نووورا انا
16-01-2010, 09:45 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
بطولات الشباب في كربلاء
إذا كانت مطامحُ الشباب عيشاً رغيداً ومستقبلاً سعيداً حافلاً بكل ألوان النعيم كما نشاهد ونرى، فشباب كربلاء كانت كلّ أمانيهم ومطامحهم صموداً في الأهوال وصبراً في البأساء واستشهاداً بحد السيوف، ولم يكن لتلك الفتوة الغضة والصبا الريان ان تهتم او تفكر بما أعد لها من غضارة الدنيا وما ينتظرها من صفو الحياة ولهوها ومتعها، بل كان كل همهم التطلع إلى أي سبيل من سبل الشهادة يعبرون وأي موقف من مواقف البطولات يقفون.
هناك وعلى مشارف العراق وفي الطريق إلى كربلاء.. كان الحسين (عليه الصلاة والسلام) يسير على رأس قافلة الشباب الابطال، متحدياً اقوى سلطة وأبشع طغيان وأسوأ من عرفه التاريخ من الحاكمين، متحديا كل ذلك بسبعين من الرجال والشباب، ليحطم بهذا العدد القليل قوى الشر والطغيان ومعاقل البغي والعدوان، وليعلّم ابناءَ آدم كيف يموتون في سبيل العزة والكرامة.
كان يسير أبو عبد الله على رأس تلك القافلة ممّن اصطفاهم الله إلى الشهادة التي لم يجد وسيلة غيرها تحفظ شريعة جده مما كان يخططه لها الحزب الاموي الحاكم الذي سخر جميع طاقات الامة وامكانياتها وفئاتها للقضاء عليها.
كان يسيرُ إلى الشهادة ومن حوله عشرون شاباً او اكثر من بنيه واخوته وأبناء أخيه الحسن السبط (عليه السلام) وأبناء اخته بطلة كربلاء وشريكته في الجهاد والتضحيات وأحفاد عمه عقيل بن أبي طالب، وما اسرع ان كبّر قائلاً: الله اكبر، ولم يكن الموقف موقف تكبير، فلا بد وأن يكون تكبيره لأمرٍ ما أراد ان يستنجد عليه بالله سبحانه، وإذا كان للتكبير روعته مهما كانت دوافعه وأسبابه، فما احسب أن تكبيراً في تلك الساعة كان له من الروعة ما كان لتكبير الحسين (عليه السلام)، وهو منطلق في تلك الصحراء المديدة إلى الهدف الاسمى والغاية العليا تحت سماء العراق الصافية.. على رأس ذلك الركب كبّر الحسينُ فكانت تكبيرة لم يعرف التاريخ تكبيراً اكثر منها دويا، تكبيرة اقتحمت تلك البيداء ومضت من صعيد إلى صعيد تهز النفوس وتثير الضمائر الحية وتحض على الظالمين والعابثين بتراث محمد ورسالته.
وما كان لعلي الاكبر ابن العشرين الذي كان يسير الى جنب ابيه إلا ان يسأل أباه: لمَ كبّرت يا أبتاه؟ فقال له: "لقد خفِقْتُ خفقة، فعنّ لي هاتف وهو يقول: القومُ يسيرون والمنايا تسير في اثرهم، فعلمت ان نفوسنا نعيت الينا".
لقد كان جواب الحسين لولده موجزاً وبكلمة واحدة، لا مواربة فيها ولا تمويه، انه الموت ينتظرنا على الطريق وسوف نموت، ولا نستسلم للطغاة ولا نهادن الجور والتسلط على عباد الله والمستضعفين في الأرض، مع انه لا سبيل لنا إلى استنهاض ثورة عارمة تدك عروش اولئك الطغاة بقوتها المادية تنتصر عليهم بقوة السلاح وكثرة الرجال.
ان سبيلنا الوحيد هو بين أيدينا ورهن ارادتنا، وهو ان نكون وحدنا الثورة، ومن غير المعقول ان نتغلب بهؤلاء السبعين على ألوفهم ونهزم بهم سبعين الفا من رجالهم، ولكن باستطاعتنا ان نقلب الدنيا على رؤوسهم إذا ضحينا وقُتلنا في سبيل الإسلام ورسالته.
