بسام حسن
27-01-2010, 01:15 PM
إذا القينا نظرة عابرة على (56) عاماً من الحياة المستسلمة لرّضا الله الدّاعية له تعالى، الّتي عاشها الإمام الحسين(عليه السلام)، لرأيناها حافلة بالنّزاهة والعبوديّة ونشر الرّسالة المحمّديّة والمفاهيم العميقة، الّتي يعجز الفكر عن التوصّل إلى كنهها.
والان نمرّ بإيجاز على جوانب من حياته الكريمة:
كان متعلّقاً بشدّة بالصّلاة، والمناجاة مع الله، وقراءة القرآن الكريم، والدّعاء والاستغفار، وربّما صلّى في اليوم الواحد مئات الرّكعات(1)، وحتّى في الليلة الاخيرة من حياته لم يترك الدّعاء والمناجاة، وقد ذكر، أنّه طلب من أعدائه أن يمهلوه ليمكنه أن يخلو مع ربّه، ويتضرّع إليه، وقال(عليه السلام): « لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه، ونستغفره فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصّلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدّعاء والاستغفار »(2).
وقد حجّ عدّة مرّات ماشياً إلى بيت الله الحرام، وأدّى مناسك حجّه كذلك(3)، وروى بشر وبشير إبنا غالب، قالا: كنّا مع الحسين بن علي(عليه السلام) عشيّة عرفة، فخرج(عليه السلام) من فسطاطه، متذلّلاً خاشعاً، فجعل يمشي هوناً هوناً، حتى وقف هو وجماعة من أهل بيته وولده ومواليه في ميسرة الجبل، مستقبل البيت، ثمّ رفع يديه تلقاء وجهه، كإستطعام المسكين ، ثمّ قال:
« اَلْحَمْدُ للهِِ الَّذي لَيْسَ لِقَضائِه دافِعٌ، وَلا لِعَطائِه مانِعٌ، وَلا كَصُنْعِه صُنْعُ صانِع، وَهُوَ الْجَوادُ الْواسِعُ، فَطَرَ اَجْناسَ البَدائِع، وَأتقنَ بِحِكْمَتِه الصَّنائِعَ، لا تَخْفى عَلَيْهِ الطَّلائِعُ، وَلا تَضيعُ عِنْدَهُ الْوَدائِعُ جازي كُلِّ صانِع ورَايشُ كُلِّ قانِع، وَراحِمُ كُلِّ ضارع ومُنْزِلُ الْمَنافِعِ وَالْكِتابِ الْجامِعِ بِالنُّور السّاطِعِ وَهُوَ لِلدَّعَواتِ سامِعٌ وَلِلْكُرْباتِ دافِعٌ وَللِدَّرَجاتِ رافِعٌ وَللْجَبابِرَةِ قامِعٌ فَلا إلهَ غَيْرُهُ وَلا شَيْء يَعْدِ لُهُ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّميعُ الْبَصيرُ اللَّطيفُ(4) الْخَبيرُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء قَديرٌ.
أللّهُمَّ إنّي أَرْغَبُ إلَيْكَ، وَأَشْهَدُ لَكَ بِالرُّبُوبِيَّةِ، مُقِّراً بأنَّكَ رَبّي وَإلَيْكَ مَرَدّي، إبْتَدَأتَنِي بِنِعْمَتِكَ قَبْلَ أَنْ أَكُونَ شَيْئاً مَذْكُوراً، خَلَقْتَني مِنَ التُّرابِ، ثُمَّ أَسْكَنْتَنِي الأَصْلابَ، امِناً لِرَيْبِ المنَونِ، وَاخْتِلاف الدّهور والسِّنينَ، . . . ثُمَّ أَخْرَجَتَني لِلَّذي سَبَقَ لي مِنَ الْهُدى اِلى الدُّنْيا تامّاً سَوِيّاً وَحَفِظْتَنِي في الْمَهْدِ طِفْلاً صَبِيّاً، وَرَزَقْتَنِي مِنَ الْغِذَاءِ لَبَناً مَرِيّاً ، وَعَطَفْتَ عَلَيَّ قُلُوبَ الْحَواضِنِ، وَكَفَّلْتَنيِ الأَْمَّهاتِ الرَّواحِم، وَكَلأَتَنِي مِنْ طَوارِقِ الْجانِّ، وَسَلَّمَتَني مِنَ الزِّيادَةِ وَالنُّقْصانِ، فَتَعالَيْتَ يا رَحيِمُ يا رَحْمانُ، حَتّى إذَا اسْتَهْلَلتُ ناطِقاً بِالْكَلامِ، اَتْمَمْتَ عَلَيَّ سَوابِغَ الإِْنْعامِ، وَرَبَّيتَني زايدِاً في كُلِّ عام، حَتّى إذا اكْتَمَلَتْ فِطْرَتي، وَاعْتَدَلَتْ مِرَّتي، أَوْجَبْتَ عَلَيّ حُجَّتَكَ، بِأَنْ أَلْهَمْتَني مَعْرِفَتَكَ، وَرَوَّعْتَني بِعَجائِبِ حِكْمَتِكَ، وَأيقَظْتَني لِما ذَرَأْتَ في سَمائِكَ وَأَرضِكَ، مِن بَدائِعِ خَلْقِكَ، وَنَبَّهْتَني لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ، وَأوْجَبْتَ عَلَيّ طاعَتَكَ وَعِبادَتَكَ، وَفَهَّمْتَني ما جاءَتْ بِهِ رُسُلُكَ، وَيَسَّرتَ لي تَقَبُّلَ مَرْضاتِكَ، وَمَنْنْتَ عَلَيَّ في جَميعِ ذلِكَ بِعَوْنِكَ وَلُطْفِكَ.
