بن الصديق
19-12-2009, 09:05 PM
معتقدات إسلامية كما نقلها الفرزدق
بقلم : ياسر الحراق الحسني
منقول عن موقع شخصيات الثقلين ٢٨-١١-٢٠٠٩ م (http://chiamaroc.yolasite.com/a)
لا يخفى على من يهتم بالشعر مدى براعة الفرزدق في قصيدة :"هذا الذي تعرف البطحاء وطأته" (١) التي مدح فيها الإمام السجاد سلام الله عليه. قصيدة لا تكاد تضاهيها قصيدة في المدح. وقد تم التعاطي معها غالباً من زاوية البلاغة و البيان. و حتى التعاطي التاريخي معها لا يكاد يتعدى كونها تسجيلاً لحدث تاريخي لا يستطال بحثه. فماذا لو تعاطينا معها كوثيقة تاريخية تسرد معتقدات دينية إسلامية تم تجاهلها عند عموم المسلمين مع مرور الزمن! هذا ما سوف نبينه من خلال مقتطفات من هذه القصيدة عبر ثلاثة محاور معتقدية : العصمة والولاية التشريعية ، النورانية والولاية التكوينية و التوسل.
١. العصمة والولاية التشريعية:
يقول الفرزدق :
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِمُ، هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهِرُ العَلَمُ
هذا ابنُ فاطمَةٍ إنْ كُنْتَ جاهِلَهُ بِجَدّهِ أنْبِيَاءُ الله قَدْ خُتِمُوا
وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه، العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ
إن قول الفرزدق في الإمام عليه السلام أنه نقي وطاهر يعد إستذكاراً واضحاً لما ثبت ذكره في القرآن والحديث عن تطهير أهل البيت من الرجس (٢). فإضافة الإمام عليه السلام إلى أهل الكساء يحمل شهادة جد مهمة؛ ألا وهي كون التقوى والنقاء والطهر -والتي هي من مصاديق العصمة - إنتقلت إلى السجاد بعد أبيه الحسين عليهما السلام. وما لفظ " العلم" إلا اشارت للوصاية ، إذ لا يستقيم علم بدون أن يكون منصوباً من طرف ما. فالتنصيب هنا كامل الوضوح . كما إنه من خصائص العلم أن يكون متبعاً لكونه الدال على الطريق. وشاعر مثل الفرزدق ببراعته لا نظن أنه إستعمل المصطلحات دون التمكن من معانيها. و يجدر بالذكر عنصر جد مهم هنا ألا وهو عنصر شهرة هذه الخصائص في أهل البيت ع .والإستدلال على شهرة هذا الأمر انذاك بين المسلمين لا يكمن في كونه كان محل ذكر من طرف شاعر مشهور فحسب ، بل أيضاً في معرفة الجهة التي يتوجه لها خطاب الشاعر. فهذه الجهة كانت الخليفة أم كان الجمهور، لا بد وأن الشاعر قد خاطبها بما تعرف؛ إذ أنه يستحيل أن يخاطب المرء الناس بما لا يفهمون و عن ما لا يعرفون. وهذا من مصاديق شيوع مقام أهل البيت بالرغم من القمع والحصار انذاك . هذا الشيوع كما في القصيدة تعدى العرب ليشمل العجم أيضاً . و حسبنا دليلاً على هذا عبارة :" العرب تعرف من انكرت والعجم". من البديهي هنا أن موضوع المعرفة هو مسألة عصمة وولاية أهل البيت في مجال التشريع و- المتجلية في مقامه عليه السلام - وليس معرفة صورته الجسمانية؛ وذلك لإستحالة هذا الأمر على العرب قبل العجم. هنا يستشف أن مسألة عصمة أهل البيت ع و ولايتهم في مجال التشريع كانت من معتقدات المسلمين الشائعة التي أشار الفرزدق إليها في قصيدته.
