمانيين أن إضعاف الأزهر هو أسرع الطرق لكسر شوكة مصر وإضعاف هيبتها ونزعتها الاستقلالية، فنقلوا آلاف المخطوطات إلى القسطنطينية، وأرسلوا إليها عشرات العلماء والقضاة لتفريغ الأزهر من ثقله العلمي وكان لهم ما أرادوا، حتى أن الفترة من 1517 وحتى 1798 ظلت شبه خالية من أي نشاط علمي أو ثقافي ذي شأن. حتى قارن بعض المؤرخين التخريب الثقافي الذي ألحقه العثمانيون بالأزهر بالتخريب المادي الذي ألحقه المغول بدار الحكمة ببغداد.
ولمن لا يعرف… فبعد أن دخل نابليون مصر عام 1798م، لم يكن في مصر من أهل الحل والعقد ليفاوضوا نابليون سوي علماء الأزهر. وقد نجحوا في أخذ الأمان للمصريين من نابليون وجيشه فحموا مصر من مذابح هائلة. وقد رأس الشيخ عبد الله الشرقاوي ديواناً من علماء الأزهر للإشراف على الحكم وإدارة شئون مصر، دون أن يكونوا عوناً للاحتلال كما هو الحال مع بعض المرجعيات الدينية العراقية الآن. وفي أكتوبر 1798 م اجتمع 80 شخصا في أروقة الأزهر تحت إمرة الشيخ محمد السادات الذي أسس «لجنة للثورة»، ثم أعلنوا عن قيام ثورة القاهرة الأولى. وقد نجح ثوار القاهرة الذين جعلوا من الأزهر مركزاً لانطلاقهم وتجمعهم في قتل حاكم القاهرة الجنرال ديبوي، وعدداً من أعوانه، ثم أقاموا المتاريس والحواجز في سائرالشوارع والدروب المؤدية إلى الجامع الأزهر، وحاصروا الكولونيل سلكوسكي ياورنابليون الخاص وقتلوه، الأمر الذي أثار نابليون فأمر بنصب المدافع علىالمقطم، لكي تطلق قذائفها على الأزهر.قبل أن يقتحموه اقتحام الضواريبخيولهم، واحتلوه في مناظر وحشية، غير مكترثين بحرمته الدينية والعلمية. وكان الشيخ الشرقاوي من القوة والمكانة بحيث أنه اتخذ قراراً جريئاً بإغلاق الأزهر في يونيو 1800م احتجاجا على دخول الفرنسيين للأزهر، وحماية لطلبته، وظل الأزهر مغلقاً أكثر من عام في أطول اعتصام ديني مفتوح حتى أعاد هو نفسه افتتاحه في أكتوبر عام 1801 بعد خروج الفرنسيين من مصر، في يوم اعتبره الأزهريون عيداً.
ولمن لا يعرف… فإن شيوخ الأزهر هم الذين أتوا بمحمد علي حاكماً علي مصرعندما أصبحت بلا حاكم حقيقي واشتعلت الثورات بها بعد رحيل الاحتلال الفرنسي ورغم محاولات محمد عليالمتعددة للتخلص من علماء الأزهر الذين أوصلوه للحكم, فإن جيلا آخر من شيوخالأزهر أعلن الكفاح ضد غطرسة أبناء محمد علي فكانت الثورة العرابية التي أسهم فيهاشيوخ الأزهر من أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وحتى عبد الله النديم الذي كانتمجلته الأستاذ التي احتشدت بمقالات كبار الأزهريين بمثابة لسان حال للمعارضةالمصرية.
ولمن لا يعرف… فإن تاريخ الأزهر مع أسرة محمد علي والأحزاب السياسية المصرية تاريخ ثري، تناوبت فيه الانتصارات والانكسارات، وأسس هذا التاريخ لشكل علاقة الأزهر بنظام الحكم بعد الثورة. وهي العلاقة التي طرحت علامات الاستفهام والمآخذ خاصة فيما يتعلق باستخدامالسلطة للمؤسسة الدينية في أمور تكون بعيدة عن طبيعة دورها ذي الطابع العلمي الديني النزيه.
