مستبصرة
21-03-2010, 06:15 AM
دور "آل سعود" و"الأخوان الوهابيون" فى تجريد الحجاز من آثارها الإسلامية
الدوافع والنتائج
بقلم : الكاتب والباحث فكرى عبد المطلب
نظر أول : في مركزية الأثر وتابعيه
إذا كانت " الكعبة المشرفة " هي الأثر الديني المركزي ، في العقيدة الإسلامية الغراء ، على امتداد تاريخها التليد ، بوصفها " بيت الله المُحرَّم " (1) ، فإن كل أثر ديني أو دنيوي يدور في فلكها يصير – بدوره – ممجداً ، ومُكرماً ، لدى أتباع هذا الدين الحنيف ، أكان يتصل بسيرة آل البيت النبوي الشريف ، أم كان يشهد على فاعلية الموحدين ، من أبناء هذا الدين ، تخليداً لذكراهم ، في سجل الذاكرة الجمعية – إسلاماً – وأرشيفاً غنياً لكل طالب علم ومعرفة ، من أبناء كل دين وملة .
وجرياً على هذا التقليد ، لم يشهد الزمان الإسلامي ، طوال عهود دوله المتعاقبة ، وحتى قيام الدولة العثمانية ، انتهاكاً صارخاً ، لذلك التقليد ، أو انقلاباً فاضحاً عليه ، كي يتوقف عنده المؤرخون بالرصد والتحليل ، إلا في حالات نادرة - ارتبطت بمستويات غير مسبوقة ، أو ملحوقة ، من الاحتقان السياسي الإسلامي - في عهدي الأمويين والعباسيين (2) .
ودون ذلك ، ظل هذا الأثر – أي (الكعبة) – وتلك الآثار موضعاً للرعاية والإجلال ، من خاصة المسلمين وعامتهم ، إضافة إلى ما استحدثه حكام المسلمين ، أنفسهم ، من آثار عزيزة، على نفوسهم ، حتى اليوم ، وباتت مجالاً للتنازع الإسلامي الإسرائيلي إلى اليوم ، وفى مقدمتها " المسجد الأقصى " و" قبة الصخرة " في (القدس الشريف) ، حين أمر الخليفة الأموي (الوليد بن عبد الملك) ببناء المسجد والقبة ، الذي كلف خزانة الدولة جُل إيراد ، أو "خِراج مصر " ، لسبع سنوات متصلة ، رغم كونه الأضخم ، من بين كل إيرادات الولايات ، الموجهة إلى الخزانة الأموية ، آنذاك .
وعلى الرغم من أن المبادرة الأموية ، في هذا الشأن ، لم تكن ببعيدة عن المرامي السياسية لهذه الدولة ، في صراعها مع مناوئيها ، من أنصار الخليفة / الشهيد (على بن أبى طالب) ، لبسط النفوذ على المقدسات المكية والحجازية ، عموماً ، بوصفها مصدر الشرعية ، الأساس، بين جموع المسلمين ، إلا أن تلك المبادرة حفرت أثراً عميقاً ، في الوجدان والواقع الإسلامي، يندر مقارنته بسواه .
إذ كان لموضع المسجد الأقصى وقبته – ولا يزال – قداسته المعلومة ، من حيث أولية "القبلة" الإسلامية إليه ، في عهد النبي الكريم (محمد) – ص – قبل أن يأمر تابعيه بتحويل قبلتهم إلى "البيت الحرام" بـ (مكة المكرمة) ، في وقت مبكر ، من ذلك الزمان .
وقد حفظت (مكة) ، على مدى عهودها الإسلامية ، وحتى عشية قيام الدولة السعودية الأولى (أواخر النصف الأول من القرن الثامن عشر) كل أثر لسيرة النبي وآله وصحبه ، ومن والهم وتبعهم ، لأكثر من مائتي وألف سنة ، والتي اشتملت على (3) :
* أجزاء من البيت الذي ولد به النبي ، بعد تدمير أغلبه على يد أحد الموجات العسكرية لـ(التتار) .
* مقبرة المعلا ، وتضم رفاة العديد من أهل البيت والصحابة ، كقبر السيدة (خديجة) ، ووالدة النبي (آمنة بنت وهب) ، ومثوى (أبى طالب) ، والد الخليفة (على) ، وكذا مثوى جدي النبي (عبد المطلب) و(عبد مناف) ، بالإضافة إلى ما ضمته هذه المقبرة من رفات المئات ، من أهل العلم والدين والتقى والمتصوفة ، والأمراء والتجار ، وما دون ذلك من عامة المسلمين (4) .
* الاسطوانة الرخامية ، التي شيدها (عبد الله محمد المهدي) ، سنة 67 هـ ، لتكون علماً للطريق الذي سلكه النبي ، إلى (الصفا) ، بعد انتهائه من الطواف ، كي يقتدي به كل حاج ومعتمر .
* عمود من الرخام ، داخل رواق الحرم المكي ، من الناحية الجنوبية ، والذي شيده (المهدي)- أيضاً – بغية توسعة الباب الأوسط من الحرم ، بعد أن ضاقت الطرق إلى (الصفا)، ويظهر على العمود نقش بديع ، من صنع أهل (الكوفة) .
* المحيط الدائري الأول لـ " الحرم " ، والذي كان يضم أقدم آثار توسيعه ، بما فيها التوسعة العثمانية والأموية والعباسية ، بنقوشها التاريخية ، المتعددة .
* آثار بيت أم المؤمنين وأولى زوجات النبي ، السيدة (خديجة) ، والذي ضم الغرف الخاصة بعبادة النبي ، واجتماعاته بالصحابة الأوائل ، وميلاد كريمته (فاطمة الزهراء) وعقيلة الخليفة (على بن أبى طالب) ، فيما بعد .
كما استمرت (مكة) – إلى ما قبل مائة سنة – أمينة على جغرافيتها الطبيعية والتاريخية ، بجبالها وأوديتها وآبارها .. الخ .
بينما حفلت (المدينة المنورة) بآثار لا حصر لها ، مثل (5) :
* مقابر تضم رفات والد النبي ، وأخرى تعرف بـ (البقيع) ، تضم رفات الأئمة من آل البيت مثل الإمام (الحسن بن على بن أبى طالب) و(على بن الحسين زين العابدين) و(جعفر الصادق) ، و(محمد بن على الباقر) ، إلى جانب رفات (فاطمة بنت أسد) ، والدة الإمام (على بن أبى طالب) و(إبراهيم) نجل النبي ، و(العباس بن عبد المطلب) عم النبي، وعمتاه (عاتكة) و(صفية) ، وبناته (زينب) و(أم كلثوم) و(رقية) ، ومرضعته (حليمة) ، وزوجاته ، فضلاً عن رفات مئات الصحابة والصالحين التي ضمتهم هذه المقبرة ، إلى جانب قبور شهداء معركة (بدر) .
* الخندق الذي احتفره المسلمون ، من حول (المدينة) ، استعداداً لغزوة (الخندق) الشهيرة، ومكان (العريش) الذي نُصب للنبي ، في أرض موقعة (بدر) .
* مساجد : (سلمان الفارسي) و(الشمس) و(ذي النفس الزكية) و(المائدة) ، وقد شهد الأخير موقعة تلقى النبي وحي سورة المائدة ، إلى جانب مسجد (ثنية الوداع) الذي يضم ثنايا النبي التي كسرت أثناء موقعة (أحد) .
* بيوت : (بني هاشم) و(فاطمة الزهراء) ، المعروف بـ " بيت الأحزان " .
* سقيفة (بني ساعدة) .
وفى حصر آخر ، يذكر المؤرخ المصري الشهير (الجبرتى) ، في تاريخه – والذي عاصر فترة الدولة السعودية الأولى – أن (سعود الكبير) استولى على سجاد " المسجد النبوي " وقناديله المذهبة ، ثم ادعى أنه باعها وصرف حصيلتها على الفقراء (...) ، بيد أن باحث مصري معاصر يؤكد أن أتباع (ابن سعود) تناهبوا كنوز المسجد ، المحفوظة به ، مثل "تاج كسرى" ، ملك (فارس) – الذي كان أحد غنائم المسلمين في معركة (القادسية) مع الفرس – وسيف الخليفة العباسي الشهير (هارون الرشيد) (6) ، في إطار عمليات التهديم والإهلاك التي أنزلوها بالأضرحة والمقابر الإسلامية المُكرمة ، حتى تحولت إلى أطلال تحترق بها نفوس المسلمين حسرة وألم .
ويُعد كتاب " الشرف الأعلى " للمؤرخ المكي (جمال الدين الشيبى) – الذي وضعه في القرن الخامس عشر الميلادي – أحد أبرز المدونات التاريخية ، حول الآثار المكية ، حتى ذلك الوقت ، والذي رسم المؤلف – من خلاله – منهجاً جديداً ، مع معاصره (تقي الدين الفاسي) ، يقوم على توظيف الكتابات المنقوشة ، على شواهد القبور ، في عملية التدوين ، وجعل المصادر الأدبية الأخرى مساندة لتلك الكتابات ، فعُد – بذلك – أحد رواد دارسي الكتابات الإسلامية المنقوشة ، على شواهد القبور (7) .
وقد عزا (الشيبى) أسباب إقدامه على هذا العمل بالقول : " فقد خطر لي أن أكتب في هذه الأوراق بعض ما قرأته على القبور بمقبرة مكة المشرفة المسماة بالمعلا ، أو ما قدرت عليه ، فإن في ذلك تخليد ذكرهم ، وأسمائهم ، وحفظ وفياتهم ، والترحم عليهم وقت الوقوف على ذلك، والاتعاظ بحالهم إلى غير ذلك من الفوائد مثل شعر غريب فيه ذكر الموت ، والإشارة إلى الفراق ، وذكر التوجه إلى دار التلاق ، والله تعالى هو المسئول أن يثبت على ذلك ، وأن يجعلنا ممن اتعظ بالموت وأيقن بما هنالك ، وسهل عليه سلوك تلك المسائل فهو العليم بجميع الأمور ، والمطلع على ما في الصدور سبحانه لا إله إلا هو تقدس وتمجَّد وتعزَّز " (8) .
وقسم (الشيبى) كتابه إلى قسمين : الأول يحتوى على مسائل متعددة ، ومعلومات متنوعة ، تشمل التعريف بالموت ، واشتقاق لفظه ، وذكر القبر ، وأسمائه ، والأشعار التي تحمل لفظ القبر ، ومعانيه المختلفة ، وغير ذلك من المسائل والمداخل ، التي أطلق على كل منها اسم فائدة (جمع فوائد) ، ومنها : كل قتل موت ، وإن لم يكن كل موت قتلاً ، لو حفر الإنسان له قبراً في حياته ، هل يصير أحق به من غيره ؟ وما حصل للأنبياء عند الموت من معالجة سكراته ، ومن مقاسات شدائده ، وفيمن عاش بعد الموت ، وفزع الأغنياء (من الموت) ، وشهوة الفقراء (له) ، وفيما يستحب من رفع القبر شبر ، ولو بالحصى والحجارة ، ليُعرف ، وتجصيصه مكروه ، وفى احترام القبر كما لو كان صاحبه فيه حياً ، ولا يجوز نبش القبر إلا أن ينمحي (يمَّحى) ، ويبلى أثره ، ويصير تراباً (9) .
كما سلك المؤلف في تناوله لمقابر الشخصيات ، التي اختار أسماءها – في الجزء الثاني من كتابه – طريقة منهجية محددة ، فبدأ بتحديد مكان الحجر ، ونوع الخط الذي كُتب به ، وحالته، ثم يورد النص المكتوب على وجه الشاهد ، وعلى جانبيه إن وجد ، مبتدئاً ذلك بالبسملة ، ثم بآية أو أكثر من القرآن الكريم ، وأحياناً بصور استهلالية أخرى ، من أدعية مأثورة ، أو أبيات شعرية ، ثم اسم المتوفى مسبوقاً بسلسلة طويلة من الألقاب والكنى ، ثم الترحم عليه ، وتاريخ وفاته والصلاة على النبي محمد – صلى الله عليه (وآله) وسلم – وطلب الرحمة لمن ترحم عليه ، أي على صاحب الشاهد ، ويلي ذلك الترجمة للمتوفى من أمهات الكتب التي عنيت بترجمته ذاكراً صفته ، ومهنته ، والبلد المنسوب إليه ، واشتقاق اسم ذلك البلد ، وشهرته ، ونماذج من شعر المترجم له ، إن كان شاعراً ، ونثره ، إن كان ناثراً ، ونماذج مما قيل فيه ، من شعر المديح ، وما يتصل به ، وذاكراً المشهورين من أفراد أسرته ، أو من القبيلة أو العشيرة ، أو البيت المنسوب إليه ، كما أنه كثيراً ما يربط المؤلف تاريخ وفاة المترجم له ، أو تاريخ ميلاده ، وغير ذلك من التواريخ المتصلة به ، بالأحداث المهمة التي تصادفه ، أو تتزامن معه ، استناداً إلى مصادر جمة كانت متاحة للمؤلف ، في زمانه ، وبعضها – اليوم – في حكم المفقود ، وهنا مكمن الفائدة من هذا الكتاب ، القيم المتفرد في موضوعه ، وفى المنهج الذي اتبعه فيه مؤلفه ، بحسب وصف باحث سعودي معاصر (10) .
إذ تضمنت الشواهد – التي استند إليها المؤلف – تنوعاً ثرياً من الصيغ الاستهلالية ، التي تستهل بها النصوص المدونة ، على بلاطات تلك الشواهد ، فبعضها آيات مختارة – بعناية – من القرآن الكريم ، وقليل ، منها أدعية ، مستوحاة من القرآن الكريم ، ومن الحديث النبوي، وبعضها من عيون الشعر ، الذي يناسب المقام ، مثل :
أضحى بفقدك ركن المجد منهدم والعلم بعدك عز الدين منثلم
والفضل والجود والمعروف كلهم ماتوا لموتك والإحسان والكرم
من للشريعة والفتوى إذا عجزت أولوا العلوم وعن إدراكها فحموا
من للقضاء ومن للحكم بعدك ياقا ضى القضاة ومن للحق وملتزم (11)
وقد اشتملت أسماء المتوفين – الذين يشكلون المادة الرئيسية لها الكتاب – على سبيل المثال- كل من : داعي أمير المؤمنين اليمنى (أبو حمير سبأ بن أبى السعود بن الزريع بن موسى الكرم الهمذانى) ، والدة الملك (اليمنى) (المنتخب) ، المسماة (علم أم منصور بن فاتك) ، الإمام (زين الدين عبد الغنى السبكى الشافعى ، قاضى القضاة بالديار المصرية (عز الدين بن عمر بن عبد العزيز بن جماعة الكنانى) ، شيخ الحرمين (عفيف الدين أبو الظفر منصور بن أبى الفضل بن سعد البغدادي) ، إمام المالكية بالحرم الشيخ الفقيه (خليل بن عبد الرحمن بن محمد بن عمر) ، وغيرهم ممن تولوا شياخة الحرمين ، ومسئولية الافتاء باسمهما (12) .
نظر ثان : في وحدانية السياسة والمذهب
ولا ريب في أن ذلك الكتاب / الوثيقة يمثل شاهداً حياً على ما كانت تحويه وتمثله أحد أبرز الآثار الإسلامية ، بل والإنسانية ، وهى (مقبرة المعلا) ، الذي جرى تدميرها – هي وغيرها من الآثار ، التي أشرنا إليها أعلاه – على يد سدنة الدولة السعودية الأولى (1744م – 1818م) ، والثالثة (1902 - ؟؟؟؟) ، من أتباع جماعة (ابن عبد الوهاب) ، ضمن تحالفهما الممتد ، إلى اليوم .
وككل حركة دينية مذهبية وشمولية تستقوي بالسلطان السياسي ، وككل سلطان سياسي أفلوى يبحث لنفسه عن خطابات أيديولوجية تتيح له فرص التمكين لسلطانه ، وجد (ابن عبد الوهاب) غايته عبر سلطان (ابن سعود) ووجد الثاني غايته عبر الأول .
الدوافع والنتائج
بقلم : الكاتب والباحث فكرى عبد المطلب
نظر أول : في مركزية الأثر وتابعيه
إذا كانت " الكعبة المشرفة " هي الأثر الديني المركزي ، في العقيدة الإسلامية الغراء ، على امتداد تاريخها التليد ، بوصفها " بيت الله المُحرَّم " (1) ، فإن كل أثر ديني أو دنيوي يدور في فلكها يصير – بدوره – ممجداً ، ومُكرماً ، لدى أتباع هذا الدين الحنيف ، أكان يتصل بسيرة آل البيت النبوي الشريف ، أم كان يشهد على فاعلية الموحدين ، من أبناء هذا الدين ، تخليداً لذكراهم ، في سجل الذاكرة الجمعية – إسلاماً – وأرشيفاً غنياً لكل طالب علم ومعرفة ، من أبناء كل دين وملة .
وجرياً على هذا التقليد ، لم يشهد الزمان الإسلامي ، طوال عهود دوله المتعاقبة ، وحتى قيام الدولة العثمانية ، انتهاكاً صارخاً ، لذلك التقليد ، أو انقلاباً فاضحاً عليه ، كي يتوقف عنده المؤرخون بالرصد والتحليل ، إلا في حالات نادرة - ارتبطت بمستويات غير مسبوقة ، أو ملحوقة ، من الاحتقان السياسي الإسلامي - في عهدي الأمويين والعباسيين (2) .
ودون ذلك ، ظل هذا الأثر – أي (الكعبة) – وتلك الآثار موضعاً للرعاية والإجلال ، من خاصة المسلمين وعامتهم ، إضافة إلى ما استحدثه حكام المسلمين ، أنفسهم ، من آثار عزيزة، على نفوسهم ، حتى اليوم ، وباتت مجالاً للتنازع الإسلامي الإسرائيلي إلى اليوم ، وفى مقدمتها " المسجد الأقصى " و" قبة الصخرة " في (القدس الشريف) ، حين أمر الخليفة الأموي (الوليد بن عبد الملك) ببناء المسجد والقبة ، الذي كلف خزانة الدولة جُل إيراد ، أو "خِراج مصر " ، لسبع سنوات متصلة ، رغم كونه الأضخم ، من بين كل إيرادات الولايات ، الموجهة إلى الخزانة الأموية ، آنذاك .
وعلى الرغم من أن المبادرة الأموية ، في هذا الشأن ، لم تكن ببعيدة عن المرامي السياسية لهذه الدولة ، في صراعها مع مناوئيها ، من أنصار الخليفة / الشهيد (على بن أبى طالب) ، لبسط النفوذ على المقدسات المكية والحجازية ، عموماً ، بوصفها مصدر الشرعية ، الأساس، بين جموع المسلمين ، إلا أن تلك المبادرة حفرت أثراً عميقاً ، في الوجدان والواقع الإسلامي، يندر مقارنته بسواه .
إذ كان لموضع المسجد الأقصى وقبته – ولا يزال – قداسته المعلومة ، من حيث أولية "القبلة" الإسلامية إليه ، في عهد النبي الكريم (محمد) – ص – قبل أن يأمر تابعيه بتحويل قبلتهم إلى "البيت الحرام" بـ (مكة المكرمة) ، في وقت مبكر ، من ذلك الزمان .
وقد حفظت (مكة) ، على مدى عهودها الإسلامية ، وحتى عشية قيام الدولة السعودية الأولى (أواخر النصف الأول من القرن الثامن عشر) كل أثر لسيرة النبي وآله وصحبه ، ومن والهم وتبعهم ، لأكثر من مائتي وألف سنة ، والتي اشتملت على (3) :
* أجزاء من البيت الذي ولد به النبي ، بعد تدمير أغلبه على يد أحد الموجات العسكرية لـ(التتار) .
* مقبرة المعلا ، وتضم رفاة العديد من أهل البيت والصحابة ، كقبر السيدة (خديجة) ، ووالدة النبي (آمنة بنت وهب) ، ومثوى (أبى طالب) ، والد الخليفة (على) ، وكذا مثوى جدي النبي (عبد المطلب) و(عبد مناف) ، بالإضافة إلى ما ضمته هذه المقبرة من رفات المئات ، من أهل العلم والدين والتقى والمتصوفة ، والأمراء والتجار ، وما دون ذلك من عامة المسلمين (4) .
* الاسطوانة الرخامية ، التي شيدها (عبد الله محمد المهدي) ، سنة 67 هـ ، لتكون علماً للطريق الذي سلكه النبي ، إلى (الصفا) ، بعد انتهائه من الطواف ، كي يقتدي به كل حاج ومعتمر .
* عمود من الرخام ، داخل رواق الحرم المكي ، من الناحية الجنوبية ، والذي شيده (المهدي)- أيضاً – بغية توسعة الباب الأوسط من الحرم ، بعد أن ضاقت الطرق إلى (الصفا)، ويظهر على العمود نقش بديع ، من صنع أهل (الكوفة) .
* المحيط الدائري الأول لـ " الحرم " ، والذي كان يضم أقدم آثار توسيعه ، بما فيها التوسعة العثمانية والأموية والعباسية ، بنقوشها التاريخية ، المتعددة .
* آثار بيت أم المؤمنين وأولى زوجات النبي ، السيدة (خديجة) ، والذي ضم الغرف الخاصة بعبادة النبي ، واجتماعاته بالصحابة الأوائل ، وميلاد كريمته (فاطمة الزهراء) وعقيلة الخليفة (على بن أبى طالب) ، فيما بعد .
كما استمرت (مكة) – إلى ما قبل مائة سنة – أمينة على جغرافيتها الطبيعية والتاريخية ، بجبالها وأوديتها وآبارها .. الخ .
بينما حفلت (المدينة المنورة) بآثار لا حصر لها ، مثل (5) :
* مقابر تضم رفات والد النبي ، وأخرى تعرف بـ (البقيع) ، تضم رفات الأئمة من آل البيت مثل الإمام (الحسن بن على بن أبى طالب) و(على بن الحسين زين العابدين) و(جعفر الصادق) ، و(محمد بن على الباقر) ، إلى جانب رفات (فاطمة بنت أسد) ، والدة الإمام (على بن أبى طالب) و(إبراهيم) نجل النبي ، و(العباس بن عبد المطلب) عم النبي، وعمتاه (عاتكة) و(صفية) ، وبناته (زينب) و(أم كلثوم) و(رقية) ، ومرضعته (حليمة) ، وزوجاته ، فضلاً عن رفات مئات الصحابة والصالحين التي ضمتهم هذه المقبرة ، إلى جانب قبور شهداء معركة (بدر) .
* الخندق الذي احتفره المسلمون ، من حول (المدينة) ، استعداداً لغزوة (الخندق) الشهيرة، ومكان (العريش) الذي نُصب للنبي ، في أرض موقعة (بدر) .
* مساجد : (سلمان الفارسي) و(الشمس) و(ذي النفس الزكية) و(المائدة) ، وقد شهد الأخير موقعة تلقى النبي وحي سورة المائدة ، إلى جانب مسجد (ثنية الوداع) الذي يضم ثنايا النبي التي كسرت أثناء موقعة (أحد) .
* بيوت : (بني هاشم) و(فاطمة الزهراء) ، المعروف بـ " بيت الأحزان " .
* سقيفة (بني ساعدة) .
وفى حصر آخر ، يذكر المؤرخ المصري الشهير (الجبرتى) ، في تاريخه – والذي عاصر فترة الدولة السعودية الأولى – أن (سعود الكبير) استولى على سجاد " المسجد النبوي " وقناديله المذهبة ، ثم ادعى أنه باعها وصرف حصيلتها على الفقراء (...) ، بيد أن باحث مصري معاصر يؤكد أن أتباع (ابن سعود) تناهبوا كنوز المسجد ، المحفوظة به ، مثل "تاج كسرى" ، ملك (فارس) – الذي كان أحد غنائم المسلمين في معركة (القادسية) مع الفرس – وسيف الخليفة العباسي الشهير (هارون الرشيد) (6) ، في إطار عمليات التهديم والإهلاك التي أنزلوها بالأضرحة والمقابر الإسلامية المُكرمة ، حتى تحولت إلى أطلال تحترق بها نفوس المسلمين حسرة وألم .
ويُعد كتاب " الشرف الأعلى " للمؤرخ المكي (جمال الدين الشيبى) – الذي وضعه في القرن الخامس عشر الميلادي – أحد أبرز المدونات التاريخية ، حول الآثار المكية ، حتى ذلك الوقت ، والذي رسم المؤلف – من خلاله – منهجاً جديداً ، مع معاصره (تقي الدين الفاسي) ، يقوم على توظيف الكتابات المنقوشة ، على شواهد القبور ، في عملية التدوين ، وجعل المصادر الأدبية الأخرى مساندة لتلك الكتابات ، فعُد – بذلك – أحد رواد دارسي الكتابات الإسلامية المنقوشة ، على شواهد القبور (7) .
وقد عزا (الشيبى) أسباب إقدامه على هذا العمل بالقول : " فقد خطر لي أن أكتب في هذه الأوراق بعض ما قرأته على القبور بمقبرة مكة المشرفة المسماة بالمعلا ، أو ما قدرت عليه ، فإن في ذلك تخليد ذكرهم ، وأسمائهم ، وحفظ وفياتهم ، والترحم عليهم وقت الوقوف على ذلك، والاتعاظ بحالهم إلى غير ذلك من الفوائد مثل شعر غريب فيه ذكر الموت ، والإشارة إلى الفراق ، وذكر التوجه إلى دار التلاق ، والله تعالى هو المسئول أن يثبت على ذلك ، وأن يجعلنا ممن اتعظ بالموت وأيقن بما هنالك ، وسهل عليه سلوك تلك المسائل فهو العليم بجميع الأمور ، والمطلع على ما في الصدور سبحانه لا إله إلا هو تقدس وتمجَّد وتعزَّز " (8) .
وقسم (الشيبى) كتابه إلى قسمين : الأول يحتوى على مسائل متعددة ، ومعلومات متنوعة ، تشمل التعريف بالموت ، واشتقاق لفظه ، وذكر القبر ، وأسمائه ، والأشعار التي تحمل لفظ القبر ، ومعانيه المختلفة ، وغير ذلك من المسائل والمداخل ، التي أطلق على كل منها اسم فائدة (جمع فوائد) ، ومنها : كل قتل موت ، وإن لم يكن كل موت قتلاً ، لو حفر الإنسان له قبراً في حياته ، هل يصير أحق به من غيره ؟ وما حصل للأنبياء عند الموت من معالجة سكراته ، ومن مقاسات شدائده ، وفيمن عاش بعد الموت ، وفزع الأغنياء (من الموت) ، وشهوة الفقراء (له) ، وفيما يستحب من رفع القبر شبر ، ولو بالحصى والحجارة ، ليُعرف ، وتجصيصه مكروه ، وفى احترام القبر كما لو كان صاحبه فيه حياً ، ولا يجوز نبش القبر إلا أن ينمحي (يمَّحى) ، ويبلى أثره ، ويصير تراباً (9) .