٢. النورانية والولاية التكوينية:
الله شَرّفَهُ قِدْماً، وَعَظّمَهُ، جَرَى بِذاكَ لَهُ في لَوْحِهِ القَلَمُ
أيُّ الخَلائِقِ لَيْسَتْ في رِقَابِهِمُ، لأوّلِيّةِ هَذا، أوْ لَهُ نِعمُ
مَن يَشكُرِ الله يَشكُرْ أوّلِيّةَ ذا؛ فالدِّينُ مِن بَيتِ هذا نَالَهُ الأُمَمُ
إذا كانت نورانية أهل البيت ع من المسائل التي لا يجمع عليها أهل القبلة في عصرنا هذا فعلى الأقل لم يكن الأمر كذالك في عهد الفرزدق. فمثلاً قول الفرزدق "الله شرفه قدماً وعظمه" هو اشارة إلى عنصر مهم في التشريف الإلاهي ألا وهو عنصر القدم . و مايؤيد هذا هو ذكر اللوح والقلم المتحليان بصبغة القدم. والقدم الذي نناقشه هنا ليس بالأزل توضيحاً. و بما أن جسد الإمام ع كان حادثاً، إذاً فالقدم المشار إليه لا يمكن إلا أن يكون نوراً. و يمكننا العثور على هذا المعتقد الإسلامي حالياً عند أتباع مدرسة أهل البيت؛ حيث نجد قول الامام الصادق عليه السلام في زيارة وارث للامام الحسين عليه السلام : " اشهد انك كنت نوراً في الاصلاب الشامخة والارحام المطهرة "( ٣ ). والكلام عن قدم التشريف بأنه تقديماً وليس قدماً أي تقديماً على من عاصر الإمام، هو مردود لذكر اللوح والقلم الذي لا نراه عن عبث. كما إن القدم المشار إليه اعقبه الشاعر بذكر الخلائق التي تتعدى زمناً الوجود الجسماني للامام ع.كما أن فضل الإمام ع على الخلائق واضح من خلال القصيدة بل وخضوعها مشار إليه بلفظ : "أيُّ الخَلائِقِ لَيْسَتْ في رِقَابِهِمُ". أما تفصيلات الخضوع هل هو فضلاً أم تسييراً فهذا ما لا تحمل طياته القصيدة. و الولاية التكوينية ثابثة في الأبيات المذكورة بغض النظر عن تفاصيلها إذ أنه يكفي ثبوت فضل أهل البيت على الخلائق أو التكوين لاستخلاصها. وهذا ما أشار الشاعر إليه بوضوح.
٣. التوسل:
من مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ، وَبُغْضُهُمُ كُفْرٌ، وَقُرْبُهُمُ مَنجىً وَمُعتَصَمُ
هُمُ الغُيُوثُ، إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْ، وَالأُسدُ أُسدُ الشّرَى، وَالبأسُ محتدمُ
يُستدْفَعُ الشرُّ وَالبَلْوَى بحُبّهِمُ، وَيُسْتَرَبّ بِهِ الإحْسَانُ وَالنِّعَمُ
تعد هذه الأبيات المقتطفة من القصيدة من أوضح ما نظم عن معتقد التوسل الإسلامي الأصيل. والذي هو التوجه إلى الله بأحب الخلق إليه محمد وآله. فقد يعبد المرء ربه ليل نهار ، ولكنه إذا أبغض أهل البيت ع حبطت كل اعماله كما في عبارة "بغضهم كفر". وأما هم -أي أهل البيت ع - الغيوث معرفةً فأنها دالة تفيد التخصيص. وإذا كانوا عليهم السلام عانوا من الظلم والقتل والحصار فلا تكون الإغاثة هنا إلا من الهلاك والإغاثة في معرفة الله و ترجمة كتابه. كما أن حبهم بحسب القصيدة يفيد في دفع الشرور والبلاء. فهذا هو التوسل والوسيلة بأهل البيت كمعتقد إسلامي لم يحفظه إلا شيعة أهل البيت من المسلمين بعد أن كان من المعتقدات السائدة بشهادة الفرزدق. أما شواهد شيوع هذا المعتقد بين المسلمين في موارد حديثية من مدارس فقهية اخرى غير شيعية فقد فاضت بها الكتب كما في إستغاثة آدم ع بالرسول صلى الله عليه وآله (٤) .
