*سماء العشق*
08-04-2010, 09:58 PM
جبل عامل في عهد الإمارتين المعنية والشهابية (1516 - 1842)
بقلم : العقيد الدكتور ياسين سويد
عندما طلب إليّ المجلس الثقافي للبنان الجنوبي أن أتحدث عن "جبل عامل في عهد الإمارتين المعنية والشهابية" ضمن سلسلة من المحاضرات بعنوان "صفحات من تاريخ جبل عامل" كان عليّ أن أواجه أحد خيارين:
الأول: أن أعتمد المنهج التقليدي في كتابة التاريخ وهو القائم على الاهتمام بتدوين الوقائع والأحداث بعد التحري عنها وتحقيقها، دون الاهتمام بفلسفة هذه الأحداث أو تقييمها سياسياً أو عقيدياً، أو حتى اجتماعياً.
الثاني: ان أعتمد المنهج الحديث الذي يتبعه الكثير من المؤرخين المعاصرين وهو القائم على إبراز الأحداث الهامة المؤثرة في المسار التاريخي العام، مع الأخذ بالمسببات والنتائج، وذلك في سياق تحليل أو تقييم أو تسييس أو فلسفة هذه الأحداث، وهذا المنهج هو في نظري منهج التاريخ الهادف.
وبالإضافة الى أن الفترة التي طلب إليّ التحدث عنها هي من السعة بحيث تمتد الى نحو ثلاثة قرون ونصف القرن من الزمن (1516 - 1842) فلا يتسع الوقت القصير نسبياً لمحاضرة ما، الى الإلمام بأحداثها البارزة، مع تحليل أو تقييم أو فلسفة هذه الأحداث، وبما أنني، أساساً، من أنصار المنهج التقليدي للتاريخ باعتبار أن المنهج الحديث، في نظري، هو أقرب الى فلسفة التاريخ منه الى التاريخ بمعناه الصحيح، بل ربما مال عن التاريخ الصحيح الى تاريخ تحدد أهداف كتابته سلفاً، فتفسد موضوعيته، وبما أن الانضباط المهني غالباً ما يورث "الانضباط الفكري"، فقد عقدت العزم على أن أتبع في محاضرتي هذا المنهج التقليدي، فأتحدث عن صفحات من تاريخ "جبل عامل في عهد الإمارتين" تاركاً لغيري تحليل الأحداث وتسييسها وتقييمها وفلسفتها، ولعل في نية المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، الذي كانت له المبادرة الكريمة في وضع سلسلة المحاضرات هذه، أن يتبعها بسلسلة أخرى تلبي مطامح الراغبين في بحث التاريخ حسب المنهج الحديث.
مقدمة
عندما نتحدث عن جبل عامل، إنما نعني، من الناحية الجغرافية، تلك البقعة من بلاد الشام التي راوحت حدودها التاريخية ما بين نهر الأولي وجزين ومشغرة شمالاً، ومرجعيون وبانياس والحولة شرقاً، والزيب ووادي القرن وسعسع (الفلسطينية) ووادي فاره جنوباً، والتي تشكل، حالياً، محافظة لبنان الجنوبي، بعد أن اقتطع الانتدابان الفرنسي والإنكليزي منها، بموجب معاهدة سايكس بيكو عام ،1916 عدداً من القرى نذكر منها، على سبيل المثال، لا الحصر، قرى الخالصة وهونين وقدس والنبي يوشع والمالكية وصلحة وتربيخا والمنارة والمطلة وغيرها. وأما من الناحيتين التاريخية والبشرية، فهو ما سيكون موضوع حديثنا الذي ينحصر في حقبة معيّنة من الزمن تمتد من أول الفتح العثماني، وهو، في نظري، التاريخ الحقيقي لقيام الإمارة المعنية في الشوف، الى نهاية الإمارة الشهابية، خليفة الإمارة المعنية ووريثتها.
وسوف نقسم بحثنا هذا الى موضوعين رئيسين هما:
أولاً - نظرة في تاريخ جبل عامل في عهد الإمارتين المعنية والشهابية (1516 - 1842).
ثانياً - الوجه العسكري للشخصية العاملية في العهدين المعني والشهابي.
أولاً - نظرة في تاريخ جبل عامل في عهد الإمارتين المعنية والشهابية
1 - في العهد المعني:
ورث العثمانيون، بعد فتحهم لبلاد الشام، عام 1516 تنظيمات إدارية وإقطاعية واضحة الصورة والمعالم، بل شبيهة بتلك التي كانوا يعتمدونها في معظم البلدان المحتلة والتابعة لامبراطوريتهم. لذا، لم يجد الفاتحون الجدد كبير عناء في فهم هذه الأنظمة وتبنّيها مع ادخال تعديلات طفيفة عليها تتناسب مع الأنظمة السائدة في الامبراطورية.
ولما كانت الامبراطورية العثمانية، في ذلك الحين، في أوجّ طموحها التوسعي، فقد كانت تكتفي من الأقطار التي تفتحها بالضرائب والجند، تاركة أمر الحكم فيها لولاة يتدبرون أمورهم بواسطة إقطاعيين غالباً ما يكونون من أهل تلك البلاد، كما حدث في بلاد الشام، وفي جبل عامل بالذات، إذ كانت تحكم هذا الجبل، في العهد المملوكي، أسر إقطاعية من الجبل نفسه، استمرت تحكمه في العهد العثماني على أن تدفع ما يترتب عليها من ضرائب، وأن تسوق الى الحرب ما يترتب عليها من جند.
ولكن الصراع الدائر بين هذه الأسر الإقطاعية كثيراً ما كان يبدل الوجوه الحاكمة، فنرى أن الأسر التي حكمت جبل عامل في العهد المملوكي ومنذ القرن الثالث عشر ميلادي حتى القرن السادس عشر، مطلع العهد العثماني، هي أربع: الأسرة البشارية، نسبة الى الأمير حسام الدين بشارة بن أسد العاملي، والأسرة السودونية، نسبة الى آل سودون، وهي، على الأرجح، من المماليك المصريين، والأسرة الشكرية، نسبة الى آل شكر، والأسرة الصغيرية، نسبة الى علي الصغير حفيد الأمير محمد بن هزاع الوائلي، ونرى أن هذه الأسر تتصارع فيما بينها لتحل الواحدة منها محل الأخرى في حكم البلاد، أو تقتسم الحكم فيما بينها، وهكذا نرى الحكم الإقطاعي يبرز بروزاً جلياً في جبل عامل، في القرن الثالث عشر ميلادي، على يد حكام من آل وائل ورثوا الحكم عن الأمير حسام الدين بن بشارة العاملي، الذي كان له الفضل في جمع أجزاء هذه البلاد وتوحيدها حتى عرفت فيما بعد باسمه (بلاد بشارة)، ثم ينتقل، في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، الى أسرة آل سودون التي استمرت في الحكم نحو مئة وستين عاماً، من عام 1478 الى أن انقرضت تماماً بعد معركة جرت بينها وبين آل الصغير عام 1639.
وقد شارك في هذه المرحلة من حكم جبل عامل أسرة أخرى، أصلها من قرية "عيناتا"، هي أسرة "آل شكر" التي ظلت تنافس "آل الصغير" على الحكم ردحاً من الزمن، وكانت قواعد حكم هذه الأسرة في قرى عيناتا وقانا وتبنين، ولكنها انقرضت، هي الأخرى، بعد معارك جرت بينها وبين آل الصغير في كل من عيناتا وقانا وتبنين، عام ،1649 حيث قتل معظم رجال آل شكر وفر الباقون، وتسلّم آل علي الصغير حكم البلاد بعدئذ، وتفردوا به، فحكموا بلاد بشارة الجنوبية (تبين وهونين وقانا ومعركة)، وجعلوا تبنين قاعدة لهم، وقد استمرت هذه الأسرة في حكم جبل عامل طويلاً، ولعبت دوراً حاسماً وهاماً في سياسة جبل عامل وتاريخه ومصيره.
إلا أنه، بعد الفتح العثماني مباشرة، برزت الى الوجود السياسي في جبل عامل أسرتان جديدتان، أخذتا تنافسان الأسرة الوائلية على الزعامة والسياسة، هما: آل صعب حكام الشقيف من بلاد بشارة الشمالية، وقاعدتهم النبطية، وآل منكر حكام إقليمي الشومر والتفاح من بلاد بشارة الشمالية أيضاً، وقاعدتهم جباع.
