ابونور الهدى
18-01-2010, 08:42 PM
اهل البيت القدوة الصالحة والنموذج الامثل
لقد اكتشف الإنسان وبعد تجربة طويلة أنه بحاجة إلى قدوة يقتفي أثرها ويهتدي بهداها ويستضيء بنورها ويسير في ركبها. فهو من دون قدوة صالحة تائه يجهل طريقه ومبادئه.
وقد أمر القرآن الكريم بالقدوة الصالحة: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) بمقدار ما نهى عن القدوة السيئة (قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) فعلماء السوء ساهموا في قلب الحقائق وفي تحريف الأمة عن مسارها الصحيح.
لابدّ للإنسان أن يتأثر بسلوك الآخرين، وأن يقلدهم ويتأثر بأفكارهم وآرائهم، فمن خصائص الإنسان أنه يميل ميلاً طبيعياً إلى شخصية معينة يقلدها في فكره وسلوكه ويتخذها رمزاً في حياته وتصرفاته بحيث لا يمكن أن يتخلى عنه بسهولة.
وقد سار القرآن الكريم في هذا الاتجاه حيث أمر المؤمنين بوجوب اتخاذ قدوة حسنة تكون بالنسبة إليهم معلماً عملياً يقتدون به ويقتفون أثره ويسيرون بركبه ويهتدون بهديه ويتبعون خطاه. بينما منع الإسلام أي طريقة أخرى في اتخاذ القدوة، وجعل من الضلال الكبير أن يتخذ الإنسان قدوة سيئة حتى لو كانت القدوة هي الأب أو الأهل أو العشيرة. حيث قال تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلاّ يخرصون أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) (1).
وتكتسب القدوة أهميتها في التربية من حيث إنّ القدوة في التربية هي أفضل الوسائل جميعاً وأقربها إلى النجاح. من السهل تأليف كتاب في التربية! من السهل تخيل منهج وإن كان في حاجة إلى إحاطة وبراعة وشمول.. ولكن هذا المنهج يظل حبراً على ورق.. يظل معلقاً في الفضاء.. ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض.. ما لم يتحول إلى بشر تترجم تصرفاته ومشاعره وأفكاره مبادئ المنهج ومعانيه. عندئذ فقط يتحول المنهج إلى حقيقة، ويتحول إلى حركة، ويتحول إلى تاريخ. ولقد علم الله سبحانه - وهو يضع ذلك المنهج العلوي المعجز - أنه لابدّ من ذلك البشر.. لابدّ من قلب إنسان يحمل المنهج ويحوله إلى حقيقة لكي يعرف الناس أنه حق.. ثمّ يتبعوه.. لابدّ من قدرة.
لذلك بعث الله محمداً صلى الله عليه وال وسلم ليكون قدوة للناس:
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (2).
فقد وضع الله تعالى الرسول (صلى الله عليه وآله) واهل بيته عليهم السلام قدوة للبشرية كافة، وخصهم بالعصمة وجعل عملهم وأقوالهم ومواقفهم التي صدرت عنهم (سنة) واجبة الاتباع على الناس، واعتبرهم الطريق إليه تعالى، فمن أراد الله يجب أن يبدأ بهم ويتحرك نحوه وفق هداهم ولم يجعل طريقاً آخر سواهم، وطلب الله تعالى اتباعهم واقتفاء أثرهم واتخاذهم قدوة وأسوة في حياة الإنسان.
وبذلك جاءت النصوص عنهم (عليهم السلام) صريحة، فليس اتباع طريقهم والاهتداء بهم (عليهم السلام) هو دعوى يدعيها الإنسان فقط، وإنما هي العمل تبعاً لهداهم والاستنان بسنتهم.
فقد روى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: (يا جابر أيكتفي من انتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلاَّ من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون يا جابر إلاّ بالتواضع والتخشّع والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة، والبر بالوالدين، والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلاّ من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء... فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر والله ما يتقرب إلى الله تعالى إلاّ بالطاعة ما معناه براءة من النار ولا على الله لأحد حجة، من كان مطيعاً فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، ما تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع).
