شهيدالله
11-05-2010, 10:22 AM
تعريف الفقه المقارن
كتاب الاصول العامة للفقة المقارن
- السيد محمد تقي الحكيم –
: يطلق الفقه المقارن - أولا - ويراد به : جمع الآراء المختلفة في المسائل الفقهية على صعيد واحد دون اجراء موازنة بينها .
ويطلق ثانيا على : جمع الآراء الفقهية المختلفة وتقييمها والموازنة بينها بالتماس أدلتها وترجيح بعضها على بعض وهو بهذا المعنى أقرب إلى ما كان يسميه الباحثون من القدامى بعلم الخلاف أو علم الخلافيات كما يتضح ذلك من تعريفهم له . تعريف علم الخلاف : فقد عرفه تسهيل الوصول إلى علم الأصول انه
( علم يقتدر به على حفظ الأحكام الفرعية المختلف فيها بين الأئمة أو هدمها بتقرير الحجج الشرعية وقوادح الأدلة
والخلافي كما يقول في المصدر نفسه هو
: ( اما مجيب يحفظ وضعا شرعيا أو سائل يهدم ذلك
وجهات الالتقاء بينهما انما هي في عرض آراء الفقهاء والموازنة بينها وان كانا يفترقان في قربهما من الموضوعية في البحث وبعدهما عنها . فالخلافي كما يوحي به قولهم :
( اما مجيب يحفظ وضعا شرعيا أو سائل يهدم ذلك ) يفترض آراء مسبقة يراد له تقريرها وتعزيزها وهدم ما عداها فوظيفته ‹ وظيفة جدلي لا يهمه الواقع بقدر ما يهمه انتصاره في مقام المجادلة والخصومة أو وظيفة محام يضع نفسه طرفا في الدعوى للدفاع عمن يتوكل عنه ولا يهمه بعد ذلك أن يكون موكله قريبا من الواقع أو بعيدا عنه . بينما يأخذ المقارن وظيفة الحاكم الذي يعتبر نفسه مسؤولا عن فحص جميع الوثائق وتقييمها ، والتماس أقربها للواقع تمهيدا لاصدار حكمه ولا يهمه ان يلتقي ما ينتهي إليه مع ما لديه من مسبقات فقهية ، وربما عمد إلى تصحيح آرائه السابقة على ضوء ما ينتهي إليه .
فوائد الفقه المقارن : ومن هذه المقارنة بينهما تتضح فوائد الفقه المقارن وأهمها
: أ - محاولة البلوغ إلى واقع الفقه الاسلامي من أيسر طرقه وأسلمها وهي لا تتضح عادة إلا بعد عرض مختلف وجهات النظر فيها وتقييمها على أساس موضوعي
. ب - العمل على تطوير الدراسات الفقهية والأصولية والاستفادة من نتائج التلاقح الفكري في أوسع نطاق لتحقيق هذا الهدف
. ج - ثماره في إشاعة الروح الرياضية بين الباحثين ومحاولة القضاء على مختلف النزعات العاطفية وابعادها عن مجالات البحث العلمي
