عاشق القائم
23-01-2010, 08:19 AM
كل العلوم
والمجلس مورد عذب كثير الزحام - لكل فيه ما يغنيه - فالإمام في مجلسه الرفيع يروي السنة عن آبائه. وما يقوله يجري عند الشيعة مجرى الأصول. فإذا أبدى الرأي في واقعة معينة جعله الشيعة مجعل السنة والتزموها باعتبارها نصا عنه.
أما أهل السنة فيأخذونه مأخذ اجتهاد الأئمة.
واللسان العربي علم العلوم. وإمام المسلمين إمام في البلاغة العربية، عبر عن أسلوبه أبو عمرو بن العلاء حين قال عن أساليب العربية (العرب تطيل ليسمع منها وتوجز ليحفظ عنها).
وعند الصادق لكل مقام مقال. يسهب ويستطرد كما ستقرأ، بعد، أو يوجز ليحفظ عنه ويتذوق منه، بحروف لها جرس في الأذن ونغم في الفم. كأن يقول: (لا تصل فيما خف أو شف). وكلاهما كاشف.
ويجري على لسانه الشعر الرفيع مثل الذي يرويه عنه سفيان الثوري:
لا اليسر يطرؤنا يوما فيبطرنا *** ولا لأزمة دهر نظهر الجزعا
إن سرنا الدهر لم نبهج لصحته *** أو ساءنا الدهر لم نظهر له الهلعا
مثل النجوم على مضمار أولنا *** إذا تغيب نجم، آخر طلعا
أو مثل قوله جوابا لسفيان إذ يسأل: يا ابن رسول اللّه لم اعتزلت الناس؟
قال « يا سفيان قد فسد الزمان وتغير الإخوان فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد » وأنشد:
ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب *** والناس بين مخاتل وموارب
يفشون بينهم المودة والصفا *** وقلوبهم محشوة بعقارب
ومثل قوله:
فلا تجزع وإن أعسرت يوما *** فقد أيسرت في زمن طويل
ولا تيأس فإن اليأس كفر *** لعل اللّه يغني عن قليل
ولا تظن بربك ظن سوء *** فإن اللّه أولى بالجميل
ومثل قوله:
لا تجزعن من المداد فإنه *** عطر الرجال وحلية الآداب
فإذا جاءه المناظرون من كل فج عميق، أو التلاميذ الفقهاء، يمثلون أقطار الإسلام، ويجادلون في الأصول أو الفروع، فهو البحر لا تنزفه الدلاء. يروي العقول ويشفي الصدور.
فالديصاني، رغيم فرقة ملحدة، وصاحب الإهليلجة طبيب هندي. وعبد الكريم بن أبي العوجاء(1) عربي ملحد. وعبد الملك مصري يتزندق. وعمرو بن عبيد شيخ المعتزلة. وأبو حنيفة إمام الكوفة، ومالك إمام المدينة، وسفيان الثوري، وغيرهم. كل هؤلاء تملأ مجادلاته معهم الكتب، ولا يضيق صدرا بجدالهم. بل يضرب الأمثال، بمسلكه معهم واتساع صدره لهم، على الحرية الفكرية التي يتيحها الإمام للناس في مجلسه، ليفهموا العلم، أو ليؤمنوا
(1) عبد الكريم بن أبي العوجاء هو خال معن بن زائدة الشيباني أحد قواد بني مروان، وكبير من كبار الولاة لأبي جعفر. وهو الذي أنقذ أبا جعفر من الموت يوم الراوندية وأبلى - وأهله بنو شيبان أعظم البلاء في الدفاع عن بني العباس. ولما قدم ابن أبي العوجاء للقتل للزندقة سنة 161 قال (لن يقتلوني. لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحللت فيها الحرام وحرمت الحلال) لكن علماء الجرح والتعديل فطنوا إليها جميعا واستبعدوها .
فهم، دون إكراه أو إعنات، وعلى سعة الخلاف الفقهي لكل اتجاهات المسلمين. وعلى اليسر والرحمة في الشريعة. فكل هذه أسباب لنشر الإسلام وخلود فقهه.
يقول ابن المقفع - و هو متهم بالمجوسية أو بالزيغ على الأقل - إذ يؤمئ إلى « الصادق » في موضع الطواف (هذا الخلق ما منهم أحد أوجب له بالإنسانية إلا ذلك الشيخ الجالس).
