نووورا انا
24-11-2009, 06:11 PM
اللهم صل على محمد وال محمد
الامــام وعصــره
من خلال مراجعة سريعة لعصر الإمام الباقر (ع) نعرف أن هدوءاً غاضباً كان يسوده قبل أن تهدر العاصفة الثائرة ، التي أطاحت بالحكم الأموي بعد وفاة الإمام الباقر (ع) ، وحملت إلى الساحة النظام العباسي في عهد الإمام الصادق (ع) .
ومن خلال الشواهد التي نستوحيها من قصص حياته (ع) نتلمس ملامح ذلك العصر .. وكيف أن إرهاصات العاصفة كانت ظاهرة هنا وهناك .
أولاً : الشاهد الأول ظاهرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي الذي قاد ثورةً إصلاحية من قمة هرم فمع النجاح الجزئي الذي كسبه هذا الخليفة . إلاّ أنه لم ينجح لسببين :
الأول : لأنه جاء متأخراً جّداً إذ أن الفرق الإسلامية التي تبنت معارضة الحكم الأموي كانت راسخة الجذور في الأمة .. ولم تكن تنخدع بهذه اللعبــــــة السياسيــة . وفي طليعتها شيعة أهل البيت عليهم السلام ، الذين كان وعيهم بالسياسة إلى درجة لم يكن بإمكان ابن عبد العزيز أو عبد اللـه المأمون أن يؤثرا فيهم ، وذلك بفضل ثقافتهم القرآنية . وتوعية الائمة بحقائق الإسلام . ومن أبرزها أن الحكم ليس بالوراثة أو القوة ، وانما هو بأمر الدين ، فها هو الإمام الباقر (ع) يقول لأصحابه أن أهل السماء يلعنون عمر بن عبد العزيز - وذلك حتى قبل توليه السلطة - لنستمع إلى الحديث التالي :
روى أبو بصير قال : كنت مع الباقر في المسجد إذ دخل عمر بن عبد العزيز ، وعليه ثوبان ممصران متكئاً على مولى له ، فقال :
لَيَلِيَنَّ هــذا الغلام فيظهر العدل، ويعيش أربع سنين ثم يموت فيبكي عليه أهل الارض ويلعنه أهل السماء ، قال : يجلس في مجلس لا حق له فيه ، ثم ملك وأظهر العدل جهده(1) (http://www.14masom.com/14masom/07/mktba7/book02/2.htm#1).
هكذا يعتبره الإمام ملعوناً لأنه قد جلس في مقام الخلافة الذي لا يحق له الجلوس فيه أبداً .
صحيح أن ابن عبد العزيز أعاد فدكاً إلى البيت العلوي ، وكانت فدك رمزاً لظلامة أهل البيت ، وكان ردها دليلاً عند الناس على صدق مذهبهم .
إلاّ إن الأئمـــــة لم يعبأوا بذلك ولم يعتبروه كافيــاً لحسن سلوك النظــــام ، لأن النظام كان اساسه باطـــــلاً ،
وكانت حركة الأئمة تستهدف إصلاح المجتمع من جذوره كما يفعل الأنبياء (ع) .
والحديث التالي يكشف عن طريقة تفكير طليعة الأمة فيما يتعلق بنظام عمر بن عبد العزيز ، دعنا نستمع إليه .
فقد روي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بخراسان أن أوفد إليّ من علماء بلادك مائة رجل أسألهــم عن سيرتك ، فجمعهم عامله وقال لهم ذلك ، فاعتذروا وقالوا إن لنا عيالاً وأشغالاً لا يمكننا مفارقته ، وعدله لا يقتضي إجبارنا ، ولكن قد أجمعنا على رجل منا يكون عوضنا عنده ، ولساننا لديه ، فقوله قولنــــا ، ورأيه رأينا فأوفد به العامل إليه ، فلما دخل عليه سلم وجلس ، فقال له : أخل لي المجلس ، فقال له : ولم ذلك ؟ وأنت لا تخلو أن تقول حقاً فيصدقوك ، أو تقول باطلاً فيكذبوك فقال له : ليس من أجلي اريد خلو المجلس ، ولكن من أجلك ، فإني أخاف أن يدور بيننا كلام تكره سماعه .