ثُمّ إذْ خَلَقْتَني مِنْ خَيْرِ الثَّرى، لَمْ تَرْضَ لي يا إِلهي نِعْمَةً دُونَ اُخْرى، وَرَزَقْتَني مِن أنواعِ الْمَعاشِ وَصُنُوفِ الرِّياشِ.
حَتّى إذا أتْمَمْتَ عَلَيّ جَميِعَ النِّعَمِ، وَصَرَفْتَ عَنّي كُلَّ النِّقم، لَمْ يَمْنَعُكَ جَهْلي وَجُرأتي عَلَيْكَ، أنْ دَلَلْتَني إِلى ما يُقَرِّبُني إلَيْكَ، وَوَفقتَنِي لِما يُزْلِفُنِي لَدَيْكَ....
فَأَيَّ نِعَمِكَ يا إلهي اُحْصي عَدَداً وذِكْراً، أَمْ أيَّ عَطاياكَ أقُومُ بِها شُكْراً، وَهيَ يا رَبِّ أكْثَرُ مِنْ أنْ يُحْصِيَهَا العادُّونَ، أو يَبْلُغَ عِلْماً بِها الحافِظُونَ، ثُمَّ ما صَرَفْتَ وَدَرَأتَ عَنِيّ اللّهُمَّ مِنَ الضُّرِّ وَالضَّرّاءِ أكْثَرُ مِمّا ظَهَرَ لي مِنَ الْعافيَةِ وَالسَّرّاءِ.
« وَأنّا أشهدُ يا إلهي بِحَقيقَةِ إيماني وَ... أن لوْ حاوَلتُ وَاجْتَهَدْتُ مَدى الإعْصارِ وَالأَحْقابِ لَوْ عُمّرِتُها أنْ اُؤَدِّي شُكْرَ واحِدَة مِنْ أنْعُمِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ذلِكَ إلاّ بِمَنِّكَ الْمُوجِبِ عَلَيَّ بِهِ شُكْرُكَ أبَداً جَديداً وثناءً طارِفاً عَتيداً....
اَللّهُمَّ اجْعَلْني أَخْشاكَ كَأنّي أَراكَ، وَأَسْعِدْني بِتَقْواكَ، وَلا تُشْقِني بِمَعْصِيَتِكَ....
أللَّهُمَ إجْعَلُ غِنايَ في نَفْسي، وَاليَقِيْنَ في قَلْبي، وَالإخْلاصَ في عَمَلي ، وَالنُّورَ في بَصَري، وَالْبَصِيْرَةَ في دِيني، وَمَتِّعْني بِجَوارِحي... .
وَإنْ أعُدَ نِعَمَكَ وَمِنَنَكَ وكَرائِمَ مِنَحِكَ لا أُحْصيها يا مَولاي.
أنْتَ الّذي مَنَنْـتَ.
أنْتَ الّذي أنْعَمْـتَ.
أنْتَ الّذي أحْسَنْـتَ.
أنْتَ الّذي أجْمَلْـتَ.
أنْتَ الّذي أفْضَلْـتَ.
أنْتَ الّذي أكْمَلْـتَ.
أنْتَ الّذي رَزَقْـتَ.
أنْتَ الّذي وَفّقْـتَ.
أنْتَ الّذي أعْطَيْـتَ.
أنْتَ الّذي أغْنَيْـتَ.
أنْتَ الّذي أقْنَيْـتَ.
أنْتَ الّذي آوَيْـتَ.
أنْتَ الّذي كَفَيْـتَ.
أنْتَ الّذي هَدَيْـتَ.
أنْتَ الّذي عَصَمْـتَ.
أنْتَ الّذي سَتَـرْتَ.
أنْتَ الّذي غَفَـرْتَ.
أنْتَ الّذي أقَلْـتَ.
أنْتَ الّذي مَكّنْـتَ.
أنْتَ الّذي أَعْزَزْتَ.
أنْتَ الّذي أعَنْـتَ.
أنْتَ الّذي عَضَدْتَ.
أنْتَ الّذي أيَّـدْتَ.
أنْتَ الّذي نَصَـرْتَ.
أنْتَ الّذي شَفَيْـتَ.
أنْتَ الّذي عافَيْـتَ.
أنْتَ الّذي أكْرَمْـتَ.
تَبارَكْتَ رَبّي وَتَعالَيْتَ، فَلَكَ الْحَمْدُ دائِماً ولكَ الشُّكرَ واصِباً، ثُمَّ أنا يا إلهي الْمُعْتَرِفُ بِذُنُوبي فَاغْفِرْها لي… [إلى آخر الدّعاء] »(5)..
وقد أثّر دعاء الإمام الحسين(عليه السلام) تأثيراً قويّاً بين النّاس في ذلك اليوم، وشدّهم بالله، بحيث ضجّوا بالبكاء والنّحيب، وأخذوا يردّدون الدّعاء مع إمامهم.
وذكر إبن الأثير في كتابه أسد الغابة «كان الحسين رضي الله عنه، فاضلاً كثير الصّوم والصّلاة والحجّ والصّدقة وأفعال الخير جميعها »(6).