وعلى الرغم من أن آل علي الصغير كانوا أكثر هذه الأسر نفوذاً وأقواها شكيمة، فقد كان لكل أسرة استقلالها الإداري بالمقاطعة أو المقاطعات التي تحكمها، فالحاكم الإقطاعي حرّ في إدارة مقاطعته، يتصرف بشؤونها ويحمي حدودها، من دون أن يكون هنالك سلطة فوق سلطته، أما سلطة الدولة، فكانت إسمية، وتتلخص في حقها باستيفاء الضرائب والرسوم المقطوعة وفقاً لشروط الالتزام، ومن دون أن يكون لها الحق بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، وكان لكل حاكم جنده الخاص به للدفاع عن مقاطعته، حتى إذا هوجم واحد منهم هبّت باقي المقاطعات تسانده وتؤازره. وقد تمكنت هذه الأسر الثلاث، في فترات مختلفة، وبفضل قوتها وضعف الحكام الخارجيين، من الاستقلال بمقاطعاتها استقلالاً ذاتياً يكاد يكون تاماً.
إلا أن ذلك لم يكن يعني أن جبل عامل خارج عن سلطة الامبراطورية العثمانية، فقد كان الولاة العثمانيون "يلزمون" جباية الرسوم والضرائب المترتبة على جبل عامل الى من يرغب من رجال الإقطاع في ذلك العهد، عاماً بعد عام، وكان أول من تقدم من آل معن لالتزام مقاطعات جبل عامل هو الأمير فخر الدين المعني الثاني أمير الشوف، الذي التزم سنجقية صفد عام 1603 من مراد باشا والي الشام، ونازعه عليها بعد ذلك الأمير يونس الحرفوش أمير البقاع، وكان هذا النزاع سبباً لخصومات ومعارك شديدة بين الطرفين كان النصر في نهايتها للأمير المعني، الذي استطاع أن يستولي على جبل عامل طيلة مدة حكمه في إمارة الشوف، ففي عام 1612 كانت قلعتا بانياس والشقيف بيد فخر الدين، وكان وكيله على بانياس، الشيخ حسين اليازجي، وكيلاً كذلك على القسم الشرقي من بلاد بشارة، ووكيله على الشقيف، الشيخ حسين الطويل، وكيلاً على إقليمي الشومر والتفاح.
وفي أثناء غياب الأمير فخر الدين بتوسكانة (1613 - 1618) تسلّم أخوه الأمير يونس بلاد عاملة، متخذاً صور مقراً له، كما تسلّم الشيخ حسين اليازجي مقاطعة تبنين، وجعلها مقراً له، "وكانا يقودان الشعب بأجمعه وقت الحاجة ويوجهانه حيث أرادا"، حتى إن العامليين حاربوا الى جانب المعنيين ضد آل سيفا حكام طرابلس، في وقعة الناعمة عام ،1616 وبقيادة ابنه الأمير علي المعني، فكانت ميسرة الجيش المعني في هذه الوقعة من العامليين ومن رجال الأمير علي الشهابي حاكم وادي التيم، كذلك حارب العامليون الى جانب المعنيين، في معركة عنجر الشهيرة عام ،1623 ضد مصطفى باشا والي الشام وحلفائه الحرفوشيين حكام البقاع والسيفيين حكام طرابلس، إذ اشتركوا في هذه المعركة بفرقة قوامها ألف مقاتل بقيادة مصطفى مدبر الأمير فخر الدين، كما حاربوا الى جانب فخر الدين في حملته على عكار عام 1618 - 1619 وكانوا بقيادة ابنه الأمير علي، وفي معركة فارا التي جرت في أثناء حملته على فلسطين عام ،1623 وكانوا بقيادة طويل حسين بلكباشي.
إلا أن غياب الأمير فخر الدين عن المسرح السياسي عام ،1633 أضعف سلطة خلفائه المعنيين، الذين لم يكن حكمهم في جبل عامل مستمراً ومستقراً تماماً، بل تخلّلته ثورات واضطرابات كثيرة، وهكذا نرى العامليين يخوضون، في فترة الحكم المعني بالذات، معارك عديدة ضد المعنيين أنفسهم وضد الولاة العثمانيين، وأهم هذه المعارك:
- وقعة أنصار (1638): كان العثمانيون قد ولّوا على الإمارة المعنية، بعد أسر فخر الدين وسوقه الى الاستانة عام ،1633 الأمير علي علم الدين زعيم الحزب اليمني، والخصم اللدود لآل معن، بينما فرّ الأمير ملحم بن الأمير يونس المعني، وهو الأمير الوحيد الذي بقي حراً من أسرة آل معن، الى قرية "عرنا" بسفح جبل الشيخ، حيث لجأ الى أحد أنصار أسرته، ومن هناك بدأ يتصل بأنصاره من الحزب القيسي، مهيئاً نفسه لمعركة فاصلة مع العثمانيين وحلفائهم اليمنيين، الحكام الجدد للإمارة، فخاض، ضد هؤلاء وأولئك، معركة في أرض "القيراط"، قرب قرية "مجدل معوش" بالشوف، عام ،1635 كان النصر فيها حليفه، وفرّ الأمير علي علم الدين اليمني على أثر هذه المعركة وتشتّت جيشه، فلجأ الى قرية "أنصار" بجبل عامل مستنجداً بمشايخها من آل منكر، وكانوا يوالونه، ضد الأمير المعني، فلما علم الأمير ملحم بذلك جهّز جيشاً وقصد "أنصار" عام 1638 لمداهمة الأمير علي فيها، ولكن هذا الأخير تمكن من الفرار وأرسل يطلب النجدة من والي الشام، الذي أرسل لمساعدته فرقة من السكمان توجهت لقتال الأمير ملحم، الذي ما إن علم بتوجهها إليه، حتى ترك "أنصار" بعد أن هدمها وقتل نحو ألف وخمسمئة من أهلها، إذ اتهمهم بالانحياز الى خصومه اليمنيين.
- وقعة عيناتا (1660): ألحق جبل عامل بباشوية صيدا عند إنشائها هذا العام (1660)، وقد جرت هذه الوقعة بين العامليين وبين علي باشا الكبرلي أول وال على صيدا، ولم يصلنا أي تفصيل لها، فقد ذكرها الشيخ علي السبيتي في المجموعة التي نشرها في مجلة العرفان إذ قال: "ان الشيعيين، في أوائل حكم الأتراك العثمانيين، وقعت بينهم وبين الطوائف المجاورة معارك عدة كانت الحرب فيها سجالاً، فمنها معركة أنصار سنة 1048هـ = 1638م مع الأمير ملحم بن معن، ومعركة عيناتا سنة 1070 هـ = 1659م، ومعركة النبطية سنة 1077هـ = 1667م الخ.." من دون أن يذكر أي تفصيل عن هذه الوقعة، كذلك ذكرها المؤرخ الأمير حيدر أحمد الشهابي، في أحداث العام 1071هـ = 1661م إذ قال: "وفي هذه السنة قدم علي باشا والي صيدا، وهو أول من تولاها من الباشوات، وكانت فتنة عظيمة بينه وبين مشايخ المتاولة" من دون أن يذكر أسباب هذه الفتنة وموقعها، وذكرها المؤرخ محمد تقي آل فقيه مستنداً في تحديد موقع المعركة الى كتاب "جبل عامل في قرنين"، وهو مجموعة من المقالات التي نشرها الشيخ علي السبيتي في العرفان، ويكتفي آل فقيه من ذكر هذه الوقعة بقوله: "إن الأمير ملحم مات سنة 1070هـ وفرّ ولداه قرقماز وأحمد، وأصبحت صيدا باشوية، ودخلها الباشا على أثر هذا الانقلاب، فحاول العامليون استغلال الموقف، فقامت الحرب على ساق بينهم وبين الباشا الجديد، وكانت الخسائر فادحة والضحايا كثيرة والواقعة عظيمة". ويضيف قائلاً: "ولا نعرف ماذا عقبته، ولا أي شيء أنتجته على التفصيل، غير أننا نظن أنهم - أي العامليون - تولّوا إدارة البلاد بأنفسهم".