فأمر بإخراج أهل المجلس ثم قال له : قل ! فقال : أخبرني عن هذا الأمر من أين صار إليك ؟ فسكت طويلاً فقال لــــه : ألا تقول ؟ فقال : لا ، فقال : ولم ؟ فقال له : إن قلت بنص من اللـه ورسوله كنت كاذبـاً ، وأن قلت بإجماع المسلمين ، قلت فنحن أهل بلاد المشرق ولم نعلم بذلك ، ولم نجمع عليه ، وإن قلت بالميراث من آبائي ، قلت بنو أبيك كثير فلِمَ تفردت به دونهم ؟ فقال له : الحمد لله على اعترافك على نفسك بالحق لغيرك ، أفأرجع إلى بلادي ؟ فقال : لا فواللـه إنك لواعظ قط فقل ما عندك بعد ذلك فقال له : رأيت أن من تقدمني ظلم وغشم وجار واستأثر بفيء المسلمين ، وعلمت من نفسي أني لا استحل ذلك ، وأن المؤمنين لا شيء يكون أنقص وأخف عليهم فوليت ، فقال له : أخبرني لولم تل هذا الأمر ووليه غيرك ، وفعل ما فعل من كان قبله ، أكان يلزمك من إثمه شيء ؟ فقال : لا ، فقال له : فأراك قد شريت راحة غيرك بتعبك ، وسلامته بخطرك فقال له : إنك لواعظ قط ، فقام ليخرج ثم قال له : واللـه لقد هلك أولنا بأولكم وأوسطنا بأوسطكم ، وسيهلك آخرنا بآخركم ، واللـه المستعان عليكم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
وموقف الإمام من عمر بن عبد العزيز كان انتهاز الفرصة المؤاتية لتبليغ الرسالة ونصيحة الولاة ، ويصحح ما يمكن تصحيحه من أوضاع الأمة دون الإعتراف بشرعية النظام بالجملة ، وفيما يلي نقرأ حديثاً يصف دخول الإمام عليه ونصيحته له :
“ يروي هشام بن معاذ ويقول : كنت جليساً لعمر بن عبد العزيز حيث دخل المدينة ، فأمر مناديه فنادى من كانت له مظلمة أو ظلامة فليأت الباب ، فأتى محمد بن علي يعني الباقر (ع) فدخل إليه مولاه مزاحم فقال : إن محمد بن علي بالباب ، فقال له : أدخله يا مزاحم ، قال : فدخل وعمر يمسح عينيه من الدموع فقال له محمد بن علي :
ما أبكاك يا عمر ؟ فقال هشام : أبكاني كذا وكذا يا ابن رسول اللـه ، فقال محمد بن علي (ع) : يا عمر إنما الدنيا سوق من الأسواق منها خرج قوم بما ينفعهم ، ومنها خرجوا بما يضرهم ، وكم من قوم قد غرتهم بمثل الذي أصبحنا فيه ، حتى أتاهم الموت فاستوعبوا ، فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا لما أحبوا من الآخرة عدة ، ولا مما كرهوا جنة ، قسم ما جمعوا من لا يحمدهم ، وصاروا إلى من لا يعذرهم ، فنحن واللـه محقوقون ، إن ننظر إلى تلك الأعمال التي كنا نغبطهم بها ، فنوافقهم فيها ، وننظر إلى تلك الأعمال التي كنا نتخوف عليهم منها ، فنكف عنها .
فاتـــق اللـه واجعل في قلبك اثنتين ، تنظر الذي تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك فقدِّمه بين يديك ، وتنظر الذي تكرهه أن يكون معك إذا قدمت على ربك فابتغ به البدل ، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ، ترجو أن تجوز عنك ، واتق اللـه يا عمر وافتح الأبواب وسهِّل الحجاب ، وانصر المظلوم ورد المظالم . ثم قال : ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان باللـه ، فجثا عمر على ركبتيه وقال : إيه يا أهل النبوة فقال : نعم يا عمر من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل ، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق ، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له ، فدعا عمر بدواة وقرطاس وكتب : بسم اللـه الرحمن الرحيم ، هذا ما رد عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي (ع) فدك .
