خادم الأميرة
04-06-2010, 03:49 AM
الخواجة الطوسي
الخواجة الطوسي:العالم الفيلسوف والداعية
أبو جعفر محمد بن محمد بن الحسن، المعروف بنصير الدين الطوسي، ولد في طوس "قرب نيسابور" في الحادي عشر من جمادى الأولى 597هـ /1209م.
دراسته:
تتلمذ على أبيه محمد بن الحسن في مراحله الدراسية الأولى، ثم درس علوم اللغة من نحو وصرف وأدب بعد دراسته القرآن، وبتوجيه من أبيه درس الرياضيات على كمال الدين محمد المعروف بالحاسب، ثم درس الحديث والأخبار وتوسع في دراسة الحديث على أبيه، كما درس عليه الفقه، ودرس المنطق والحكمة على خاله، والحكيم فاضل بابا أفضل الكاشي الفيلسوف.
وبعد دراسته على خاله، أتقن الطوسي علوم الرياضيات من حساب وهندسة وجبر وهو لا يزال في مطلع شبابه، وفي هذا الصدد يقول عن نفسه: إنه بعد وفاة والده عمل بوصيته في الرحيل إلى أي مكان يلقى فيه أساتذة يستفيد منهم، وكانت نيسابور في ذلك العهد مجمع العلماء ومنتجع الطلاب، فسافر إليها حيث حضر حلقة كل من سراج الدين الضري وقطب الدين الداماد وأبو السعادات الأصفهاني وآخرين غيرهم، كما لقي فيها فريد الدين العطار، كما درس على معين الدين سالم بن بدران المازني المصري الإمامي، وقد أجازه معين الدين في سنة 619هـ.
كما درس على كمال الدين بن يونس الموصلي، وقيل »إنه درس الفقه على كمال الدين هيثم البحراني وعلى العلامة الحلّي، كما أنهما درسا عليه الفلسفة والكلام، كما انصرف إلى دراسة الحكمة والفلسفة فدرسها على الحكيم شمس الدين عبد الحميد بن عيسى الخسرو شاهي تلميذ فريد الدين الداماد، وهو تلميذ فخر الدين الرازي، واشتغل بأكثر علوم الإسلام فسمع الحديث عن الشيخ برهان الدين الهمذاني.
في قلاع الإسماعيلية:
توقف نصير الدين عن الدراسة بدخول المغول بقيادة جنكيز خان إلى نيسابور، حيث اجتاحوا خراسان، وانهزم أمامهم السلطان محمد خوارزم شاه، وانهارت بعده كل مقاومة، وتساقطت المدن واحدة بعد الأخرى، وساد القتل والخراب وشبت الحرائق، وفرّ الناس هائمين على وجوههم لا يلوون على شيء ولا يدرون متى يدركهم الموت، ولكن قلاع الإسماعيليين صمدت في وجه الغزو المغولي لسنوات ولم تستسلم.
لم يكتف المغول بتدمير المدن، بل أعملوا السيف في رقاب الناس، وكان الطوسي من بين الناجين الأربعمئة من أهلها، فهام على وجهه يطلب الملجأ الأمين وهو في الثانية والعشرين من عمره، فلم يجد غير طوس، فقصدها للنجاة بنفسه. وفي طوس عاش الطوسي متألماً متأزماً يعاني قلقاً نفسياً شديداً وخوفاً دائماً على مستقبله الذي يتهدده دمار المغول بين وقت وآخر، وظل فيها كما يبدو زهاء ست سنوات يجاهد خوفه ويكافح قلقه أمام هول الأحداث.
مارس الطوسي في طوس عزلةً قاسيةً على نفسه، كان يسبر خلالها غور الفلسفة، لا سيما مؤلفات الرئيس، فطارت شهرته وذاع صيته وعرفت محاولاته في الميتافيزيقيا والطبيعة والأخلاق والسياسة إلى جانب اهتمامه بعلم الكلام، ما دفع ناصر الدين عبد الرحيم الأشتر الملقب بـ"المحتشم" حاكم قهستان إلى الاحتيال عليه، فدعاه إلى الإقامة عنده، فلقيت هذه الدعوة، كما يقول البعض، هوى في نفس نصير الدين، وكان اتصاله بالإسماعيليين حسب هذا الرأي عن طواعية واختيار، كما يرى كريم أقسرائي، ودليله على ذلك المكانة التي حظي بها الطوسي، حيث كان الوزير المطلق لدى الإسماعيليين، أما د. مصطفى جواد فيعتبر أنّ اتصال نصير الدين كان عن طواعية واختيار أيضاً، لكن اتصاله كان بالإسماعيليين الجدد لا بالإسماعيليين القدماء، ولذلك لا يكون من الإنصاف لهذه العلاقة برأيه أن لا نتهمه بالغلوّ في الدين.