- وقعة النبطية (1666): جرت بين العامليين والأمير أحمد المعني آخر حكام المعنيين، وقد ذكرها السبيتي في مجموعته مشيراً الى انتصار المشايخ العامليين فيها، وأوضح الشيخ أحمد رضا بعض أسبابها فقال: "واغتنم المتاولة فرصة الوهن الذي طرأ على الحكومة المعنية في زمن الأمير أحمد فأعلنوا استقلالهم عن لبنان وخرجوا عن طاعة أمرائه، فغزاهم الأمير أحمد سنة 1077هـ في النبطية مقر الصعبية حكامها، فارتد عنها عسكره منهزماً بعد ملحمة كبرى، فاستجاش عليها والي صيدا، فأتاها هذا في العام القابل غازياً، وكان نصيبه كنصيب صاحبه المعني، حيث لحق المتاولة المنهزم الى عين المزارب قرب صيدا"، وذكرها الشيخ سليمان ظاهر بقوله: "من الحوادث التي وقعت في النبطية، ولم يذكرها المؤرخان الدبس والشدياق، وجاء ذكرها في المخطوطات العاملية، أن الأمير أحمد المعني جاءها سنة 1077هـ، في أربعة آلاف رجل، لمقاتلة أبي صعب، فقاتلوه وكسروه كسرة عظيمة، وقتلوا من عسكره زهاء مئتي رجل وقتل منهم خمسة رجال" إلا أن محمد جابر آل صفا روى هذه الوقعة بشكل آخر ربما كان أقرب الى المنطق والواقع إذ قال: "حتى إذا... ظهر الوهن في حكومة المعنيين، نهض زعماء العشائر من بني عاملة واجتمعت كلمتهم.. فنظموا صفوفهم وثاروا في سنة 1077هـ - 1666م ثورة رجل واحد، وطردوا عمال أرسلان باشا وفتكوا فيهم، فأرسل الوالي حملة عليهم مستعيناً بجنود آل معن، فنازلوهم في النبطية ووادي الكفور، وكان الفوز للشيعيين".
- وقعة وادي الكفور (1667): ذكرها بعض المؤرخين العامليين مثل السبيتي وآل صفا وآل فقيه (نقلاً عن السبيتي) من دون أن يذكروا أي تفصيل لها، كما لم يذكرها باقي المؤرخين أمثال الشهابي والدويهي والدبس والشدياق، وربما كانت امتداداً لوقعة النبطية كما صنّفها الاستاذ آل صفا مبيّناً أن الحملة التي أرسلها الوالي، بالتعاون مع المعنيين، قاتلت العامليين "في النبطية ووادي الكفور".
- معارك أخرى: وقد أشار بعض المؤرخين العامليين الى معارك أخرى جرت في هذه الفترة من دون أن يسموها، فقال الشيخ أحمد رضا، بعد ذكره لوقعتي أنصار والنبطية: "ثم استعرت نار الوقائع بين أمراء لبنان ومشايخ المتاولة فكانت بينهم سجالاً" وقال آل صفا بعد ذكره لوقعة النبطية: "ودامت المناوشات نحو ثلاثين سنة، حتى سنة 1109هـ = 1697م" وقد تبعهم في ذلك بعض المؤرخين العامليين مثل آل فقيه وسواه، إلا أننا لا نجد لذلك أثراً عند مؤرخين أمثال الشهابي والدويهي والدبس والشدياق، وربما كان مرد ذلك هو أن جبل عامل لم يكن في هذه الفترة تحت سلطة المعنيين مباشرة.
2 - في العهد الشهابي:
سقطت الإمارة المعنية عام 1697 وخلفتها الإمارة الشهابية حيث تولى الأمير بشير الأول الحكم فيها، وعلى الرغم من تبدّل الحكام في هذه الإمارة، فإن الخط السياسي العام الذي اتبعه زعماء جبل عامل تجاه الحكم الشهابي لم يتبدل عما كان عليه تجاه الحكم المعني، إذ أنه، كما في عهد الأمراء المعنيين الذين خلفوا فخر الدين الثاني، لم يكن للأمراء الشهابيين في جبل عامل حكم ثابت مستقر، وعلى الرغم من أن كلاً من هؤلاء الأمراء كان يطمح الى أن يتولى حكم هذا الجبل، بضمان من والي صيدا، فغالباً ما كانت مهمتهم تنحصر في معاونة هؤلاء الولاة في جباية الأموال والضرائب المترتبة على العامليين، إذا تمنع هؤلاء عن دفعها، وهكذا نرى بشير الأول، بعد عام واحد من توليه الحكم، أي عام ،1698 يلبي دعوة أرسلان باشا المطرجي والي صيدا، ويزحف الى جبل عامل بجيش قوامه 8 آلاف مقاتل، ليخضع أحد زعمائه الشيخ مشرف بن علي الصغير، الذي خرج على الوالي وقتل بعض أعوانه واعتصم في قريته (المزيرعة، أو المزرعة، أو مزرعة مشرف)، فيقاتله الأمير فيها وينتصر عليه ويقتل عدداً كبيراً من جماعته، ثم يقبض عليه وعلى أخيه محمد بن علي الصغير ويسوقهما الى الوالي الذي يسجنهما، وتطلق يد الأمير مقابل ذلك في صفد ومقاطعات جبل عامل (بلاد بشارة ومقاطعة الشقيف وإقليمي الشومر والتفاح). وتسلّم الأمير حيدر عام 1706 حكم الإمارة الشهابية، فكان أول عمل قام به هو محاولة السيطرة على جبل عامل، وكان بشير باشا الذي أصبح والياً على صيدا، قد أعاد الشيخ مشرف الى حكم مقاطعته في بلاد بشارة (وكان أرسلان باشا قد سبق وأطلق سراحه)، والتمس الأمير حيدر من بشير باشا حكم جبل عامل بعد أن أغراه بالمال، فأقطعه أياه، وفي عام 1707 زحف الأمير حيدر على جبل عامل بجيش قدّره بعض المؤرخين بـ12 ألف مقاتل، (يزبك، أوراق لبنانية، حزيران ،1956 ص 277)، وكان آل الصغير قد اعتصموا، مع حلفائهم من آل منكر حكام إقليمي الشومر والتفاح وآل صعب حكام الشقيف، في بلدة النبطية، فهاجمها الأمير حيدر، ودارت بين الفريقين معركة انتهت بانتصار الأمير الشهابي واحتلاله للبلاد، حيث نصب عليها متسلماً من قبله هو الشيخ محمود أبو هرموش، بينما تشتت آل الصغير وحلفاؤهم تاركين حكم الجبل للأمير الشهابي.
ولم يكن الحال بين الشهابيين والعامليين في عهد الأمير ملحم (1732 - 1754) بأفضل منه عما كانت عليه مع من سلفه من حكام هذه الإمارة، إذ استهل الأمير ملحم المذكور حكمه بإظهار طموحه للتوسع نحو مقاطعات جبل عامل، ففي عام 1734 طلب من سليمان باشا العظم والي صيدا أن يقطعه بلاد بشارة، وكان زعماؤها، من آل الصغير، قد خرجوا عن طاعة الوالي وامتنعوا عن أداء الأموال الأميرية إليه، فأقطعه إياها، فقام الأمير ملحم بحملة على هذه البلاد حيث نازل زعماءها في بلدة (يارون) فهزمهم، وفرّ آل الصغير الى القنيطرة.
ويذكر دي لان De Lane قنصل فرنسا بصيدا عام 1734 هذه الوقعة في رسالة وجهها بتاريخ 20 آب من العام نفسه الى الكونت دي موريباس C. De Maurepas وزير الدولة الفرنسية، فيقول "ان الصدر الأعظم حانق بسبب رفض مشايخ المتاولة دفع الضرائب وبعض الأموال المترتبة عليهم له ولحكامه، وقد كلف سليمان باشا (والي صيدا) وأمير الدروز - يقصد الأمير ملحم - مهمة حصار قلاعهم وتصفيتهم جميعاً، وهكذا دخل الأمير، عند تلقيه هذا الأمر، بلاد المتاولة، بجيش مقداره خمسة عشر ألف مقاتل حيث نشر النار والدماء في كل مكان حل فيه".