ثانياً : يبدو أن بني أمية كانوا يتجنبون قتل أبناء علي (ع) بصورة ظاهرة ، للآثار السلبية التي خلفتها عليهم واقعة الطف ، وكان الأئمة بدورهم لا يجدون الظروف مؤاتية للقيام بنهضة دموية . والقصة التالية التي يذكرها الرواة تشهد بذلك ، فبعد أن نازع زيد بن الحسن الإمام الباقر في ميراث رسول اللـه استنجد بالخليفة الأموي ( عبد الملك بن مروان ) ودخل عليه وقال له : أتيتك من عند ساحر كذاب لا يحل لك تركه . فكتب عبد الملك كتاباً إلى واليه على المدينة أن يبعث إليه محمد بن علي مقيداً ، وقال لزيد : أرأيتك إن وليتك قتله قتلته ؟ قال : نعم .
ولكن عامله على المدينة استدرك الأمر وكتب إلى الخليفة : إن الرجل الذي أردته لا يوجد اليوم على وجه الأرض أعف منه ولا أزهد ولا أورع منه ، وإنه ليقرأ في محرابه فيجتمع الطير والسباع تعجباً لصوته ، وإن قراءته وكتبه مزامير داود ، وإنه من أعلم الناس ، وارق الناس ، وأشد الناس اجتهاداً وعبادةً ، وأضاف في كتابــه : وكرهت لأمير المؤمنين التعرض له ، فإن اللـه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهـم ..
وهكذا تراجع عبد الملك مما بدر منه . وبعد أن اكتشف كذب زيد بن الحسن أخذه وقيَّده وهيَّـأه ، وقال له : لولا أني أريد أن لا أبتلى بدم أحد منكم لقتلتك . ثم كتب إلى الإمام الباقر (ع) بعثت إليك بابن عمك فأحسن أدبه(2) (http://www.14masom.com/14masom/07/mktba7/book02/2.htm#2).
من هذه القصة نعرف أن ملوك بني أمية كانوا يتجنبون ما أمكنهم قتل أولاد علي (ع) بصورة ظاهرة .
ثالثاً : كانت المعارضـــة العلنية لحكم بني أميــــة أصبحت معروفة ، ويـــــروي التاريخ بعض النماذج منهـــا ونذكر فيما يلي اثنين منها :
1- يحكي الديلمي قصة طريفة في كتابه إعلام الدين يقول :
قال رجل لعبد الملك بن مروان أُناظرك وأنا آمن ، قال : نعم ، فقال : أخبرني عن هذا الأمر الذي صار إليك أبنص من اللـه ورسوله ؟ قال : لا ، قال : اجتمعت الأمة فترضّوا بك ؟ قال : لا ، فقال : فكانت لك بيعة في أعناقهم فرضوا بها ؟ قال : لا ، قال : فاختارك أهل الشورى ؟ قال : لا ، قال : أفليس قد قهرتهم على أمرهم ، واستأثرت بغيثهم ، دونهم ؟ قال : بلى ، قال : فبأي شيء سُميت أمير المؤمنين ؟ ولم يؤمرك اللـه ورسوله ولا المسلمون ، قال له أخرج عن بلادي وإلاّ قتلتك ، قال : ليس هذا جواب أهل العدل والإنصاف ، ثم خرج عنه(3) (http://www.14masom.com/14masom/07/mktba7/book02/2.htm#3).