كما سلك المؤلف في تناوله لمقابر الشخصيات ، التي اختار أسماءها – في الجزء الثاني من كتابه – طريقة منهجية محددة ، فبدأ بتحديد مكان الحجر ، ونوع الخط الذي كُتب به ، وحالته، ثم يورد النص المكتوب على وجه الشاهد ، وعلى جانبيه إن وجد ، مبتدئاً ذلك بالبسملة ، ثم بآية أو أكثر من القرآن الكريم ، وأحياناً بصور استهلالية أخرى ، من أدعية مأثورة ، أو أبيات شعرية ، ثم اسم المتوفى مسبوقاً بسلسلة طويلة من الألقاب والكنى ، ثم الترحم عليه ، وتاريخ وفاته والصلاة على النبي محمد – صلى الله عليه (وآله) وسلم – وطلب الرحمة لمن ترحم عليه ، أي على صاحب الشاهد ، ويلي ذلك الترجمة للمتوفى من أمهات الكتب التي عنيت بترجمته ذاكراً صفته ، ومهنته ، والبلد المنسوب إليه ، واشتقاق اسم ذلك البلد ، وشهرته ، ونماذج من شعر المترجم له ، إن كان شاعراً ، ونثره ، إن كان ناثراً ، ونماذج مما قيل فيه ، من شعر المديح ، وما يتصل به ، وذاكراً المشهورين من أفراد أسرته ، أو من القبيلة أو العشيرة ، أو البيت المنسوب إليه ، كما أنه كثيراً ما يربط المؤلف تاريخ وفاة المترجم له ، أو تاريخ ميلاده ، وغير ذلك من التواريخ المتصلة به ، بالأحداث المهمة التي تصادفه ، أو تتزامن معه ، استناداً إلى مصادر جمة كانت متاحة للمؤلف ، في زمانه ، وبعضها – اليوم – في حكم المفقود ، وهنا مكمن الفائدة من هذا الكتاب ، القيم المتفرد في موضوعه ، وفى المنهج الذي اتبعه فيه مؤلفه ، بحسب وصف باحث سعودي معاصر (10) .
إذ تضمنت الشواهد – التي استند إليها المؤلف – تنوعاً ثرياً من الصيغ الاستهلالية ، التي تستهل بها النصوص المدونة ، على بلاطات تلك الشواهد ، فبعضها آيات مختارة – بعناية – من القرآن الكريم ، وقليل ، منها أدعية ، مستوحاة من القرآن الكريم ، ومن الحديث النبوي، وبعضها من عيون الشعر ، الذي يناسب المقام ، مثل :
أضحى بفقدك ركن المجد منهدم والعلم بعدك عز الدين منثلم
والفضل والجود والمعروف كلهم ماتوا لموتك والإحسان والكرم
من للشريعة والفتوى إذا عجزت أولوا العلوم وعن إدراكها فحموا
من للقضاء ومن للحكم بعدك ياقا ضى القضاة ومن للحق وملتزم (11)
وقد اشتملت أسماء المتوفين – الذين يشكلون المادة الرئيسية لها الكتاب – على سبيل المثال- كل من : داعي أمير المؤمنين اليمنى (أبو حمير سبأ بن أبى السعود بن الزريع بن موسى الكرم الهمذانى) ، والدة الملك (اليمنى) (المنتخب) ، المسماة (علم أم منصور بن فاتك) ، الإمام (زين الدين عبد الغنى السبكى الشافعى ، قاضى القضاة بالديار المصرية (عز الدين بن عمر بن عبد العزيز بن جماعة الكنانى) ، شيخ الحرمين (عفيف الدين أبو الظفر منصور بن أبى الفضل بن سعد البغدادي) ، إمام المالكية بالحرم الشيخ الفقيه (خليل بن عبد الرحمن بن محمد بن عمر) ، وغيرهم ممن تولوا شياخة الحرمين ، ومسئولية الافتاء باسمهما (12) .
نظر ثان : في وحدانية السياسة والمذهب
ولا ريب في أن ذلك الكتاب / الوثيقة يمثل شاهداً حياً على ما كانت تحويه وتمثله أحد أبرز الآثار الإسلامية ، بل والإنسانية ، وهى (مقبرة المعلا) ، الذي جرى تدميرها – هي وغيرها من الآثار ، التي أشرنا إليها أعلاه – على يد سدنة الدولة السعودية الأولى (1744م – 1818م) ، والثالثة (1902 - ؟؟؟؟) ، من أتباع جماعة (ابن عبد الوهاب) ، ضمن تحالفهما الممتد ، إلى اليوم .
وككل حركة دينية مذهبية وشمولية تستقوي بالسلطان السياسي ، وككل سلطان سياسي أفلوى يبحث لنفسه عن خطابات أيديولوجية تتيح له فرص التمكين لسلطانه ، وجد (ابن عبد الوهاب) غايته عبر سلطان (ابن سعود) ووجد الثاني غايته عبر الأول .