ومما يدلّ على سموّ شخصيّة الإمام الحسين(عليه السلام) وإحترامه وإكباره أنّه حين كان يحجّ ماشياً مع أخيه الإمام الحسن(عليه السلام)، يترجّل كلّ الكبار، والشّخصيّات الإسلامية آنذاك إحتراماً لهم، ويسيرون معهم(7).
إنّ تقدير الأمّة للإمام الحسين(عليه السلام) وإحترامها إنّما نشأ من أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) كان يعيش بين النّاس، ولم يعتزل النّاس، كان متلاحماً مع روح المجتمع، ويشعر كالاخرين، بآلامهم وآمالهم، والاسمى من ذلك، أنّ إيمانه القويّ بالله الّذي لم يضعف أبداً، كان يجعله دائماً مشاركاً لاوجاع النّاس وآلامهم.
وإلاّ فإنّه(عليه السلام) لم يكن يمتلك القصور الشّاهقة الفخمة، ولا الجنود والعبيد المحافظين عليه، ولم يكن كالجبّارين يقطعون الطّرق على النّاس، ويفرغون لهم مسجد الرّسول(صلّى الله عليه وآله وسلم).
والرّواية الثّالية تعبّر عن مثال لأخلاقه الإجتماعيّة « مَرّ الحسين بن عليّ(عليه السلام) بمساكين قد بسطوا كسائاً لهم فألقوا عليه كسراً، فقالوا: هلمّ يابن رسول الله، فثنى وركه فأكل معهم، ثم تلا (إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرين)(8)، ثمّ قال: قد أجبتكم فأجيبوني ؟، قالوا: نعم يابن رسول الله، فقاموا معه حتّى أتوا منزله، فقال للجارية: أخرجي ما كنت تدّخرين(9).
شعيب ابن عبد الرّحمن الخزاعي قال: وجد على ظهر الحسين بن عليّ(عليه السلام) يوم الطّف أثر، فسألوا زين العابدين (عليه السلام) عن ذلك، فقال: هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين(10).
ويمكن أن نتعرّف على مدى إهتمام الإمام الحسين(عليه السلام) بالدّفاع عن المظلومين وحمايته للمحرومين، من خلال حكاية أرينب وزوجها عبد الله بن سلام، ونستعرضها هنا بإيجاز:
إنّ كلّ وسائل وموائد الرفاة والتّرف والفجور، أمثال المال والمنصب والجواري والفتيات وغيرها، كلّها كانت متوفّرة ليزيد، ولكن بالرّغم من كلّ ذلك كانت عينه الوقحة الفاجرة تلاحق أعراض الآخرين، ويحاول التعدّي على زوجاتهم العفيفة.
وبدلاً من أن يضرب أبوه معاوية على يد إبنه المجرمة، ويمنعه من تصرّفاته الشائنة الدّنيئة، فإنّه كان يمهّد له طرق ووسائل التّجاوز والتّعدي المشين، بمختلف أساليب المكر والكذب والخداع، ومن هنا فرّق بين إمرأة مسلمة عفيفة وزوجها وأخرجها من بيت الزّوجية ليلقيها في أحضان إبنه الموحّلة القذرة، ويربطها بهذا الشّاب النزق الفاجر، وقد إطّلع الإمام الحسين(عليه السلام) على الحادثة، وواجهه بشدّة هذه المحاولة الشّائنة، وأبطل المخطّط الجهنّمي، وأعاد الزّوجة إلى زوجها عبدالله بن سلام اعتماداً على بعض الأحكام الإسلاميّة، ومنع أيدي التّعدي والتّجاوز أن تمتد إلى البيوت المسلمة الطّاهرة، وقد أظهر بعمله المقدّس هذا ـ أما الرّأي العامّ ـ مدى غيرة الهاشمييّن، ومدى إهتمامهم الدّائب المشدّد بالحفاظ على نواميس الأمّة الإسلاميّة، وقد بقيت وستبقى هذه الحكاية، وموقف الإمام الحسين(عليه السلام) في سجلّ التاريخ، وإلى الأبد، من مفاخر آل عليّ، ومن جرائم ورذائل بني أميّة(11).
يقول العلائلي في كتابه (سموّ المعنى في سموّ الذات):
« فقد عرّفنا العظيم في ثوب الشّجاع، وعرّفنا العظيم في ثوب البطل، وعرّفنا العظيم في ثوب الضحيّة الشّهيد، وعرّفنا العظيم في ثوب الزّاهد، وعرّفنا العظيم في ثوب العالم، وأمّا العظمة في كلّ ثوب، والعظمة في كلّ مظهر، حتّى كأنّها تآزحت من أقطارها فكانت شخصاً مائلاً للنّاس يقرأونه ويعتبرون به، فهذا ما نجده في الحسين(عليه السلام) وحده، وهذا ما نلمسه فيه فقط، حيث هو من نفسه وحيث هو من نسبه، فلقد يكون أبوه مثله، ولكن لا يجد له أباً كمثل نفسه »(12).
فرجل كيفما سموت به من أيّ جهاته إنتهى بك إلى عظيم، فهو ملتقى عظمات ومجمع أفذاذ، فإنّ من ينبثق من عظمة النّبوّة ( محمّد )، وعظمة الرّجولة (علي)، وعظمة الفضيلة (فاطمة)، يكون أمثولة عظمة الإنسان، وآية الآيات البيّنات، فلم تكن ذكراه ذكرى رجل، بل ذكرى الإنسانية الخالدة، ولم تكن أخباره أخبار بطل بل خبر البطولة الفذّة.