و حتى في أثناء ثورة 1919, التي قادها سعد زغلول الذي بدأ تعليمه بالأزهر, كان الأزهرمعقلا للثورة ومركزا لتنظيم المظاهرات, ومن فوق نفس المنبر الخشبي العتيق الذيوقف عليه قادة ثورة19 جلجل صوت عبد الناصر في خطبته الشهيرة عقب عدوان1956, يعلنالجهاد ضد العدوان الثلاثي. وتم إعلان نصر حرب رمضان المجيدة من فوق منبره حيث خطب الشيخ عبد الحليم محمود ومن بعده نائب الرئيس حسين الشافعي. ومن ساحته خرجت – وتخرج – مظاهرات التنديد بالعدوان الأمريكي على العراق، والاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة، والدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم ضد المستهزئين.. وهي مظاهرات وإن كانت سلمية حتى الآن… فقد كان التاريخ شاهداً أنها لا تكون كذلك إذا كان الخطر محدقاً، وموج الاستكبار عالياً… والتاريخ لا يكذب ولا يتجمل.
*****
الأزهر إذن تاريخ حي… وهذه هي عظمته … وهذه هي كارثته.
ما الذي أقصده بتاريخ حي؟…
أقصد أنه لو حدثت حرب عالمية ثالثة، وتهدم – لا قدر الله- تمثال رمسيس، وبرج القاهرة، ومئذنة الجامع الأزهر… فبماذا سيبدأ المصريون إعادة البناء؟.. ليس هذا سؤالاً في التاريخ ولا بحثاً عن نبوءة… إنما هو سؤال في الهوية.. وأنا هنا لا أجيب على سؤال افتراضي، وإنما أعرض تاريخاً واقعاً: كم مضى من الوقت حتى أعيد إنشاء مكتبة الإسكندرية بعد إحراقها، ومن تحمس لذلك؟؟ كم مضى من الوقت حتى أعيد بناء دار الأوبرا بعد احتراقها، ومن تحمس لذلك ؟!! أما حين تهدمت جدران المسجد بفعل زلزال عام 702هـ فقد سارع بترميمه الأمير سهاد، قبل أن يوفر له ميزانية ضخمة محتسب القاهرة محمد بن حسن الأسعردي (الأرمني الأصل) لتجديده تماماً عام 725هـ. وحين سقطت منارة الجامع عام 800هـ سارع السلطان برقوق بتشييدها وأنفقعليها من ماله الخاص. و قد سقطت المنارة بعد ذلك مرتين 817هـ- و827هـ فسارع الولاة بإعادة بنائها.
وأنا أرجو القارئ الكريم ألا يعتبر الصفحات السابقة مجرد "معلومات" يضيفها إلى حصيلته المعرفية، وإنما مشاعر وأحاسيس يضيفها إلى رصيده الحضاري والروحي.