2- وقصة أخرى ينقلها الشيخ الطوسي في أماليه عن الشيخ المفيد عن الثمالي قال :
حدثني من حضر عبد الملك بن مروان وهو يخطب الناس بمكة ، فلما صار إلى موضع العظة من خطبته ، قام إليه رجل فقال له : مهلاً مهلاً ، إنكم تأمرون ولا تأتمرون ، وتنهون ولاتنتهون ، وتعظون ولا تتعظون ، أفاقتداء بسيرتكم أم طاعة لأمركم ؟ فإن قلتم اقتداءً بسيرتنا فكيف يقتدى بسيرة الظالمين ، ومــا الحجة في اتباع المجرمين الذين اتخذوا مال اللـه دولاً ، وجعلوا عباد اللـه خولاً ، وإن قلتم أطيعوا أمرنا ، واقبلوا نصحنا ، فكيف ينصح غيره من لم ينصح نفسه ؟ أم كيف تجب طاعة من لم تثبت له عدالة ؟ وإن قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها ، واقبلوا العظة ممن سمعتموها ، فلعل فينا من هو أفصح بصنوف العظات وأعرف بوجوه اللغات منكم ، فتزحزحوا عنها وأطلقوا أقفالها وخلّوا سبيلها ، ينتدب لها الذين شردتهم في البلاد ، ونقلتموهم عن مستقرهم إلى كل واد ، فواللـه ما قلدناكم أزمة أمورنا ، وحكمناكم في أموالنا وابداننا وأدياننا ، لتسيروا فينا بسيرة الجبارين ، غير أنا بصراء بأنفسنا لاستيفاء المدة وبلوغ الغاية وتمام المحنة ، ولكل قائم منكم يوم لا يعدوه ، وكتاب لابدّ أن يتلوه ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، قال : فقام إليه بعض أصحابه المسالح ، فقبض عليه ، وكان آخر عهدنا به ، ولا ندري ما كانت حاله(4) (http://www.14masom.com/14masom/07/mktba7/book02/2.htm#4).
رابعاً : خروج الإمام إلى الشام .
إن حادثة استدعاء هشام بن عبد الملك الإمام الباقر (ع) من المدينة إلى الشام ، تكشف عن طبيعة علاقة الإمام بالسلطة السياسية ، وما كان يعانيه منها ، وكيف كان يتحداها ، ونحن إذ نثبت نصّاً تاريخياً فيها ندع للقارئ فرصة التأمل فيها ، على أن النصوص مختلفة في تفاصيل هذه الواقعة وإنما نذكر أكثرها تفصيلاً بإذن اللـه .
يتبع...
الامــام وعصــره
من خلال مراجعة سريعة لعصر الإمام الباقر (ع) نعرف أن هدوءاً غاضباً كان يسوده قبل أن تهدر العاصفة الثائرة ، التي أطاحت بالحكم الأموي بعد وفاة الإمام الباقر (ع) ، وحملت إلى الساحة النظام العباسي في عهد الإمام الصادق (ع) .
ومن خلال الشواهد التي نستوحيها من قصص حياته (ع) نتلمس ملامح ذلك العصر .. وكيف أن إرهاصات العاصفة كانت ظاهرة هنا وهناك .
أولاً : الشاهد الأول ظاهرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي الذي قاد ثورةً إصلاحية من قمة هرم فمع النجاح الجزئي الذي كسبه هذا الخليفة . إلاّ أنه لم ينجح لسببين :
الأول : لأنه جاء متأخراً جّداً إذ أن الفرق الإسلامية التي تبنت معارضة الحكم الأموي كانت راسخة الجذور في الأمة .. ولم تكن تنخدع بهذه اللعبــــــة السياسيــة . وفي طليعتها شيعة أهل البيت عليهم السلام ، الذين كان وعيهم بالسياسة إلى درجة لم يكن بإمكان ابن عبد العزيز أو عبد اللـه المأمون أن يؤثرا فيهم ، وذلك بفضل ثقافتهم القرآنية . وتوعية الائمة بحقائق الإسلام . ومن أبرزها أن الحكم ليس بالوراثة أو القوة ، وانما هو بأمر الدين ، فها هو الإمام الباقر (ع) يقول لأصحابه أن أهل السماء يلعنون عمر بن عبد العزيز - وذلك حتى قبل توليه السلطة - لنستمع إلى الحديث التالي :
روى أبو بصير قال : كنت مع الباقر في المسجد إذ دخل عمر بن عبد العزيز ، وعليه ثوبان ممصران متكئاً على مولى له ، فقال :
لَيَلِيَنَّ هــذا الغلام فيظهر العدل، ويعيش أربع سنين ثم يموت فيبكي عليه أهل الارض ويلعنه أهل السماء ، قال : يجلس في مجلس لا حق له فيه ، ثم ملك وأظهر العدل جهده(1) (http://www.14masom.com/14masom/07/mktba7/book02/2.htm#1).