وكان الحسين (عليه السلام) وهو يلقي كلماته هذه على ولده علي الأكبر ابن العشرين وأشبه الناس بجده الرسول الأمين خَلقا وخُلقا، يريد ان يسمع رأي ولده الأكبر، ولم ينتظر الإمام طويلاً حتى سمع جواب الشاب الذي بادره بقوله: "يا أبتاه، لا أراك الله سوءً، أولسنا على الحق"؟! هذا هو القول الفصل عند علي بن أبي طالب وأبنائه شيوخاً وشباباً، والقرار الأول والأخير انهم يسعون إلى الحق ويعملون من اجله ويحاربون الباطل، وحيث يكون الحق فهو هدفهم وغايتهم مهما كلفهم ذلك من جهود وتضحيات.
أولسنا على الحق يا أبتاه؟ هكذا كان جواب الأكبر ابن العشرين لابيه، وكان رد الحسين (عليه السلام): "بلى والذي إليه مرجع العباد"، ورد عليه ولده بقوله: "اذن لا نبالي بالموت ما دمنا نموت محقين".
ان الحسين (عليه السلام) لم يكن ينتظر من ولده غير هذا الجواب، ولكنه لم يتمالك إلا ان يزهو بمثل هذه الروح التي يحملها شاب في مطلع شبابه، فرد عليه قائلاً: "جزاك الله من ولد خير ما جزي ولداً عن والده".
ان علي الأكبر بكلماته هذه لم يكن يعبر عن نفسه وروحه خاصة، بل كان يتكلم باسم الشباب العشرين من أحفاد أبي طالب، وكان يعلن قرارهم الاخير الذي هاجروا من المدينة لاجله، وكان في طليعة اولئك الشباب العشرين العباس بن علي أكبرهم سنا، وكان الحسين يحبه حب الأخ لأخيه والوالد لولده الوحيد، وللعباس من المؤهلات والصفات الفاضلة ما جعله محببا لكل عارفيه، وكما تكلم الأكبر باسم الطالبيين جميعاً فقد تكلم العباس باسمهم بمناسبة اخرى وبنفس الروح والعزيمة والاستهانة بالحياة التي كان يحملها الأكبر، وذلك عندما عرض عليه ابن ذي الجوشن الأمان لاتصال أمه أم البنين بنسبه، فرد عليه العباس بعد أن أمره الحسين بالرد عليه قائلا: "لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له"؟ ولقد كرروا تصميمهم على التضحية في سبيل الحق الذي يمثله الحسين مرة أخرى، وذلك عندما جمع الحسين أنصاره وأهل بيته وأذن لهم بالإنصراف وقال: "ان القوم لا يريدون غيري، وقد اذنتُ لكم بالإنصراف في ظلمة هذا الليل فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وكان أول المتكلمين باسمهم جميعاً العباس بن علي، فقال: "ولم نفعل ذلك لنبقى بعدك يا ابا عبد الله، لا أراني الله ذلك ابدا"، وتتابعوا جميعاً على الكلام بنفس الروح واللغة التي تكلم بها العباس.
وفي اليوم العاشر من المحرم، اليوم الحاسم الرهيب.. كان الشباب أحفاد ابي طالب يتسابقون إلى الموت بأرواحهم الطيبة السخية بالبذل والفداء في سبيل الحسين، وكما كان الأكبر يتكلم باسمهم ويعبر عما في نفوسهم وضمائرهم، فقد كان اول شهيد من اولئك الشباب الابطال، وحينما اقبل على المعركة قال:
أنا علي بن الحسين بن علي * نحن وبيت الله أولى بالنبي
والله لا يحكم فينا ابن الدعي
وتناولته السيوف والرماح بعد ان فتك بهم فتكاً ذريعاً وقتل نحواً من مائتين من فرسانهم وأبطالهم الاشداء، وأدى للبطولة حقها وللشهادة كرامتها، وتتابع الطالبيون من بعده شاباً بعد شاب دفاعاً عن الحق والعقيدة وكرامة الإنسان ومبادئ الإسلام، مطمئنين بالمصير الذي أُعد لهم والنصر المبين.