الشعر كما يقال سجل العرب. كثير من الأخبار عن أخلاقيات وحوادث تاريخية قديمة تم اثباتها من خلال الشعر. لهذا وفي أمر مهم كالدين مثلاً يمكن توظيف الشعر والشعراء في فهم الثقافة الدينية السائدة في عصورهم وكما نقلوها. فقد يكون لشاعر ما بيتاً يفصل في جدال أصولي طال أمده.ا
١. الموسعة العالمية للشعر العربي، الفرزدق، رقم القصيدة : ٣٦٦٤
٢. قال السيد مرتضى العسكري: إن حديث الكساء متواتر وليس مشهوراً فقط وهذا مما لا يخفى على أحد من العلماء, ولا معنى لأن يبحث في سند المتواتر أما المشهور فإن للبحث في سنده مجالاً (خلفيات كتاب مأساة الزهراء (ج ٢ /٢٧١)
٣. زيارة وارث
٤. لسيوطي: الدرّ المنثور ١/٥٩ و الآلوسي: روح المعاني ١/٢١٧
بقلم : ياسر الحراق الحسني
منقول عن موقع شخصيات الثقلين ٢٨-١١-٢٠٠٩ م (http://chiamaroc.yolasite.com/a)
لا يخفى على من يهتم بالشعر مدى براعة الفرزدق في قصيدة :"هذا الذي تعرف البطحاء وطأته" (١) التي مدح فيها الإمام السجاد سلام الله عليه. قصيدة لا تكاد تضاهيها قصيدة في المدح. وقد تم التعاطي معها غالباً من زاوية البلاغة و البيان. و حتى التعاطي التاريخي معها لا يكاد يتعدى كونها تسجيلاً لحدث تاريخي لا يستطال بحثه. فماذا لو تعاطينا معها كوثيقة تاريخية تسرد معتقدات دينية إسلامية تم تجاهلها عند عموم المسلمين مع مرور الزمن! هذا ما سوف نبينه من خلال مقتطفات من هذه القصيدة عبر ثلاثة محاور معتقدية : العصمة والولاية التشريعية ، النورانية والولاية التكوينية و التوسل.
١. العصمة والولاية التشريعية:
يقول الفرزدق :
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِمُ، هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهِرُ العَلَمُ
هذا ابنُ فاطمَةٍ إنْ كُنْتَ جاهِلَهُ بِجَدّهِ أنْبِيَاءُ الله قَدْ خُتِمُوا
وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه، العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ
إن قول الفرزدق في الإمام عليه السلام أنه نقي وطاهر يعد إستذكاراً واضحاً لما ثبت ذكره في القرآن والحديث عن تطهير أهل البيت من الرجس (٢). فإضافة الإمام عليه السلام إلى أهل الكساء يحمل شهادة جد مهمة؛ ألا وهي كون التقوى والنقاء والطهر -والتي هي من مصاديق العصمة - إنتقلت إلى السجاد بعد أبيه الحسين عليهما السلام. وما لفظ " العلم" إلا اشارت للوصاية ، إذ لا يستقيم علم بدون أن يكون منصوباً من طرف ما. فالتنصيب هنا كامل الوضوح . كما إنه من خصائص العلم أن يكون متبعاً لكونه الدال على الطريق. وشاعر مثل الفرزدق ببراعته لا نظن أنه إستعمل المصطلحات دون التمكن من معانيها. و يجدر بالذكر عنصر جد مهم هنا ألا وهو عنصر شهرة هذه الخصائص في أهل البيت ع .والإستدلال على شهرة هذا الأمر انذاك بين المسلمين لا يكمن في كونه كان محل ذكر من طرف شاعر مشهور فحسب ، بل أيضاً في معرفة الجهة التي يتوجه لها خطاب الشاعر. فهذه الجهة كانت الخليفة أم كان الجمهور، لا بد وأن الشاعر قد خاطبها بما تعرف؛ إذ أنه يستحيل أن يخاطب المرء الناس بما لا يفهمون و عن ما لا يعرفون. وهذا من مصاديق شيوع مقام أهل البيت بالرغم من القمع والحصار انذاك . هذا الشيوع كما في القصيدة تعدى العرب ليشمل العجم أيضاً . و حسبنا دليلاً على هذا عبارة :" العرب تعرف من انكرت والعجم". من البديهي هنا أن موضوع المعرفة هو مسألة عصمة وولاية أهل البيت في مجال التشريع و- المتجلية في مقامه عليه السلام - وليس معرفة صورته الجسمانية؛ وذلك لإستحالة هذا الأمر على العرب قبل العجم. هنا يستشف أن مسألة عصمة أهل البيت ع و ولايتهم في مجال التشريع كانت من معتقدات المسلمين الشائعة التي أشار الفرزدق إليها في قصيدته.