هكذا يعتبره الإمام ملعوناً لأنه قد جلس في مقام الخلافة الذي لا يحق له الجلوس فيه أبداً .
صحيح أن ابن عبد العزيز أعاد فدكاً إلى البيت العلوي ، وكانت فدك رمزاً لظلامة أهل البيت ، وكان ردها دليلاً عند الناس على صدق مذهبهم .
إلاّ إن الأئمـــــة لم يعبأوا بذلك ولم يعتبروه كافيــاً لحسن سلوك النظــــام ، لأن النظام كان اساسه باطـــــلاً ،
وكانت حركة الأئمة تستهدف إصلاح المجتمع من جذوره كما يفعل الأنبياء (ع) .
والحديث التالي يكشف عن طريقة تفكير طليعة الأمة فيما يتعلق بنظام عمر بن عبد العزيز ، دعنا نستمع إليه .
فقد روي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بخراسان أن أوفد إليّ من علماء بلادك مائة رجل أسألهــم عن سيرتك ، فجمعهم عامله وقال لهم ذلك ، فاعتذروا وقالوا إن لنا عيالاً وأشغالاً لا يمكننا مفارقته ، وعدله لا يقتضي إجبارنا ، ولكن قد أجمعنا على رجل منا يكون عوضنا عنده ، ولساننا لديه ، فقوله قولنــــا ، ورأيه رأينا فأوفد به العامل إليه ، فلما دخل عليه سلم وجلس ، فقال له : أخل لي المجلس ، فقال له : ولم ذلك ؟ وأنت لا تخلو أن تقول حقاً فيصدقوك ، أو تقول باطلاً فيكذبوك فقال له : ليس من أجلي اريد خلو المجلس ، ولكن من أجلك ، فإني أخاف أن يدور بيننا كلام تكره سماعه .
فأمر بإخراج أهل المجلس ثم قال له : قل ! فقال : أخبرني عن هذا الأمر من أين صار إليك ؟ فسكت طويلاً فقال لــــه : ألا تقول ؟ فقال : لا ، فقال : ولم ؟ فقال له : إن قلت بنص من اللـه ورسوله كنت كاذبـاً ، وأن قلت بإجماع المسلمين ، قلت فنحن أهل بلاد المشرق ولم نعلم بذلك ، ولم نجمع عليه ، وإن قلت بالميراث من آبائي ، قلت بنو أبيك كثير فلِمَ تفردت به دونهم ؟ فقال له : الحمد لله على اعترافك على نفسك بالحق لغيرك ، أفأرجع إلى بلادي ؟ فقال : لا فواللـه إنك لواعظ قط فقل ما عندك بعد ذلك فقال له : رأيت أن من تقدمني ظلم وغشم وجار واستأثر بفيء المسلمين ، وعلمت من نفسي أني لا استحل ذلك ، وأن المؤمنين لا شيء يكون أنقص وأخف عليهم فوليت ، فقال له : أخبرني لولم تل هذا الأمر ووليه غيرك ، وفعل ما فعل من كان قبله ، أكان يلزمك من إثمه شيء ؟ فقال : لا ، فقال له : فأراك قد شريت راحة غيرك بتعبك ، وسلامته بخطرك فقال له : إنك لواعظ قط ، فقام ليخرج ثم قال له : واللـه لقد هلك أولنا بأولكم وأوسطنا بأوسطكم ، وسيهلك آخرنا بآخركم ، واللـه المستعان عليكم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
وموقف الإمام من عمر بن عبد العزيز كان انتهاز الفرصة المؤاتية لتبليغ الرسالة ونصيحة الولاة ، ويصحح ما يمكن تصحيحه من أوضاع الأمة دون الإعتراف بشرعية النظام بالجملة ، وفيما يلي نقرأ حديثاً يصف دخول الإمام عليه ونصيحته له :
“ يروي هشام بن معاذ ويقول : كنت جليساً لعمر بن عبد العزيز حيث دخل المدينة ، فأمر مناديه فنادى من كانت له مظلمة أو ظلامة فليأت الباب ، فأتى محمد بن علي يعني الباقر (ع) فدخل إليه مولاه مزاحم فقال : إن محمد بن علي بالباب ، فقال له : أدخله يا مزاحم ، قال : فدخل وعمر يمسح عينيه من الدموع فقال له محمد بن علي :