إنّ معرفة سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) أمر ضروري لمن يريد أن يستن بسنتهم ويتخلّق بأخلاقهم، وقد كتب العلماء والكتاب كتباً مطولة وتفصيلية بذلك، ونحن هنا لا نتمكن من الإحاطة بذلك، ولكن نحاول أن نذكر ما تيسر لنا من ادابي الرسول صلى الله عليه وال وسلم وأهل بيته (عليهم السلام) وأخلاقهم وسيرتهم حتى تكون معالم عملية لنا تمكننا بتطبيقها واتباعها من تزكيتنا لأنفسنا وتهذيبها.
الرسول وأهل بيته والقرآن الكريم
كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يربي أصحابه بالقرآن كما يروى عن عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة أنّهم كانوا يأخذون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخر حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل.
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(يا معاشر قراء القرآن! اتقوا الله - عز وجل - فيما حمّلكم من كتابه، فإني مسؤول عن تبليغ الرسالة، وأمّا أنتم فتُسألون عما حملتم من كتاب الله وسنتي).
وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لابن مسعود: اقرأ علي قال: فافتتحت سورة النساء فلما بلغت (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) رأيت عينه تذرفان بالدمع فقال لي: حسبك الآن).
وروي عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو أن يكون في تعلمه).
شيءٌ من السيرة
في وصف الرسول (صلى الله عليه وآله)، وصفه الإمام علي عليه السلام فقال:
(فتأس بنبيك الأطهر الأطيب - إلى أن قال - قضم الدنيا قضماً، ولم يعرها طرفاً، أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً، عرضت عليه الدنيا عرضاً فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وصغّر شيئاً فصغّره... ولقد كان رسول الله يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله... فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحبّ أن يغيّب زينتها عن عينه لكيلا يتخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده) (نهج البلاغة).
وقال (عليه السلام): (وكان أسخى الناس لا يثبت عنده دينار ولا درهم، وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه وفجأ الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما اتاه الله إلا قوت عامه فقط من أيسر ما يجد من الطعام والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، لا يسأل شيئاً إلا أعطاه ثمّ يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه حتى أنه ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء.
وينفذ الحق وإن عاد ذلك عليه بالضرر أو على أصحابه، ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس، لا يهوله شيء من أمور الدنيا، ويجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم، يقبل معذرة المعتذر إليه...) (إحياء العلوم).
وقال (عليه السلام): (كان النبي (صلى الله عليه وآله) يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويأكل مع العبد، ويجلس على الأرض، ويركب الحمار ويردف، ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجته من السوق إلى أهله، ويصافح الغني والفقير، ولا ينزع يده من يد أحد حتى ينزعها هو، ويسلّم على من استقبله من غني وفقير وكبير وصغير، ولا يحقر ما دُعي إليه ولو إلى حشف تمر.
وكان (صلى الله عليه وآله) خفيف المؤنة، كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بساماً من غير ضحك مخزوناً من غير عبوس، متواضعاً من غير مذلة، جواداً من غير سرف، رقيق القلب، رحيماً بكل مسلم، ولم يتجشأ من شبع قط، ولم يمد يده إلى طمع قط) (ارشاد الديلمي).
وفي مكارم الأخلاق عن أبي سعيد الخذري قال:
(كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه).
(وكان (صلى الله عليه وآله) يبكي حتى يبتل مصلاه خشية من الله عز وجل من غير جرم) (الاحتجاج).
وفي مكارم الأخلاق:
(كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده).
وفي وصف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال معاوية لضرار بن ضمرة صف لي علياً قال:
(أعفني، قال: لتصفنّه، قال: أما لابدّ فإنه والله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، ويتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواصيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، يُجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله من تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم، يبكي بكاء الحزين وهو يقول: يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت، أم إليّ تشوقت، هيهات هيهات قد أبنتك (أو طلقتك) ثلاث لا رجعة فيها فعمرك قصير، وخطرك كبير وعيشك حقير، آه من قلة الزاد للسفر، ووحشة الطريق، فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: (حزن من ذبح ولدها بحجرها فهي لا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها).