أريد أن نعيش ذلك التاريخ ونتمثله ونسترجعه لنعرف حجم "عظمة" الأزهر وحجم "الخدمة" التي يقدمها لأعداء الأمة من يهاجمون الأزهر ليخرجوه من دائرة التأثير والتوجيه… ونريد أيضاً –وبشكل أكثر إلحاحاً – أن نقف على حجم "المسئولية" الملقاة على عاتق قادة الأزهر ومن قام بتعيينهم واختيارهم، وحجم "الجناية" التي ارتكبها هؤلاء وأؤلئك بالتفريط في هذا التراث العظيم…حتى صارت كلمة "اتحاد علماء المسلمين" وعمره عدة أعوام أحكم صياغة، و أوقع أثراً، وأكثر احتراماً وانتظاراً وتعليقاً وتأثيراً من كلمة شيخ الأزهر، وبيانات مجمع البحوث الإسلامية. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
*****
والمسئولون عن الأزهر الآن لا يجدون شيئاً يفاخرون به إلا مسجده الذي طالته أخيراً يد الترميم والتجديد، ومعاهده التي قاربت 7000 آلاف معهد في كل محافظات مصر، و مباني جامعته التي بلغت كلياتها الآن 80 كلية، وبطلبة جامعته الذين تجاوزوا 400 ألف طالب، وهيئة تدريس الأزهر التي تتعدي8 آلاف عضو، ومراكزه النوعية التي وصلت إلى 26 مركزا تغطي مجالات العلوم التطبيقية المختلفة، و بمبناه الجديد في حديقة الخالدين في القاهرة، و بجدران مكتبته التي بلغت طوابقها 14 طابقاُ.. وهذا كله جيد لنكتبه في تقرير سنوي يقرؤه مدققو الجهاز المركزي للمحاسبات ليعرفوا أين ذهبت ميزانية الأزهر.. ولكنه مخز بمقياس الفعالية والتأثير.. أو العائد على الاستثمار. ويحق لكل مصري ومسلم أن يسأل: أين هذه الجيوش الجرارة من الخريجين من مواقع اتخاذ القرار في مصر وخارجها، وماذا فعلت ملايين المخطوطات وآلاف المشايخ ومئات الرسائل العلمية.. لتحسين حياة المسلم المعاصر، ولحماية المسلمين من تيارات التنصير والتبشير، والتعريف برسالة الإسلام الخالدة وقيمه النبيلة لغير المسلمين.
ولو كان لي رأي في اختيار شيخ الأزهر لجعلت من أهم معايير الاختيار–بالإضافة إلى السمات الشخصية للقيادة - أن يكون محيطاً بتاريخ الأزهر.. وتاريخ شيوخه وتاريخ أعلامه.. فهذا هو الذي يعصمه من التردد والضعف.. وهذا هو الذي يمنحه الثقة والعزيمة والقوة في الصدح بالحق في غير خوف ولا تلعثم.. وهذا هو الذي يرفع أسهمه في أعين الجميع حكاماً ورعية .. مصريين وغير مصريين.. مسلمين وغير مسلمين.. وهذا هو الذي يعيد للأزهر مكانته ولعلمائه كرامتهم، ولقتاواهم التصديق والقبول.
وقد مر الأزهر على مدار تاريخه الطويل بصحوات وكبوات، لكنه نجح دائماً في البقاء والاستمرار.. وبقي الأزهر خالداً بقيمه وروحه ومبادئه، وعلمائه وشيوخه، الذين حملوا راية الحق، ولم يتخلفوا عن واجبهم في توجيه الشعب، وحماية الشرع والعدل، ومواجهة الطغاة والظالمين، وكشف الفساد ومحاربة الغلو والتنطع، ونشر المنهج الوسطي، ونصح الحكام.
وهناك من قصار النظر من الشيوخ والسياسيين من يتعامل مع الأزهر وكأنه لجنة من لجان الحزب الوطني الديموقراطي، ومن يظن أن بيانات مجمع البحوث الإسلامية يجب أن تتوافق مع توجهات لجنة السياسات لأن عدداً من أعضاء المجمع أعضاء في الحزب الوطني…
واختيار غير الأكفاء للمناصب الكبرى في الأزهر.. يسيء للأزهر.. ويسيء لمصر.. والذين يظنون أن بإمكانهم احتواءه لم يقرأوا التاريخ، ومصابون باختلال في المفاهيم… جاء وذهب الفاطميون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون والفرنسيون والإنجليز وأسرة محمد علي ورجال الثورة وبقي الأزهر..
يا سادة…
الأزهر خالد والحزب إلى زوال.. للأزهر صحوات وكبوات.. وكبوة الأزهر الحالية وإن طالت فلن تدوم..