Ismail Adel, ********s diplomatiques et consulaires, T, 2 p77
وفي عام 1743 خرج المناكرة والصعبية على الوالي سعد الدين باشا العظيم، والي صيدا فأرسل الأمير ملحماً لتأديبهم، ودارت بين الفريقين معركة ضارية في جوار قرية (أنصار) انتهت بهزيمة العامليين ولجوئهم الى داخل القرية، حيث أقدم الأمير ملحم على اقتحامها وإحراقها، ثم عاد بعسكره الى دير القمر، بعد أن خسر العامليون في هذه المعركة نحو ألف وستمئة قتيل، كما قبض الأمير على أربعة من مشايخهم.
وفي عام 1750 اعتدى المناكرة على إقليم جزين وكان داخلاً في حكم الجنبلاطيين حلفاء الشهابيين، فقتلوا اثنين من أتباع الشيخ بشير جنبلاط حليف الأمير ملحم، فحشد هذا الأخير جيشاً وسار لقتالهم حيث لقيهم في قرية (جباع الحلاوة) فقاتلهم وقتل منهم نحو ثلاثمئة رجل.
مرت ولاية الأميرين منصور وأحمد الشهابيين (1754 - 1763) ثم ولاية الأمير منصور منفرداً (1763 - 1770)، على الإمارة الشهابية من دون حوادث ذات أهمية بين العامليين والشهابيين، وذلك لأن الأمراء الشهابيين كانوا منشغلين في هذه الفترة بالخصومات والصراعات الداخلية فيما بينهم، مما قيض للعامليين نوعاً من الاستقلال الذاتي والتصرّف الحرّ، إلا أن ذلك لم يمنعهم من التحسّب واليقظة، خصوصاً وقد لقوا في خلال انتفاضاتهم المتعددة على الحكم العثماني، وبالتالي على الحكمين المعني والشهابي، من الشدة والقسوة ما جعلهم لا يطمئنون إلا لحكم زعمائهم، وكان عليهم، في الوقت نفسه، أن يزيدوا من قواهم الذاتية من جهة، وأن يبحثوا عن تحالفات عسكرية تتيح لهم الصمود والمنفعة من جهة أخرى، وفي هذه الأثناء، قام في العامليين زعيم وحد صفوفهم وجمع كلمتهم هو الشيخ ناصيف النصار من آل الصغير الذي وصفه "شيفالييه دي توليس" Chevalier de Taulés قنصل فرنسا بصيدا في رسالة منه الى "الدوق ديغويون" Duc D'Aiguillon بتاريخ 28 حزيران 1772 بأنه "الشيخ الكبير الذي اشتهر في كل سوريا بشجاعته".
Ismail, ********s, T. 2 p240
كما قام في ديار عكا وصفد حاكم طموح وقدير ومتحفز هو الشيخ ظاهر بن عمر بن أبي زيدان، المعروف بظاهر العمر، تسلم تلك الديار من والي صيدا بشير باشا في أول عهده بالولاية عام ،1706 وأخذ يرقب، بعين حذرة ويقظة، ما يجري في شمال بلاده وجنوبها. ففي مصر حاكم يحلم بالتوسع شمالاً، نحو بلاد الشام، ويطمح للتعاون مع حاكم قدير في فلسطين يسهل له دخول تلك البلاد، هو علي بك الكبير وقائده محمد بك أبو الذهب، وفي جبل عامل مشايخ عانوا الكثير من الظلم العثماني المتحالف مع أمراء آل معن ومن بعدهم آل شهاب، فأضحوا تواقين للتحالف مع قوة تساندهم وتعزز قوتهم وتشد أزرهم، وهكذا التقى في ساحة فلسطين وعلى امتدادها شمالاً حتى صيدا، ثلاث قوى تكمل بعضها، هي قوة المصريين والصفديين والعامليين، وقد بلغ هذا التحالف أوجه عام 1771 مما حدا بدراغون Conféderation النائب التجاري للجالية الفرنسية بصيدا، الى تسميته بـ"اتحاد كونفدرالي" Conféderation بين مصر والشيخ ظاهر العمر والمتاولة ضد السلطان، وذلك في رسالة بعث بها الى الدوق ديغويون D'Aiguillon وزير الدولة الفرنسية بتاريخ 2 أيار 1771.
Ismail, ********s, T. 2 p169
إلا أن التحالف بين العامليين والشيخ ظاهر العمر لم يكن سهلاً في بدايته، فقد سبقه صراع مسلح بين شيخ مشايخ العامليين ناصيف النصار والشيخ ظاهر، حيث تقاتلا في معارك عدة أهمها معركة تربيخا عام 1750 التي هزم فيها ظاهر، وانتهت الحرب بين الفريقين بمعاهدة تحالف ودفاع وقعت بينهما في عكا عام 1767 "وحلفا اليمين على السيف والمصحف أن يكونا وشعباهما متضامنين متصافيين ما دامت الأرض والسماء"، وكان هذا التحالف قد تم بناء لوساطة بين المتخاصمين قام بها الأمراء الشهابيون وحلفاؤهم المشايخ الجنبلاطيون، وكانوا على علاقة حسنة بالفريقين في ذلك الحين. يحدثنا عن ذلك قنصل فرنسا في صيدا "كليرامبو" Clairambault في رسالة بعث بها الى وزير الدولة الفرنسية "الدوق دي براسلان" Duc De Braslin بتاريخ 23 نيسان 1767 يقول فيها "الشيخ ناصيف النصار هو اليوم شيخ مشايخ المتاولة الذين يقيمون من صيدا حتى أرض عكا، وهو يحمي الشيخ عثمان ابن الشيخ ظاهر العمر، الذي لجأ إليه - وكان الشيخ عثمان قد خرج عن طاعة أبيه فلجأ الى الشيخ ناصيف - وبما أن الحرب في هذه البلاد تهدأ ثم تتجدد كل ثلاثة أشهر، فإنها تنتهي بخراب أحوال الفلاحين، وبإعطاء المبرر لمشايخهم لتأجيل دفع الضرائب والمستلزمات المالية للوالي. وقد وصل الى هنا - أي الى صيدا - الأمير إسماعيل - أمير وادي التيم - وثلاثة من مشايخ الدروز هم الشيخ علي جنبلاط والشيخ عبد السلام العماد والشيخ كليب النكدي، وهؤلاء يعاضدون الشيخ ناصيف. فعملوا على إحلال الوفاق بينه وبين الشيخ ظاهر العمر".
Ismail, ********s, T2 p150 - 151
ولا يغربن عن بالنا أن هذا الوفاق قد تم في عهد الأمير منصور الشهابي الذي كان كما قيل عنه "لين العريكة لا يخلو من جبانة قليلة". فعمل على إحلال الوفاق محل الخصام بينه وبين العامليين طيلة مدة ولايته، حتى أضحوا يوالونه حقاً.
وما إن تم الوفاق بين الشيخين ناصيف النصار شيخ مشايخ جبل عامل والشيخ ظاهر العمر حاكم صفد وعكا، حتى انقلب هذا الوفاق الى تحالف وطيد، نظراً للعداوة التي كانا يكنانها كلاهما للعثمانيين والشهابيين، وهكذا، ما إن انتهت ولاية الأمير منصور، وخلفه في الحكم ابن أخيه الأمير يوسف، حتى انتفض العامليون مجدداً ضد حكم الوالي العثماني درويش باشا (والي صيدا) وذلك عام ،1771 فرفضوا دفع الأموال الأميرية وطردوا عمال الوالي من ديارهم، وأظهروا البغضاء للأمير يوسف الشهابي حليف هذا الأخير، فأقدموا على مهاجمة بلدة مرجعيون وقرى الحولة وهي، في ذلك الحين، من أعمال خاله الأمير اسماعيل أمير وادي التيم، فجهز الأمير يوسف لقتالهم جيشاً قدّر بعشرين ألف مقاتل من مشاة وخيالة، وأرسل الى خاله ليلاقيه بمن عنده من المقاتلين، ثم نهض من عاصمته دير القمر باتجاه صيدا حيث عسكر عند جسر الأولي، فبات ليلته هناك، وانطلق في اليوم التالي الى "جباع الحلاوي" حيث تحشد آل نمر وأنصارهم من آل الصغير وآل صعب، فلما عرف هؤلاء بضخامة الجيش الذي جاء به الأمير لقتالهم، تفرقوا ورحلوا عن البلاد من دون قتال، بينما وصل الأمير الى "جباع" فأحرقها كما أحرق جميع قرى إقليم التفاح.