عشرون شاباً من نسل ابي طالب وأحفاد محمد بن عبد الله رفضوا الذل والهوان، ومشوا إلى الموت بأنوف شامخة ورؤوس مرفوعة عالية، لحماية الإسلام من الوثنية والجاهلية الرعناء التي حمل لوائها يزيد بن ميسون بعد أبيه معاوية وجده ابي سفيان عدو الإسلام الأكبر، الذي ارغمه الإسلام على الإستسلام عام الفتح ووقف بين يدي محمد بن عبد الله ذليلاً يستجديه العفو والصفح.. مشوا إلى الموت يردّدون مقالة جدهم ابي طالب وهو يخاطب أبا سفيان وحزبه يوم كانوا يطاردون النبي في مكة ويسومونه كل أنواع العسف والجور ويساومون ابا طالب ليتخلى عنه، وهو يقول لهم:
كذبتم وبيت الله نخلي محمداً * ولما نطاعن دونه ونناضل
وننصره حتى نصرع حوله * ونذهل عن ابنائنا والحلائل
ان ابا طالب حينما أنشد هذين البيتين لم يقصد بهما نفسه ولا جيله من الهاشميين والطالبيين، بل كان يقصد بهما كل هاشمي من نسله ويناشد كل جيل من أحفاده ان يضحي بنفسه وبكل ما لديه عندما يرى رسالة محمد معرضة للتحريف والتزوير والاستغلال، كان يخاطبهم من وراء الغيب أينما وُجدوا ليكونوا حماة لرسالة محمد ونهجه، وهكذا كان فلقد نفذوا جميع وصاياه وناضلوا وضحوا بأنفسهم من اجلها، حتى استشهدوا حول الحسين تاركين للعالم وللتاريخ صوراً ناصعة من الوفاء ودروساً غنية بالعطاء والمثل العليا، تستلهم منها الاجيال كل معاني الخير والنبل والفضيلة.
لقد نفذ احفادُ ابي طالب كل وصاياه، ووقفوا في وجه اولئك الجلادين والفراعنة أحفاد ابي سفيان يناضلون ويدافعون عن رسالة محمد وتعاليم محمد، بنفس الروح والعزيمة التي كان جدهما ابا طالب يدافع ويناضل بهما ويقول لابن اخيه:
والله لن يصلوا اليك بجمعهم * حتى اوسد في التراب دفينا
ولقد علمتُ بأن دين محـمد * من خيـر اديان البرية دينا
إن ابا طالب الذي وقف إلى جانب الدعوة ودافع وناضل عنها وعن صاحبها بكل ما لديه من مال وجاه وقوة منذ ان بزغ فجرها، ولم يتنازل عن مواقفه منها بالرغم من مغريات قريش وجبروتها، وفي الوقت ذاته كان يعلن بكل مناسبة بأن دين محمد من خير أديان البرية ويأمر بنيه وذويه بالسير على خطا باعثها وحاميها واعتناق الإسلام، ان ابا طالب صاحب هذه المواقف الكريمة الخالدة لقد مات كافراً وفي ضحضاح من نار عند أهل سنة الجماعة ومعاوية وأبا سفيان اللذين لم يفارقا الأصنام ولم يتنازلا عن وثنيتهما لحظة واحدة، كما تؤكد ذلك مواقفهما من الإسلام وحماة الإسلام في عشرات المناسبات، ماتا مسلمين مؤمنين ومن عدول الصحابة. وعشرات الشواهد تدل على ان ابا طالب (سلام الله عليه) لا ذنب له عند الامويين ورواتهم ومحدثيهم إلا انه والد الإمام علي بن ابي طالب (صلوات الله عليه) الذي ضعضع كبريائهم وداس عنصريتهم ووثنيتهم بقدميه في بدر وأحد والأحزاب، وفضح مخططاتهم في سيرته وسلوكه وسياسته، ولو استطاعوا ان يلصقوا به الشرك لم يقصروا، ومع ذلك فقد وضع لهم ابو هريرة وابن جندب وكعب الأحبار والزبيريون وابن شهاب الزهري عشرات الأحاديث في ذمه وتجريحه ولعنوه على منابرهم نحواً من مائة عام، ولكنهم كانوا بما اقترفوه في حقه كأنهم يأخذون بضبعه إلى السماء وكأنهم كانوا ينشرون جيف الحمير فيما وضعوه من الأحاديث في فضل بعض الصحابة والأمويين على حد تعبير الشعبي وعبد الله بن عروة لولديهما.