وليكن هذا موضع حديث جديد قريب…
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
قلت إن تاريخ مصر يساوي تاريخ الأزهر، وإن تاريخ الأزهر يساوي تاريخ شيوخه. ولم أكن مبالغاً، وإنما كنت أختصر للقارئ الكريم خلاصة قراءة مستوعبة لأكثر من 1000 عام من الأحداث التي وقعت في بر مصر منذ فتح الجامع الأزهر أبوابه للمرة الأولي للمصلين ليعلن للمصريين قدوم خلافةالفاطميين في يوم الجمعة السابع من رمضان سنة361هجرية- 971م (اسم الأزهر كان إشارة إلى السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها).
ولمن لا يعرف… فالأزهر الذي يعتبر أحد معاقل الفكر السني في العالم كله أقيم للترويج للمذهب الشيعي في مصر.. ولعل هذا هو السبب الذي أخر بداية الدراسة فيه حتى 365 هـ ليتم الفاطميون إحكامهم على مقاليد الأمور، بعد أن فشلت تجربة مشابهة في شمال إفريقيا قبلها بسنوات. ورغم مرور أكثر من ألف عام علي تلك البداية السياسية فلا يزال الأزهر يتنازعه تيارا الدين والسياسة, بين شيوخ يبحثون عن دور يتخطي حدود المسجدالجامع, وساسة يلجئون لغطاء الدين ليحللوا شئون السياسة التي لا تخلو منالشبهات. نظرة سريعة لمسيرة الأزهر الشريف تكشف أنه لم ينفصل يوما عن السياسة، كما أنها هي الأخرى لم تستطع أن تتجاهله. ومنذ إنشائه وحتى اليوم، ولسنوات كثيرة مقبلة ستظل علاقته بالسياسة شائكة، فقد افتتحه الفاطميون لنشر الفكر الشيعي، غير أن علماءه بمرور الوقت حولوه إلى دراسة الفكر السني ونجحوا في استصدار تعهد من جوهر الصقلي بحرية الدراسة فيه، قبل أن يتم بعد ذلك إنشاء المدارس المعتمدة وفق المذاهب الأربعة وتصميم الدراسة فيه وفق هذا التوجيه.
ولمن لا يعرف… فقد منع صلاح الدين الأيوبي الخطبة في الجامع الأزهر بعد أن استصدر فتوى (حكماً) من قاضي القضاة بأنه لا يجوز عقد الجمعة في مسجدين في بلد واحدة، فاكتفوا بالصلاة في مسجد عمرو بن العاص، وقطع عنه الأيوبيون كثيراً مما أوقفه عليه أسلافهم الفاطميون. وظل الأزهر محروماً من صلاة الجمعة نحو قرن من الزمان قبل أن يستعيد الجامع الأزهر عطف الولاة والأعيان، ولماجاء الملك الظاهر بيبرس قام بتوسعته وشجّع التعليم فيه وأعاد الخطبة إليه في عام665 هـ، كأقل مكافأة لدوره الكبير في حشد المصريين لصد هجمات المغول قبل إيقافهم تماماً في عين جالوت.
ولمن لا يعرف… فقد دخل الأزهر عصراً جديداً حين أسقط المغول بغداد، والأسبان الأندلس، فأصبح الأزهر قبلة النازحين من الشرق والغرب بما استخلصوه من كتبهم التي نجت من التحريق هنا والإغراق هناك، وفتح الأزهر صدره لعلماء الإسلام فاكتسب صفة عالمية ضاعف من أثرها نجاح مصر في صد هجمات المغول والصليبيين بعدها، ومكافأة سلاطين المماليك للمصريين على ذلك بمضاعفة العناية بالأزهر والإغداق عليه بالمال والتأييد. ليصبح مسرحاً لبروز نجم أكبر عدد من الأعلام كالعز بن عبد السلام وابن الفارض والسيوطي والسهروردي وابن خلكان والبوصيري والبلقيني والقلقشندي والسبكي والحلي والدميري والمقريزي والعسقلاني وابن خلدون وابن بطوطة وابن عطاء الله وغيرهم كثير.