ما أبكاك يا عمر ؟ فقال هشام : أبكاني كذا وكذا يا ابن رسول اللـه ، فقال محمد بن علي (ع) : يا عمر إنما الدنيا سوق من الأسواق منها خرج قوم بما ينفعهم ، ومنها خرجوا بما يضرهم ، وكم من قوم قد غرتهم بمثل الذي أصبحنا فيه ، حتى أتاهم الموت فاستوعبوا ، فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا لما أحبوا من الآخرة عدة ، ولا مما كرهوا جنة ، قسم ما جمعوا من لا يحمدهم ، وصاروا إلى من لا يعذرهم ، فنحن واللـه محقوقون ، إن ننظر إلى تلك الأعمال التي كنا نغبطهم بها ، فنوافقهم فيها ، وننظر إلى تلك الأعمال التي كنا نتخوف عليهم منها ، فنكف عنها .
فاتـــق اللـه واجعل في قلبك اثنتين ، تنظر الذي تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك فقدِّمه بين يديك ، وتنظر الذي تكرهه أن يكون معك إذا قدمت على ربك فابتغ به البدل ، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ، ترجو أن تجوز عنك ، واتق اللـه يا عمر وافتح الأبواب وسهِّل الحجاب ، وانصر المظلوم ورد المظالم . ثم قال : ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان باللـه ، فجثا عمر على ركبتيه وقال : إيه يا أهل النبوة فقال : نعم يا عمر من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل ، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق ، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له ، فدعا عمر بدواة وقرطاس وكتب : بسم اللـه الرحمن الرحيم ، هذا ما رد عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي (ع) فدك .
ثانياً : يبدو أن بني أمية كانوا يتجنبون قتل أبناء علي (ع) بصورة ظاهرة ، للآثار السلبية التي خلفتها عليهم واقعة الطف ، وكان الأئمة بدورهم لا يجدون الظروف مؤاتية للقيام بنهضة دموية . والقصة التالية التي يذكرها الرواة تشهد بذلك ، فبعد أن نازع زيد بن الحسن الإمام الباقر في ميراث رسول اللـه استنجد بالخليفة الأموي ( عبد الملك بن مروان ) ودخل عليه وقال له : أتيتك من عند ساحر كذاب لا يحل لك تركه . فكتب عبد الملك كتاباً إلى واليه على المدينة أن يبعث إليه محمد بن علي مقيداً ، وقال لزيد : أرأيتك إن وليتك قتله قتلته ؟ قال : نعم .
ولكن عامله على المدينة استدرك الأمر وكتب إلى الخليفة : إن الرجل الذي أردته لا يوجد اليوم على وجه الأرض أعف منه ولا أزهد ولا أورع منه ، وإنه ليقرأ في محرابه فيجتمع الطير والسباع تعجباً لصوته ، وإن قراءته وكتبه مزامير داود ، وإنه من أعلم الناس ، وارق الناس ، وأشد الناس اجتهاداً وعبادةً ، وأضاف في كتابــه : وكرهت لأمير المؤمنين التعرض له ، فإن اللـه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهـم ..
وهكذا تراجع عبد الملك مما بدر منه . وبعد أن اكتشف كذب زيد بن الحسن أخذه وقيَّده وهيَّـأه ، وقال له : لولا أني أريد أن لا أبتلى بدم أحد منكم لقتلتك . ثم كتب إلى الإمام الباقر (ع) بعثت إليك بابن عمك فأحسن أدبه(2) (http://www.14masom.com/14masom/07/mktba7/book02/2.htm#2).