ويذهب ابن أبي العوجاء ليناظره فتعتريه سكتة. فيسأله الإمام: ما يمنعك من الكلام؟ فيقول: (إجلالا لك. ومهابة منك. وما ينطق لساني بين يديك. فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما تداخلني من هيبة أحد منهم ما تداخلني من هيبتك).
رآه الإمام مرة بالحرم فقال له: ما جاء بك؟ قال: عادة الجسد وسنة البلد. ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة. قال الصادق: أنت بعد على عتوك وضلالك يا عبد الكريم؟ فذهب يتكلم. فقال الإمام: لا جدال في الحج. ونفض رداءه من يده وقال: إن يكن الأمر كما تقول، وليس كما نقول، نجونا ونجوت. وإن يكن الأمر كما نقول، وليس كما تقول، نجونا وهلكت. وأي صبر في حرية الفكر كمثل هذا الصبر من الإمام الصادق؟ وحيث تؤدى المناسك
وإنما ترك الإمام رجلا ملحدا سيقتل - بعد - في إلحاده سنة 161.
وإذا لم يأخذ الملحدين بالشدة، فتحا لأبواب الهداية لهم، فهو صارم في صدد المغالين في علي، أو فيه. ليكفهم عن غلوائهم. ومنهم بيان بن سمعان التميمي. كان يعتقد ألوهية علي والحسن والحسين ثم محمد بن الحنفية، ثم ابنه أبي هاشم. بل زعموا أنه قال إنه - بيانا -
المراد بقوله تعالى (هذا بيان للناس). وادعى المغيرة بن سعيد الانتماء إلى الباقر، وصار يؤله عليا ثم جعفر الصادق، ويكفر أبا بكر وعمر ومن لم يوال عليا.
وكذلك كان بشار الشعيري.
يقول جعفر الصادق لمرازم: « تقربوا إلى اللّه فإنكم فساق كفار مشركون » ويقول له « إذا قدمت الكوفة فأت بشار الشعيري وقل له يا كافر يا فاسق أنا بريء منك ».
دخل عليه بشار يوما فصاح به « اخرج عني لعنك اللّه. واللّه لا يظلني وإياك سقف أبدا » فلما خرج قال :«ويحه. ما صغر اللّه أحد تصغير هذا الفاجر. واللّه إني عبد اللّه وابن أمته».
ويقول عن المغيرة بن سعيد (لعن اللّه المغيرة بن سعيد. لعن اللّه يهودية كان يختلف إليها يتعلم منها الشعر والشعبذة والمخاريق. فو اللّه ما نحن إلا عبيد، خلقنا اللّه واصطفانا، ما نقدر على ضرر ولا نفع إلا بقدرته . . ولعن اللّه من قال فينا ما لا نقول في أنفسنا).
ويقول: (من قال إننا أنبياء فعليه لعنة اللّه ومن شك في ذلك فعليه لعنة اللّه).
وينبه الأذهان على دسائس خصوم الشيعة بالاختلاق عليهم فيقول (إنا أهل بيت صادقون لا نعدم من يكذب علينا عند الناس. يريد أن يسقط صدقنا بكذبه علينا).
ويقول الخيثمة (أبلغ شيعتنا أننا لا نغني من اللّه شيئا. وأنه لا ينال ما عند اللّه إلا بالعمل. وأن أعظم الناس يوم القيامة حسرة من وصف عدلا ثم خالفه إلى غيره . .)
وهي مقولات لا تترك مجالا لدعاوي المغالين في جعفر الصادق وآبائه وبنيه من الأئمة. وتنفي عنه ما ادعوه من علم الغيب. فلا يعلم الغيب إلا اللّه. كما تجعل الأئمة مجعل البشر، وهي آراء أبيه وجده.
سأل سائل جده زين العابدين: متى يبعث علي؟ فأجاب (يبعث
- واللّه - يوم القيامة. وتهمه نفسه) أي أنه يحاسب يوم الحساب كما يحاسب غيره.
وأما تعبير الأحلام فالصادق يرى أنها (لو كانت كلها تصدق كان الناس كلهم أنبياء، ولو كانت كلها تكذب لم يكن فيها منفعة، بل كانت فضلا لا معنى لها. فكانت تصدق أحيانا لينتفع بها الناس في مصلحة يهتدى لها، أو مضرة يحذر منها. وتكذب كثيرا لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد).