ولمن لا يعرف… ففي فترة تالية رأى سلاطين العثمانيين أن إضعاف الأزهر هو أسرع الطرق لكسر شوكة مصر وإضعاف هيبتها ونزعتها الاستقلالية، فنقلوا آلاف المخطوطات إلى القسطنطينية، وأرسلوا إليها عشرات العلماء والقضاة لتفريغ الأزهر من ثقله العلمي وكان لهم ما أرادوا، حتى أن الفترة من 1517 وحتى 1798 ظلت شبه خالية من أي نشاط علمي أو ثقافي ذي شأن. حتى قارن بعض المؤرخين التخريب الثقافي الذي ألحقه العثمانيون بالأزهر بالتخريب المادي الذي ألحقه المغول بدار الحكمة ببغداد.
ولمن لا يعرف… فبعد أن دخل نابليون مصر عام 1798م، لم يكن في مصر من أهل الحل والعقد ليفاوضوا نابليون سوي علماء الأزهر. وقد نجحوا في أخذ الأمان للمصريين من نابليون وجيشه فحموا مصر من مذابح هائلة. وقد رأس الشيخ عبد الله الشرقاوي ديواناً من علماء الأزهر للإشراف على الحكم وإدارة شئون مصر، دون أن يكونوا عوناً للاحتلال كما هو الحال مع بعض المرجعيات الدينية العراقية الآن. وفي أكتوبر 1798 م اجتمع 80 شخصا في أروقة الأزهر تحت إمرة الشيخ محمد السادات الذي أسس «لجنة للثورة»، ثم أعلنوا عن قيام ثورة القاهرة الأولى. وقد نجح ثوار القاهرة الذين جعلوا من الأزهر مركزاً لانطلاقهم وتجمعهم في قتل حاكم القاهرة الجنرال ديبوي، وعدداً من أعوانه، ثم أقاموا المتاريس والحواجز في سائرالشوارع والدروب المؤدية إلى الجامع الأزهر، وحاصروا الكولونيل سلكوسكي ياورنابليون الخاص وقتلوه، الأمر الذي أثار نابليون فأمر بنصب المدافع علىالمقطم، لكي تطلق قذائفها على الأزهر.قبل أن يقتحموه اقتحام الضواريبخيولهم، واحتلوه في مناظر وحشية، غير مكترثين بحرمته الدينية والعلمية. وكان الشيخ الشرقاوي من القوة والمكانة بحيث أنه اتخذ قراراً جريئاً بإغلاق الأزهر في يونيو 1800م احتجاجا على دخول الفرنسيين للأزهر، وحماية لطلبته، وظل الأزهر مغلقاً أكثر من عام في أطول اعتصام ديني مفتوح حتى أعاد هو نفسه افتتاحه في أكتوبر عام 1801 بعد خروج الفرنسيين من مصر، في يوم اعتبره الأزهريون عيداً.
ولمن لا يعرف… فإن شيوخ الأزهر هم الذين أتوا بمحمد علي حاكماً علي مصرعندما أصبحت بلا حاكم حقيقي واشتعلت الثورات بها بعد رحيل الاحتلال الفرنسي ورغم محاولات محمد عليالمتعددة للتخلص من علماء الأزهر الذين أوصلوه للحكم, فإن جيلا آخر من شيوخالأزهر أعلن الكفاح ضد غطرسة أبناء محمد علي فكانت الثورة العرابية التي أسهم فيهاشيوخ الأزهر من أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وحتى عبد الله النديم الذي كانتمجلته الأستاذ التي احتشدت بمقالات كبار الأزهريين بمثابة لسان حال للمعارضةالمصرية.
ولمن لا يعرف… فإن تاريخ الأزهر مع أسرة محمد علي والأحزاب السياسية المصرية تاريخ ثري، تناوبت فيه الانتصارات والانكسارات، وأسس هذا التاريخ لشكل علاقة الأزهر بنظام الحكم بعد الثورة. وهي العلاقة التي طرحت علامات الاستفهام والمآخذ خاصة فيما يتعلق باستخدامالسلطة للمؤسسة الدينية في أمور تكون بعيدة عن طبيعة دورها ذي الطابع العلمي الديني النزيه.