وقد روى عن الامام السجاد عليه السلام أنه جاءه رجل فقال له:
(إن فلاناً قد وقع فيك وآذاك، قال: فانطلق بنا إليه، فانطلق معه وهو يرى أنه سينتصر لنفسه، فلما أتاه قال له: يا هذا إن كان ما قلته فيّ حقاً فالله تعالى يغفره لي، وإن كان ما قلته فيّ باطلاً فالله يغفره لك).
وروي أنه لما مات علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) وجدوه يقوت مائة بيت من أهل المدينة كان يحمل إليهم ما يحتاجونه إليه.
ويروى عنه (عليه السلام) أيضاً أنه كان ابن عم له يأتيه (عليه السلام) بالليل متنكراً فيناوله شيئاً من الدنانير فيقول: لكن علي بن الحسين لا يواصلني لا جزاه الله عني خيراً، فيسمع ذلك ويحتمله ويصبر عليه ولا يعرفه بنفسه فلما مات (عليه السلام) فقدها، فحينئذ علم أنه هو كان فجاء إلى قبره يبكي عليه.
نكتفي بهذه القبسات من ذلك الفيض النوراني الذي لا ينضب للرسول وأهل بيته (عليهم السلام)، فإن استيفاء خصائصهم الطاهرة لا يسعنا، وإنما ذكرنا هذه العبقات الطاهرة حتى نعرض طبيعة الأخلاق التي كانوا يتعاملون بها ونمط السلوك الذي كانوا يسلكونه، ولمن أراد أن يتعرف على سيرتهم وأخلاقهم فليراجع في محله ما كتب عن ذلك، من أجل أن يتأكد أن تزكية النفس غير ممكنة من دون الاقتداء بهم (عليهم السلام) والاستنان بسنتهم، وأنه لا يمكن الوصول إلى الله تعالى إلاّ بوضعهم معالم في الطريق إليه سبحانه كما جعلهم هو في هذا الموقع.
فالقدوة الصالحة هي أداة مهمة وأساسية في تزكية النفس وتهذيبها والرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليه السلام) هم الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة، وقد أوجب الله تعالى اتخاذهم قدوة لمن أراد أن يعبد الله عز وجل حق عبادته
__________________
لقد اكتشف الإنسان وبعد تجربة طويلة أنه بحاجة إلى قدوة يقتفي أثرها ويهتدي بهداها ويستضيء بنورها ويسير في ركبها. فهو من دون قدوة صالحة تائه يجهل طريقه ومبادئه.
وقد أمر القرآن الكريم بالقدوة الصالحة: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) بمقدار ما نهى عن القدوة السيئة (قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) فعلماء السوء ساهموا في قلب الحقائق وفي تحريف الأمة عن مسارها الصحيح.
لابدّ للإنسان أن يتأثر بسلوك الآخرين، وأن يقلدهم ويتأثر بأفكارهم وآرائهم، فمن خصائص الإنسان أنه يميل ميلاً طبيعياً إلى شخصية معينة يقلدها في فكره وسلوكه ويتخذها رمزاً في حياته وتصرفاته بحيث لا يمكن أن يتخلى عنه بسهولة.
وقد سار القرآن الكريم في هذا الاتجاه حيث أمر المؤمنين بوجوب اتخاذ قدوة حسنة تكون بالنسبة إليهم معلماً عملياً يقتدون به ويقتفون أثره ويسيرون بركبه ويهتدون بهديه ويتبعون خطاه. بينما منع الإسلام أي طريقة أخرى في اتخاذ القدوة، وجعل من الضلال الكبير أن يتخذ الإنسان قدوة سيئة حتى لو كانت القدوة هي الأب أو الأهل أو العشيرة. حيث قال تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلاّ يخرصون أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) (1).