ومهما كان الحال.. فستبقى مواقف أنصار الحسين وشباب كربلاء بالذات في سبيل الحق والمبدأ والعقيدة مثلاً كريماً لكل ثائر على الظلم والجور والطغيان إلى حيث يشاء الله، وسلام الله عليهم وعلى جدهم ابي طالب حين ولدوا وحين استشهدوا وحين يبعثون مع الأنبياء والصديقين وشهداء بدر وأحد ورحمته وبركاته.
ونتمنى على شبابنا الذين ينشدون التحرر من الاستغلال والاستعباد وتسلط الحاكمين، ان يرجعوا إلى تعاليم الإسلام وسيرة اهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم من وثنية الأمويين وعنصريتهم ومن كل ما هو غريب عن الإسلام وبعيد عنه، ونتمنى عليهم ان يرجعوا ايضاً إلى مدرسة كربلاء ليقتدوا بشبابها الذين كانوا ثورة عارمة على الظلم والتسلط والاستغلال واستعباد الانسان لأخيه الانسان، وسيجدون فيها وفي الإسلام ما يغنيهم عن تلك المبادئ المستوردة من هنا وهناك والتي تنطوي على اسوأ انواع التسلط واستعباد الشعوب باسم الحرية والعدالة والديمقراطية، وما إلى ذلك من الشعارات البراقة الجوفاء التي يتاجرون فيها لتضليل الشعوب والبريئين من الناس ومنه سبحانه، نستمد لهم الهداية والوعي السليم ليدركوا ما تنطوي عليه تلك المبادئ من تضليل وهدم للقيم والأخلاق واستغلال للضعفاء، انه قريب مجيب.
اللهم صل على محمد وآل محمد
بطولات الشباب في كربلاء
إذا كانت مطامحُ الشباب عيشاً رغيداً ومستقبلاً سعيداً حافلاً بكل ألوان النعيم كما نشاهد ونرى، فشباب كربلاء كانت كلّ أمانيهم ومطامحهم صموداً في الأهوال وصبراً في البأساء واستشهاداً بحد السيوف، ولم يكن لتلك الفتوة الغضة والصبا الريان ان تهتم او تفكر بما أعد لها من غضارة الدنيا وما ينتظرها من صفو الحياة ولهوها ومتعها، بل كان كل همهم التطلع إلى أي سبيل من سبل الشهادة يعبرون وأي موقف من مواقف البطولات يقفون.
هناك وعلى مشارف العراق وفي الطريق إلى كربلاء.. كان الحسين (عليه الصلاة والسلام) يسير على رأس قافلة الشباب الابطال، متحدياً اقوى سلطة وأبشع طغيان وأسوأ من عرفه التاريخ من الحاكمين، متحديا كل ذلك بسبعين من الرجال والشباب، ليحطم بهذا العدد القليل قوى الشر والطغيان ومعاقل البغي والعدوان، وليعلّم ابناءَ آدم كيف يموتون في سبيل العزة والكرامة.
كان يسير أبو عبد الله على رأس تلك القافلة ممّن اصطفاهم الله إلى الشهادة التي لم يجد وسيلة غيرها تحفظ شريعة جده مما كان يخططه لها الحزب الاموي الحاكم الذي سخر جميع طاقات الامة وامكانياتها وفئاتها للقضاء عليها.