و حتى في أثناء ثورة 1919, التي قادها سعد زغلول الذي بدأ تعليمه بالأزهر, كان الأزهرمعقلا للثورة ومركزا لتنظيم المظاهرات, ومن فوق نفس المنبر الخشبي العتيق الذيوقف عليه قادة ثورة19 جلجل صوت عبد الناصر في خطبته الشهيرة عقب عدوان1956, يعلنالجهاد ضد العدوان الثلاثي. وتم إعلان نصر حرب رمضان المجيدة من فوق منبره حيث خطب الشيخ عبد الحليم محمود ومن بعده نائب الرئيس حسين الشافعي. ومن ساحته خرجت – وتخرج – مظاهرات التنديد بالعدوان الأمريكي على العراق، والاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة، والدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم ضد المستهزئين.. وهي مظاهرات وإن كانت سلمية حتى الآن… فقد كان التاريخ شاهداً أنها لا تكون كذلك إذا كان الخطر محدقاً، وموج الاستكبار عالياً… والتاريخ لا يكذب ولا يتجمل.
*****
الأزهر إذن تاريخ حي… وهذه هي عظمته … وهذه هي كارثته.
ما الذي أقصده بتاريخ حي؟…
أقصد أنه لو حدثت حرب عالمية ثالثة، وتهدم – لا قدر الله- تمثال رمسيس، وبرج القاهرة، ومئذنة الجامع الأزهر… فبماذا سيبدأ المصريون إعادة البناء؟.. ليس هذا سؤالاً في التاريخ ولا بحثاً عن نبوءة… إنما هو سؤال في الهوية.. وأنا هنا لا أجيب على سؤال افتراضي، وإنما أعرض تاريخاً واقعاً: كم مضى من الوقت حتى أعيد إنشاء مكتبة الإسكندرية بعد إحراقها، ومن تحمس لذلك؟؟ كم مضى من الوقت حتى أعيد بناء دار الأوبرا بعد احتراقها، ومن تحمس لذلك ؟!! أما حين تهدمت جدران المسجد بفعل زلزال عام 702هـ فقد سارع بترميمه الأمير سهاد، قبل أن يوفر له ميزانية ضخمة محتسب القاهرة محمد بن حسن الأسعردي (الأرمني الأصل) لتجديده تماماً عام 725هـ. وحين سقطت منارة الجامع عام 800هـ سارع السلطان برقوق بتشييدها وأنفقعليها من ماله الخاص. و قد سقطت المنارة بعد ذلك مرتين 817هـ- و827هـ فسارع الولاة بإعادة بنائها.
وأنا أرجو القارئ الكريم ألا يعتبر الصفحات السابقة مجرد "معلومات" يضيفها إلى حصيلته المعرفية، وإنما مشاعر وأحاسيس يضيفها إلى رصيده الحضاري والروحي.