. د - تقريب شقة الخلاف بين المسلمين والحد من تأثير العوامل المفرقة التي كان من أهمها وأقواها جهل علماء بعض المذاهب بأسس وركائز البعض الآخر مما ترك المجال مفتوحا أمام تسرب الدعوات المغرضة في تشويه مفاهيم بعضهم والتقول عليهم بما لا يؤمنون به . موضوعه : ويراد بالموضوع هنا ما يبحث في العلم عن عوارضه على اختلافها من ذاتية وغريبة وانما وسعنا في تعريف الموضوع ولم نقصره على خصوص عوارضه الذاتية كما صنع القدماء ولم نأخذ بوجهة نظر صاحب الكفاية من تعميمه الذاتي إلى ما لم تكن فيه واسطة عروضية لعلمنا أن هذا التضييق على التقديرين معا لا يفي بواقع موضوعات المسائل لاي علم من العلوم ولا يسلم من إشكالات عدم الاطراد والانعكاس . وموضوعنا في الفقه المقارن - وهو الذي يجمع موضوعات مسائله –
هو : آراء المجتهدين في المسائل الفقهية من حيث تقييمها والموازنة بينها وترجيح بعضها على بعض . وانما قيدنا الموضوع بآراء المجتهدين لنبعد من طريقنا آراء المقلدة الذين لا يعكسون سوى الصدى لمراجعهم في التقليد ونقتصر في بحوثنا هذه على ذوي الأصالة في الرأي من المراجع أنفسهم سواء كانوا أئمة مذاهب أم غيرهم من الاعلام ومن تحديدنا لموضوعه يتضح : الفرق بينه وبين علم الفقه : فموضوع علم الفقه - فيما نرى - هو نفس الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية من حيث التماسها من أدلتها وهذا موضوعه آراء المجتهدين فيها من حيث الموازنة والتقييم ومن هذا الاختلاف في طبيعة الموضوع نشأ بينهما فارق منهجي فالفقيه غير ملزم بعرض الآراء الأخرى ومناقشتها وانما يكتفي بعرض أدلته الخاصة التي التمس منها الحكم بخلاف المقارن والخلافي فهما ملزمان باستعراض مختلف الآراء والأدلة وإعطاء الرأي فيها فالفارق بينهما اذن فارق جذري وإن تشابها في طبيعة البحوث .
أصول المقارنة
: ونريد بها هنا الركائز التي يجب ان يتوفر على إعدادها وتمثلها الباحث المقارن ليصح له اقتحام هذه المجالات والخوض في مختلف مباحثها وأهمها
: أ - الموضوعية : ونقصد منها هنا أن يكون المقارن مهيأ من وجهة نفسية للتحلل من تأثير رواسبه ، والخضوع لما تدعو إليه الحجة عند المقارنة سواء وافق ما تدعو إليه ما يملكه من مسبقات أم خالفها ! وهذا لا يتأتى عادة للباحثين إذا لم يمروا بدور معاناة طويلة للتجربة في أمثال هذه المجالات على أن يضع نفسه بعد هذه المعاناة موضع اختبار ليرى مدى قدرته على الانسجام مع واقع هذه التجربة وذلك بتعريض بعض مسبقاته لنتائج تجربته كأن ينظر مدى استطاعته وقدرته على الايمان بحقيقة كان يؤمن بخلافها لمجرد أن طبيعة البحث العلمي ساقته إلى نتائجها وبخاصة إذا كانت تمس بعض الجوانب العقيدية أو العاطفية من نفسه ثم ينظر مدى قوته على مواجهة الرأي العام المؤمن بخلافها بإعلان هذه الحقيقة أمامه . فإذا كان بهذا المستوى من القدرة على التحكم بعواطفه وتغليب جانب العقل عليها كان أهلا لان يخوض الحديث في أمثال هذه الميادين .