وتكتسب القدوة أهميتها في التربية من حيث إنّ القدوة في التربية هي أفضل الوسائل جميعاً وأقربها إلى النجاح. من السهل تأليف كتاب في التربية! من السهل تخيل منهج وإن كان في حاجة إلى إحاطة وبراعة وشمول.. ولكن هذا المنهج يظل حبراً على ورق.. يظل معلقاً في الفضاء.. ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض.. ما لم يتحول إلى بشر تترجم تصرفاته ومشاعره وأفكاره مبادئ المنهج ومعانيه. عندئذ فقط يتحول المنهج إلى حقيقة، ويتحول إلى حركة، ويتحول إلى تاريخ. ولقد علم الله سبحانه - وهو يضع ذلك المنهج العلوي المعجز - أنه لابدّ من ذلك البشر.. لابدّ من قلب إنسان يحمل المنهج ويحوله إلى حقيقة لكي يعرف الناس أنه حق.. ثمّ يتبعوه.. لابدّ من قدرة.
لذلك بعث الله محمداً صلى الله عليه وال وسلم ليكون قدوة للناس:
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (2).
فقد وضع الله تعالى الرسول (صلى الله عليه وآله) واهل بيته عليهم السلام قدوة للبشرية كافة، وخصهم بالعصمة وجعل عملهم وأقوالهم ومواقفهم التي صدرت عنهم (سنة) واجبة الاتباع على الناس، واعتبرهم الطريق إليه تعالى، فمن أراد الله يجب أن يبدأ بهم ويتحرك نحوه وفق هداهم ولم يجعل طريقاً آخر سواهم، وطلب الله تعالى اتباعهم واقتفاء أثرهم واتخاذهم قدوة وأسوة في حياة الإنسان.
وبذلك جاءت النصوص عنهم (عليهم السلام) صريحة، فليس اتباع طريقهم والاهتداء بهم (عليهم السلام) هو دعوى يدعيها الإنسان فقط، وإنما هي العمل تبعاً لهداهم والاستنان بسنتهم.
فقد روى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: (يا جابر أيكتفي من انتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلاَّ من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون يا جابر إلاّ بالتواضع والتخشّع والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة، والبر بالوالدين، والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلاّ من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء... فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر والله ما يتقرب إلى الله تعالى إلاّ بالطاعة ما معناه براءة من النار ولا على الله لأحد حجة، من كان مطيعاً فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، ما تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع).
إنّ معرفة سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) أمر ضروري لمن يريد أن يستن بسنتهم ويتخلّق بأخلاقهم، وقد كتب العلماء والكتاب كتباً مطولة وتفصيلية بذلك، ونحن هنا لا نتمكن من الإحاطة بذلك، ولكن نحاول أن نذكر ما تيسر لنا من ادابي الرسول صلى الله عليه وال وسلم وأهل بيته (عليهم السلام) وأخلاقهم وسيرتهم حتى تكون معالم عملية لنا تمكننا بتطبيقها واتباعها من تزكيتنا لأنفسنا وتهذيبها.
الرسول وأهل بيته والقرآن الكريم
كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يربي أصحابه بالقرآن كما يروى عن عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة أنّهم كانوا يأخذون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخر حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل.
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(يا معاشر قراء القرآن! اتقوا الله - عز وجل - فيما حمّلكم من كتابه، فإني مسؤول عن تبليغ الرسالة، وأمّا أنتم فتُسألون عما حملتم من كتاب الله وسنتي).
وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لابن مسعود: اقرأ علي قال: فافتتحت سورة النساء فلما بلغت (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) رأيت عينه تذرفان بالدمع فقال لي: حسبك الآن).
وروي عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو أن يكون في تعلمه).
شيءٌ من السيرة
في وصف الرسول (صلى الله عليه وآله)، وصفه الإمام علي عليه السلام فقال:
(فتأس بنبيك الأطهر الأطيب - إلى أن قال - قضم الدنيا قضماً، ولم يعرها طرفاً، أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً، عرضت عليه الدنيا عرضاً فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وصغّر شيئاً فصغّره... ولقد كان رسول الله يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله... فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحبّ أن يغيّب زينتها عن عينه لكيلا يتخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده) (نهج البلاغة).
وقال (عليه السلام): (وكان أسخى الناس لا يثبت عنده دينار ولا درهم، وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه وفجأ الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما اتاه الله إلا قوت عامه فقط من أيسر ما يجد من الطعام والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، لا يسأل شيئاً إلا أعطاه ثمّ يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه حتى أنه ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء.