أريد أن نعيش ذلك التاريخ ونتمثله ونسترجعه لنعرف حجم "عظمة" الأزهر وحجم "الخدمة" التي يقدمها لأعداء الأمة من يهاجمون الأزهر ليخرجوه من دائرة التأثير والتوجيه… ونريد أيضاً –وبشكل أكثر إلحاحاً – أن نقف على حجم "المسئولية" الملقاة على عاتق قادة الأزهر ومن قام بتعيينهم واختيارهم، وحجم "الجناية" التي ارتكبها هؤلاء وأؤلئك بالتفريط في هذا التراث العظيم…حتى صارت كلمة "اتحاد علماء المسلمين" وعمره عدة أعوام أحكم صياغة، و أوقع أثراً، وأكثر احتراماً وانتظاراً وتعليقاً وتأثيراً من كلمة شيخ الأزهر، وبيانات مجمع البحوث الإسلامية. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
*****
والمسئولون عن الأزهر الآن لا يجدون شيئاً يفاخرون به إلا مسجده الذي طالته أخيراً يد الترميم والتجديد، ومعاهده التي قاربت 7000 آلاف معهد في كل محافظات مصر، و مباني جامعته التي بلغت كلياتها الآن 80 كلية، وبطلبة جامعته الذين تجاوزوا 400 ألف طالب، وهيئة تدريس الأزهر التي تتعدي8 آلاف عضو، ومراكزه النوعية التي وصلت إلى 26 مركزا تغطي مجالات العلوم التطبيقية المختلفة، و بمبناه الجديد في حديقة الخالدين في القاهرة، و بجدران مكتبته التي بلغت طوابقها 14 طابقاُ.. وهذا كله جيد لنكتبه في تقرير سنوي يقرؤه مدققو الجهاز المركزي للمحاسبات ليعرفوا أين ذهبت ميزانية الأزهر.. ولكنه مخز بمقياس الفعالية والتأثير.. أو العائد على الاستثمار. ويحق لكل مصري ومسلم أن يسأل: أين هذه الجيوش الجرارة من الخريجين من مواقع اتخاذ القرار في مصر وخارجها، وماذا فعلت ملايين المخطوطات وآلاف المشايخ ومئات الرسائل العلمية.. لتحسين حياة المسلم المعاصر، ولحماية المسلمين من تيارات التنصير والتبشير، والتعريف برسالة الإسلام الخالدة وقيمه النبيلة لغير المسلمين.
ولو كان لي رأي في اختيار شيخ الأزهر لجعلت من أهم معايير الاختيار–بالإضافة إلى السمات الشخصية للقيادة - أن يكون محيطاً بتاريخ الأزهر.. وتاريخ شيوخه وتاريخ أعلامه.. فهذا هو الذي يعصمه من التردد والضعف.. وهذا هو الذي يمنحه الثقة والعزيمة والقوة في الصدح بالحق في غير خوف ولا تلعثم.. وهذا هو الذي يرفع أسهمه في أعين الجميع حكاماً ورعية .. مصريين وغير مصريين.. مسلمين وغير مسلمين.. وهذا هو الذي يعيد للأزهر مكانته ولعلمائه كرامتهم، ولقتاواهم التصديق والقبول.
وقد مر الأزهر على مدار تاريخه الطويل بصحوات وكبوات، لكنه نجح دائماً في البقاء والاستمرار.. وبقي الأزهر خالداً بقيمه وروحه ومبادئه، وعلمائه وشيوخه، الذين حملوا راية الحق، ولم يتخلفوا عن واجبهم في توجيه الشعب، وحماية الشرع والعدل، ومواجهة الطغاة والظالمين، وكشف الفساد ومحاربة الغلو والتنطع، ونشر المنهج الوسطي، ونصح الحكام.
وهناك من قصار النظر من الشيوخ والسياسيين من يتعامل مع الأزهر وكأنه لجنة من لجان الحزب الوطني الديموقراطي، ومن يظن أن بيانات مجمع البحوث الإسلامية يجب أن تتوافق مع توجهات لجنة السياسات لأن عدداً من أعضاء المجمع أعضاء في الحزب الوطني…
واختيار غير الأكفاء للمناصب الكبرى في الأزهر.. يسيء للأزهر.. ويسيء لمصر.. والذين يظنون أن بإمكانهم احتواءه لم يقرأوا التاريخ، ومصابون باختلال في المفاهيم… جاء وذهب الفاطميون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون والفرنسيون والإنجليز وأسرة محمد علي ورجال الثورة وبقي الأزهر..
يا سادة…
الأزهر خالد والحزب إلى زوال.. للأزهر صحوات وكبوات.. وكبوة الأزهر الحالية وإن طالت فلن تدوم..
وليكن هذا موضع حديث جديد قريب…
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.