فرؤى الأنبياء حقائق من هدى النبوة. أما رؤى الآخرين فأصداء أفكار تتحرك في باطنهم. منها ما يصدقه الواقع ومنها ما يكذبه.
روى هشام بن الحكم: كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد اللّه (الإمام الصادق) أشياء. فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه وقيل له إنه خارج بمكة. فخرج إلى مكة، ونحن مع أبي عبد اللّه، فصادفنا في الطواف. وكان اسمه عبد الملك. وكنيته أبو عبد اللّه. فضرب كتفه كتف أبي عبد اللّه . . فقال له أبو عبد اللّه . . فمن هذا الملك الذي أنت عبده. من ملوك الأرض أو من ملوك السماء؟ وأخبرني عن ابنك عبد إلاه السماء أم عبد إلاه الأرض. قل ما شئت تخصم . . إذا فرغت من الطواف فائتنا.
فلما فرغ أتاه الزنديق فقعد بين يديه . . قال أبو عبد اللّه: أيها الرجل: ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم. ولا حجة للجاهل . . . يا أخا مصر إن الذين يذهبون إليه ويظنون أنه الدهر، إن كان الدهر يذهب بهم لم لا يردهم؟ وإن كان يردهم لم لا يذهب بهم ؟ - يا أخا مصر لم السماء مرفوعة والأرض موضوعة؟ لم لا تنحدر السماء على الأرض؟ لم لا تنحدر الأرض فوق طبقاتها؟ ولا يتماسكان ولا يتماسك من عليها ؟ قال الزنديق أمسكهما اللّه ربهما وسيدهما . . فآمن الزنديق . .
فقال: اجعلني من تلامذتك . . فقال: يا هشام بن الحكم. خذه إليك. فعلمه هشام. فسار يعلم أهل الشام وأهل مصر الإيمان . .
ويروى هشام (أن زعيم الديصانية وفد على مجلس الإمام فقال له: دلني على معبودي ولا تسألني عن اسمي. فإذا غلام له صغير في كفه بيضة يلعب بها . . فقال: يا ديصاني. هذا حصن مكنون له جلد غليظ. وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق. وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة . . فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة. ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة. فهي على حالها. لم يخرج بها مصلح فيخبر عن صلاحها. ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها. ولا يدري أللذكر خلقت أم للأنثى. تنفلق عن مثل ألوان الطواويس. أو لا ترى لها مدبرا؟
فأطرق الديصاني ثم قال أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له. وأن محمدا عبده ورسوله. وأنك إمام وحجة من اللّه على خلقه. وأنا تائب مما كنت فيه).
قصد إليه في مجلسه ذات يوم نفر من المعتزلة يطلبون إليه بيعة « محمد بن عبد اللّه » النفس الزكية. فطلب إليهم أن يختاروا واحدا منهم ليناظره. فاختاروا زعيم المعتزلة عمرو بن عبيد. وظاهر أن تاريخ ذلك المجلس كان معاصرا لرفض الإمام الصادق أن يبايع يوم الأبواء قبل قيام الدولة العباسية سنة 133. فلقد كان عمرو بن عبيد من أنصارها. له صلة خاصة بالمنصور، واشتهر عنه أنه لم يبايع محمدا وقال إنه لم يختبر عدله، وربما كان ذلك المجلس في إثر مقتل الوليد ابن يزيد سنة 126، أو فترة الحروب الأخيرة لبني مروان، التي قامت على أثرها الدولة العباسية.
قال عمرو: قتل أهل الشام خليفتهم وضرب اللّه بعضهم بقلوب بعض وشتت أمرهم، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروءة
وهو محمد بن عبد اللّه بن الحسن. فأردنا أن نجتمع معه فنابيعه . . وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك. فإنه لا غناء لنا عنك لفضلك.
قال الصادق: إنا نسخط إذا عصى اللّه. فإذا أطيع اللّه رضينا. أخبرني يا عمرو: لو أن الأمة قلدتك أمرها فملكته بغير قتال ولا مؤنة فقيل لك ولها من شئت. من كنت تولي؟
قال عمرو: كنت أجعلها شورى بين المسلمين.