. ب - معرفة أسباب الاختلاف بين الفقهاء : وهي من أهم الأسس التي يجب ان يرتكز عليها المقارن وربما كانت أهمها على الاطلاق إن لم تكن المقارنة منحصرة في مجالاتها الخاصة كما سيتضح فيما بعد ولقد ألفت كتب في تعدادها وشرحها أمثال كتاب ( أسباب اختلاف الفقهاء ) لعلي الخفيف ، و ( الانصاف ) للبطليموسي الأندلسي وغيرهما . وقد أوجز ابن رشد في مقدمة كتابه ( بداية المجتهد ونهاية المقتصد ) هذه الأسباب وحصرها في ستة : ( أحدها : تردد الألفاظ بين هذه الطرق الأربع أعني بين أن يكون اللفظ عاما يراد به الخاص أو خاصا يراد به العام أو خاصا يراد به الخاص أو يكون له دليل خطاب أو لا يكون )
. ( والثاني : الاشتراك الذي في الألفاظ وذلك اما في اللفظ المفرد كلفظ القرء الذي ينطلق على الأطهار وعلى الحيض وكذلك لفظ الامر هل يحمل على الوجوب أو على الندب ولفظ النهي هل يحمل على التحريم أو الكراهية ، واما في اللفظ المركب مثل قوله تعالى : ( إلا الذين تابوا ) فإنه يحتمل ان يعود على الفاسق فقط ويحتمل ان يعود على الفاسق والشاهد فتكون التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف )
. ( والثالث : اختلاف الاعراب )
. ( والرابع : تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز التي هي إما الحذف وإما الزيادة وإما التأخير وإما تردده على الحقيقة أو الاستعارة )
. ( والخامس : إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة مثل اطلاق الرقبة في العتق تارة وتقييدها بالايمان تارة )
. ( والسادس : التعارض في الشيئين في جميع أصناف الألفاظ التي يتلقى منها الشرع الاحكام بعضها مع بعض وكذلك التعارض الذي يأتي في الأفعال ، أو في الاقرارات أو تعارض القياسات أنفسها ، أو التعارض الذي يتركب من هذه الأصناف الثلاثة أعني معارضة القول للفعل أو للاقرار أو للقياس ومعارضة الفعل للاقرار أو للقياس ومعارضة الاقرار للقياس. ولكن هذه الأسباب التي اقتبسها غير واحد من الباحثين المتأخرين وركزوا عليها لم تستوف مناشئ الاختلاف من جهة ولم تعرض إلى جذورها الأساسية من جهة أخرى وكلما عرضته منها أسباب تتصل بالاختلاف في تنقيح الصغريات لحجية الظهور - أعني ظهور الكتاب والسنة - أو لحجية القياس ، وكأن الكبريات ليس فيها مجال لاخذ ورد مع أن الخلاف فيما يتصل بالكبريات مما لا يمكن تجاهله . فالأنسب ان يستوعب الحديث في الأسباب إلى ما يتسع لهما معا ، وهذا ما يدعونا إلى أن نقسمها إلى قسمين
: 1 - الخلاف في الأصول والمباني العامة التي يعتمدونها في استنباطهم ، كالخلاف في حجية أصالة الظهور الكتابي ، أو الاجماع ، أو القياس ، أو الاستصحاب ، أو غيرها من المباني مما يقع موقع الكبرى من قياس الاستنباط
. 2 - اختلافهم في مدى انطباق هذه الكبريات على صغرياتها بعد اتفاقهم على الكبرى سواء كان منشأ الاختلاف اختلافا في الضوابط التي تعطى لتشخيص الصغريات بوجهة عامة أم ادعاء وجود قرائن خاصة لها مدخلية في التشخيص لدى بعض وإنكارها لدى آخرين كأن يستفيد أحدهم من آية الوضوء مثلا - بعد اتفاقهم على حجية الكتاب - ان التحديد فيها انما هو تحديد لطبيعة الغسل وبيان لكيفيته فيفتى تبعا لذلك بالوضوء المنكوس بينما يستفيد الآخرون انه تحديد للمغسول وليس فيه أية دلالة على بيان كيفية الغسل أي أنه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة فلا بد من التماس بيان الكيفية من الرجوع إلى الأدلة الأخرى كالوضوءات البيانية وغيرها . وفي هذا القسم تنتظم جميع تلكم المناشئ التي ذكرها ابن رشد ونظائرها مما لم يتعرض له كمباحث المفاهيم والمشتقات ومعاني الحروف وما يشخص صغريات حجية العقل كباب الملازمات العقلية بما فيه من بحوث مقدمة الواجب واجتماع الأمر والنهي والاجزاء واقتضاء الامر بالشئ ، على النهي عن ضده وغيرها من المباحث المهمة
. ج - أن يكون على درجة من الخبرة بأصول الاحتجاج ، ومعرفة مفاهيم الحجج ، وأدلتها ، ومواقع تقديم بعضها على بعض ، ليصح له الخوض في مجالات الموازنة بين الآراء وتقديم أقربها إلى الحجية وأقواها دليلا يقول ابن خلدون
- وهو يتحدث عن ( الخلافي ) - ووظيفته بالطبع وظيفة المقارن من حيث الأساس - : ( ولا بد لصاحبه - يعني علم الخلاف - من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الاحكام كما يحتاج إليها المجتهد لان المجتهد يحتاج إليها للاستنباط وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته وإذا كان الخلافي يحتاج إلى الاجتهاد لحفظ مسائله والدفاع عنها فان المقارن أكثر احتياجا إليها بعد أن وفرنا له صفة القضاء والحكومة بين الآراء ومن شأن القاضي ان يحيط بحيثيات الحكم والأسس التي يرتكز عليها لدى الموازنة تمهيدا لاصدار حكمه النهائي في الموضوع الحاجة إلى مدخل لدراسة الفقه المقارن ومن هنا يتضح مدى احتياجنا - متى أردنا لأنفسنا الموضوعية كمقارنين - إلى مدخل لدراسة الفقه المقارن يتكفل لنا بعرض الأسس التي سوف نرتكز عليها في مقام الموازنة والتقييم أي ان نبحث الأصول والمباني العامة التي كان يرتكز عليها المجتهدون في استنباطهم للاحكام على أساس من المقارنة . والا فان من الظلم ان نفترض لأنفسنا أراء مسبقة فيها ثم نحاول ان نجعلها منطلقا للمقارنة واصدار الحكم على أساسها من دون ان نعمد على التعرف على وجهات نظر الآخرين فيها وربما كان الحق في جانبهم في الكثير منها . وفي اعتقادي ان الحديث عن هذه الأسس والمباني - كمدخل لدراسة الفقه المقارن - ضرورة تقتضيها طبيعة المقارنة بل لا تكون المقارنة الا من خلال ما ينتهي إليه المقارن منها .
_______________
كتاب الاصول العامة للفقة المقارن
- السيد محمد تقي الحكيم –
: يطلق الفقه المقارن - أولا - ويراد به : جمع الآراء المختلفة في المسائل الفقهية على صعيد واحد دون اجراء موازنة بينها .
ويطلق ثانيا على : جمع الآراء الفقهية المختلفة وتقييمها والموازنة بينها بالتماس أدلتها وترجيح بعضها على بعض وهو بهذا المعنى أقرب إلى ما كان يسميه الباحثون من القدامى بعلم الخلاف أو علم الخلافيات كما يتضح ذلك من تعريفهم له . تعريف علم الخلاف : فقد عرفه تسهيل الوصول إلى علم الأصول انه
( علم يقتدر به على حفظ الأحكام الفرعية المختلف فيها بين الأئمة أو هدمها بتقرير الحجج الشرعية وقوادح الأدلة
والخلافي كما يقول في المصدر نفسه هو
: ( اما مجيب يحفظ وضعا شرعيا أو سائل يهدم ذلك
وجهات الالتقاء بينهما انما هي في عرض آراء الفقهاء والموازنة بينها وان كانا يفترقان في قربهما من الموضوعية في البحث وبعدهما عنها . فالخلافي كما يوحي به قولهم :
( اما مجيب يحفظ وضعا شرعيا أو سائل يهدم ذلك ) يفترض آراء مسبقة يراد له تقريرها وتعزيزها وهدم ما عداها فوظيفته ‹ وظيفة جدلي لا يهمه الواقع بقدر ما يهمه انتصاره في مقام المجادلة والخصومة أو وظيفة محام يضع نفسه طرفا في الدعوى للدفاع عمن يتوكل عنه ولا يهمه بعد ذلك أن يكون موكله قريبا من الواقع أو بعيدا عنه . بينما يأخذ المقارن وظيفة الحاكم الذي يعتبر نفسه مسؤولا عن فحص جميع الوثائق وتقييمها ، والتماس أقربها للواقع تمهيدا لاصدار حكمه ولا يهمه ان يلتقي ما ينتهي إليه مع ما لديه من مسبقات فقهية ، وربما عمد إلى تصحيح آرائه السابقة على ضوء ما ينتهي إليه .
فوائد الفقه المقارن : ومن هذه المقارنة بينهما تتضح فوائد الفقه المقارن وأهمها
: أ - محاولة البلوغ إلى واقع الفقه الاسلامي من أيسر طرقه وأسلمها وهي لا تتضح عادة إلا بعد عرض مختلف وجهات النظر فيها وتقييمها على أساس موضوعي
. ب - العمل على تطوير الدراسات الفقهية والأصولية والاستفادة من نتائج التلاقح الفكري في أوسع نطاق لتحقيق هذا الهدف
. ج - ثماره في إشاعة الروح الرياضية بين الباحثين ومحاولة القضاء على مختلف النزعات العاطفية وابعادها عن مجالات البحث العلمي
. د - تقريب شقة الخلاف بين المسلمين والحد من تأثير العوامل المفرقة التي كان من أهمها وأقواها جهل علماء بعض المذاهب بأسس وركائز البعض الآخر مما ترك المجال مفتوحا أمام تسرب الدعوات المغرضة في تشويه مفاهيم بعضهم والتقول عليهم بما لا يؤمنون به . موضوعه : ويراد بالموضوع هنا ما يبحث في العلم عن عوارضه على اختلافها من ذاتية وغريبة وانما وسعنا في تعريف الموضوع ولم نقصره على خصوص عوارضه الذاتية كما صنع القدماء ولم نأخذ بوجهة نظر صاحب الكفاية من تعميمه الذاتي إلى ما لم تكن فيه واسطة عروضية لعلمنا أن هذا التضييق على التقديرين معا لا يفي بواقع موضوعات المسائل لاي علم من العلوم ولا يسلم من إشكالات عدم الاطراد والانعكاس . وموضوعنا في الفقه المقارن - وهو الذي يجمع موضوعات مسائله –
هو : آراء المجتهدين في المسائل الفقهية من حيث تقييمها والموازنة بينها وترجيح بعضها على بعض . وانما قيدنا الموضوع بآراء المجتهدين لنبعد من طريقنا آراء المقلدة الذين لا يعكسون سوى الصدى لمراجعهم في التقليد ونقتصر في بحوثنا هذه على ذوي الأصالة في الرأي من المراجع أنفسهم سواء كانوا أئمة مذاهب أم غيرهم من الاعلام ومن تحديدنا لموضوعه يتضح : الفرق بينه وبين علم الفقه : فموضوع علم الفقه - فيما نرى - هو نفس الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية من حيث التماسها من أدلتها وهذا موضوعه آراء المجتهدين فيها من حيث الموازنة والتقييم ومن هذا الاختلاف في طبيعة الموضوع نشأ بينهما فارق منهجي فالفقيه غير ملزم بعرض الآراء الأخرى ومناقشتها وانما يكتفي بعرض أدلته الخاصة التي التمس منها الحكم بخلاف المقارن والخلافي فهما ملزمان باستعراض مختلف الآراء والأدلة وإعطاء الرأي فيها فالفارق بينهما اذن فارق جذري وإن تشابها في طبيعة البحوث .