فالحسين(عليه السلام) رجل، ولكن فيه آية الرّجال، وعظيم ولكن فيه حقيقة العظمة، فرعياً لذكراه ورعياً للعِظَة به.
ومن ثمّ كان جديراً بنا أن نستوحيه على الدّوام كمصدر إلهاميّ إنبثق وهّاجاً قويّاً، وامتدّ بأنواره أجيالاً وأجيالاً، ولا يزال يسطع كذلك حتّى ينتظم اللاّنهايات، وينفذ إلى ما وراء الأرض والسّماوات، وهل لنور الله حدّ يقف عنده، أو مَعلَم ينتهي إليه.
وكذلك يجد من تدبّر نهايته، أعظم بها نهاية، وأعظم بها تضحية وأعظم بها مثلاً، وذكرى نادرة، حتى كان يد الله خطّت بها على الأبدية سطراً أحمر قانياً.
فلتسمع الأجيال ولتستيقظ الإنسانية، على الصّوت الرجّاف الّذي ينبعث من أعماق الرجم ومن وراء القبور، حياً جياشاً ينفذ إلى الأعماق فتستعرله الضمائر، وينثال إلى مواطن الشّعور فيحيى به الوجدان.
وعلى نيّرات مثل هذا الصّوت فقط يتبانى للإنسانية أن تغسل آثامها وتخلص من أدرانها، وتتطهّر من أرجاسها.
ولنستمع لبعض أحاديثه وأقواله الّتي تهزّ المشاعر وتجذب القلوب: « انّ النّاسَ عبيدُ الدُّنْيا، والدّينُ لَعْقٌ عَلى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَه ما دَرَّتْ مَعايِشُهُمْ، فَإذا مُحِّصُوا بِالبَلاء قَلَّ الدَّيّانُونَ »(13).
ويخاطب الإمام الحسين(عليه السلام) ابنه زين العابدين(عليه السلام): « أَيْ بُنَيَّ إِيّاكَ وَظُلْمَ مَنْ لا يَجِدُ عَلَيْكَ ناصِراً إِلاَّ الله جَلَّ وَعَزَّ »(14).
وطلب رجل من الإمام الحسين(عليه السلام) أن يكتب له خير الدُّنيا والآخرة، فكتب له(عليه السلام): « بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ: أمّا بَعْدُ فَإنَّ مَنْ طَلَبَ رِضى اللهِ بِسَخَطِ النّاسِ كَفاهُ اللهُ أمورَ النّاسِ، وَمَنْ طَلَبَ رِضَى النّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ الىَ النّاسِ والسَّلامُ »(15).
وروى أنّ الحسين بن عليّ(عليه السلام) جاءه رجل، وقال: أنا رجل عاص ولا أصبر عن المعصية فعظني بموعظة.
فَقالَ (عليه السلام):« إفْعَلْ خمْسَةَ أَشْياءَ وَاذْنِبْ ما شِئْتَ: فَأوَّلُ ذلِكَ، لا تَأْكُلْ رِزْقَ اللهِ وَاذْنِبْ ما شِئْتَ.
وَالثّاني: أُخْرُجْ مِنْ وَلايَةِ اللهِ، وَأذْنِبْ ما شِئْتَ.
والثّالِث: أطْلُبْ مَوْضِعاً لا يَراك اللهَ، وَأذْنبْ ما شِئْتَ.
والرّابعُ: إذا جاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَكَ فَادْفَعْهُ عَنْ نَفْسِكَ، وَأذْنبْ ما شِئْتَ.
وَالخامِسُ: إذَا أَدْخَلَكَ مالِكٌ في النّار، فَلا تَدْخُلْ فِي النّارِ، وَأذْنِبْ ما شِئْتَ »(16).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) العقد الفريد، ج3، ص143.
(2) الإرشاد للمفيد، ص214.
(3) المناقب لابن شهر آشوب، ج3، ص224 ; أسد الغابة، ج2، ص20.
(4) يذكر الصدوق حول تفسير اللطيف: 1 ـ انه لطيف في تدبيره وفعله وقد روي في الخبر أنّ معنى اللّطيف، هو أنّه الخالق للخلق اللّطيف كما أنّه سمّي العظيم لانّه الخالق للخلق العظيم.
ـ إنّه لطيف بعباده فهو لطيف بهم بارّ بهم منعم عليهم (التوحيد للصدوق، ص217).
(5) ذكر هذا الدّعاء السيّد إبن طاووس في الإقبال، ص339 ـ 350، والكفعمي في البلد الأمين، ص251 ـ 258، والمجلسي في البحار، ج98، ص213 ; والقمّي في مفاتيح الجنان، وغيرها من الكتب، ويمكن للقاري أن يراجع مفاتيح الجنان، وهو في متناول أيدي الجميع.
(6) أسد الغابة، ج2، ص20.
(7) ذكرى الحسين (عليه السلام)، ج1، ص152، نقلاً عن رياض الجنان، ط بمبي، ص241 أنساب الاشراف.
(8) سورة النّحل، آية 22.
(9) بحار الأنوار، ج44، ص189.
(10) المناقب، ج2، ص222.
(11) يراجع الإمامة والسّياسة، ج1، ص253.