يتبع
بقلم : العقيد الدكتور ياسين سويد
عندما طلب إليّ المجلس الثقافي للبنان الجنوبي أن أتحدث عن "جبل عامل في عهد الإمارتين المعنية والشهابية" ضمن سلسلة من المحاضرات بعنوان "صفحات من تاريخ جبل عامل" كان عليّ أن أواجه أحد خيارين:
الأول: أن أعتمد المنهج التقليدي في كتابة التاريخ وهو القائم على الاهتمام بتدوين الوقائع والأحداث بعد التحري عنها وتحقيقها، دون الاهتمام بفلسفة هذه الأحداث أو تقييمها سياسياً أو عقيدياً، أو حتى اجتماعياً.
الثاني: ان أعتمد المنهج الحديث الذي يتبعه الكثير من المؤرخين المعاصرين وهو القائم على إبراز الأحداث الهامة المؤثرة في المسار التاريخي العام، مع الأخذ بالمسببات والنتائج، وذلك في سياق تحليل أو تقييم أو تسييس أو فلسفة هذه الأحداث، وهذا المنهج هو في نظري منهج التاريخ الهادف.
وبالإضافة الى أن الفترة التي طلب إليّ التحدث عنها هي من السعة بحيث تمتد الى نحو ثلاثة قرون ونصف القرن من الزمن (1516 - 1842) فلا يتسع الوقت القصير نسبياً لمحاضرة ما، الى الإلمام بأحداثها البارزة، مع تحليل أو تقييم أو فلسفة هذه الأحداث، وبما أنني، أساساً، من أنصار المنهج التقليدي للتاريخ باعتبار أن المنهج الحديث، في نظري، هو أقرب الى فلسفة التاريخ منه الى التاريخ بمعناه الصحيح، بل ربما مال عن التاريخ الصحيح الى تاريخ تحدد أهداف كتابته سلفاً، فتفسد موضوعيته، وبما أن الانضباط المهني غالباً ما يورث "الانضباط الفكري"، فقد عقدت العزم على أن أتبع في محاضرتي هذا المنهج التقليدي، فأتحدث عن صفحات من تاريخ "جبل عامل في عهد الإمارتين" تاركاً لغيري تحليل الأحداث وتسييسها وتقييمها وفلسفتها، ولعل في نية المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، الذي كانت له المبادرة الكريمة في وضع سلسلة المحاضرات هذه، أن يتبعها بسلسلة أخرى تلبي مطامح الراغبين في بحث التاريخ حسب المنهج الحديث.
مقدمة
عندما نتحدث عن جبل عامل، إنما نعني، من الناحية الجغرافية، تلك البقعة من بلاد الشام التي راوحت حدودها التاريخية ما بين نهر الأولي وجزين ومشغرة شمالاً، ومرجعيون وبانياس والحولة شرقاً، والزيب ووادي القرن وسعسع (الفلسطينية) ووادي فاره جنوباً، والتي تشكل، حالياً، محافظة لبنان الجنوبي، بعد أن اقتطع الانتدابان الفرنسي والإنكليزي منها، بموجب معاهدة سايكس بيكو عام ،1916 عدداً من القرى نذكر منها، على سبيل المثال، لا الحصر، قرى الخالصة وهونين وقدس والنبي يوشع والمالكية وصلحة وتربيخا والمنارة والمطلة وغيرها. وأما من الناحيتين التاريخية والبشرية، فهو ما سيكون موضوع حديثنا الذي ينحصر في حقبة معيّنة من الزمن تمتد من أول الفتح العثماني، وهو، في نظري، التاريخ الحقيقي لقيام الإمارة المعنية في الشوف، الى نهاية الإمارة الشهابية، خليفة الإمارة المعنية ووريثتها.
وسوف نقسم بحثنا هذا الى موضوعين رئيسين هما:
أولاً - نظرة في تاريخ جبل عامل في عهد الإمارتين المعنية والشهابية (1516 - 1842).
ثانياً - الوجه العسكري للشخصية العاملية في العهدين المعني والشهابي.
أولاً - نظرة في تاريخ جبل عامل في عهد الإمارتين المعنية والشهابية
1 - في العهد المعني:
ورث العثمانيون، بعد فتحهم لبلاد الشام، عام 1516 تنظيمات إدارية وإقطاعية واضحة الصورة والمعالم، بل شبيهة بتلك التي كانوا يعتمدونها في معظم البلدان المحتلة والتابعة لامبراطوريتهم. لذا، لم يجد الفاتحون الجدد كبير عناء في فهم هذه الأنظمة وتبنّيها مع ادخال تعديلات طفيفة عليها تتناسب مع الأنظمة السائدة في الامبراطورية.
ولما كانت الامبراطورية العثمانية، في ذلك الحين، في أوجّ طموحها التوسعي، فقد كانت تكتفي من الأقطار التي تفتحها بالضرائب والجند، تاركة أمر الحكم فيها لولاة يتدبرون أمورهم بواسطة إقطاعيين غالباً ما يكونون من أهل تلك البلاد، كما حدث في بلاد الشام، وفي جبل عامل بالذات، إذ كانت تحكم هذا الجبل، في العهد المملوكي، أسر إقطاعية من الجبل نفسه، استمرت تحكمه في العهد العثماني على أن تدفع ما يترتب عليها من ضرائب، وأن تسوق الى الحرب ما يترتب عليها من جند.
ولكن الصراع الدائر بين هذه الأسر الإقطاعية كثيراً ما كان يبدل الوجوه الحاكمة، فنرى أن الأسر التي حكمت جبل عامل في العهد المملوكي ومنذ القرن الثالث عشر ميلادي حتى القرن السادس عشر، مطلع العهد العثماني، هي أربع: الأسرة البشارية، نسبة الى الأمير حسام الدين بشارة بن أسد العاملي، والأسرة السودونية، نسبة الى آل سودون، وهي، على الأرجح، من المماليك المصريين، والأسرة الشكرية، نسبة الى آل شكر، والأسرة الصغيرية، نسبة الى علي الصغير حفيد الأمير محمد بن هزاع الوائلي، ونرى أن هذه الأسر تتصارع فيما بينها لتحل الواحدة منها محل الأخرى في حكم البلاد، أو تقتسم الحكم فيما بينها، وهكذا نرى الحكم الإقطاعي يبرز بروزاً جلياً في جبل عامل، في القرن الثالث عشر ميلادي، على يد حكام من آل وائل ورثوا الحكم عن الأمير حسام الدين بن بشارة العاملي، الذي كان له الفضل في جمع أجزاء هذه البلاد وتوحيدها حتى عرفت فيما بعد باسمه (بلاد بشارة)، ثم ينتقل، في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، الى أسرة آل سودون التي استمرت في الحكم نحو مئة وستين عاماً، من عام 1478 الى أن انقرضت تماماً بعد معركة جرت بينها وبين آل الصغير عام 1639.
وقد شارك في هذه المرحلة من حكم جبل عامل أسرة أخرى، أصلها من قرية "عيناتا"، هي أسرة "آل شكر" التي ظلت تنافس "آل الصغير" على الحكم ردحاً من الزمن، وكانت قواعد حكم هذه الأسرة في قرى عيناتا وقانا وتبنين، ولكنها انقرضت، هي الأخرى، بعد معارك جرت بينها وبين آل الصغير في كل من عيناتا وقانا وتبنين، عام ،1649 حيث قتل معظم رجال آل شكر وفر الباقون، وتسلّم آل علي الصغير حكم البلاد بعدئذ، وتفردوا به، فحكموا بلاد بشارة الجنوبية (تبين وهونين وقانا ومعركة)، وجعلوا تبنين قاعدة لهم، وقد استمرت هذه الأسرة في حكم جبل عامل طويلاً، ولعبت دوراً حاسماً وهاماً في سياسة جبل عامل وتاريخه ومصيره.
إلا أنه، بعد الفتح العثماني مباشرة، برزت الى الوجود السياسي في جبل عامل أسرتان جديدتان، أخذتا تنافسان الأسرة الوائلية على الزعامة والسياسة، هما: آل صعب حكام الشقيف من بلاد بشارة الشمالية، وقاعدتهم النبطية، وآل منكر حكام إقليمي الشومر والتفاح من بلاد بشارة الشمالية أيضاً، وقاعدتهم جباع.
وعلى الرغم من أن آل علي الصغير كانوا أكثر هذه الأسر نفوذاً وأقواها شكيمة، فقد كان لكل أسرة استقلالها الإداري بالمقاطعة أو المقاطعات التي تحكمها، فالحاكم الإقطاعي حرّ في إدارة مقاطعته، يتصرف بشؤونها ويحمي حدودها، من دون أن يكون هنالك سلطة فوق سلطته، أما سلطة الدولة، فكانت إسمية، وتتلخص في حقها باستيفاء الضرائب والرسوم المقطوعة وفقاً لشروط الالتزام، ومن دون أن يكون لها الحق بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، وكان لكل حاكم جنده الخاص به للدفاع عن مقاطعته، حتى إذا هوجم واحد منهم هبّت باقي المقاطعات تسانده وتؤازره. وقد تمكنت هذه الأسر الثلاث، في فترات مختلفة، وبفضل قوتها وضعف الحكام الخارجيين، من الاستقلال بمقاطعاتها استقلالاً ذاتياً يكاد يكون تاماً.
إلا أن ذلك لم يكن يعني أن جبل عامل خارج عن سلطة الامبراطورية العثمانية، فقد كان الولاة العثمانيون "يلزمون" جباية الرسوم والضرائب المترتبة على جبل عامل الى من يرغب من رجال الإقطاع في ذلك العهد، عاماً بعد عام، وكان أول من تقدم من آل معن لالتزام مقاطعات جبل عامل هو الأمير فخر الدين المعني الثاني أمير الشوف، الذي التزم سنجقية صفد عام 1603 من مراد باشا والي الشام، ونازعه عليها بعد ذلك الأمير يونس الحرفوش أمير البقاع، وكان هذا النزاع سبباً لخصومات ومعارك شديدة بين الطرفين كان النصر في نهايتها للأمير المعني، الذي استطاع أن يستولي على جبل عامل طيلة مدة حكمه في إمارة الشوف، ففي عام 1612 كانت قلعتا بانياس والشقيف بيد فخر الدين، وكان وكيله على بانياس، الشيخ حسين اليازجي، وكيلاً كذلك على القسم الشرقي من بلاد بشارة، ووكيله على الشقيف، الشيخ حسين الطويل، وكيلاً على إقليمي الشومر والتفاح.
وفي أثناء غياب الأمير فخر الدين بتوسكانة (1613 - 1618) تسلّم أخوه الأمير يونس بلاد عاملة، متخذاً صور مقراً له، كما تسلّم الشيخ حسين اليازجي مقاطعة تبنين، وجعلها مقراً له، "وكانا يقودان الشعب بأجمعه وقت الحاجة ويوجهانه حيث أرادا"، حتى إن العامليين حاربوا الى جانب المعنيين ضد آل سيفا حكام طرابلس، في وقعة الناعمة عام ،1616 وبقيادة ابنه الأمير علي المعني، فكانت ميسرة الجيش المعني في هذه الوقعة من العامليين ومن رجال الأمير علي الشهابي حاكم وادي التيم، كذلك حارب العامليون الى جانب المعنيين، في معركة عنجر الشهيرة عام ،1623 ضد مصطفى باشا والي الشام وحلفائه الحرفوشيين حكام البقاع والسيفيين حكام طرابلس، إذ اشتركوا في هذه المعركة بفرقة قوامها ألف مقاتل بقيادة مصطفى مدبر الأمير فخر الدين، كما حاربوا الى جانب فخر الدين في حملته على عكار عام 1618 - 1619 وكانوا بقيادة ابنه الأمير علي، وفي معركة فارا التي جرت في أثناء حملته على فلسطين عام ،1623 وكانوا بقيادة طويل حسين بلكباشي.
إلا أن غياب الأمير فخر الدين عن المسرح السياسي عام ،1633 أضعف سلطة خلفائه المعنيين، الذين لم يكن حكمهم في جبل عامل مستمراً ومستقراً تماماً، بل تخلّلته ثورات واضطرابات كثيرة، وهكذا نرى العامليين يخوضون، في فترة الحكم المعني بالذات، معارك عديدة ضد المعنيين أنفسهم وضد الولاة العثمانيين، وأهم هذه المعارك:
- وقعة أنصار (1638): كان العثمانيون قد ولّوا على الإمارة المعنية، بعد أسر فخر الدين وسوقه الى الاستانة عام ،1633 الأمير علي علم الدين زعيم الحزب اليمني، والخصم اللدود لآل معن، بينما فرّ الأمير ملحم بن الأمير يونس المعني، وهو الأمير الوحيد الذي بقي حراً من أسرة آل معن، الى قرية "عرنا" بسفح جبل الشيخ، حيث لجأ الى أحد أنصار أسرته، ومن هناك بدأ يتصل بأنصاره من الحزب القيسي، مهيئاً نفسه لمعركة فاصلة مع العثمانيين وحلفائهم اليمنيين، الحكام الجدد للإمارة، فخاض، ضد هؤلاء وأولئك، معركة في أرض "القيراط"، قرب قرية "مجدل معوش" بالشوف، عام ،1635 كان النصر فيها حليفه، وفرّ الأمير علي علم الدين اليمني على أثر هذه المعركة وتشتّت جيشه، فلجأ الى قرية "أنصار" بجبل عامل مستنجداً بمشايخها من آل منكر، وكانوا يوالونه، ضد الأمير المعني، فلما علم الأمير ملحم بذلك جهّز جيشاً وقصد "أنصار" عام 1638 لمداهمة الأمير علي فيها، ولكن هذا الأخير تمكن من الفرار وأرسل يطلب النجدة من والي الشام، الذي أرسل لمساعدته فرقة من السكمان توجهت لقتال الأمير ملحم، الذي ما إن علم بتوجهها إليه، حتى ترك "أنصار" بعد أن هدمها وقتل نحو ألف وخمسمئة من أهلها، إذ اتهمهم بالانحياز الى خصومه اليمنيين.
- وقعة عيناتا (1660): ألحق جبل عامل بباشوية صيدا عند إنشائها هذا العام (1660)، وقد جرت هذه الوقعة بين العامليين وبين علي باشا الكبرلي أول وال على صيدا، ولم يصلنا أي تفصيل لها، فقد ذكرها الشيخ علي السبيتي في المجموعة التي نشرها في مجلة العرفان إذ قال: "ان الشيعيين، في أوائل حكم الأتراك العثمانيين، وقعت بينهم وبين الطوائف المجاورة معارك عدة كانت الحرب فيها سجالاً، فمنها معركة أنصار سنة 1048هـ = 1638م مع الأمير ملحم بن معن، ومعركة عيناتا سنة 1070 هـ = 1659م، ومعركة النبطية سنة 1077هـ = 1667م الخ.." من دون أن يذكر أي تفصيل عن هذه الوقعة، كذلك ذكرها المؤرخ الأمير حيدر أحمد الشهابي، في أحداث العام 1071هـ = 1661م إذ قال: "وفي هذه السنة قدم علي باشا والي صيدا، وهو أول من تولاها من الباشوات، وكانت فتنة عظيمة بينه وبين مشايخ المتاولة" من دون أن يذكر أسباب هذه الفتنة وموقعها، وذكرها المؤرخ محمد تقي آل فقيه مستنداً في تحديد موقع المعركة الى كتاب "جبل عامل في قرنين"، وهو مجموعة من المقالات التي نشرها الشيخ علي السبيتي في العرفان، ويكتفي آل فقيه من ذكر هذه الوقعة بقوله: "إن الأمير ملحم مات سنة 1070هـ وفرّ ولداه قرقماز وأحمد، وأصبحت صيدا باشوية، ودخلها الباشا على أثر هذا الانقلاب، فحاول العامليون استغلال الموقف، فقامت الحرب على ساق بينهم وبين الباشا الجديد، وكانت الخسائر فادحة والضحايا كثيرة والواقعة عظيمة". ويضيف قائلاً: "ولا نعرف ماذا عقبته، ولا أي شيء أنتجته على التفصيل، غير أننا نظن أنهم - أي العامليون - تولّوا إدارة البلاد بأنفسهم".
- وقعة النبطية (1666): جرت بين العامليين والأمير أحمد المعني آخر حكام المعنيين، وقد ذكرها السبيتي في مجموعته مشيراً الى انتصار المشايخ العامليين فيها، وأوضح الشيخ أحمد رضا بعض أسبابها فقال: "واغتنم المتاولة فرصة الوهن الذي طرأ على الحكومة المعنية في زمن الأمير أحمد فأعلنوا استقلالهم عن لبنان وخرجوا عن طاعة أمرائه، فغزاهم الأمير أحمد سنة 1077هـ في النبطية مقر الصعبية حكامها، فارتد عنها عسكره منهزماً بعد ملحمة كبرى، فاستجاش عليها والي صيدا، فأتاها هذا في العام القابل غازياً، وكان نصيبه كنصيب صاحبه المعني، حيث لحق المتاولة المنهزم الى عين المزارب قرب صيدا"، وذكرها الشيخ سليمان ظاهر بقوله: "من الحوادث التي وقعت في النبطية، ولم يذكرها المؤرخان الدبس والشدياق، وجاء ذكرها في المخطوطات العاملية، أن الأمير أحمد المعني جاءها سنة 1077هـ، في أربعة آلاف رجل، لمقاتلة أبي صعب، فقاتلوه وكسروه كسرة عظيمة، وقتلوا من عسكره زهاء مئتي رجل وقتل منهم خمسة رجال" إلا أن محمد جابر آل صفا روى هذه الوقعة بشكل آخر ربما كان أقرب الى المنطق والواقع إذ قال: "حتى إذا... ظهر الوهن في حكومة المعنيين، نهض زعماء العشائر من بني عاملة واجتمعت كلمتهم.. فنظموا صفوفهم وثاروا في سنة 1077هـ - 1666م ثورة رجل واحد، وطردوا عمال أرسلان باشا وفتكوا فيهم، فأرسل الوالي حملة عليهم مستعيناً بجنود آل معن، فنازلوهم في النبطية ووادي الكفور، وكان الفوز للشيعيين".
- وقعة وادي الكفور (1667): ذكرها بعض المؤرخين العامليين مثل السبيتي وآل صفا وآل فقيه (نقلاً عن السبيتي) من دون أن يذكروا أي تفصيل لها، كما لم يذكرها باقي المؤرخين أمثال الشهابي والدويهي والدبس والشدياق، وربما كانت امتداداً لوقعة النبطية كما صنّفها الاستاذ آل صفا مبيّناً أن الحملة التي أرسلها الوالي، بالتعاون مع المعنيين، قاتلت العامليين "في النبطية ووادي الكفور".
- معارك أخرى: وقد أشار بعض المؤرخين العامليين الى معارك أخرى جرت في هذه الفترة من دون أن يسموها، فقال الشيخ أحمد رضا، بعد ذكره لوقعتي أنصار والنبطية: "ثم استعرت نار الوقائع بين أمراء لبنان ومشايخ المتاولة فكانت بينهم سجالاً" وقال آل صفا بعد ذكره لوقعة النبطية: "ودامت المناوشات نحو ثلاثين سنة، حتى سنة 1109هـ = 1697م" وقد تبعهم في ذلك بعض المؤرخين العامليين مثل آل فقيه وسواه، إلا أننا لا نجد لذلك أثراً عند مؤرخين أمثال الشهابي والدويهي والدبس والشدياق، وربما كان مرد ذلك هو أن جبل عامل لم يكن في هذه الفترة تحت سلطة المعنيين مباشرة.
2 - في العهد الشهابي:
سقطت الإمارة المعنية عام 1697 وخلفتها الإمارة الشهابية حيث تولى الأمير بشير الأول الحكم فيها، وعلى الرغم من تبدّل الحكام في هذه الإمارة، فإن الخط السياسي العام الذي اتبعه زعماء جبل عامل تجاه الحكم الشهابي لم يتبدل عما كان عليه تجاه الحكم المعني، إذ أنه، كما في عهد الأمراء المعنيين الذين خلفوا فخر الدين الثاني، لم يكن للأمراء الشهابيين في جبل عامل حكم ثابت مستقر، وعلى الرغم من أن كلاً من هؤلاء الأمراء كان يطمح الى أن يتولى حكم هذا الجبل، بضمان من والي صيدا، فغالباً ما كانت مهمتهم تنحصر في معاونة هؤلاء الولاة في جباية الأموال والضرائب المترتبة على العامليين، إذا تمنع هؤلاء عن دفعها، وهكذا نرى بشير الأول، بعد عام واحد من توليه الحكم، أي عام ،1698 يلبي دعوة أرسلان باشا المطرجي والي صيدا، ويزحف الى جبل عامل بجيش قوامه 8 آلاف مقاتل، ليخضع أحد زعمائه الشيخ مشرف بن علي الصغير، الذي خرج على الوالي وقتل بعض أعوانه واعتصم في قريته (المزيرعة، أو المزرعة، أو مزرعة مشرف)، فيقاتله الأمير فيها وينتصر عليه ويقتل عدداً كبيراً من جماعته، ثم يقبض عليه وعلى أخيه محمد بن علي الصغير ويسوقهما الى الوالي الذي يسجنهما، وتطلق يد الأمير مقابل ذلك في صفد ومقاطعات جبل عامل (بلاد بشارة ومقاطعة الشقيف وإقليمي الشومر والتفاح). وتسلّم الأمير حيدر عام 1706 حكم الإمارة الشهابية، فكان أول عمل قام به هو محاولة السيطرة على جبل عامل، وكان بشير باشا الذي أصبح والياً على صيدا، قد أعاد الشيخ مشرف الى حكم مقاطعته في بلاد بشارة (وكان أرسلان باشا قد سبق وأطلق سراحه)، والتمس الأمير حيدر من بشير باشا حكم جبل عامل بعد أن أغراه بالمال، فأقطعه أياه، وفي عام 1707 زحف الأمير حيدر على جبل عامل بجيش قدّره بعض المؤرخين بـ12 ألف مقاتل، (يزبك، أوراق لبنانية، حزيران ،1956 ص 277)، وكان آل الصغير قد اعتصموا، مع حلفائهم من آل منكر حكام إقليمي الشومر والتفاح وآل صعب حكام الشقيف، في بلدة النبطية، فهاجمها الأمير حيدر، ودارت بين الفريقين معركة انتهت بانتصار الأمير الشهابي واحتلاله للبلاد، حيث نصب عليها متسلماً من قبله هو الشيخ محمود أبو هرموش، بينما تشتت آل الصغير وحلفاؤهم تاركين حكم الجبل للأمير الشهابي.
ولم يكن الحال بين الشهابيين والعامليين في عهد الأمير ملحم (1732 - 1754) بأفضل منه عما كانت عليه مع من سلفه من حكام هذه الإمارة، إذ استهل الأمير ملحم المذكور حكمه بإظهار طموحه للتوسع نحو مقاطعات جبل عامل، ففي عام 1734 طلب من سليمان باشا العظم والي صيدا أن يقطعه بلاد بشارة، وكان زعماؤها، من آل الصغير، قد خرجوا عن طاعة الوالي وامتنعوا عن أداء الأموال الأميرية إليه، فأقطعه إياها، فقام الأمير ملحم بحملة على هذه البلاد حيث نازل زعماءها في بلدة (يارون) فهزمهم، وفرّ آل الصغير الى القنيطرة.
ويذكر دي لان De Lane قنصل فرنسا بصيدا عام 1734 هذه الوقعة في رسالة وجهها بتاريخ 20 آب من العام نفسه الى الكونت دي موريباس C. De Maurepas وزير الدولة الفرنسية، فيقول "ان الصدر الأعظم حانق بسبب رفض مشايخ المتاولة دفع الضرائب وبعض الأموال المترتبة عليهم له ولحكامه، وقد كلف سليمان باشا (والي صيدا) وأمير الدروز - يقصد الأمير ملحم - مهمة حصار قلاعهم وتصفيتهم جميعاً، وهكذا دخل الأمير، عند تلقيه هذا الأمر، بلاد المتاولة، بجيش مقداره خمسة عشر ألف مقاتل حيث نشر النار والدماء في كل مكان حل فيه".