أصول المقارنة
: ونريد بها هنا الركائز التي يجب ان يتوفر على إعدادها وتمثلها الباحث المقارن ليصح له اقتحام هذه المجالات والخوض في مختلف مباحثها وأهمها
: أ - الموضوعية : ونقصد منها هنا أن يكون المقارن مهيأ من وجهة نفسية للتحلل من تأثير رواسبه ، والخضوع لما تدعو إليه الحجة عند المقارنة سواء وافق ما تدعو إليه ما يملكه من مسبقات أم خالفها ! وهذا لا يتأتى عادة للباحثين إذا لم يمروا بدور معاناة طويلة للتجربة في أمثال هذه المجالات على أن يضع نفسه بعد هذه المعاناة موضع اختبار ليرى مدى قدرته على الانسجام مع واقع هذه التجربة وذلك بتعريض بعض مسبقاته لنتائج تجربته كأن ينظر مدى استطاعته وقدرته على الايمان بحقيقة كان يؤمن بخلافها لمجرد أن طبيعة البحث العلمي ساقته إلى نتائجها وبخاصة إذا كانت تمس بعض الجوانب العقيدية أو العاطفية من نفسه ثم ينظر مدى قوته على مواجهة الرأي العام المؤمن بخلافها بإعلان هذه الحقيقة أمامه . فإذا كان بهذا المستوى من القدرة على التحكم بعواطفه وتغليب جانب العقل عليها كان أهلا لان يخوض الحديث في أمثال هذه الميادين .
. ب - معرفة أسباب الاختلاف بين الفقهاء : وهي من أهم الأسس التي يجب ان يرتكز عليها المقارن وربما كانت أهمها على الاطلاق إن لم تكن المقارنة منحصرة في مجالاتها الخاصة كما سيتضح فيما بعد ولقد ألفت كتب في تعدادها وشرحها أمثال كتاب ( أسباب اختلاف الفقهاء ) لعلي الخفيف ، و ( الانصاف ) للبطليموسي الأندلسي وغيرهما . وقد أوجز ابن رشد في مقدمة كتابه ( بداية المجتهد ونهاية المقتصد ) هذه الأسباب وحصرها في ستة : ( أحدها : تردد الألفاظ بين هذه الطرق الأربع أعني بين أن يكون اللفظ عاما يراد به الخاص أو خاصا يراد به العام أو خاصا يراد به الخاص أو يكون له دليل خطاب أو لا يكون )
. ( والثاني : الاشتراك الذي في الألفاظ وذلك اما في اللفظ المفرد كلفظ القرء الذي ينطلق على الأطهار وعلى الحيض وكذلك لفظ الامر هل يحمل على الوجوب أو على الندب ولفظ النهي هل يحمل على التحريم أو الكراهية ، واما في اللفظ المركب مثل قوله تعالى : ( إلا الذين تابوا ) فإنه يحتمل ان يعود على الفاسق فقط ويحتمل ان يعود على الفاسق والشاهد فتكون التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف )
. ( والثالث : اختلاف الاعراب )
. ( والرابع : تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز التي هي إما الحذف وإما الزيادة وإما التأخير وإما تردده على الحقيقة أو الاستعارة )
. ( والخامس : إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة مثل اطلاق الرقبة في العتق تارة وتقييدها بالايمان تارة )
. ( والسادس : التعارض في الشيئين في جميع أصناف الألفاظ التي يتلقى منها الشرع الاحكام بعضها مع بعض وكذلك التعارض الذي يأتي في الأفعال ، أو في الاقرارات أو تعارض القياسات أنفسها ، أو التعارض الذي يتركب من هذه الأصناف الثلاثة أعني معارضة القول للفعل أو للاقرار أو للقياس ومعارضة الفعل للاقرار أو للقياس ومعارضة الاقرار للقياس. ولكن هذه الأسباب التي اقتبسها غير واحد من الباحثين المتأخرين وركزوا عليها لم تستوف مناشئ الاختلاف من جهة ولم تعرض إلى جذورها الأساسية من جهة أخرى وكلما عرضته منها أسباب تتصل بالاختلاف في تنقيح الصغريات لحجية الظهور - أعني ظهور الكتاب والسنة - أو لحجية القياس ، وكأن الكبريات ليس فيها مجال لاخذ ورد مع أن الخلاف فيما يتصل بالكبريات مما لا يمكن تجاهله . فالأنسب ان يستوعب الحديث في الأسباب إلى ما يتسع لهما معا ، وهذا ما يدعونا إلى أن نقسمها إلى قسمين