وينفذ الحق وإن عاد ذلك عليه بالضرر أو على أصحابه، ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس، لا يهوله شيء من أمور الدنيا، ويجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم، يقبل معذرة المعتذر إليه...) (إحياء العلوم).
وقال (عليه السلام): (كان النبي (صلى الله عليه وآله) يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويأكل مع العبد، ويجلس على الأرض، ويركب الحمار ويردف، ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجته من السوق إلى أهله، ويصافح الغني والفقير، ولا ينزع يده من يد أحد حتى ينزعها هو، ويسلّم على من استقبله من غني وفقير وكبير وصغير، ولا يحقر ما دُعي إليه ولو إلى حشف تمر.
وكان (صلى الله عليه وآله) خفيف المؤنة، كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بساماً من غير ضحك مخزوناً من غير عبوس، متواضعاً من غير مذلة، جواداً من غير سرف، رقيق القلب، رحيماً بكل مسلم، ولم يتجشأ من شبع قط، ولم يمد يده إلى طمع قط) (ارشاد الديلمي).
وفي مكارم الأخلاق عن أبي سعيد الخذري قال:
(كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه).
(وكان (صلى الله عليه وآله) يبكي حتى يبتل مصلاه خشية من الله عز وجل من غير جرم) (الاحتجاج).
وفي مكارم الأخلاق:
(كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده).
وفي وصف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال معاوية لضرار بن ضمرة صف لي علياً قال:
(أعفني، قال: لتصفنّه، قال: أما لابدّ فإنه والله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، ويتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواصيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، يُجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله من تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم، يبكي بكاء الحزين وهو يقول: يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت، أم إليّ تشوقت، هيهات هيهات قد أبنتك (أو طلقتك) ثلاث لا رجعة فيها فعمرك قصير، وخطرك كبير وعيشك حقير، آه من قلة الزاد للسفر، ووحشة الطريق، فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: (حزن من ذبح ولدها بحجرها فهي لا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها).
وقد روى عن الامام السجاد عليه السلام أنه جاءه رجل فقال له:
(إن فلاناً قد وقع فيك وآذاك، قال: فانطلق بنا إليه، فانطلق معه وهو يرى أنه سينتصر لنفسه، فلما أتاه قال له: يا هذا إن كان ما قلته فيّ حقاً فالله تعالى يغفره لي، وإن كان ما قلته فيّ باطلاً فالله يغفره لك).
وروي أنه لما مات علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) وجدوه يقوت مائة بيت من أهل المدينة كان يحمل إليهم ما يحتاجونه إليه.
ويروى عنه (عليه السلام) أيضاً أنه كان ابن عم له يأتيه (عليه السلام) بالليل متنكراً فيناوله شيئاً من الدنانير فيقول: لكن علي بن الحسين لا يواصلني لا جزاه الله عني خيراً، فيسمع ذلك ويحتمله ويصبر عليه ولا يعرفه بنفسه فلما مات (عليه السلام) فقدها، فحينئذ علم أنه هو كان فجاء إلى قبره يبكي عليه.
نكتفي بهذه القبسات من ذلك الفيض النوراني الذي لا ينضب للرسول وأهل بيته (عليهم السلام)، فإن استيفاء خصائصهم الطاهرة لا يسعنا، وإنما ذكرنا هذه العبقات الطاهرة حتى نعرض طبيعة الأخلاق التي كانوا يتعاملون بها ونمط السلوك الذي كانوا يسلكونه، ولمن أراد أن يتعرف على سيرتهم وأخلاقهم فليراجع في محله ما كتب عن ذلك، من أجل أن يتأكد أن تزكية النفس غير ممكنة من دون الاقتداء بهم (عليهم السلام) والاستنان بسنتهم، وأنه لا يمكن الوصول إلى الله تعالى إلاّ بوضعهم معالم في الطريق إليه سبحانه كما جعلهم هو في هذا الموقع.
فالقدوة الصالحة هي أداة مهمة وأساسية في تزكية النفس وتهذيبها والرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليه السلام) هم الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة، وقد أوجب الله تعالى اتخاذهم قدوة لمن أراد أن يعبد الله عز وجل حق عبادته
__________________