Ismail Adel, ********s diplomatiques et consulaires, T, 2 p77
وفي عام 1743 خرج المناكرة والصعبية على الوالي سعد الدين باشا العظيم، والي صيدا فأرسل الأمير ملحماً لتأديبهم، ودارت بين الفريقين معركة ضارية في جوار قرية (أنصار) انتهت بهزيمة العامليين ولجوئهم الى داخل القرية، حيث أقدم الأمير ملحم على اقتحامها وإحراقها، ثم عاد بعسكره الى دير القمر، بعد أن خسر العامليون في هذه المعركة نحو ألف وستمئة قتيل، كما قبض الأمير على أربعة من مشايخهم.
وفي عام 1750 اعتدى المناكرة على إقليم جزين وكان داخلاً في حكم الجنبلاطيين حلفاء الشهابيين، فقتلوا اثنين من أتباع الشيخ بشير جنبلاط حليف الأمير ملحم، فحشد هذا الأخير جيشاً وسار لقتالهم حيث لقيهم في قرية (جباع الحلاوة) فقاتلهم وقتل منهم نحو ثلاثمئة رجل.
مرت ولاية الأميرين منصور وأحمد الشهابيين (1754 - 1763) ثم ولاية الأمير منصور منفرداً (1763 - 1770)، على الإمارة الشهابية من دون حوادث ذات أهمية بين العامليين والشهابيين، وذلك لأن الأمراء الشهابيين كانوا منشغلين في هذه الفترة بالخصومات والصراعات الداخلية فيما بينهم، مما قيض للعامليين نوعاً من الاستقلال الذاتي والتصرّف الحرّ، إلا أن ذلك لم يمنعهم من التحسّب واليقظة، خصوصاً وقد لقوا في خلال انتفاضاتهم المتعددة على الحكم العثماني، وبالتالي على الحكمين المعني والشهابي، من الشدة والقسوة ما جعلهم لا يطمئنون إلا لحكم زعمائهم، وكان عليهم، في الوقت نفسه، أن يزيدوا من قواهم الذاتية من جهة، وأن يبحثوا عن تحالفات عسكرية تتيح لهم الصمود والمنفعة من جهة أخرى، وفي هذه الأثناء، قام في العامليين زعيم وحد صفوفهم وجمع كلمتهم هو الشيخ ناصيف النصار من آل الصغير الذي وصفه "شيفالييه دي توليس" Chevalier de Taulés قنصل فرنسا بصيدا في رسالة منه الى "الدوق ديغويون" Duc D'Aiguillon بتاريخ 28 حزيران 1772 بأنه "الشيخ الكبير الذي اشتهر في كل سوريا بشجاعته".
Ismail, ********s, T. 2 p240
كما قام في ديار عكا وصفد حاكم طموح وقدير ومتحفز هو الشيخ ظاهر بن عمر بن أبي زيدان، المعروف بظاهر العمر، تسلم تلك الديار من والي صيدا بشير باشا في أول عهده بالولاية عام ،1706 وأخذ يرقب، بعين حذرة ويقظة، ما يجري في شمال بلاده وجنوبها. ففي مصر حاكم يحلم بالتوسع شمالاً، نحو بلاد الشام، ويطمح للتعاون مع حاكم قدير في فلسطين يسهل له دخول تلك البلاد، هو علي بك الكبير وقائده محمد بك أبو الذهب، وفي جبل عامل مشايخ عانوا الكثير من الظلم العثماني المتحالف مع أمراء آل معن ومن بعدهم آل شهاب، فأضحوا تواقين للتحالف مع قوة تساندهم وتعزز قوتهم وتشد أزرهم، وهكذا التقى في ساحة فلسطين وعلى امتدادها شمالاً حتى صيدا، ثلاث قوى تكمل بعضها، هي قوة المصريين والصفديين والعامليين، وقد بلغ هذا التحالف أوجه عام 1771 مما حدا بدراغون Conféderation النائب التجاري للجالية الفرنسية بصيدا، الى تسميته بـ"اتحاد كونفدرالي" Conféderation بين مصر والشيخ ظاهر العمر والمتاولة ضد السلطان، وذلك في رسالة بعث بها الى الدوق ديغويون D'Aiguillon وزير الدولة الفرنسية بتاريخ 2 أيار 1771.
Ismail, ********s, T. 2 p169
إلا أن التحالف بين العامليين والشيخ ظاهر العمر لم يكن سهلاً في بدايته، فقد سبقه صراع مسلح بين شيخ مشايخ العامليين ناصيف النصار والشيخ ظاهر، حيث تقاتلا في معارك عدة أهمها معركة تربيخا عام 1750 التي هزم فيها ظاهر، وانتهت الحرب بين الفريقين بمعاهدة تحالف ودفاع وقعت بينهما في عكا عام 1767 "وحلفا اليمين على السيف والمصحف أن يكونا وشعباهما متضامنين متصافيين ما دامت الأرض والسماء"، وكان هذا التحالف قد تم بناء لوساطة بين المتخاصمين قام بها الأمراء الشهابيون وحلفاؤهم المشايخ الجنبلاطيون، وكانوا على علاقة حسنة بالفريقين في ذلك الحين. يحدثنا عن ذلك قنصل فرنسا في صيدا "كليرامبو" Clairambault في رسالة بعث بها الى وزير الدولة الفرنسية "الدوق دي براسلان" Duc De Braslin بتاريخ 23 نيسان 1767 يقول فيها "الشيخ ناصيف النصار هو اليوم شيخ مشايخ المتاولة الذين يقيمون من صيدا حتى أرض عكا، وهو يحمي الشيخ عثمان ابن الشيخ ظاهر العمر، الذي لجأ إليه - وكان الشيخ عثمان قد خرج عن طاعة أبيه فلجأ الى الشيخ ناصيف - وبما أن الحرب في هذه البلاد تهدأ ثم تتجدد كل ثلاثة أشهر، فإنها تنتهي بخراب أحوال الفلاحين، وبإعطاء المبرر لمشايخهم لتأجيل دفع الضرائب والمستلزمات المالية للوالي. وقد وصل الى هنا - أي الى صيدا - الأمير إسماعيل - أمير وادي التيم - وثلاثة من مشايخ الدروز هم الشيخ علي جنبلاط والشيخ عبد السلام العماد والشيخ كليب النكدي، وهؤلاء يعاضدون الشيخ ناصيف. فعملوا على إحلال الوفاق بينه وبين الشيخ ظاهر العمر".
Ismail, ********s, T2 p150 - 151
ولا يغربن عن بالنا أن هذا الوفاق قد تم في عهد الأمير منصور الشهابي الذي كان كما قيل عنه "لين العريكة لا يخلو من جبانة قليلة". فعمل على إحلال الوفاق محل الخصام بينه وبين العامليين طيلة مدة ولايته، حتى أضحوا يوالونه حقاً.
وما إن تم الوفاق بين الشيخين ناصيف النصار شيخ مشايخ جبل عامل والشيخ ظاهر العمر حاكم صفد وعكا، حتى انقلب هذا الوفاق الى تحالف وطيد، نظراً للعداوة التي كانا يكنانها كلاهما للعثمانيين والشهابيين، وهكذا، ما إن انتهت ولاية الأمير منصور، وخلفه في الحكم ابن أخيه الأمير يوسف، حتى انتفض العامليون مجدداً ضد حكم الوالي العثماني درويش باشا (والي صيدا) وذلك عام ،1771 فرفضوا دفع الأموال الأميرية وطردوا عمال الوالي من ديارهم، وأظهروا البغضاء للأمير يوسف الشهابي حليف هذا الأخير، فأقدموا على مهاجمة بلدة مرجعيون وقرى الحولة وهي، في ذلك الحين، من أعمال خاله الأمير اسماعيل أمير وادي التيم، فجهز الأمير يوسف لقتالهم جيشاً قدّر بعشرين ألف مقاتل من مشاة وخيالة، وأرسل الى خاله ليلاقيه بمن عنده من المقاتلين، ثم نهض من عاصمته دير القمر باتجاه صيدا حيث عسكر عند جسر الأولي، فبات ليلته هناك، وانطلق في اليوم التالي الى "جباع الحلاوي" حيث تحشد آل نمر وأنصارهم من آل الصغير وآل صعب، فلما عرف هؤلاء بضخامة الجيش الذي جاء به الأمير لقتالهم، تفرقوا ورحلوا عن البلاد من دون قتال، بينما وصل الأمير الى "جباع" فأحرقها كما أحرق جميع قرى إقليم التفاح.
يتبع