قال الصادق: بين كلهم؟ قال نعم. قال قريش وغيرهم؟ قال عمرو: العرب والعجم.
قال الصادق: يا عمرو: أتتولى أبا بكر وعمر أم تتبرأ منهما؟ قال أتولاهما.قال الصادق: يا عمرو إن كنت رجلا تتبرأ منهما فإنه يجوز الخلاف عليهما. وإن كنت تتولاهما فقد خالفتهما. فقد عمد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور أحدا. ثم ردها أبو بكر عليه ولم يشاور أحدا. ثم جعلها عمر شورى بين ستة فأخرج منها الأنصار. ثم أوصى الناس بشيء. وما أراك ترضى به أنت ولا أصحابك.
قال عمرو: وما صنع؟
قال الصادق: أمر صهيبا أن يصلي بالناس ثلاثة أيام. وأن يتشاور أولئك الستة ليس فيهم أحد سواهم الا ابن عمر يشاورونه وليس له من الأمر شيء. وأوصى من بحضرته من المهاجرين والأنصار إن مضت الثلاثة ولم يفرغوا ولم يبايعوا أن يضرب أعناق الستة. وإن اجتمع أربعة قبل أن يمضى ثلاثة أيام وخالف اثنان أن يضرب أعناق الاثنين. أفترضون بهذا فيما تجعلون من الشورى في المسلمين؟.
قال: لا.
قال الصادق: أرأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعو إليه ثم اجتمعت لكم الأمة ولم يختلف منهم رجلان. أفمضيتم إلى المشركين
قال: نعم.
قال الصادق: فتفعلون ماذا؟
قال عمرو: ندعوهم إلى الإسلام فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية.
قال الصادق: فإن كانوا مجوسا وعبدة النار والبهائم وليسوا أهل الكتاب؟ قال عمرو: سواء . .
وبعد محاورة في شأن الجزية والصدقات أقبل على عمرو والناس وقال (اتق اللّه يا عمرو. وأنتم أيها الرهط فاتقوا اللّه. فإن أبي حدثني وكان خير أهل الأرض وأعلم بكتاب اللّه وسنة رسول اللّه أن رسول اللّه قال (ومن ضرب بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلف).
والمجلس مورد عذب كثير الزحام - لكل فيه ما يغنيه - فالإمام في مجلسه الرفيع يروي السنة عن آبائه. وما يقوله يجري عند الشيعة مجرى الأصول. فإذا أبدى الرأي في واقعة معينة جعله الشيعة مجعل السنة والتزموها باعتبارها نصا عنه.
أما أهل السنة فيأخذونه مأخذ اجتهاد الأئمة.
واللسان العربي علم العلوم. وإمام المسلمين إمام في البلاغة العربية، عبر عن أسلوبه أبو عمرو بن العلاء حين قال عن أساليب العربية (العرب تطيل ليسمع منها وتوجز ليحفظ عنها).
وعند الصادق لكل مقام مقال. يسهب ويستطرد كما ستقرأ، بعد، أو يوجز ليحفظ عنه ويتذوق منه، بحروف لها جرس في الأذن ونغم في الفم. كأن يقول: (لا تصل فيما خف أو شف). وكلاهما كاشف.
ويجري على لسانه الشعر الرفيع مثل الذي يرويه عنه سفيان الثوري:
لا اليسر يطرؤنا يوما فيبطرنا *** ولا لأزمة دهر نظهر الجزعا
إن سرنا الدهر لم نبهج لصحته *** أو ساءنا الدهر لم نظهر له الهلعا
مثل النجوم على مضمار أولنا *** إذا تغيب نجم، آخر طلعا
أو مثل قوله جوابا لسفيان إذ يسأل: يا ابن رسول اللّه لم اعتزلت الناس؟
قال « يا سفيان قد فسد الزمان وتغير الإخوان فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد » وأنشد:
ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب *** والناس بين مخاتل وموارب
يفشون بينهم المودة والصفا *** وقلوبهم محشوة بعقارب
ومثل قوله:
فلا تجزع وإن أعسرت يوما *** فقد أيسرت في زمن طويل
ولا تيأس فإن اليأس كفر *** لعل اللّه يغني عن قليل
ولا تظن بربك ظن سوء *** فإن اللّه أولى بالجميل
ومثل قوله:
لا تجزعن من المداد فإنه *** عطر الرجال وحلية الآداب
فإذا جاءه المناظرون من كل فج عميق، أو التلاميذ الفقهاء، يمثلون أقطار الإسلام، ويجادلون في الأصول أو الفروع، فهو البحر لا تنزفه الدلاء. يروي العقول ويشفي الصدور.