(12) سموّ المعنى، ص90.
(13) تحف العقول، ص250.
(14) تحف العقول، ص251.
(15) البحار، ج78، ص126.
(16) البحار، ج78، ص126.
والان نمرّ بإيجاز على جوانب من حياته الكريمة:
كان متعلّقاً بشدّة بالصّلاة، والمناجاة مع الله، وقراءة القرآن الكريم، والدّعاء والاستغفار، وربّما صلّى في اليوم الواحد مئات الرّكعات(1)، وحتّى في الليلة الاخيرة من حياته لم يترك الدّعاء والمناجاة، وقد ذكر، أنّه طلب من أعدائه أن يمهلوه ليمكنه أن يخلو مع ربّه، ويتضرّع إليه، وقال(عليه السلام): « لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه، ونستغفره فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصّلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدّعاء والاستغفار »(2).
وقد حجّ عدّة مرّات ماشياً إلى بيت الله الحرام، وأدّى مناسك حجّه كذلك(3)، وروى بشر وبشير إبنا غالب، قالا: كنّا مع الحسين بن علي(عليه السلام) عشيّة عرفة، فخرج(عليه السلام) من فسطاطه، متذلّلاً خاشعاً، فجعل يمشي هوناً هوناً، حتى وقف هو وجماعة من أهل بيته وولده ومواليه في ميسرة الجبل، مستقبل البيت، ثمّ رفع يديه تلقاء وجهه، كإستطعام المسكين ، ثمّ قال:
« اَلْحَمْدُ للهِِ الَّذي لَيْسَ لِقَضائِه دافِعٌ، وَلا لِعَطائِه مانِعٌ، وَلا كَصُنْعِه صُنْعُ صانِع، وَهُوَ الْجَوادُ الْواسِعُ، فَطَرَ اَجْناسَ البَدائِع، وَأتقنَ بِحِكْمَتِه الصَّنائِعَ، لا تَخْفى عَلَيْهِ الطَّلائِعُ، وَلا تَضيعُ عِنْدَهُ الْوَدائِعُ جازي كُلِّ صانِع ورَايشُ كُلِّ قانِع، وَراحِمُ كُلِّ ضارع ومُنْزِلُ الْمَنافِعِ وَالْكِتابِ الْجامِعِ بِالنُّور السّاطِعِ وَهُوَ لِلدَّعَواتِ سامِعٌ وَلِلْكُرْباتِ دافِعٌ وَللِدَّرَجاتِ رافِعٌ وَللْجَبابِرَةِ قامِعٌ فَلا إلهَ غَيْرُهُ وَلا شَيْء يَعْدِ لُهُ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّميعُ الْبَصيرُ اللَّطيفُ(4) الْخَبيرُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء قَديرٌ.
أللّهُمَّ إنّي أَرْغَبُ إلَيْكَ، وَأَشْهَدُ لَكَ بِالرُّبُوبِيَّةِ، مُقِّراً بأنَّكَ رَبّي وَإلَيْكَ مَرَدّي، إبْتَدَأتَنِي بِنِعْمَتِكَ قَبْلَ أَنْ أَكُونَ شَيْئاً مَذْكُوراً، خَلَقْتَني مِنَ التُّرابِ، ثُمَّ أَسْكَنْتَنِي الأَصْلابَ، امِناً لِرَيْبِ المنَونِ، وَاخْتِلاف الدّهور والسِّنينَ، . . . ثُمَّ أَخْرَجَتَني لِلَّذي سَبَقَ لي مِنَ الْهُدى اِلى الدُّنْيا تامّاً سَوِيّاً وَحَفِظْتَنِي في الْمَهْدِ طِفْلاً صَبِيّاً، وَرَزَقْتَنِي مِنَ الْغِذَاءِ لَبَناً مَرِيّاً ، وَعَطَفْتَ عَلَيَّ قُلُوبَ الْحَواضِنِ، وَكَفَّلْتَنيِ الأَْمَّهاتِ الرَّواحِم، وَكَلأَتَنِي مِنْ طَوارِقِ الْجانِّ، وَسَلَّمَتَني مِنَ الزِّيادَةِ وَالنُّقْصانِ، فَتَعالَيْتَ يا رَحيِمُ يا رَحْمانُ، حَتّى إذَا اسْتَهْلَلتُ ناطِقاً بِالْكَلامِ، اَتْمَمْتَ عَلَيَّ سَوابِغَ الإِْنْعامِ، وَرَبَّيتَني زايدِاً في كُلِّ عام، حَتّى إذا اكْتَمَلَتْ فِطْرَتي، وَاعْتَدَلَتْ مِرَّتي، أَوْجَبْتَ عَلَيّ حُجَّتَكَ، بِأَنْ أَلْهَمْتَني مَعْرِفَتَكَ، وَرَوَّعْتَني بِعَجائِبِ حِكْمَتِكَ، وَأيقَظْتَني لِما ذَرَأْتَ في سَمائِكَ وَأَرضِكَ، مِن بَدائِعِ خَلْقِكَ، وَنَبَّهْتَني لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ، وَأوْجَبْتَ عَلَيّ طاعَتَكَ وَعِبادَتَكَ، وَفَهَّمْتَني ما جاءَتْ بِهِ رُسُلُكَ، وَيَسَّرتَ لي تَقَبُّلَ مَرْضاتِكَ، وَمَنْنْتَ عَلَيَّ في جَميعِ ذلِكَ بِعَوْنِكَ وَلُطْفِكَ.