أوردت بعض المصادر أن قدوم الطوسي على قهستان كان عن طريق الإجبار والإكراه، حيث كانت قد صدرت أوامر إلى فدائيي الإسماعيليين باختطاف الطوسي وحمله إلى قلعة آلموت، فترصّده الفدائيون في أطراف بساتين "نيسابور"، وقد تكون طوس، وطلبوا إليه مرافقتهم إلى آلموت، ولكن الطوسي امتنع عن الامتثال لأوامرهم، فهددوه بالقتل وأجبروه على مرافقتهم وعاش هناك سنوات شبه أسير أو سجين، بينما يرى آخرون أن الطوسي قد ذهب مختاراً إلى ناصر الدين، وخلال مقامه عنده حدث ما عكر صفو ودادهما، فنقم عليه ناصر الدين واعتبره سجيناً لديه، ثم أرغمه على مصاحبته إلى (ميمون دز) حيث عاش سجيناً لا يبرح مكانه.
وبقي في أسره حتى أطلق سراحه أخيراً على يد المغول، وهذا ما أكدته الأخبار كما في كتاب "تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام"، حيث يقول إن نصير الدين أطلق من الحبس وأكرمه الديلم لعلمه بعلم النجوم وصار في عداد وزرائهم، وهذا ما أكدته شهادة الطوسي نفسه في آخر شرحه للإشارات الذي ألّفه وهو في قلاع الإسماعيليين، ويرثي فيه حالته ويعبر عن تململه وبرمه من الحياة ويعبر فيه عن آلامه حيث يقول: "وقمت أكثرها في حال صعب، لا يمكن أصعب منها حال، ورسمت أغلبها في مدة كدورة بال، بل في أزمنة يكون كل جزء منها ظرفاً لغصّة وعذاب أليم وندامة وحسرة عظيمة"، إلى أن يدعو ربه بقوله: "اللهم نجني من تزاحم أفواج البلاء، وتراكم أمواج العناء، بحق رسولك المجتبى ووصيه المرتضى، صلّ الله عليهما وآلهما، وفرّج عني ما أنا فيه، فلا إله إلاّ أنت وأنت أرحم الراحمين".
ولكن د. عبد الأمير الأعسم يرى أن التبرم والتململ الذي ورد في آخر شرح الإشارات لا ينم عن تردي علاقته بالإسماعيليين في قلعة آلموت، بل إن تبرمه وتململه كانا نتيجة طبيعية، حيث كانت سلطة الإسماعيليين تتداعى أمام اكتساح المغول لإيران وآسيا الصغرى، وهذا ما أدى به، كما يقول الأعسم، إلى التعلق بحبل جديد للنجاة من دمار المغول القريب لقلاع الإسماعيليين، فوجد ضالته في بغداد قاعدة الخلافة آنئذ البعيدة عن الدمار المغولي، فعلّل النفس بالآمال، وقد مهَّد لذلك فكتب إلى الخليفة المستعصم العباسي قصيدة يمدحه فيها، وأرسلها عبر الوزير ابن العلقمي طالباً فيها من الوزير التوسط تمهيداً لقبوله لاجئاً سياسياً في بغداد.
وهنا تضاربت الأقوال بشأن الاتصال بالخليفة، فيرى البعض أن ابن العلقمي قد سكت عن معاضدة الطوسي وطلبه لدى الخليفة، ويرى آخرون أن ابن العلقمي فشا سرّه، إذ أرسل سراً إلى زعيم الإسماعيليين "ناصر الدين القهستاني" يخبره بخبره ويحرضه على الاحتفاظ به، موضحاً أن نصير الدين الطوسي قد ابتدأ بإرسال الرسالات والمكاتبات عند الخليفة وأنشأ قصيدة في مدحه... "وقد أراد الخروج من عندك وهذا لا يوافق الرأي فلا تغفل عن هذا".
الطوسي وهولاكو:
لم يمض وقت طويل على رسالة ابن العلقمي إلى الوزير الإسماعيلي حتى كان الطوسي في قلعة آلموت، كما ألمحنا سابقاً، شبه سجين حتى سقوطها على أيدي التتار، ولما خضعت قلعة آلموت للمغول خرج نصير الدين وحضر بين يدي هولاكو فحظي عنده بمعاملة خاصة.
أثارت علاقة الطوسي بهولاكو جدلاً ونقاشاً حادّين، فاعتبر البعض أنها كانت نتيجة لمراسلات حصلت بين هولاكو والطوسي، ورأى آخرون أنها كانت نتيجة طبيعية لسمعة الطوسي الفلسفية الجيدة، ولكن الواقع كان غير ذلك، حيث لم يكن هولاكو ممن يستسيغ الفلسفة، والراجح أنها كانت نتيجة اشتهار الطوسي في علم الفلك والنجوم والاختبارات، ولم يكن الطوسي الوحيد الذي أبقى عليه، بل أبقى أيضاً على رجلين آخرين هما موفق الدولة ورئيس الدولة وذلك لكونهما طبيبين.
وممّا يروى أن هولاكو كان قد اصطحب الطوسي في حملته على بغداد عام 665هـ/1257م، ما جعل الطوسي موضع انتقاد شديد من جانب المؤرخين، فشكك بعضهم في إسلامه، ووصل الأمر بآخرين منهم إلى حدِّ اتهامه باعتناق الوثنية، في حين حمّله فريق ثالث مسؤولية سفك الدماء في بغداد وانتهاك الحرمات والتنكيل بالإسلام والمسلمين، فضلاً عن اتهامه بتهوين أمر قتل الخليفة المستعصم بالله.
بينما نجد أن فريقاً آخر نظر بإيجابية إلى هذا الاصطحاب، حيث يقول إن الطوسي انصرف وهو في بغداد إلى إنقاذ أكبر عدد ممكن من أرواح الناس، وخاصة الفلاسفة والعلماء والفلكيين، حيث تمكن أن ينتزع من هولاكو أمراً يقضي: بأن يقف عند باب الحلبة ويؤمِّن للناس الخروج من هذا الباب، فأخذ الناس يخرجون جماعات كثيرة، هذا عدا عن تمكنه من إنقاذ الكتب النفيسة والآثار العلمية، حتى غدت مكتبة علمية تحوي أكثر من أربعمئة ألف مجلد.
أمَّا عن دوافع الطوسي في خدمة هولاكو ومرافقته إلى بغداد، إنما تعود، كما يشير بعض المؤرخين، إلى أن الطوسي تيقَّن من استحالة النصر العسكري على المغول بسبب الانحلال التام للعالم الإسلامي، نتيجةً لما لحق به من ضعف، وإدراكاً من الطوسي أن الطامَّة الكبرى ستحلُّ بالمسلمين إذا ما استطاع المغول الهيمنة فكرياً عليهم تمهيداً للقضاء على الإسلام، فاستغل الطوسي حاجة هولاكو إليه لخبرته في علم النجوم (الرصد) فأنقذ ما أمكن إنقاذه من التراث الإسلامي المهدَّد بالزوال.
مرصد مراغة جامعة ودار علم:
وإيماناً منه بأهمية ما يقوم به، حوّل الطوسي مرصد مراغة سنة 657هـ/1257م إلى دار علم عظيمة حوت نوادر الكتب ونفائس المجموعات، وجعل منه أول أكاديمية علمية بالمعنى الحديث، وأول جامعة حقيقية، وقد اشتمل على دار لطلبة الحديث ومدرسة للفقهاء، ومقر حكمة للفلاسفة، ومجلس للأطباء، وأنشأ فيه مكتبة ضخمة، وأجرى على العاملين فيه الجرايات، هذا العمل الجبار من قبل الطوسي أقنع هولاكو بأن يعهد إليه بالإشراف على الأوقاف الإسلامية والتصرف بمواردها بما يراه.
وأحاط الطوسي مرصد مراغة بهالة علمية وفوائد جمة، وأقنع هولاكو بأنه وحده عاجز عن القيام بهذا البناء الشامخ، ولا بدّ له من مساعدين أكفّاء، سواء في البلاد المحتلة أو في خارجها، فوافق هولاكو، فعمد الطوسي إلى تكليف رسول حكيم هو فخر الدين لقمان بن عبد الله المراغي، وعهد إليه بالتطواف في البلاد الإسلامية وتأمين العلماء والنازحين ودعوتهم للعودة إلى بلادهم، ثم دعوة كل من يراه كفوءاً في عمله وعقله من غير النازحين... ولبّى الناس الدعوة وكانت النتيجة "تشكل مجموعة ذات قيمة عظيمة، وتكوّن مجمعاً فلكياً عظيماً اشترك في المباحث الفلكية الرياضية وغيره".
بقي النصير محتفظاً بمنصبه كوزير بعد تولي أباقاخان زعامة المغول بعد أبيه هولاكو، واستطاع الطوسي أن يؤثر فيه من خلال النصائح في تحسين الوضع العام، فاطمأن الناس على أنفسهم وأموالهم بعض الاطمئنان.
وبعد أن مضى أباقاخان، تولى الحكم ابن هولاكو الآخر "تكودار"، فأعلن إسلامه وإسلام الدولة المغولية تبعاً لإسلامه، وإن كان البعض يرى أن هولاكو نفسه قد أسلم، وآخرون قالوا بأن آباقاخان قد أسلم، والمهم أن الطوسي كان له دور كبير في أسلمة الدولة المغولية وتحويلها إلى راع وقيّم على الإسلام بدل محاربته؛ محدثاً بذلك تحولاً نوعياً في مسار الأمة ومجريات الأحداث فيها.
وبالرغم من الخلافات الكثيرة حول مذهب الطوسي، فإنه كان شيعياً، واثني عشرياً، ولكن الظروف السياسية منعته، كما يوضح صاحب لؤلؤة البحرين، من ترويج مذهب أهل البيت (ع)، بسبب خروج المخالفين من بلاد خراسان والعراق مع اشتهار مذهبه وانتشار حديث فضله وكمالاته قد توارى في زاوية التقية والاختفاء في الأطراف، وعمد إلى التقية في النتاج الفلسفي الضخم وهو في حصن "آلموت"، حيث، كما يقول البحراني، "كان أكثر ذلك الحصن من الملاحدة وأقام الخواجة معهم مدة ضرورة".
من مؤلفات الطوسي وآثاره:
كانت وفاة الطوسي في بغداد 18 ذي الحجة 672هـ/ 1274م، وله من العمر خمس وسبعون عاماً.
ترك الطوسي مؤلفات في كل أبواب المعرفة في عصره، فله مؤلفات في العلوم الصرفة كالهندسة والجبر والمثلثات والفيزياء، وكتب في المنطق والأخلاق والتربية، وله كتب في العلوم الفلكية، كالفلك والتنجيم والاختبارات والإسطرلاب، وكان للفلسفة عنده بموضوعاتها المختلفة مكانة مهمة، بالإضافة إلى مؤلفاته في السياسة وعلم الكلام، كما وضع كتباً في التاريخ والجغرافيا والطب، علاوةً على الشعر وفنّه، وكانت له أيضاً أسرار مهمة في التصوف الفلسفي البحت.
ومن مؤلفاته، "تحرير الكلام"، وقال فيه:"إني مجيب إلى ما سئلت من تحرير مسائل الكلام وترتيبها على أبلغ نظام، مشيراً إلى غرر فرائد الاعتقاد، نكت مسائل الاجتهاد مما قادني الدليل إليه وقوى اعتقادي عليه".
وفي الرياضيات للطوسي إبداع مهم، ففي المثلثات كان أول من وضع فيها بشكل مستقل عن الفلك، فأخرج كتاباً فريداً اسمه "كتاب الشكل القطاع"، وهو وحيد في نوعه، ترجم إلى معظم اللغات الحية، وبقي لمدة طويلة يُستقى منه في علم المثلثات، والطوسي هو أول من استعمل الحالات الست للمثلث الكري القائم الزاوية، وفي الكتاب براهين مبتكرة باعتراف الجميع.
أما في علم الفلك فله كتب عديدة وإنجازات مهمة، منها الزيج الأيلخاني، وفي الزيج الأيلخاني تمكن الطوسي من إيجاد مبادرة الاعتدالين وكان هذا الزيج من المصادر التي اعتمد عليها في عصر إحياء العلوم في أوروبا.
وله "التذكرة"، حيث عرض لنظريات فلكية، صعب على الكثيرين فهمها، ما اضطر العلماء إلى شرحها في رسائل وكتب، وفي هذا الكتاب انتقد كتاب المجسطي واقترح نظاماً جديداً للكون أبسط من نظام بطليموس، ودرس في هذا الكتاب أحجام بعض الكواكب وأبعادها.
ويعترف سارتون بأن ما وضعه الطوسي من انتقاد للمجسطي يدل على عبقريته وطول باعه في علوم الفلك، واعتبر أن انتقاداته هي التي قدمت للإصلاحات التي قام بها "كوبرنيكوس"، وما إلى ذلك من المؤلفات والرسائل وصلت أعدادها عند بعض الباحثين إلى حوالي 274مؤلفاً ورسالة في مختلف فنون المعرفة.
الخواجة الطوسي:العالم الفيلسوف والداعية
أبو جعفر محمد بن محمد بن الحسن، المعروف بنصير الدين الطوسي، ولد في طوس "قرب نيسابور" في الحادي عشر من جمادى الأولى 597هـ /1209م.
دراسته:
تتلمذ على أبيه محمد بن الحسن في مراحله الدراسية الأولى، ثم درس علوم اللغة من نحو وصرف وأدب بعد دراسته القرآن، وبتوجيه من أبيه درس الرياضيات على كمال الدين محمد المعروف بالحاسب، ثم درس الحديث والأخبار وتوسع في دراسة الحديث على أبيه، كما درس عليه الفقه، ودرس المنطق والحكمة على خاله، والحكيم فاضل بابا أفضل الكاشي الفيلسوف.
وبعد دراسته على خاله، أتقن الطوسي علوم الرياضيات من حساب وهندسة وجبر وهو لا يزال في مطلع شبابه، وفي هذا الصدد يقول عن نفسه: إنه بعد وفاة والده عمل بوصيته في الرحيل إلى أي مكان يلقى فيه أساتذة يستفيد منهم، وكانت نيسابور في ذلك العهد مجمع العلماء ومنتجع الطلاب، فسافر إليها حيث حضر حلقة كل من سراج الدين الضري وقطب الدين الداماد وأبو السعادات الأصفهاني وآخرين غيرهم، كما لقي فيها فريد الدين العطار، كما درس على معين الدين سالم بن بدران المازني المصري الإمامي، وقد أجازه معين الدين في سنة 619هـ.
كما درس على كمال الدين بن يونس الموصلي، وقيل »إنه درس الفقه على كمال الدين هيثم البحراني وعلى العلامة الحلّي، كما أنهما درسا عليه الفلسفة والكلام، كما انصرف إلى دراسة الحكمة والفلسفة فدرسها على الحكيم شمس الدين عبد الحميد بن عيسى الخسرو شاهي تلميذ فريد الدين الداماد، وهو تلميذ فخر الدين الرازي، واشتغل بأكثر علوم الإسلام فسمع الحديث عن الشيخ برهان الدين الهمذاني.
في قلاع الإسماعيلية:
توقف نصير الدين عن الدراسة بدخول المغول بقيادة جنكيز خان إلى نيسابور، حيث اجتاحوا خراسان، وانهزم أمامهم السلطان محمد خوارزم شاه، وانهارت بعده كل مقاومة، وتساقطت المدن واحدة بعد الأخرى، وساد القتل والخراب وشبت الحرائق، وفرّ الناس هائمين على وجوههم لا يلوون على شيء ولا يدرون متى يدركهم الموت، ولكن قلاع الإسماعيليين صمدت في وجه الغزو المغولي لسنوات ولم تستسلم.
لم يكتف المغول بتدمير المدن، بل أعملوا السيف في رقاب الناس، وكان الطوسي من بين الناجين الأربعمئة من أهلها، فهام على وجهه يطلب الملجأ الأمين وهو في الثانية والعشرين من عمره، فلم يجد غير طوس، فقصدها للنجاة بنفسه. وفي طوس عاش الطوسي متألماً متأزماً يعاني قلقاً نفسياً شديداً وخوفاً دائماً على مستقبله الذي يتهدده دمار المغول بين وقت وآخر، وظل فيها كما يبدو زهاء ست سنوات يجاهد خوفه ويكافح قلقه أمام هول الأحداث.
مارس الطوسي في طوس عزلةً قاسيةً على نفسه، كان يسبر خلالها غور الفلسفة، لا سيما مؤلفات الرئيس، فطارت شهرته وذاع صيته وعرفت محاولاته في الميتافيزيقيا والطبيعة والأخلاق والسياسة إلى جانب اهتمامه بعلم الكلام، ما دفع ناصر الدين عبد الرحيم الأشتر الملقب بـ"المحتشم" حاكم قهستان إلى الاحتيال عليه، فدعاه إلى الإقامة عنده، فلقيت هذه الدعوة، كما يقول البعض، هوى في نفس نصير الدين، وكان اتصاله بالإسماعيليين حسب هذا الرأي عن طواعية واختيار، كما يرى كريم أقسرائي، ودليله على ذلك المكانة التي حظي بها الطوسي، حيث كان الوزير المطلق لدى الإسماعيليين، أما د. مصطفى جواد فيعتبر أنّ اتصال نصير الدين كان عن طواعية واختيار أيضاً، لكن اتصاله كان بالإسماعيليين الجدد لا بالإسماعيليين القدماء، ولذلك لا يكون من الإنصاف لهذه العلاقة برأيه أن لا نتهمه بالغلوّ في الدين.
أوردت بعض المصادر أن قدوم الطوسي على قهستان كان عن طريق الإجبار والإكراه، حيث كانت قد صدرت أوامر إلى فدائيي الإسماعيليين باختطاف الطوسي وحمله إلى قلعة آلموت، فترصّده الفدائيون في أطراف بساتين "نيسابور"، وقد تكون طوس، وطلبوا إليه مرافقتهم إلى آلموت، ولكن الطوسي امتنع عن الامتثال لأوامرهم، فهددوه بالقتل وأجبروه على مرافقتهم وعاش هناك سنوات شبه أسير أو سجين، بينما يرى آخرون أن الطوسي قد ذهب مختاراً إلى ناصر الدين، وخلال مقامه عنده حدث ما عكر صفو ودادهما، فنقم عليه ناصر الدين واعتبره سجيناً لديه، ثم أرغمه على مصاحبته إلى (ميمون دز) حيث عاش سجيناً لا يبرح مكانه.
وبقي في أسره حتى أطلق سراحه أخيراً على يد المغول، وهذا ما أكدته الأخبار كما في كتاب "تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام"، حيث يقول إن نصير الدين أطلق من الحبس وأكرمه الديلم لعلمه بعلم النجوم وصار في عداد وزرائهم، وهذا ما أكدته شهادة الطوسي نفسه في آخر شرحه للإشارات الذي ألّفه وهو في قلاع الإسماعيليين، ويرثي فيه حالته ويعبر عن تململه وبرمه من الحياة ويعبر فيه عن آلامه حيث يقول: "وقمت أكثرها في حال صعب، لا يمكن أصعب منها حال، ورسمت أغلبها في مدة كدورة بال، بل في أزمنة يكون كل جزء منها ظرفاً لغصّة وعذاب أليم وندامة وحسرة عظيمة"، إلى أن يدعو ربه بقوله: "اللهم نجني من تزاحم أفواج البلاء، وتراكم أمواج العناء، بحق رسولك المجتبى ووصيه المرتضى، صلّ الله عليهما وآلهما، وفرّج عني ما أنا فيه، فلا إله إلاّ أنت وأنت أرحم الراحمين".
ولكن د. عبد الأمير الأعسم يرى أن التبرم والتململ الذي ورد في آخر شرح الإشارات لا ينم عن تردي علاقته بالإسماعيليين في قلعة آلموت، بل إن تبرمه وتململه كانا نتيجة طبيعية، حيث كانت سلطة الإسماعيليين تتداعى أمام اكتساح المغول لإيران وآسيا الصغرى، وهذا ما أدى به، كما يقول الأعسم، إلى التعلق بحبل جديد للنجاة من دمار المغول القريب لقلاع الإسماعيليين، فوجد ضالته في بغداد قاعدة الخلافة آنئذ البعيدة عن الدمار المغولي، فعلّل النفس بالآمال، وقد مهَّد لذلك فكتب إلى الخليفة المستعصم العباسي قصيدة يمدحه فيها، وأرسلها عبر الوزير ابن العلقمي طالباً فيها من الوزير التوسط تمهيداً لقبوله لاجئاً سياسياً في بغداد.
وهنا تضاربت الأقوال بشأن الاتصال بالخليفة، فيرى البعض أن ابن العلقمي قد سكت عن معاضدة الطوسي وطلبه لدى الخليفة، ويرى آخرون أن ابن العلقمي فشا سرّه، إذ أرسل سراً إلى زعيم الإسماعيليين "ناصر الدين القهستاني" يخبره بخبره ويحرضه على الاحتفاظ به، موضحاً أن نصير الدين الطوسي قد ابتدأ بإرسال الرسالات والمكاتبات عند الخليفة وأنشأ قصيدة في مدحه... "وقد أراد الخروج من عندك وهذا لا يوافق الرأي فلا تغفل عن هذا".
الطوسي وهولاكو:
لم يمض وقت طويل على رسالة ابن العلقمي إلى الوزير الإسماعيلي حتى كان الطوسي في قلعة آلموت، كما ألمحنا سابقاً، شبه سجين حتى سقوطها على أيدي التتار، ولما خضعت قلعة آلموت للمغول خرج نصير الدين وحضر بين يدي هولاكو فحظي عنده بمعاملة خاصة.
أثارت علاقة الطوسي بهولاكو جدلاً ونقاشاً حادّين، فاعتبر البعض أنها كانت نتيجة لمراسلات حصلت بين هولاكو والطوسي، ورأى آخرون أنها كانت نتيجة طبيعية لسمعة الطوسي الفلسفية الجيدة، ولكن الواقع كان غير ذلك، حيث لم يكن هولاكو ممن يستسيغ الفلسفة، والراجح أنها كانت نتيجة اشتهار الطوسي في علم الفلك والنجوم والاختبارات، ولم يكن الطوسي الوحيد الذي أبقى عليه، بل أبقى أيضاً على رجلين آخرين هما موفق الدولة ورئيس الدولة وذلك لكونهما طبيبين.
وممّا يروى أن هولاكو كان قد اصطحب الطوسي في حملته على بغداد عام 665هـ/1257م، ما جعل الطوسي موضع انتقاد شديد من جانب المؤرخين، فشكك بعضهم في إسلامه، ووصل الأمر بآخرين منهم إلى حدِّ اتهامه باعتناق الوثنية، في حين حمّله فريق ثالث مسؤولية سفك الدماء في بغداد وانتهاك الحرمات والتنكيل بالإسلام والمسلمين، فضلاً عن اتهامه بتهوين أمر قتل الخليفة المستعصم بالله.
بينما نجد أن فريقاً آخر نظر بإيجابية إلى هذا الاصطحاب، حيث يقول إن الطوسي انصرف وهو في بغداد إلى إنقاذ أكبر عدد ممكن من أرواح الناس، وخاصة الفلاسفة والعلماء والفلكيين، حيث تمكن أن ينتزع من هولاكو أمراً يقضي: بأن يقف عند باب الحلبة ويؤمِّن للناس الخروج من هذا الباب، فأخذ الناس يخرجون جماعات كثيرة، هذا عدا عن تمكنه من إنقاذ الكتب النفيسة والآثار العلمية، حتى غدت مكتبة علمية تحوي أكثر من أربعمئة ألف مجلد.
أمَّا عن دوافع الطوسي في خدمة هولاكو ومرافقته إلى بغداد، إنما تعود، كما يشير بعض المؤرخين، إلى أن الطوسي تيقَّن من استحالة النصر العسكري على المغول بسبب الانحلال التام للعالم الإسلامي، نتيجةً لما لحق به من ضعف، وإدراكاً من الطوسي أن الطامَّة الكبرى ستحلُّ بالمسلمين إذا ما استطاع المغول الهيمنة فكرياً عليهم تمهيداً للقضاء على الإسلام، فاستغل الطوسي حاجة هولاكو إليه لخبرته في علم النجوم (الرصد) فأنقذ ما أمكن إنقاذه من التراث الإسلامي المهدَّد بالزوال.
مرصد مراغة جامعة ودار علم:
وإيماناً منه بأهمية ما يقوم به، حوّل الطوسي مرصد مراغة سنة 657هـ/1257م إلى دار علم عظيمة حوت نوادر الكتب ونفائس المجموعات، وجعل منه أول أكاديمية علمية بالمعنى الحديث، وأول جامعة حقيقية، وقد اشتمل على دار لطلبة الحديث ومدرسة للفقهاء، ومقر حكمة للفلاسفة، ومجلس للأطباء، وأنشأ فيه مكتبة ضخمة، وأجرى على العاملين فيه الجرايات، هذا العمل الجبار من قبل الطوسي أقنع هولاكو بأن يعهد إليه بالإشراف على الأوقاف الإسلامية والتصرف بمواردها بما يراه.
وأحاط الطوسي مرصد مراغة بهالة علمية وفوائد جمة، وأقنع هولاكو بأنه وحده عاجز عن القيام بهذا البناء الشامخ، ولا بدّ له من مساعدين أكفّاء، سواء في البلاد المحتلة أو في خارجها، فوافق هولاكو، فعمد الطوسي إلى تكليف رسول حكيم هو فخر الدين لقمان بن عبد الله المراغي، وعهد إليه بالتطواف في البلاد الإسلامية وتأمين العلماء والنازحين ودعوتهم للعودة إلى بلادهم، ثم دعوة كل من يراه كفوءاً في عمله وعقله من غير النازحين... ولبّى الناس الدعوة وكانت النتيجة "تشكل مجموعة ذات قيمة عظيمة، وتكوّن مجمعاً فلكياً عظيماً اشترك في المباحث الفلكية الرياضية وغيره".
بقي النصير محتفظاً بمنصبه كوزير بعد تولي أباقاخان زعامة المغول بعد أبيه هولاكو، واستطاع الطوسي أن يؤثر فيه من خلال النصائح في تحسين الوضع العام، فاطمأن الناس على أنفسهم وأموالهم بعض الاطمئنان.
وبعد أن مضى أباقاخان، تولى الحكم ابن هولاكو الآخر "تكودار"، فأعلن إسلامه وإسلام الدولة المغولية تبعاً لإسلامه، وإن كان البعض يرى أن هولاكو نفسه قد أسلم، وآخرون قالوا بأن آباقاخان قد أسلم، والمهم أن الطوسي كان له دور كبير في أسلمة الدولة المغولية وتحويلها إلى راع وقيّم على الإسلام بدل محاربته؛ محدثاً بذلك تحولاً نوعياً في مسار الأمة ومجريات الأحداث فيها.
وبالرغم من الخلافات الكثيرة حول مذهب الطوسي، فإنه كان شيعياً، واثني عشرياً، ولكن الظروف السياسية منعته، كما يوضح صاحب لؤلؤة البحرين، من ترويج مذهب أهل البيت (ع)، بسبب خروج المخالفين من بلاد خراسان والعراق مع اشتهار مذهبه وانتشار حديث فضله وكمالاته قد توارى في زاوية التقية والاختفاء في الأطراف، وعمد إلى التقية في النتاج الفلسفي الضخم وهو في حصن "آلموت"، حيث، كما يقول البحراني، "كان أكثر ذلك الحصن من الملاحدة وأقام الخواجة معهم مدة ضرورة".
من مؤلفات الطوسي وآثاره:
كانت وفاة الطوسي في بغداد 18 ذي الحجة 672هـ/ 1274م، وله من العمر خمس وسبعون عاماً.
ترك الطوسي مؤلفات في كل أبواب المعرفة في عصره، فله مؤلفات في العلوم الصرفة كالهندسة والجبر والمثلثات والفيزياء، وكتب في المنطق والأخلاق والتربية، وله كتب في العلوم الفلكية، كالفلك والتنجيم والاختبارات والإسطرلاب، وكان للفلسفة عنده بموضوعاتها المختلفة مكانة مهمة، بالإضافة إلى مؤلفاته في السياسة وعلم الكلام، كما وضع كتباً في التاريخ والجغرافيا والطب، علاوةً على الشعر وفنّه، وكانت له أيضاً أسرار مهمة في التصوف الفلسفي البحت.
ومن مؤلفاته، "تحرير الكلام"، وقال فيه:"إني مجيب إلى ما سئلت من تحرير مسائل الكلام وترتيبها على أبلغ نظام، مشيراً إلى غرر فرائد الاعتقاد، نكت مسائل الاجتهاد مما قادني الدليل إليه وقوى اعتقادي عليه".
وفي الرياضيات للطوسي إبداع مهم، ففي المثلثات كان أول من وضع فيها بشكل مستقل عن الفلك، فأخرج كتاباً فريداً اسمه "كتاب الشكل القطاع"، وهو وحيد في نوعه، ترجم إلى معظم اللغات الحية، وبقي لمدة طويلة يُستقى منه في علم المثلثات، والطوسي هو أول من استعمل الحالات الست للمثلث الكري القائم الزاوية، وفي الكتاب براهين مبتكرة باعتراف الجميع.
أما في علم الفلك فله كتب عديدة وإنجازات مهمة، منها الزيج الأيلخاني، وفي الزيج الأيلخاني تمكن الطوسي من إيجاد مبادرة الاعتدالين وكان هذا الزيج من المصادر التي اعتمد عليها في عصر إحياء العلوم في أوروبا.
وله "التذكرة"، حيث عرض لنظريات فلكية، صعب على الكثيرين فهمها، ما اضطر العلماء إلى شرحها في رسائل وكتب، وفي هذا الكتاب انتقد كتاب المجسطي واقترح نظاماً جديداً للكون أبسط من نظام بطليموس، ودرس في هذا الكتاب أحجام بعض الكواكب وأبعادها.
ويعترف سارتون بأن ما وضعه الطوسي من انتقاد للمجسطي يدل على عبقريته وطول باعه في علوم الفلك، واعتبر أن انتقاداته هي التي قدمت للإصلاحات التي قام بها "كوبرنيكوس"، وما إلى ذلك من المؤلفات والرسائل وصلت أعدادها عند بعض الباحثين إلى حوالي 274مؤلفاً ورسالة في مختلف فنون المعرفة.