٢. النورانية والولاية التكوينية:
الله شَرّفَهُ قِدْماً، وَعَظّمَهُ، جَرَى بِذاكَ لَهُ في لَوْحِهِ القَلَمُ
أيُّ الخَلائِقِ لَيْسَتْ في رِقَابِهِمُ، لأوّلِيّةِ هَذا، أوْ لَهُ نِعمُ
مَن يَشكُرِ الله يَشكُرْ أوّلِيّةَ ذا؛ فالدِّينُ مِن بَيتِ هذا نَالَهُ الأُمَمُ
إذا كانت نورانية أهل البيت ع من المسائل التي لا يجمع عليها أهل القبلة في عصرنا هذا فعلى الأقل لم يكن الأمر كذالك في عهد الفرزدق. فمثلاً قول الفرزدق "الله شرفه قدماً وعظمه" هو اشارة إلى عنصر مهم في التشريف الإلاهي ألا وهو عنصر القدم . و مايؤيد هذا هو ذكر اللوح والقلم المتحليان بصبغة القدم. والقدم الذي نناقشه هنا ليس بالأزل توضيحاً. و بما أن جسد الإمام ع كان حادثاً، إذاً فالقدم المشار إليه لا يمكن إلا أن يكون نوراً. و يمكننا العثور على هذا المعتقد الإسلامي حالياً عند أتباع مدرسة أهل البيت؛ حيث نجد قول الامام الصادق عليه السلام في زيارة وارث للامام الحسين عليه السلام : " اشهد انك كنت نوراً في الاصلاب الشامخة والارحام المطهرة "( ٣ ). والكلام عن قدم التشريف بأنه تقديماً وليس قدماً أي تقديماً على من عاصر الإمام، هو مردود لذكر اللوح والقلم الذي لا نراه عن عبث. كما إن القدم المشار إليه اعقبه الشاعر بذكر الخلائق التي تتعدى زمناً الوجود الجسماني للامام ع.كما أن فضل الإمام ع على الخلائق واضح من خلال القصيدة بل وخضوعها مشار إليه بلفظ : "أيُّ الخَلائِقِ لَيْسَتْ في رِقَابِهِمُ". أما تفصيلات الخضوع هل هو فضلاً أم تسييراً فهذا ما لا تحمل طياته القصيدة. و الولاية التكوينية ثابثة في الأبيات المذكورة بغض النظر عن تفاصيلها إذ أنه يكفي ثبوت فضل أهل البيت على الخلائق أو التكوين لاستخلاصها. وهذا ما أشار الشاعر إليه بوضوح.
٣. التوسل:
من مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ، وَبُغْضُهُمُ كُفْرٌ، وَقُرْبُهُمُ مَنجىً وَمُعتَصَمُ
هُمُ الغُيُوثُ، إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْ، وَالأُسدُ أُسدُ الشّرَى، وَالبأسُ محتدمُ
يُستدْفَعُ الشرُّ وَالبَلْوَى بحُبّهِمُ، وَيُسْتَرَبّ بِهِ الإحْسَانُ وَالنِّعَمُ
تعد هذه الأبيات المقتطفة من القصيدة من أوضح ما نظم عن معتقد التوسل الإسلامي الأصيل. والذي هو التوجه إلى الله بأحب الخلق إليه محمد وآله. فقد يعبد المرء ربه ليل نهار ، ولكنه إذا أبغض أهل البيت ع حبطت كل اعماله كما في عبارة "بغضهم كفر". وأما هم -أي أهل البيت ع - الغيوث معرفةً فأنها دالة تفيد التخصيص. وإذا كانوا عليهم السلام عانوا من الظلم والقتل والحصار فلا تكون الإغاثة هنا إلا من الهلاك والإغاثة في معرفة الله و ترجمة كتابه. كما أن حبهم بحسب القصيدة يفيد في دفع الشرور والبلاء. فهذا هو التوسل والوسيلة بأهل البيت كمعتقد إسلامي لم يحفظه إلا شيعة أهل البيت من المسلمين بعد أن كان من المعتقدات السائدة بشهادة الفرزدق. أما شواهد شيوع هذا المعتقد بين المسلمين في موارد حديثية من مدارس فقهية اخرى غير شيعية فقد فاضت بها الكتب كما في إستغاثة آدم ع بالرسول صلى الله عليه وآله (٤) .
الشعر كما يقال سجل العرب. كثير من الأخبار عن أخلاقيات وحوادث تاريخية قديمة تم اثباتها من خلال الشعر. لهذا وفي أمر مهم كالدين مثلاً يمكن توظيف الشعر والشعراء في فهم الثقافة الدينية السائدة في عصورهم وكما نقلوها. فقد يكون لشاعر ما بيتاً يفصل في جدال أصولي طال أمده.ا
١. الموسعة العالمية للشعر العربي، الفرزدق، رقم القصيدة : ٣٦٦٤
٢. قال السيد مرتضى العسكري: إن حديث الكساء متواتر وليس مشهوراً فقط وهذا مما لا يخفى على أحد من العلماء, ولا معنى لأن يبحث في سند المتواتر أما المشهور فإن للبحث في سنده مجالاً (خلفيات كتاب مأساة الزهراء (ج ٢ /٢٧١)
٣. زيارة وارث
٤. لسيوطي: الدرّ المنثور ١/٥٩ و الآلوسي: روح المعاني ١/٢١٧