كان يسيرُ إلى الشهادة ومن حوله عشرون شاباً او اكثر من بنيه واخوته وأبناء أخيه الحسن السبط (عليه السلام) وأبناء اخته بطلة كربلاء وشريكته في الجهاد والتضحيات وأحفاد عمه عقيل بن أبي طالب، وما اسرع ان كبّر قائلاً: الله اكبر، ولم يكن الموقف موقف تكبير، فلا بد وأن يكون تكبيره لأمرٍ ما أراد ان يستنجد عليه بالله سبحانه، وإذا كان للتكبير روعته مهما كانت دوافعه وأسبابه، فما احسب أن تكبيراً في تلك الساعة كان له من الروعة ما كان لتكبير الحسين (عليه السلام)، وهو منطلق في تلك الصحراء المديدة إلى الهدف الاسمى والغاية العليا تحت سماء العراق الصافية.. على رأس ذلك الركب كبّر الحسينُ فكانت تكبيرة لم يعرف التاريخ تكبيراً اكثر منها دويا، تكبيرة اقتحمت تلك البيداء ومضت من صعيد إلى صعيد تهز النفوس وتثير الضمائر الحية وتحض على الظالمين والعابثين بتراث محمد ورسالته.
وما كان لعلي الاكبر ابن العشرين الذي كان يسير الى جنب ابيه إلا ان يسأل أباه: لمَ كبّرت يا أبتاه؟ فقال له: "لقد خفِقْتُ خفقة، فعنّ لي هاتف وهو يقول: القومُ يسيرون والمنايا تسير في اثرهم، فعلمت ان نفوسنا نعيت الينا".
لقد كان جواب الحسين لولده موجزاً وبكلمة واحدة، لا مواربة فيها ولا تمويه، انه الموت ينتظرنا على الطريق وسوف نموت، ولا نستسلم للطغاة ولا نهادن الجور والتسلط على عباد الله والمستضعفين في الأرض، مع انه لا سبيل لنا إلى استنهاض ثورة عارمة تدك عروش اولئك الطغاة بقوتها المادية تنتصر عليهم بقوة السلاح وكثرة الرجال.
ان سبيلنا الوحيد هو بين أيدينا ورهن ارادتنا، وهو ان نكون وحدنا الثورة، ومن غير المعقول ان نتغلب بهؤلاء السبعين على ألوفهم ونهزم بهم سبعين الفا من رجالهم، ولكن باستطاعتنا ان نقلب الدنيا على رؤوسهم إذا ضحينا وقُتلنا في سبيل الإسلام ورسالته.
وكان الحسين (عليه السلام) وهو يلقي كلماته هذه على ولده علي الأكبر ابن العشرين وأشبه الناس بجده الرسول الأمين خَلقا وخُلقا، يريد ان يسمع رأي ولده الأكبر، ولم ينتظر الإمام طويلاً حتى سمع جواب الشاب الذي بادره بقوله: "يا أبتاه، لا أراك الله سوءً، أولسنا على الحق"؟! هذا هو القول الفصل عند علي بن أبي طالب وأبنائه شيوخاً وشباباً، والقرار الأول والأخير انهم يسعون إلى الحق ويعملون من اجله ويحاربون الباطل، وحيث يكون الحق فهو هدفهم وغايتهم مهما كلفهم ذلك من جهود وتضحيات.
أولسنا على الحق يا أبتاه؟ هكذا كان جواب الأكبر ابن العشرين لابيه، وكان رد الحسين (عليه السلام): "بلى والذي إليه مرجع العباد"، ورد عليه ولده بقوله: "اذن لا نبالي بالموت ما دمنا نموت محقين".
ان الحسين (عليه السلام) لم يكن ينتظر من ولده غير هذا الجواب، ولكنه لم يتمالك إلا ان يزهو بمثل هذه الروح التي يحملها شاب في مطلع شبابه، فرد عليه قائلاً: "جزاك الله من ولد خير ما جزي ولداً عن والده".