من هذه القصة نعرف أن ملوك بني أمية كانوا يتجنبون ما أمكنهم قتل أولاد علي (ع) بصورة ظاهرة .
ثالثاً : كانت المعارضـــة العلنية لحكم بني أميــــة أصبحت معروفة ، ويـــــروي التاريخ بعض النماذج منهـــا ونذكر فيما يلي اثنين منها :
1- يحكي الديلمي قصة طريفة في كتابه إعلام الدين يقول :
قال رجل لعبد الملك بن مروان أُناظرك وأنا آمن ، قال : نعم ، فقال : أخبرني عن هذا الأمر الذي صار إليك أبنص من اللـه ورسوله ؟ قال : لا ، قال : اجتمعت الأمة فترضّوا بك ؟ قال : لا ، فقال : فكانت لك بيعة في أعناقهم فرضوا بها ؟ قال : لا ، قال : فاختارك أهل الشورى ؟ قال : لا ، قال : أفليس قد قهرتهم على أمرهم ، واستأثرت بغيثهم ، دونهم ؟ قال : بلى ، قال : فبأي شيء سُميت أمير المؤمنين ؟ ولم يؤمرك اللـه ورسوله ولا المسلمون ، قال له أخرج عن بلادي وإلاّ قتلتك ، قال : ليس هذا جواب أهل العدل والإنصاف ، ثم خرج عنه(3) (http://www.14masom.com/14masom/07/mktba7/book02/2.htm#3).
2- وقصة أخرى ينقلها الشيخ الطوسي في أماليه عن الشيخ المفيد عن الثمالي قال :
حدثني من حضر عبد الملك بن مروان وهو يخطب الناس بمكة ، فلما صار إلى موضع العظة من خطبته ، قام إليه رجل فقال له : مهلاً مهلاً ، إنكم تأمرون ولا تأتمرون ، وتنهون ولاتنتهون ، وتعظون ولا تتعظون ، أفاقتداء بسيرتكم أم طاعة لأمركم ؟ فإن قلتم اقتداءً بسيرتنا فكيف يقتدى بسيرة الظالمين ، ومــا الحجة في اتباع المجرمين الذين اتخذوا مال اللـه دولاً ، وجعلوا عباد اللـه خولاً ، وإن قلتم أطيعوا أمرنا ، واقبلوا نصحنا ، فكيف ينصح غيره من لم ينصح نفسه ؟ أم كيف تجب طاعة من لم تثبت له عدالة ؟ وإن قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها ، واقبلوا العظة ممن سمعتموها ، فلعل فينا من هو أفصح بصنوف العظات وأعرف بوجوه اللغات منكم ، فتزحزحوا عنها وأطلقوا أقفالها وخلّوا سبيلها ، ينتدب لها الذين شردتهم في البلاد ، ونقلتموهم عن مستقرهم إلى كل واد ، فواللـه ما قلدناكم أزمة أمورنا ، وحكمناكم في أموالنا وابداننا وأدياننا ، لتسيروا فينا بسيرة الجبارين ، غير أنا بصراء بأنفسنا لاستيفاء المدة وبلوغ الغاية وتمام المحنة ، ولكل قائم منكم يوم لا يعدوه ، وكتاب لابدّ أن يتلوه ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، قال : فقام إليه بعض أصحابه المسالح ، فقبض عليه ، وكان آخر عهدنا به ، ولا ندري ما كانت حاله(4) (http://www.14masom.com/14masom/07/mktba7/book02/2.htm#4).
رابعاً : خروج الإمام إلى الشام .
إن حادثة استدعاء هشام بن عبد الملك الإمام الباقر (ع) من المدينة إلى الشام ، تكشف عن طبيعة علاقة الإمام بالسلطة السياسية ، وما كان يعانيه منها ، وكيف كان يتحداها ، ونحن إذ نثبت نصّاً تاريخياً فيها ندع للقارئ فرصة التأمل فيها ، على أن النصوص مختلفة في تفاصيل هذه الواقعة وإنما نذكر أكثرها تفصيلاً بإذن اللـه .
يتبع...