فالديصاني، رغيم فرقة ملحدة، وصاحب الإهليلجة طبيب هندي. وعبد الكريم بن أبي العوجاء(1) عربي ملحد. وعبد الملك مصري يتزندق. وعمرو بن عبيد شيخ المعتزلة. وأبو حنيفة إمام الكوفة، ومالك إمام المدينة، وسفيان الثوري، وغيرهم. كل هؤلاء تملأ مجادلاته معهم الكتب، ولا يضيق صدرا بجدالهم. بل يضرب الأمثال، بمسلكه معهم واتساع صدره لهم، على الحرية الفكرية التي يتيحها الإمام للناس في مجلسه، ليفهموا العلم، أو ليؤمنوا
(1) عبد الكريم بن أبي العوجاء هو خال معن بن زائدة الشيباني أحد قواد بني مروان، وكبير من كبار الولاة لأبي جعفر. وهو الذي أنقذ أبا جعفر من الموت يوم الراوندية وأبلى - وأهله بنو شيبان أعظم البلاء في الدفاع عن بني العباس. ولما قدم ابن أبي العوجاء للقتل للزندقة سنة 161 قال (لن يقتلوني. لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحللت فيها الحرام وحرمت الحلال) لكن علماء الجرح والتعديل فطنوا إليها جميعا واستبعدوها .
فهم، دون إكراه أو إعنات، وعلى سعة الخلاف الفقهي لكل اتجاهات المسلمين. وعلى اليسر والرحمة في الشريعة. فكل هذه أسباب لنشر الإسلام وخلود فقهه.
يقول ابن المقفع - و هو متهم بالمجوسية أو بالزيغ على الأقل - إذ يؤمئ إلى « الصادق » في موضع الطواف (هذا الخلق ما منهم أحد أوجب له بالإنسانية إلا ذلك الشيخ الجالس).
ويذهب ابن أبي العوجاء ليناظره فتعتريه سكتة. فيسأله الإمام: ما يمنعك من الكلام؟ فيقول: (إجلالا لك. ومهابة منك. وما ينطق لساني بين يديك. فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما تداخلني من هيبة أحد منهم ما تداخلني من هيبتك).
رآه الإمام مرة بالحرم فقال له: ما جاء بك؟ قال: عادة الجسد وسنة البلد. ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة. قال الصادق: أنت بعد على عتوك وضلالك يا عبد الكريم؟ فذهب يتكلم. فقال الإمام: لا جدال في الحج. ونفض رداءه من يده وقال: إن يكن الأمر كما تقول، وليس كما نقول، نجونا ونجوت. وإن يكن الأمر كما نقول، وليس كما تقول، نجونا وهلكت. وأي صبر في حرية الفكر كمثل هذا الصبر من الإمام الصادق؟ وحيث تؤدى المناسك
وإنما ترك الإمام رجلا ملحدا سيقتل - بعد - في إلحاده سنة 161.
وإذا لم يأخذ الملحدين بالشدة، فتحا لأبواب الهداية لهم، فهو صارم في صدد المغالين في علي، أو فيه. ليكفهم عن غلوائهم. ومنهم بيان بن سمعان التميمي. كان يعتقد ألوهية علي والحسن والحسين ثم محمد بن الحنفية، ثم ابنه أبي هاشم. بل زعموا أنه قال إنه - بيانا -
المراد بقوله تعالى (هذا بيان للناس). وادعى المغيرة بن سعيد الانتماء إلى الباقر، وصار يؤله عليا ثم جعفر الصادق، ويكفر أبا بكر وعمر ومن لم يوال عليا.
وكذلك كان بشار الشعيري.
يقول جعفر الصادق لمرازم: « تقربوا إلى اللّه فإنكم فساق كفار مشركون » ويقول له « إذا قدمت الكوفة فأت بشار الشعيري وقل له يا كافر يا فاسق أنا بريء منك ».