: 1 - الخلاف في الأصول والمباني العامة التي يعتمدونها في استنباطهم ، كالخلاف في حجية أصالة الظهور الكتابي ، أو الاجماع ، أو القياس ، أو الاستصحاب ، أو غيرها من المباني مما يقع موقع الكبرى من قياس الاستنباط
. 2 - اختلافهم في مدى انطباق هذه الكبريات على صغرياتها بعد اتفاقهم على الكبرى سواء كان منشأ الاختلاف اختلافا في الضوابط التي تعطى لتشخيص الصغريات بوجهة عامة أم ادعاء وجود قرائن خاصة لها مدخلية في التشخيص لدى بعض وإنكارها لدى آخرين كأن يستفيد أحدهم من آية الوضوء مثلا - بعد اتفاقهم على حجية الكتاب - ان التحديد فيها انما هو تحديد لطبيعة الغسل وبيان لكيفيته فيفتى تبعا لذلك بالوضوء المنكوس بينما يستفيد الآخرون انه تحديد للمغسول وليس فيه أية دلالة على بيان كيفية الغسل أي أنه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة فلا بد من التماس بيان الكيفية من الرجوع إلى الأدلة الأخرى كالوضوءات البيانية وغيرها . وفي هذا القسم تنتظم جميع تلكم المناشئ التي ذكرها ابن رشد ونظائرها مما لم يتعرض له كمباحث المفاهيم والمشتقات ومعاني الحروف وما يشخص صغريات حجية العقل كباب الملازمات العقلية بما فيه من بحوث مقدمة الواجب واجتماع الأمر والنهي والاجزاء واقتضاء الامر بالشئ ، على النهي عن ضده وغيرها من المباحث المهمة
. ج - أن يكون على درجة من الخبرة بأصول الاحتجاج ، ومعرفة مفاهيم الحجج ، وأدلتها ، ومواقع تقديم بعضها على بعض ، ليصح له الخوض في مجالات الموازنة بين الآراء وتقديم أقربها إلى الحجية وأقواها دليلا يقول ابن خلدون
- وهو يتحدث عن ( الخلافي ) - ووظيفته بالطبع وظيفة المقارن من حيث الأساس - : ( ولا بد لصاحبه - يعني علم الخلاف - من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الاحكام كما يحتاج إليها المجتهد لان المجتهد يحتاج إليها للاستنباط وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته وإذا كان الخلافي يحتاج إلى الاجتهاد لحفظ مسائله والدفاع عنها فان المقارن أكثر احتياجا إليها بعد أن وفرنا له صفة القضاء والحكومة بين الآراء ومن شأن القاضي ان يحيط بحيثيات الحكم والأسس التي يرتكز عليها لدى الموازنة تمهيدا لاصدار حكمه النهائي في الموضوع الحاجة إلى مدخل لدراسة الفقه المقارن ومن هنا يتضح مدى احتياجنا - متى أردنا لأنفسنا الموضوعية كمقارنين - إلى مدخل لدراسة الفقه المقارن يتكفل لنا بعرض الأسس التي سوف نرتكز عليها في مقام الموازنة والتقييم أي ان نبحث الأصول والمباني العامة التي كان يرتكز عليها المجتهدون في استنباطهم للاحكام على أساس من المقارنة . والا فان من الظلم ان نفترض لأنفسنا أراء مسبقة فيها ثم نحاول ان نجعلها منطلقا للمقارنة واصدار الحكم على أساسها من دون ان نعمد على التعرف على وجهات نظر الآخرين فيها وربما كان الحق في جانبهم في الكثير منها . وفي اعتقادي ان الحديث عن هذه الأسس والمباني - كمدخل لدراسة الفقه المقارن - ضرورة تقتضيها طبيعة المقارنة بل لا تكون المقارنة الا من خلال ما ينتهي إليه المقارن منها .
_______________