خادم الأميرة
04-06-2010, 03:50 AM
محمَّد بن عليّ بن الحسين العاملي الجبعيالشهيد الأول: الفقيه الحواري
خضعت منطقة جبل عامل ومعها بلاد الشام في بداية القرن السادس للغزو الصليبي فساءت فيها الأوضاع العلمية والثقافية، واستمرت الحالة متردّية في ظل الحكم المملوكي، حيث سادت الأمية والفقر، وتفشّت المشاكل الاجتماعية، واقتصرت الحركة العلمية على بعض الكتاتيب، في ظل هذه الأوضاع، ولد الشهيد الأوَّل وكانت ولادته في القرن السابع الهجري في سنة 734هـ، في جزين، وهي قرية من قرى جبل عامل.
ترعرع الشهيد الأوَّل في بيتٍ من بيوت العلم والدين، وتلقى في قريته مبادئ العلوم العربية والفقه، وكان يجالس العلماء ويشارك في الندوات العلمية التي كانت تعقد في أطراف عامل، وفي المدارس والمساجد والبيوت، كما أنّه ساهم في المحاورات العلمية التي كانت تدور بين الأساتذة والطلاب أو بين الطلاب أنفسهم، حتى كان له فيما بعد آراؤه في مسائل الفقه والفكر والأدب، أعانته على ذلك ثقافته الشخصية وقريحته الفيّاضة وبيئته النشطة.
لم يكتف الشهيد الأوَّل بثقافته التي تلقَّاها في جزّين، بل راح يتطلّع إلى آفاق أخرى لتلقّي المعارف الجديدة، فرحل إلى: الحلّة وكربلاء وبغداد، ومكة المكرمة والمدينة المنوّرة، والشام والقدس، وهذه المدن كانت من أهم مراكز التوعية الدينية يوم ذاك، ولا سيّما الحلَّة التي تكرَّر سفر الشهيد الأوَّل إليها، حيث تلقَّى العلوم فيها على يد كبار شيوخها المرموقين، أمثال فخر المحقّقين ابن العلامة الحلّي.
لم يمنعه انتماؤه المذهبي إلى أهل البيت(ع) من أن يتعرَّف على ثقافة أهل السنّة بعد أن بلغ مرحلة متقدّمة من العلم، فاطّلع وناظر وحاجج في أجواء علمية رحبة، ونظر في ألوان مختلفة من الفكر، وارتاد مختلف مراكز الحركة العقلية في البلاد الإسلامية، وجالس العلماء والأساتذة، فاستفاد وأفاد، ويكفي في ذلك قول أستاذه فخر المحققين فيه: لقد استفدت من تلميذي محمد بن مكي أكثر مما استفاد مني.
ودرس الشهيد على ابن معية وعميد الدين وضياء الدين من علماء الحلّة، وعلى قطب الدين الرازي البويهي، فتأثر بهم تأثراً ظهر في منهجه وكتاباته.
من مشايخه في التّدريس والإجازة
قضى الشهيد معظم وقته في القراءة عند فخر الدين ابن العلامة والسيد عميد الدين عبد المطلب الحسيني الحلّي شارح تهذيب خاله العلاّمة في الأصول المعروف بالعميد، وأخوه السيد ضياء الدين عبد الله الحسيني الحلي، وقطب الدين محمد بن محمد البويهي الرازي شارح الشمسية، وعن السيد حسين، أن السيّد حيدر الموسوي العاملي الكركي سمع شيخه السيد حسين بن الحسن الحسيني الموسوي ابن بنت المحقق الكركي يقول، إن شيخنا الشهيد (قدس سره) ذكر في بعض كلماته أن طرقه إلى الأئمة المعصومين(ع) تزيد على ألف طريق، وذكر فخر الدين ابن العلاّمة في بعض إجازاته أن طرقه إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق تزيد على المائة.
مشايخه في الرواية
السيِّد تاج الدين بن معية الحسني، ومن بعده مشايخه في الإجازة السيِّد علاء الدين بن زهرة الحسيني، والشيخ علي رضي الدين بن طراز المطارابادي والشيخ علي رضي الدين علي بن أحمد المشتهر بالمزيدي، والشيخ جلال الدين محمد بن الشيخ شمس الدين الحارثي أحد تلامذه المحقّق الحلّي، والشيخ محمَّد بن جعفر المشهدي، وأحمد بن الحسيني الكوفي، وأضاف صاحب كتاب أعيان الشيعة من المحتمل أنه قرأ على عدة مشايخ من جبل عامل وأجازوه ولم تصل إلينا أسماؤهم، منهم والده الذي كان من أفاضل العلماء وأجلاّء مشايخ الإجازة.
مشايخه من علماء أهل السنَّة: يروي عن أربعين شيخاً منهم، ومن جملتهم الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف القرشي الشافعي الكرماني الراوي عن القاضي عضد الدين الأيجي وولده زين الدين أحمد بن عبد الرحمن العضدي.
تلاميذه
ولده رضي الدين أبو طالب محمَّد بن محمَّد بن مكي، وولده ضياء الدين أبو القاسم أو الحسن علي بن مكي، وولده جمال الدين أبو منصور الحسن بن محمد بن مكي، ابنته أم الحسن ست المشائخ فاطمة بنت محمد بن مكي، زوجته أم علي ولم يعرف اسمها، المقداد السيوري، الشيخ حسن بن سليمان الحلي صاحب مختصر البصائر، السيد بدر الدين حسن بن أيوب الشهير بابن نجم الدين الأعرجي، الشيخ شمس الدين محمد بن نجده الشهير بابن عبد العالي، الشيخ شمس الدين محمد بن عبد العلي الكركي العاملي، الشيخ زين الدين علي بن الخازن الحارثي.
جعل من بيته ندوةً عامرةً لأصحاب الفضل والأدب وطلاّب المعرفة من مختلف الأقطار المجاورة، وكان بيته لا يخلو من الزائرين وأصحاب الحاجات، إذ أصبح ملجأهم كما أصبح ملجأ العلماء في التدريس، ولكن درسه وتدريسه في الفقه والأصول والرجال والحديث والعقليات والأدب، لم يمنعه من أن يوطّد علاقته ببعض السياسيين والتخطيط لعلم نهضوي يقوم به من خلال مركزه العلمي والاجتماعي، وهذا ما أدى إلى أن يتجاوز نفوذه خارج الشام إلى الأقطار البعيدة، ومنها إيران، حيث كان يدور صراعٌ قويٌّ بين ظاهرة الدراويش التي كان يقف على رأسها البهلوان حسن الدامغاني، والتي كانت لديها مفاهيم خاطئة عن التشيّع، فكانوا يأخذون بمظاهر التشيع أكثر مما يأخذون بحقائقه، فالتشيّع عندهم ـ الدراويش ـ مجرد موالاة لا يرتكز على قواعد معينة، وفي مقابل هذا التيار، كان هناك فريق أكثر وعياً معتمداً على فهم آخر للتشيّع، يعمل لإزالة هذه الشبهات، ويدعو إلى الرجوع إلى الجذور الصحيحة. وكان علي بن المؤيد على رأس هؤلاء، فنهض لمحاربة هذا التيار الفاسد، ولذلك راسل الشهيد الأول وأبلغه بحاجته لقدومه إلى إيران، ولكن الشيخ محمد بن مكي اعتذر عن القدوم، وذلك لعدة أسباب منها:
1ـ افتقار جبل عامل إلى ما يكفي من العلماء لكي يذهب إلى إيران.
2ـ محاربة العقائد الفاسدة التي كانت تسود في المجتمع آنذاك، ومنها قصة محمد اليالوشي، الذي ظهر في جبل عامل وادعّى النبوَّة، وهو من قرية تسمى برج يالوش، فحاربه الشهيد وقضى عليه في سلطنة برقوق.
كان الشهيد يلقى أذى متواصلاً مريراً، ولكن ذلك لم يثنه عن المضي قدماًً في تحقيق طموحاته فأحدث نهضة في عالم الفقه وغيره من العلوم، وفتح أول مدرسة فقهية في جبل عامل (مدرسة جزين)، فأصبحت طليعة النشاط الثقافي الشيعي، وقد قدّر لهذه المدرسة أن تخرّج عدداً كبيراً من الفقهاء والمفكرين الإسلاميين فيما بعد.
لم يهدأ الشيخ محمد بن مكي في حركته حتى توّجت بالشهادة، وكان ذلك على إثر خلاف علمي حصل بين الشهيد وابن جماعة، وما زاد من غضب السلطة عليه أيضاً، عدم قبوله لمناصب مهمة عرضت عليه لتوليها في الدولة العثمانية، وهو الذي كان قد يمّم وجهه صوب الناس يستميل قلوبهم.
وقصَّة ذلك، أن ابن جماعة اجتمع به في بيته واختلف معه في مسائل، وكان يحضر المجلس جمعٌ كبير من الفقهاء والأعيان، فشقَّ عليه أن يردَّ عليه الشهيد الأوَّل ويفحمه بمحضر مهيب، فحاول استعمال أسلوب الإهانة فلم ينفعه، وشى به إلى والي دمشق بيدمر وكتب محضراً يشتمل على مقالات شنيعة بحق الشهيد الأول، وشهد بذلك جماعة كثيرة وكتبوا عليه شهادتهم، وثبت ذلك عند قاضي صيدا، ثم أتوا به إلى قاضي الشام، فسجن في قلعة دمشق سنة كاملة، فلما ضجَّ الناس خاف بيدمر من ثورتهم وهجومهم على السجن لإنقاذ الشهيد الأوّل، فحاول التعجيل بقتله، فقدّم وقتل، فكانت شهادته في سنة 786هـ.
مؤلَّفـاتـه:
تجاوزت مؤلفات الشهيد الأوَّل العشرين، كما أحصاها صاحب أعيان الشيعة، وهي كالآتي:
الدروس الشرعية في فقه الإمامية، شرح التهذيب في أصول الفقه، اللمعة الدمشقية، الرسالة الألفية في الصلاة، الرسالة النفلية في الصلاة، ورسالة تشتمل على مناسك الحج، وهي رسالة مختصرة جامعة، ورسالة في التكليف وفروعه، ورسالة في الباقيات الصالحات، كتاب الذكرى، جامع البين في فوائد الشرحين، البيان في الفقه لم ينجز بأكمله، شرح أربعين حديثاً.
مما قيل فيه:
ـ كتب الحر العاملي في أمل الآمل: "كان فقيهاً محدثاً متبحّراً كاملاً جامعاً لفنون العقليات والنقليّات، زاهداً عابداً ورعاً شاعراً أديباً منشأً فريد دهره عديم النظير في زمانه".
ـ صاحب أعيان الشيعة: "هو إمام من أئمة علماء الشيعة، وعلم من أعلامهم، وركن من أركانهم، وفقيه عظيم من أعاظم فقهائهم، يضرب المثل بفقاهته، ومفخرة من مفاخر جبل عامل".
ـ الشهيد الثاني: "شيخنا المحقّق، النحرير المدقق، الجامع بين منقبة العلم والسعادة، ومرتبة العمل والشهادة، محمَّد بن مكي، أعلى الله درجته، كما شرّف خاتمته".
ـ المحقق الكركي: "فقيه أهل البيت في زمانه، علم الفقهاء، قدوة المحققين والمدققين".
ـ الميرزا النوري "في مستدرك الوسائل": "جامع فنون الفضائل، وحاوي صفوف المعالي، وصاحب النفس الزكية".
خضعت منطقة جبل عامل ومعها بلاد الشام في بداية القرن السادس للغزو الصليبي فساءت فيها الأوضاع العلمية والثقافية، واستمرت الحالة متردّية في ظل الحكم المملوكي، حيث سادت الأمية والفقر، وتفشّت المشاكل الاجتماعية، واقتصرت الحركة العلمية على بعض الكتاتيب، في ظل هذه الأوضاع، ولد الشهيد الأوَّل وكانت ولادته في القرن السابع الهجري في سنة 734هـ، في جزين، وهي قرية من قرى جبل عامل.
ترعرع الشهيد الأوَّل في بيتٍ من بيوت العلم والدين، وتلقى في قريته مبادئ العلوم العربية والفقه، وكان يجالس العلماء ويشارك في الندوات العلمية التي كانت تعقد في أطراف عامل، وفي المدارس والمساجد والبيوت، كما أنّه ساهم في المحاورات العلمية التي كانت تدور بين الأساتذة والطلاب أو بين الطلاب أنفسهم، حتى كان له فيما بعد آراؤه في مسائل الفقه والفكر والأدب، أعانته على ذلك ثقافته الشخصية وقريحته الفيّاضة وبيئته النشطة.
لم يكتف الشهيد الأوَّل بثقافته التي تلقَّاها في جزّين، بل راح يتطلّع إلى آفاق أخرى لتلقّي المعارف الجديدة، فرحل إلى: الحلّة وكربلاء وبغداد، ومكة المكرمة والمدينة المنوّرة، والشام والقدس، وهذه المدن كانت من أهم مراكز التوعية الدينية يوم ذاك، ولا سيّما الحلَّة التي تكرَّر سفر الشهيد الأوَّل إليها، حيث تلقَّى العلوم فيها على يد كبار شيوخها المرموقين، أمثال فخر المحقّقين ابن العلامة الحلّي.
لم يمنعه انتماؤه المذهبي إلى أهل البيت(ع) من أن يتعرَّف على ثقافة أهل السنّة بعد أن بلغ مرحلة متقدّمة من العلم، فاطّلع وناظر وحاجج في أجواء علمية رحبة، ونظر في ألوان مختلفة من الفكر، وارتاد مختلف مراكز الحركة العقلية في البلاد الإسلامية، وجالس العلماء والأساتذة، فاستفاد وأفاد، ويكفي في ذلك قول أستاذه فخر المحققين فيه: لقد استفدت من تلميذي محمد بن مكي أكثر مما استفاد مني.
ودرس الشهيد على ابن معية وعميد الدين وضياء الدين من علماء الحلّة، وعلى قطب الدين الرازي البويهي، فتأثر بهم تأثراً ظهر في منهجه وكتاباته.
من مشايخه في التّدريس والإجازة
قضى الشهيد معظم وقته في القراءة عند فخر الدين ابن العلامة والسيد عميد الدين عبد المطلب الحسيني الحلّي شارح تهذيب خاله العلاّمة في الأصول المعروف بالعميد، وأخوه السيد ضياء الدين عبد الله الحسيني الحلي، وقطب الدين محمد بن محمد البويهي الرازي شارح الشمسية، وعن السيد حسين، أن السيّد حيدر الموسوي العاملي الكركي سمع شيخه السيد حسين بن الحسن الحسيني الموسوي ابن بنت المحقق الكركي يقول، إن شيخنا الشهيد (قدس سره) ذكر في بعض كلماته أن طرقه إلى الأئمة المعصومين(ع) تزيد على ألف طريق، وذكر فخر الدين ابن العلاّمة في بعض إجازاته أن طرقه إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق تزيد على المائة.
مشايخه في الرواية
السيِّد تاج الدين بن معية الحسني، ومن بعده مشايخه في الإجازة السيِّد علاء الدين بن زهرة الحسيني، والشيخ علي رضي الدين بن طراز المطارابادي والشيخ علي رضي الدين علي بن أحمد المشتهر بالمزيدي، والشيخ جلال الدين محمد بن الشيخ شمس الدين الحارثي أحد تلامذه المحقّق الحلّي، والشيخ محمَّد بن جعفر المشهدي، وأحمد بن الحسيني الكوفي، وأضاف صاحب كتاب أعيان الشيعة من المحتمل أنه قرأ على عدة مشايخ من جبل عامل وأجازوه ولم تصل إلينا أسماؤهم، منهم والده الذي كان من أفاضل العلماء وأجلاّء مشايخ الإجازة.
مشايخه من علماء أهل السنَّة: يروي عن أربعين شيخاً منهم، ومن جملتهم الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف القرشي الشافعي الكرماني الراوي عن القاضي عضد الدين الأيجي وولده زين الدين أحمد بن عبد الرحمن العضدي.
تلاميذه
ولده رضي الدين أبو طالب محمَّد بن محمَّد بن مكي، وولده ضياء الدين أبو القاسم أو الحسن علي بن مكي، وولده جمال الدين أبو منصور الحسن بن محمد بن مكي، ابنته أم الحسن ست المشائخ فاطمة بنت محمد بن مكي، زوجته أم علي ولم يعرف اسمها، المقداد السيوري، الشيخ حسن بن سليمان الحلي صاحب مختصر البصائر، السيد بدر الدين حسن بن أيوب الشهير بابن نجم الدين الأعرجي، الشيخ شمس الدين محمد بن نجده الشهير بابن عبد العالي، الشيخ شمس الدين محمد بن عبد العلي الكركي العاملي، الشيخ زين الدين علي بن الخازن الحارثي.
جعل من بيته ندوةً عامرةً لأصحاب الفضل والأدب وطلاّب المعرفة من مختلف الأقطار المجاورة، وكان بيته لا يخلو من الزائرين وأصحاب الحاجات، إذ أصبح ملجأهم كما أصبح ملجأ العلماء في التدريس، ولكن درسه وتدريسه في الفقه والأصول والرجال والحديث والعقليات والأدب، لم يمنعه من أن يوطّد علاقته ببعض السياسيين والتخطيط لعلم نهضوي يقوم به من خلال مركزه العلمي والاجتماعي، وهذا ما أدى إلى أن يتجاوز نفوذه خارج الشام إلى الأقطار البعيدة، ومنها إيران، حيث كان يدور صراعٌ قويٌّ بين ظاهرة الدراويش التي كان يقف على رأسها البهلوان حسن الدامغاني، والتي كانت لديها مفاهيم خاطئة عن التشيّع، فكانوا يأخذون بمظاهر التشيع أكثر مما يأخذون بحقائقه، فالتشيّع عندهم ـ الدراويش ـ مجرد موالاة لا يرتكز على قواعد معينة، وفي مقابل هذا التيار، كان هناك فريق أكثر وعياً معتمداً على فهم آخر للتشيّع، يعمل لإزالة هذه الشبهات، ويدعو إلى الرجوع إلى الجذور الصحيحة. وكان علي بن المؤيد على رأس هؤلاء، فنهض لمحاربة هذا التيار الفاسد، ولذلك راسل الشهيد الأول وأبلغه بحاجته لقدومه إلى إيران، ولكن الشيخ محمد بن مكي اعتذر عن القدوم، وذلك لعدة أسباب منها:
1ـ افتقار جبل عامل إلى ما يكفي من العلماء لكي يذهب إلى إيران.
2ـ محاربة العقائد الفاسدة التي كانت تسود في المجتمع آنذاك، ومنها قصة محمد اليالوشي، الذي ظهر في جبل عامل وادعّى النبوَّة، وهو من قرية تسمى برج يالوش، فحاربه الشهيد وقضى عليه في سلطنة برقوق.
كان الشهيد يلقى أذى متواصلاً مريراً، ولكن ذلك لم يثنه عن المضي قدماًً في تحقيق طموحاته فأحدث نهضة في عالم الفقه وغيره من العلوم، وفتح أول مدرسة فقهية في جبل عامل (مدرسة جزين)، فأصبحت طليعة النشاط الثقافي الشيعي، وقد قدّر لهذه المدرسة أن تخرّج عدداً كبيراً من الفقهاء والمفكرين الإسلاميين فيما بعد.
لم يهدأ الشيخ محمد بن مكي في حركته حتى توّجت بالشهادة، وكان ذلك على إثر خلاف علمي حصل بين الشهيد وابن جماعة، وما زاد من غضب السلطة عليه أيضاً، عدم قبوله لمناصب مهمة عرضت عليه لتوليها في الدولة العثمانية، وهو الذي كان قد يمّم وجهه صوب الناس يستميل قلوبهم.
وقصَّة ذلك، أن ابن جماعة اجتمع به في بيته واختلف معه في مسائل، وكان يحضر المجلس جمعٌ كبير من الفقهاء والأعيان، فشقَّ عليه أن يردَّ عليه الشهيد الأوَّل ويفحمه بمحضر مهيب، فحاول استعمال أسلوب الإهانة فلم ينفعه، وشى به إلى والي دمشق بيدمر وكتب محضراً يشتمل على مقالات شنيعة بحق الشهيد الأول، وشهد بذلك جماعة كثيرة وكتبوا عليه شهادتهم، وثبت ذلك عند قاضي صيدا، ثم أتوا به إلى قاضي الشام، فسجن في قلعة دمشق سنة كاملة، فلما ضجَّ الناس خاف بيدمر من ثورتهم وهجومهم على السجن لإنقاذ الشهيد الأوّل، فحاول التعجيل بقتله، فقدّم وقتل، فكانت شهادته في سنة 786هـ.
مؤلَّفـاتـه:
تجاوزت مؤلفات الشهيد الأوَّل العشرين، كما أحصاها صاحب أعيان الشيعة، وهي كالآتي:
الدروس الشرعية في فقه الإمامية، شرح التهذيب في أصول الفقه، اللمعة الدمشقية، الرسالة الألفية في الصلاة، الرسالة النفلية في الصلاة، ورسالة تشتمل على مناسك الحج، وهي رسالة مختصرة جامعة، ورسالة في التكليف وفروعه، ورسالة في الباقيات الصالحات، كتاب الذكرى، جامع البين في فوائد الشرحين، البيان في الفقه لم ينجز بأكمله، شرح أربعين حديثاً.
مما قيل فيه:
ـ كتب الحر العاملي في أمل الآمل: "كان فقيهاً محدثاً متبحّراً كاملاً جامعاً لفنون العقليات والنقليّات، زاهداً عابداً ورعاً شاعراً أديباً منشأً فريد دهره عديم النظير في زمانه".
ـ صاحب أعيان الشيعة: "هو إمام من أئمة علماء الشيعة، وعلم من أعلامهم، وركن من أركانهم، وفقيه عظيم من أعاظم فقهائهم، يضرب المثل بفقاهته، ومفخرة من مفاخر جبل عامل".
ـ الشهيد الثاني: "شيخنا المحقّق، النحرير المدقق، الجامع بين منقبة العلم والسعادة، ومرتبة العمل والشهادة، محمَّد بن مكي، أعلى الله درجته، كما شرّف خاتمته".
ـ المحقق الكركي: "فقيه أهل البيت في زمانه، علم الفقهاء، قدوة المحققين والمدققين".
ـ الميرزا النوري "في مستدرك الوسائل": "جامع فنون الفضائل، وحاوي صفوف المعالي، وصاحب النفس الزكية".