ثُمّ إذْ خَلَقْتَني مِنْ خَيْرِ الثَّرى، لَمْ تَرْضَ لي يا إِلهي نِعْمَةً دُونَ اُخْرى، وَرَزَقْتَني مِن أنواعِ الْمَعاشِ وَصُنُوفِ الرِّياشِ.
حَتّى إذا أتْمَمْتَ عَلَيّ جَميِعَ النِّعَمِ، وَصَرَفْتَ عَنّي كُلَّ النِّقم، لَمْ يَمْنَعُكَ جَهْلي وَجُرأتي عَلَيْكَ، أنْ دَلَلْتَني إِلى ما يُقَرِّبُني إلَيْكَ، وَوَفقتَنِي لِما يُزْلِفُنِي لَدَيْكَ....
فَأَيَّ نِعَمِكَ يا إلهي اُحْصي عَدَداً وذِكْراً، أَمْ أيَّ عَطاياكَ أقُومُ بِها شُكْراً، وَهيَ يا رَبِّ أكْثَرُ مِنْ أنْ يُحْصِيَهَا العادُّونَ، أو يَبْلُغَ عِلْماً بِها الحافِظُونَ، ثُمَّ ما صَرَفْتَ وَدَرَأتَ عَنِيّ اللّهُمَّ مِنَ الضُّرِّ وَالضَّرّاءِ أكْثَرُ مِمّا ظَهَرَ لي مِنَ الْعافيَةِ وَالسَّرّاءِ.
« وَأنّا أشهدُ يا إلهي بِحَقيقَةِ إيماني وَ... أن لوْ حاوَلتُ وَاجْتَهَدْتُ مَدى الإعْصارِ وَالأَحْقابِ لَوْ عُمّرِتُها أنْ اُؤَدِّي شُكْرَ واحِدَة مِنْ أنْعُمِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ذلِكَ إلاّ بِمَنِّكَ الْمُوجِبِ عَلَيَّ بِهِ شُكْرُكَ أبَداً جَديداً وثناءً طارِفاً عَتيداً....
اَللّهُمَّ اجْعَلْني أَخْشاكَ كَأنّي أَراكَ، وَأَسْعِدْني بِتَقْواكَ، وَلا تُشْقِني بِمَعْصِيَتِكَ....
أللَّهُمَ إجْعَلُ غِنايَ في نَفْسي، وَاليَقِيْنَ في قَلْبي، وَالإخْلاصَ في عَمَلي ، وَالنُّورَ في بَصَري، وَالْبَصِيْرَةَ في دِيني، وَمَتِّعْني بِجَوارِحي... .
وَإنْ أعُدَ نِعَمَكَ وَمِنَنَكَ وكَرائِمَ مِنَحِكَ لا أُحْصيها يا مَولاي.
أنْتَ الّذي مَنَنْـتَ.
أنْتَ الّذي أنْعَمْـتَ.
أنْتَ الّذي أحْسَنْـتَ.
أنْتَ الّذي أجْمَلْـتَ.
أنْتَ الّذي أفْضَلْـتَ.
أنْتَ الّذي أكْمَلْـتَ.
أنْتَ الّذي رَزَقْـتَ.
أنْتَ الّذي وَفّقْـتَ.
أنْتَ الّذي أعْطَيْـتَ.
أنْتَ الّذي أغْنَيْـتَ.
أنْتَ الّذي أقْنَيْـتَ.
أنْتَ الّذي آوَيْـتَ.
أنْتَ الّذي كَفَيْـتَ.
أنْتَ الّذي هَدَيْـتَ.
أنْتَ الّذي عَصَمْـتَ.
أنْتَ الّذي سَتَـرْتَ.
أنْتَ الّذي غَفَـرْتَ.
أنْتَ الّذي أقَلْـتَ.
أنْتَ الّذي مَكّنْـتَ.
أنْتَ الّذي أَعْزَزْتَ.
أنْتَ الّذي أعَنْـتَ.
أنْتَ الّذي عَضَدْتَ.
أنْتَ الّذي أيَّـدْتَ.
أنْتَ الّذي نَصَـرْتَ.
أنْتَ الّذي شَفَيْـتَ.
أنْتَ الّذي عافَيْـتَ.
أنْتَ الّذي أكْرَمْـتَ.
تَبارَكْتَ رَبّي وَتَعالَيْتَ، فَلَكَ الْحَمْدُ دائِماً ولكَ الشُّكرَ واصِباً، ثُمَّ أنا يا إلهي الْمُعْتَرِفُ بِذُنُوبي فَاغْفِرْها لي… [إلى آخر الدّعاء] »(5)..
وقد أثّر دعاء الإمام الحسين(عليه السلام) تأثيراً قويّاً بين النّاس في ذلك اليوم، وشدّهم بالله، بحيث ضجّوا بالبكاء والنّحيب، وأخذوا يردّدون الدّعاء مع إمامهم.
وذكر إبن الأثير في كتابه أسد الغابة «كان الحسين رضي الله عنه، فاضلاً كثير الصّوم والصّلاة والحجّ والصّدقة وأفعال الخير جميعها »(6).