دخل عليه بشار يوما فصاح به « اخرج عني لعنك اللّه. واللّه لا يظلني وإياك سقف أبدا » فلما خرج قال :«ويحه. ما صغر اللّه أحد تصغير هذا الفاجر. واللّه إني عبد اللّه وابن أمته».
ويقول عن المغيرة بن سعيد (لعن اللّه المغيرة بن سعيد. لعن اللّه يهودية كان يختلف إليها يتعلم منها الشعر والشعبذة والمخاريق. فو اللّه ما نحن إلا عبيد، خلقنا اللّه واصطفانا، ما نقدر على ضرر ولا نفع إلا بقدرته . . ولعن اللّه من قال فينا ما لا نقول في أنفسنا).
ويقول: (من قال إننا أنبياء فعليه لعنة اللّه ومن شك في ذلك فعليه لعنة اللّه).
وينبه الأذهان على دسائس خصوم الشيعة بالاختلاق عليهم فيقول (إنا أهل بيت صادقون لا نعدم من يكذب علينا عند الناس. يريد أن يسقط صدقنا بكذبه علينا).
ويقول الخيثمة (أبلغ شيعتنا أننا لا نغني من اللّه شيئا. وأنه لا ينال ما عند اللّه إلا بالعمل. وأن أعظم الناس يوم القيامة حسرة من وصف عدلا ثم خالفه إلى غيره . .)
وهي مقولات لا تترك مجالا لدعاوي المغالين في جعفر الصادق وآبائه وبنيه من الأئمة. وتنفي عنه ما ادعوه من علم الغيب. فلا يعلم الغيب إلا اللّه. كما تجعل الأئمة مجعل البشر، وهي آراء أبيه وجده.
سأل سائل جده زين العابدين: متى يبعث علي؟ فأجاب (يبعث
- واللّه - يوم القيامة. وتهمه نفسه) أي أنه يحاسب يوم الحساب كما يحاسب غيره.
وأما تعبير الأحلام فالصادق يرى أنها (لو كانت كلها تصدق كان الناس كلهم أنبياء، ولو كانت كلها تكذب لم يكن فيها منفعة، بل كانت فضلا لا معنى لها. فكانت تصدق أحيانا لينتفع بها الناس في مصلحة يهتدى لها، أو مضرة يحذر منها. وتكذب كثيرا لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد).
فرؤى الأنبياء حقائق من هدى النبوة. أما رؤى الآخرين فأصداء أفكار تتحرك في باطنهم. منها ما يصدقه الواقع ومنها ما يكذبه.
روى هشام بن الحكم: كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد اللّه (الإمام الصادق) أشياء. فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه وقيل له إنه خارج بمكة. فخرج إلى مكة، ونحن مع أبي عبد اللّه، فصادفنا في الطواف. وكان اسمه عبد الملك. وكنيته أبو عبد اللّه. فضرب كتفه كتف أبي عبد اللّه . . فقال له أبو عبد اللّه . . فمن هذا الملك الذي أنت عبده. من ملوك الأرض أو من ملوك السماء؟ وأخبرني عن ابنك عبد إلاه السماء أم عبد إلاه الأرض. قل ما شئت تخصم . . إذا فرغت من الطواف فائتنا.
فلما فرغ أتاه الزنديق فقعد بين يديه . . قال أبو عبد اللّه: أيها الرجل: ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم. ولا حجة للجاهل . . . يا أخا مصر إن الذين يذهبون إليه ويظنون أنه الدهر، إن كان الدهر يذهب بهم لم لا يردهم؟ وإن كان يردهم لم لا يذهب بهم ؟ - يا أخا مصر لم السماء مرفوعة والأرض موضوعة؟ لم لا تنحدر السماء على الأرض؟ لم لا تنحدر الأرض فوق طبقاتها؟ ولا يتماسكان ولا يتماسك من عليها ؟ قال الزنديق أمسكهما اللّه ربهما وسيدهما . . فآمن الزنديق . .
فقال: اجعلني من تلامذتك . . فقال: يا هشام بن الحكم. خذه إليك. فعلمه هشام. فسار يعلم أهل الشام وأهل مصر الإيمان . .