ان علي الأكبر بكلماته هذه لم يكن يعبر عن نفسه وروحه خاصة، بل كان يتكلم باسم الشباب العشرين من أحفاد أبي طالب، وكان يعلن قرارهم الاخير الذي هاجروا من المدينة لاجله، وكان في طليعة اولئك الشباب العشرين العباس بن علي أكبرهم سنا، وكان الحسين يحبه حب الأخ لأخيه والوالد لولده الوحيد، وللعباس من المؤهلات والصفات الفاضلة ما جعله محببا لكل عارفيه، وكما تكلم الأكبر باسم الطالبيين جميعاً فقد تكلم العباس باسمهم بمناسبة اخرى وبنفس الروح والعزيمة والاستهانة بالحياة التي كان يحملها الأكبر، وذلك عندما عرض عليه ابن ذي الجوشن الأمان لاتصال أمه أم البنين بنسبه، فرد عليه العباس بعد أن أمره الحسين بالرد عليه قائلا: "لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له"؟ ولقد كرروا تصميمهم على التضحية في سبيل الحق الذي يمثله الحسين مرة أخرى، وذلك عندما جمع الحسين أنصاره وأهل بيته وأذن لهم بالإنصراف وقال: "ان القوم لا يريدون غيري، وقد اذنتُ لكم بالإنصراف في ظلمة هذا الليل فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وكان أول المتكلمين باسمهم جميعاً العباس بن علي، فقال: "ولم نفعل ذلك لنبقى بعدك يا ابا عبد الله، لا أراني الله ذلك ابدا"، وتتابعوا جميعاً على الكلام بنفس الروح واللغة التي تكلم بها العباس.
وفي اليوم العاشر من المحرم، اليوم الحاسم الرهيب.. كان الشباب أحفاد ابي طالب يتسابقون إلى الموت بأرواحهم الطيبة السخية بالبذل والفداء في سبيل الحسين، وكما كان الأكبر يتكلم باسمهم ويعبر عما في نفوسهم وضمائرهم، فقد كان اول شهيد من اولئك الشباب الابطال، وحينما اقبل على المعركة قال:
أنا علي بن الحسين بن علي * نحن وبيت الله أولى بالنبي
والله لا يحكم فينا ابن الدعي
وتناولته السيوف والرماح بعد ان فتك بهم فتكاً ذريعاً وقتل نحواً من مائتين من فرسانهم وأبطالهم الاشداء، وأدى للبطولة حقها وللشهادة كرامتها، وتتابع الطالبيون من بعده شاباً بعد شاب دفاعاً عن الحق والعقيدة وكرامة الإنسان ومبادئ الإسلام، مطمئنين بالمصير الذي أُعد لهم والنصر المبين.
عشرون شاباً من نسل ابي طالب وأحفاد محمد بن عبد الله رفضوا الذل والهوان، ومشوا إلى الموت بأنوف شامخة ورؤوس مرفوعة عالية، لحماية الإسلام من الوثنية والجاهلية الرعناء التي حمل لوائها يزيد بن ميسون بعد أبيه معاوية وجده ابي سفيان عدو الإسلام الأكبر، الذي ارغمه الإسلام على الإستسلام عام الفتح ووقف بين يدي محمد بن عبد الله ذليلاً يستجديه العفو والصفح.. مشوا إلى الموت يردّدون مقالة جدهم ابي طالب وهو يخاطب أبا سفيان وحزبه يوم كانوا يطاردون النبي في مكة ويسومونه كل أنواع العسف والجور ويساومون ابا طالب ليتخلى عنه، وهو يقول لهم:
كذبتم وبيت الله نخلي محمداً * ولما نطاعن دونه ونناضل
وننصره حتى نصرع حوله * ونذهل عن ابنائنا والحلائل
ان ابا طالب حينما أنشد هذين البيتين لم يقصد بهما نفسه ولا جيله من الهاشميين والطالبيين، بل كان يقصد بهما كل هاشمي من نسله ويناشد كل جيل من أحفاده ان يضحي بنفسه وبكل ما لديه عندما يرى رسالة محمد معرضة للتحريف والتزوير والاستغلال، كان يخاطبهم من وراء الغيب أينما وُجدوا ليكونوا حماة لرسالة محمد ونهجه، وهكذا كان فلقد نفذوا جميع وصاياه وناضلوا وضحوا بأنفسهم من اجلها، حتى استشهدوا حول الحسين تاركين للعالم وللتاريخ صوراً ناصعة من الوفاء ودروساً غنية بالعطاء والمثل العليا، تستلهم منها الاجيال كل معاني الخير والنبل والفضيلة.
لقد نفذ احفادُ ابي طالب كل وصاياه، ووقفوا في وجه اولئك الجلادين والفراعنة أحفاد ابي سفيان يناضلون ويدافعون عن رسالة محمد وتعاليم محمد، بنفس الروح والعزيمة التي كان جدهما ابا طالب يدافع ويناضل بهما ويقول لابن اخيه:
والله لن يصلوا اليك بجمعهم * حتى اوسد في التراب دفينا
ولقد علمتُ بأن دين محـمد * من خيـر اديان البرية دينا
إن ابا طالب الذي وقف إلى جانب الدعوة ودافع وناضل عنها وعن صاحبها بكل ما لديه من مال وجاه وقوة منذ ان بزغ فجرها، ولم يتنازل عن مواقفه منها بالرغم من مغريات قريش وجبروتها، وفي الوقت ذاته كان يعلن بكل مناسبة بأن دين محمد من خير أديان البرية ويأمر بنيه وذويه بالسير على خطا باعثها وحاميها واعتناق الإسلام، ان ابا طالب صاحب هذه المواقف الكريمة الخالدة لقد مات كافراً وفي ضحضاح من نار عند أهل سنة الجماعة ومعاوية وأبا سفيان اللذين لم يفارقا الأصنام ولم يتنازلا عن وثنيتهما لحظة واحدة، كما تؤكد ذلك مواقفهما من الإسلام وحماة الإسلام في عشرات المناسبات، ماتا مسلمين مؤمنين ومن عدول الصحابة. وعشرات الشواهد تدل على ان ابا طالب (سلام الله عليه) لا ذنب له عند الامويين ورواتهم ومحدثيهم إلا انه والد الإمام علي بن ابي طالب (صلوات الله عليه) الذي ضعضع كبريائهم وداس عنصريتهم ووثنيتهم بقدميه في بدر وأحد والأحزاب، وفضح مخططاتهم في سيرته وسلوكه وسياسته، ولو استطاعوا ان يلصقوا به الشرك لم يقصروا، ومع ذلك فقد وضع لهم ابو هريرة وابن جندب وكعب الأحبار والزبيريون وابن شهاب الزهري عشرات الأحاديث في ذمه وتجريحه ولعنوه على منابرهم نحواً من مائة عام، ولكنهم كانوا بما اقترفوه في حقه كأنهم يأخذون بضبعه إلى السماء وكأنهم كانوا ينشرون جيف الحمير فيما وضعوه من الأحاديث في فضل بعض الصحابة والأمويين على حد تعبير الشعبي وعبد الله بن عروة لولديهما.
ومهما كان الحال.. فستبقى مواقف أنصار الحسين وشباب كربلاء بالذات في سبيل الحق والمبدأ والعقيدة مثلاً كريماً لكل ثائر على الظلم والجور والطغيان إلى حيث يشاء الله، وسلام الله عليهم وعلى جدهم ابي طالب حين ولدوا وحين استشهدوا وحين يبعثون مع الأنبياء والصديقين وشهداء بدر وأحد ورحمته وبركاته.
ونتمنى على شبابنا الذين ينشدون التحرر من الاستغلال والاستعباد وتسلط الحاكمين، ان يرجعوا إلى تعاليم الإسلام وسيرة اهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم من وثنية الأمويين وعنصريتهم ومن كل ما هو غريب عن الإسلام وبعيد عنه، ونتمنى عليهم ان يرجعوا ايضاً إلى مدرسة كربلاء ليقتدوا بشبابها الذين كانوا ثورة عارمة على الظلم والتسلط والاستغلال واستعباد الانسان لأخيه الانسان، وسيجدون فيها وفي الإسلام ما يغنيهم عن تلك المبادئ المستوردة من هنا وهناك والتي تنطوي على اسوأ انواع التسلط واستعباد الشعوب باسم الحرية والعدالة والديمقراطية، وما إلى ذلك من الشعارات البراقة الجوفاء التي يتاجرون فيها لتضليل الشعوب والبريئين من الناس ومنه سبحانه، نستمد لهم الهداية والوعي السليم ليدركوا ما تنطوي عليه تلك المبادئ من تضليل وهدم للقيم والأخلاق واستغلال للضعفاء، انه قريب مجيب.