ومما يدلّ على سموّ شخصيّة الإمام الحسين(عليه السلام) وإحترامه وإكباره أنّه حين كان يحجّ ماشياً مع أخيه الإمام الحسن(عليه السلام)، يترجّل كلّ الكبار، والشّخصيّات الإسلامية آنذاك إحتراماً لهم، ويسيرون معهم(7).
إنّ تقدير الأمّة للإمام الحسين(عليه السلام) وإحترامها إنّما نشأ من أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) كان يعيش بين النّاس، ولم يعتزل النّاس، كان متلاحماً مع روح المجتمع، ويشعر كالاخرين، بآلامهم وآمالهم، والاسمى من ذلك، أنّ إيمانه القويّ بالله الّذي لم يضعف أبداً، كان يجعله دائماً مشاركاً لاوجاع النّاس وآلامهم.
وإلاّ فإنّه(عليه السلام) لم يكن يمتلك القصور الشّاهقة الفخمة، ولا الجنود والعبيد المحافظين عليه، ولم يكن كالجبّارين يقطعون الطّرق على النّاس، ويفرغون لهم مسجد الرّسول(صلّى الله عليه وآله وسلم).
والرّواية الثّالية تعبّر عن مثال لأخلاقه الإجتماعيّة « مَرّ الحسين بن عليّ(عليه السلام) بمساكين قد بسطوا كسائاً لهم فألقوا عليه كسراً، فقالوا: هلمّ يابن رسول الله، فثنى وركه فأكل معهم، ثم تلا (إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرين)(8)، ثمّ قال: قد أجبتكم فأجيبوني ؟، قالوا: نعم يابن رسول الله، فقاموا معه حتّى أتوا منزله، فقال للجارية: أخرجي ما كنت تدّخرين(9).
شعيب ابن عبد الرّحمن الخزاعي قال: وجد على ظهر الحسين بن عليّ(عليه السلام) يوم الطّف أثر، فسألوا زين العابدين (عليه السلام) عن ذلك، فقال: هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين(10).
ويمكن أن نتعرّف على مدى إهتمام الإمام الحسين(عليه السلام) بالدّفاع عن المظلومين وحمايته للمحرومين، من خلال حكاية أرينب وزوجها عبد الله بن سلام، ونستعرضها هنا بإيجاز:
إنّ كلّ وسائل وموائد الرفاة والتّرف والفجور، أمثال المال والمنصب والجواري والفتيات وغيرها، كلّها كانت متوفّرة ليزيد، ولكن بالرّغم من كلّ ذلك كانت عينه الوقحة الفاجرة تلاحق أعراض الآخرين، ويحاول التعدّي على زوجاتهم العفيفة.
وبدلاً من أن يضرب أبوه معاوية على يد إبنه المجرمة، ويمنعه من تصرّفاته الشائنة الدّنيئة، فإنّه كان يمهّد له طرق ووسائل التّجاوز والتّعدي المشين، بمختلف أساليب المكر والكذب والخداع، ومن هنا فرّق بين إمرأة مسلمة عفيفة وزوجها وأخرجها من بيت الزّوجية ليلقيها في أحضان إبنه الموحّلة القذرة، ويربطها بهذا الشّاب النزق الفاجر، وقد إطّلع الإمام الحسين(عليه السلام) على الحادثة، وواجهه بشدّة هذه المحاولة الشّائنة، وأبطل المخطّط الجهنّمي، وأعاد الزّوجة إلى زوجها عبدالله بن سلام اعتماداً على بعض الأحكام الإسلاميّة، ومنع أيدي التّعدي والتّجاوز أن تمتد إلى البيوت المسلمة الطّاهرة، وقد أظهر بعمله المقدّس هذا ـ أما الرّأي العامّ ـ مدى غيرة الهاشمييّن، ومدى إهتمامهم الدّائب المشدّد بالحفاظ على نواميس الأمّة الإسلاميّة، وقد بقيت وستبقى هذه الحكاية، وموقف الإمام الحسين(عليه السلام) في سجلّ التاريخ، وإلى الأبد، من مفاخر آل عليّ، ومن جرائم ورذائل بني أميّة(11).
يقول العلائلي في كتابه (سموّ المعنى في سموّ الذات):
« فقد عرّفنا العظيم في ثوب الشّجاع، وعرّفنا العظيم في ثوب البطل، وعرّفنا العظيم في ثوب الضحيّة الشّهيد، وعرّفنا العظيم في ثوب الزّاهد، وعرّفنا العظيم في ثوب العالم، وأمّا العظمة في كلّ ثوب، والعظمة في كلّ مظهر، حتّى كأنّها تآزحت من أقطارها فكانت شخصاً مائلاً للنّاس يقرأونه ويعتبرون به، فهذا ما نجده في الحسين(عليه السلام) وحده، وهذا ما نلمسه فيه فقط، حيث هو من نفسه وحيث هو من نسبه، فلقد يكون أبوه مثله، ولكن لا يجد له أباً كمثل نفسه »(12).
فرجل كيفما سموت به من أيّ جهاته إنتهى بك إلى عظيم، فهو ملتقى عظمات ومجمع أفذاذ، فإنّ من ينبثق من عظمة النّبوّة ( محمّد )، وعظمة الرّجولة (علي)، وعظمة الفضيلة (فاطمة)، يكون أمثولة عظمة الإنسان، وآية الآيات البيّنات، فلم تكن ذكراه ذكرى رجل، بل ذكرى الإنسانية الخالدة، ولم تكن أخباره أخبار بطل بل خبر البطولة الفذّة.
فالحسين(عليه السلام) رجل، ولكن فيه آية الرّجال، وعظيم ولكن فيه حقيقة العظمة، فرعياً لذكراه ورعياً للعِظَة به.
ومن ثمّ كان جديراً بنا أن نستوحيه على الدّوام كمصدر إلهاميّ إنبثق وهّاجاً قويّاً، وامتدّ بأنواره أجيالاً وأجيالاً، ولا يزال يسطع كذلك حتّى ينتظم اللاّنهايات، وينفذ إلى ما وراء الأرض والسّماوات، وهل لنور الله حدّ يقف عنده، أو مَعلَم ينتهي إليه.
وكذلك يجد من تدبّر نهايته، أعظم بها نهاية، وأعظم بها تضحية وأعظم بها مثلاً، وذكرى نادرة، حتى كان يد الله خطّت بها على الأبدية سطراً أحمر قانياً.
فلتسمع الأجيال ولتستيقظ الإنسانية، على الصّوت الرجّاف الّذي ينبعث من أعماق الرجم ومن وراء القبور، حياً جياشاً ينفذ إلى الأعماق فتستعرله الضمائر، وينثال إلى مواطن الشّعور فيحيى به الوجدان.
وعلى نيّرات مثل هذا الصّوت فقط يتبانى للإنسانية أن تغسل آثامها وتخلص من أدرانها، وتتطهّر من أرجاسها.
ولنستمع لبعض أحاديثه وأقواله الّتي تهزّ المشاعر وتجذب القلوب: « انّ النّاسَ عبيدُ الدُّنْيا، والدّينُ لَعْقٌ عَلى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَه ما دَرَّتْ مَعايِشُهُمْ، فَإذا مُحِّصُوا بِالبَلاء قَلَّ الدَّيّانُونَ »(13).
ويخاطب الإمام الحسين(عليه السلام) ابنه زين العابدين(عليه السلام): « أَيْ بُنَيَّ إِيّاكَ وَظُلْمَ مَنْ لا يَجِدُ عَلَيْكَ ناصِراً إِلاَّ الله جَلَّ وَعَزَّ »(14).
وطلب رجل من الإمام الحسين(عليه السلام) أن يكتب له خير الدُّنيا والآخرة، فكتب له(عليه السلام): « بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ: أمّا بَعْدُ فَإنَّ مَنْ طَلَبَ رِضى اللهِ بِسَخَطِ النّاسِ كَفاهُ اللهُ أمورَ النّاسِ، وَمَنْ طَلَبَ رِضَى النّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ الىَ النّاسِ والسَّلامُ »(15).
وروى أنّ الحسين بن عليّ(عليه السلام) جاءه رجل، وقال: أنا رجل عاص ولا أصبر عن المعصية فعظني بموعظة.
فَقالَ (عليه السلام):« إفْعَلْ خمْسَةَ أَشْياءَ وَاذْنِبْ ما شِئْتَ: فَأوَّلُ ذلِكَ، لا تَأْكُلْ رِزْقَ اللهِ وَاذْنِبْ ما شِئْتَ.
وَالثّاني: أُخْرُجْ مِنْ وَلايَةِ اللهِ، وَأذْنِبْ ما شِئْتَ.
والثّالِث: أطْلُبْ مَوْضِعاً لا يَراك اللهَ، وَأذْنبْ ما شِئْتَ.
والرّابعُ: إذا جاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَكَ فَادْفَعْهُ عَنْ نَفْسِكَ، وَأذْنبْ ما شِئْتَ.
وَالخامِسُ: إذَا أَدْخَلَكَ مالِكٌ في النّار، فَلا تَدْخُلْ فِي النّارِ، وَأذْنِبْ ما شِئْتَ »(16).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) العقد الفريد، ج3، ص143.
(2) الإرشاد للمفيد، ص214.
(3) المناقب لابن شهر آشوب، ج3، ص224 ; أسد الغابة، ج2، ص20.
(4) يذكر الصدوق حول تفسير اللطيف: 1 ـ انه لطيف في تدبيره وفعله وقد روي في الخبر أنّ معنى اللّطيف، هو أنّه الخالق للخلق اللّطيف كما أنّه سمّي العظيم لانّه الخالق للخلق العظيم.
ـ إنّه لطيف بعباده فهو لطيف بهم بارّ بهم منعم عليهم (التوحيد للصدوق، ص217).
(5) ذكر هذا الدّعاء السيّد إبن طاووس في الإقبال، ص339 ـ 350، والكفعمي في البلد الأمين، ص251 ـ 258، والمجلسي في البحار، ج98، ص213 ; والقمّي في مفاتيح الجنان، وغيرها من الكتب، ويمكن للقاري أن يراجع مفاتيح الجنان، وهو في متناول أيدي الجميع.
(6) أسد الغابة، ج2، ص20.
(7) ذكرى الحسين (عليه السلام)، ج1، ص152، نقلاً عن رياض الجنان، ط بمبي، ص241 أنساب الاشراف.
(8) سورة النّحل، آية 22.
(9) بحار الأنوار، ج44، ص189.
(10) المناقب، ج2، ص222.
(11) يراجع الإمامة والسّياسة، ج1، ص253.
(12) سموّ المعنى، ص90.
(13) تحف العقول، ص250.
(14) تحف العقول، ص251.
(15) البحار، ج78، ص126.
(16) البحار، ج78، ص126.