ويروى هشام (أن زعيم الديصانية وفد على مجلس الإمام فقال له: دلني على معبودي ولا تسألني عن اسمي. فإذا غلام له صغير في كفه بيضة يلعب بها . . فقال: يا ديصاني. هذا حصن مكنون له جلد غليظ. وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق. وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة . . فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة. ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة. فهي على حالها. لم يخرج بها مصلح فيخبر عن صلاحها. ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها. ولا يدري أللذكر خلقت أم للأنثى. تنفلق عن مثل ألوان الطواويس. أو لا ترى لها مدبرا؟
فأطرق الديصاني ثم قال أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له. وأن محمدا عبده ورسوله. وأنك إمام وحجة من اللّه على خلقه. وأنا تائب مما كنت فيه).
قصد إليه في مجلسه ذات يوم نفر من المعتزلة يطلبون إليه بيعة « محمد بن عبد اللّه » النفس الزكية. فطلب إليهم أن يختاروا واحدا منهم ليناظره. فاختاروا زعيم المعتزلة عمرو بن عبيد. وظاهر أن تاريخ ذلك المجلس كان معاصرا لرفض الإمام الصادق أن يبايع يوم الأبواء قبل قيام الدولة العباسية سنة 133. فلقد كان عمرو بن عبيد من أنصارها. له صلة خاصة بالمنصور، واشتهر عنه أنه لم يبايع محمدا وقال إنه لم يختبر عدله، وربما كان ذلك المجلس في إثر مقتل الوليد ابن يزيد سنة 126، أو فترة الحروب الأخيرة لبني مروان، التي قامت على أثرها الدولة العباسية.
قال عمرو: قتل أهل الشام خليفتهم وضرب اللّه بعضهم بقلوب بعض وشتت أمرهم، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروءة
وهو محمد بن عبد اللّه بن الحسن. فأردنا أن نجتمع معه فنابيعه . . وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك. فإنه لا غناء لنا عنك لفضلك.
قال الصادق: إنا نسخط إذا عصى اللّه. فإذا أطيع اللّه رضينا. أخبرني يا عمرو: لو أن الأمة قلدتك أمرها فملكته بغير قتال ولا مؤنة فقيل لك ولها من شئت. من كنت تولي؟
قال عمرو: كنت أجعلها شورى بين المسلمين.
قال الصادق: بين كلهم؟ قال نعم. قال قريش وغيرهم؟ قال عمرو: العرب والعجم.
قال الصادق: يا عمرو: أتتولى أبا بكر وعمر أم تتبرأ منهما؟ قال أتولاهما.قال الصادق: يا عمرو إن كنت رجلا تتبرأ منهما فإنه يجوز الخلاف عليهما. وإن كنت تتولاهما فقد خالفتهما. فقد عمد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور أحدا. ثم ردها أبو بكر عليه ولم يشاور أحدا. ثم جعلها عمر شورى بين ستة فأخرج منها الأنصار. ثم أوصى الناس بشيء. وما أراك ترضى به أنت ولا أصحابك.
قال عمرو: وما صنع؟
قال الصادق: أمر صهيبا أن يصلي بالناس ثلاثة أيام. وأن يتشاور أولئك الستة ليس فيهم أحد سواهم الا ابن عمر يشاورونه وليس له من الأمر شيء. وأوصى من بحضرته من المهاجرين والأنصار إن مضت الثلاثة ولم يفرغوا ولم يبايعوا أن يضرب أعناق الستة. وإن اجتمع أربعة قبل أن يمضى ثلاثة أيام وخالف اثنان أن يضرب أعناق الاثنين. أفترضون بهذا فيما تجعلون من الشورى في المسلمين؟.
قال: لا.
قال الصادق: أرأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعو إليه ثم اجتمعت لكم الأمة ولم يختلف منهم رجلان. أفمضيتم إلى المشركين
قال: نعم.
قال الصادق: فتفعلون ماذا؟
قال عمرو: ندعوهم إلى الإسلام فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية.
قال الصادق: فإن كانوا مجوسا وعبدة النار والبهائم وليسوا أهل الكتاب؟ قال عمرو: سواء . .
وبعد محاورة في شأن الجزية والصدقات أقبل على عمرو والناس وقال (اتق اللّه يا عمرو. وأنتم أيها الرهط فاتقوا اللّه. فإن أبي حدثني وكان خير أهل الأرض وأعلم بكتاب اللّه وسنة رسول اللّه أن رسول اللّه قال (ومن ضرب بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلف).