خادم الأميرة
04-06-2010, 03:52 AM
الشهيد الثاني: العالم الأسوة والقدوةالشهيد الثاني: العالم الأسوة والقدوة
الشيخ زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد بن محمد بن علي بن جمال الدين بن تقي بن صالح بن مشرف العاملي الجبعي الشهير بالشهيد الثاني.
ولد الشهيد الثاني في 13 شوال 911هـ، من أسرة علمية عريقة فأبوه كان من كبار أفاضل عصره، وكان ستة من آبائه من الفضلاء المرموقين، وامتدت هذه الصفات في أبنائه فعرفت بسلسلة الذهب.
كان الشهيد يتمتع بمخايل النجابة والذكاء وحب العلم والمعرفة، وقد ساهمت الظروف في تأمين البيئة الصالحة له، فكان ختمه للقرآن في سنة 920هـ، وهو لم يتجاوز التاسعة من عمره، وشكل ذلك انطلاقة لقراءة الفنون الأدبية والفقه يرعاه والده ويدرسه، فقرأ عليه مختصر الشرائع واللمعة الدمشقية وفي الروضات حتى وفاته سنة 925هـ.
رحلته العلمية والإيمانية:
بعد وفاة والده قصد ميس الجبل لطلب العلم فتتلمذ على يد الشيخ علي عبد العالي، وكان له من العمر أربعة عشر عاماً، وبقي فيها إلى أواخر سنة 933هـ، فقرأ عليه "شرائع الإسلام" و"الإرشاد" وأكثر القواعد، وكانت المدة التي قضاها في ميس ثماني سنوات وثلاثة أشهر، وحصلت فيها بينه وبين الشيخ مودة.
ارتحل بعدها إلى كرك نوح حيث يقيم الشيخ علي الميسي زوج خالته الذي زوجه ابنته، وقرأ بها على المرحوم السيد حسن ابن السيد جعفر صاحب كتاب المحجة البيضاء جملة من الفنون منها "قواعد ميثم البحراني" في الكلام و"التهذيب" في أصول الفقه و"العمدة الجلية" في الأصول الفقهي و"الكافية" في النحو.
بعد سبعة أشهر راوده الحنين إلى بلده، فعاد إلى جبع، فاستقبله أهلها بالحفاوة والترحاب، وبقي فيها من عام 934إلى عام 937هـ، استغلها في المذاكرة والمطالعة والتوجيه، فكان مثالاً للرجل الرسالي المشفق على أبناء بلده والحريص عليهم، غير أن ذلك لم يمنعه من متابعة تحصيله العلمي فانتقل إلى دمشق، واستُقبل بها على بعض أعلامها لا سيما الشيخ الفاضل المحقق الفيلسوف شمس الدين محمد بن مكي وقرأ عليه بعض مؤلفاته في الطب والهيئة، وبعض "حكمة الإشراق" للسهروردي، ودرس "علم القراءة" على الشيخ أحمد بن جابر عاد بعدها إلى جبع عام 938هـ.
دفعه الفضول العلمي للعودة في سنة 941هـ إلى دمشق ثانية، واجتمع بجماعة من الأفاضل في مقدمتهم الشيخ شمس الدين بن طولون الدمشقي وقرأ عليه جملة من الصحيحين وأجازه في الرواية.
لم يتوقف الشغف العلمي للشهيد على بلاد الشام، بل آثر الاطلاع على المناهج والمدارس الفكرية لدى المذاهب الإسلامية بمختلف تفرعاتها، فرحل إلى مصر سنة 943هـ، ولما وصل إلى غزة اجتمع بالشيخ محيي الدين عبد القادر بن أبي الخير الغزي وجرت بينهما بعض المناقشات وأجازه إجازة عامة، وتوطدت العلاقات بينهما وصلت إلى درجة أدخله معها الشيخ الغزّي إلى خزانة كتبه فجال فيها وقلب كتبها ولما هم بالخروج طلب إليه أن يختار منها كتاباً.
ومكث في غزة مدة تابع بعدها السير إلى مصر التي كانت في تلك الأيام حاضرة مهمة في عالم الفكر والثقافة والعلوم فحضر فيها كثيراً من حلقات المساجد والمدارس وقرأ على كثير من شيوخ الفقه والحديث والتفسير كالشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي، والملاّ حسين الجرجاني، والملا محمد الاسترابادي، وغيرهم، دارساً الفقه والفنون العربية والعقلية (المعاني والبيان وأصول الفقه والنحو والهندسة والهيئة والمنطق والعروض والحديث والتفسير القراءة والحساب).
كان يرفض أن يقف كل جماعة على مذهب واتباعه دون الاطلاع على معارف المذاهب الأخرى وعلومها. وكان يدعو إلى الحوار والمناقشة، وأن يكون الأخذ بالآراء مبني على الوضوح والبيان، ولا أدل على ذلك ما كان من مناقشته للشيخ أبو الحسن البكري حيث يرفض أن يجمد "كل فريق منهم على مذهب من المذاهب" ولم يدر ما قيل فيما عدا المذهب الذي اختاره مع قدرته على الاطلاع والفحص وإدراك المطالب.
وبعد أن ألم بجملة وافية من العلوم والمعارف الإسلامية، واطلع على مناهج الدراسة وتعرف على المذاهب والمدارس الفكرية المتنوعة، غادر في عام 943هـ لأداء فريضة الحج والعمرة، وعاد في عام 944 هـ إلى بلده فابتهج أهل العلم بعودته وتزاحمت على داره أفواج طلبة العلوم فشرع بالتدريس والتوجيه، ولم يكتف بذلك فبنى مسجداً وغيره من المشاريع.
ومما يجدر ذكره أن الشهيد كان قد التمس في نفسه ابتداء من عام 933هـ ملامح الاجتهاد، وبانت قدرته على الاستنباط وأظهر ذلك عودة الناس إليه في التقليد وكان عمره 33 سنة.
كان مولعاً بحب السفر وشغوفاً في ركوبه ومجاهدة نفسه، خاصة إذا كان المقصد الأئمة (ع)، فترك مهوى قلبه وفؤاده، وغادر إلى العراق، وكان ذلك في عام 946هـ، ومما يروى أن رفقاءه في السفر كانوا متعددي الأوطان والانتماءات الدينية، ومنهم من كان يعادي الشيعة، ولكن الشهيد استطاع أن يستميله بحكمته وتعاطيه الرصين، أضحت بينهما إلفة ومودة وصلت إلى ملازمته والصلاة معه، محولاً بذلك العدو إلى صديق حميم.
ونظراً لما كان بيت المقدس يختزنه من حب في قلبه وفي وجدانه لما يشكله من مخزون قيمي وتراثي، وحيث كان أولى القبلتين وثاني الحرمين، آثر زيارته في منتصف ذي الحجة عام 948هـ، والتقى بالشيخ شمس الدين بن أبي اللطف المقدسي، وقرأ عليه بعض صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم وأجازه إجازة عامة، ثم رجع إلى جبع، وأقام بها إلى سنة 951هـ مستقلاً بالمطالعة والمذاكرة متفرغاً وسعه في ذلك.
سفره إلى القسطنطينية:
سافر بعدها إلى القسطنطينية ليلتقي فيها بعض كبار المسؤولين، وكان في العادة يتوجب على من يريد لقاء المسؤولين في الآستانة أن يأخذ تعريفاً من حاكم منطقته، وكان القاضي المعروف بالشامي هو قاض صيدا آنذاك، فامتنع الشهيد أن يأخذ منه تعريفاً مؤثراً الاكتفاء بتعريف نفسه هناك بتأليف رسالة من عشرة مباحث كل منها في فن من الفنون العقلية والفقهية والتفسير وغير ذلك فقبلها قاضي العسكر دون أن يطالب بتعريف قاضي صيدا، وهذا ما يدل على أن الشهيد الثاني كان يحظى باحترام القادة والحكام في الآستانة وما يزيد في إيضاح علو مكانته أنه ترك له الحرية في اختيار ما يشاء من الوظائف والمدارس فاختار التدريس في المدرسة النورية في بعلبك على مختلف المذاهب بما فيها المذهب الشيعي، ويعد ذلك بمثابة فتح أدى إلى اعتراف السلطان العثماني رسمياً بالمذهب الشيعي من جهة، والإطلالة للشهيد على المذاهب الإسلامية الأخرى تدريساً وبحثاً من جهة أخرى، ما أكسبه وداً واحتراماً زائدين، وأصبح مجال حركته في دائرة أوسع تشمل الساحة الإسلامية كلها، ما جعله في مكانة يحسده عليها الخصوم والمتربصون.
وقبل أن يعود إلى المدرسة النورية أبى عليه حبه للاستطلاع والسفر الذي يعتبر مدرسة حيّة ومتنقلة يزيد فيها من معارفه ويكسب تجربته قوة ومناعة، ويعمق فيها من منهجه ومراسه في ميداني الكتابة والمجتمع، وتجلى ذلك حركة إبداعية فكتب بقلم الباحث المتزن والواثقِ، فاتسمت كتابته بالدقة والموضوعية، فوصف المدن والبلاد التي زارها واتصل بعلمائها من غير أن يفوته ذكر مناخها وثمارها وبعض عادات أهلها، واستمرت جولته هذه تسعة أشهر.
ينتقل بعدها إلى العراق وتسبقه إليها شهرته، فيتدفق عليه الناس من مختلف الطبقات، فيزور سامراء في عام 952ه، ويحقق قبلة مسجد الكوفة ويصلي وفق ما أدّى إليه اجتهاده فيتابعه الناس.
وفي منتصف شهر صفر 953هـ، عاد إلى بعلبك وأقام بها يشتغل بالتدريس على المذاهب الخمسة ويقوم بإرشاد الناس وتوجيههم وقضاء حوائجهم والقيام بشؤونهم الدينية، فتتحول معه بعلبك إلى حاضرة علمية، وانتقل بعد ذلك إلى جبع، واشتغل بالتصنيف والتأليف.
معاناته:
لقد عانى الشهيد الثاني الكثير من المشاق واعترضته صعاب جمّة، فيتحدث عن أوضاعه: "فتضطرني الحال وأنا في سن الشيخوخة إلى شراء حوائجي من السوق بنفسي وإلى غير ذلك من الأعمال البيتية ولا أزال وقد جاوزت الرابعة والثمانين من عمري أزاول ذلك وأشتغل بالتأليف والتصنيف ليلي ونهاري ولا مساعد ولا معين إلا الله".
كان يقضي نهاره في التدريس وقضاء حاجات المحتاجين، وليله في الاحتطاب وحفظ الكرم، ومع ذلك جاء كثير التأليف خصب الكتابة مع ضبط للمواضيع ودقة في النقل، وترو في طرح الموضوعات وعمق في النظريات، ونضج في الفتاوى، ونجاح قلّ نظيره في التدريس، رافداً مطالعاته وثقافته بكثرة السفر.
استهشاده:
تعددت الأقوال والأراء في سبب استشهاده، فيقول البعض إنه كان نتيجة مرافعة عنده لرجلين فحكم لأحدهما على الآخر، فغضب المحكوم عليه وذهب إلى قاضي صيدا المعروف بالشامي الآنف الذكر الذي لم ينس له عدم أخذه بتوصية منه لما ذهب إلى القسطنطينية، وفي رواية أخرى أن السبب في شهادته يعود إلى جماعة من أهل السنة وشوا عليه لرستم باشا الوزير الأعظم للسطان سليمان بدعوى الاجتهاد.
وبدأت السعايات والوشايات عليه، وهكذا فما إن عاد لرؤية أهل جبع (1955هـ) حتى بدأ الضغط عليه ومراقبته وإحاطته بالعيون والجواسيس بدعوى الاجتهاد وأنه يتردد إليه كثير من علماء الشيعة ويقرأون عليه كتب الإمامية وغرضهم إشاعة التشيع الذي كان الحكم العثماني يرى فيه تهديداً لسلطته، وكانت النتيجة أن أرسل الوزير في طلب الشيخ وكان وقتئذ في مكة للذهاب إلى الآستانة فقتلوه وهو في الطريق إليها قبل أن يعرضوه على السلطان سليمان فقضى بذلك شهيداً.
مؤلفاته:
له مؤلفات كثيرة تربو على الثمانين، فتوزع على مختلف فنون العلم والمعرفة، منها:
* شرح الإرشاد: يشتمل على خطبته المعروفة التي أخذت بمجامع الفصاحة والبلاغة، وخاض فيها في مجالات ثقافة عصره باطمئنان واعتداد بالنفس، جامعاً فيها بين الدقة والعمق في اختصاصه وبين الإحاطة بحقول المعرفة البشرية المختلفة.
* اللمعة الدمشقية: هو مؤلف فقهي للشهيد الأول أبدى فيه الشهيد الثاني رأيه، وللكتاب مكانة مرموقة بين الكتب الفقهية، حاز على اهتمام العلماء وأصبح محط عنايتهم وتعليقاتهم، فزادت الشروح عليه على التسعين.
* مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام، شرح على شرائع المحقق الحلّي، كتاب في سبع مجلدات.
* روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان للعلامة الحلّي وهو كتاب في الفقه الاستدلالي حول الطهارة والصلاة.
* شرح: ألفية الشهيد الأول وهي تتضمن ألف واجب في الصلاة، ونفلية الشهيد الأول التي تتحدث عن مستحبات الصلاة.
* رسالة في الحث على صلاة الجمعة.
* منسك الحج والعمرة.
* رسالة في ميرات الزوجة.
* رسالة في عدم تقليد الأموات من المجتهدين.
هذا عدا عن إجاباته عن المسائل التي كانت ترد عليه.
* تمهيد القواعد الأصولية لتفريع الأحكام الشرعية: يحتوي على مائة قاعدة في الأصول ومثلها في العربية، وله منظومة في النحو، يصفه مؤلفه بأنه كتاب واحد في فنه.
* حقائق الإيمان: يبحث في معنى الإيمان في الإسلام، ويرد فيه على بعض الشبهات ثم يبحث في أصول الدين مع تفصيل أكثر في الإمامة.
* البداية في سبيل الهداية: يبحث في القواعد وغيره.
* الدراية: مؤلف رسالة صغيرة في هذا العلم ويشرحها.
* كشف الريبة عن أحكام الغيبة: يعالج فيه ما رآه من ابتلاءات الناس بها.
* مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد: سبب تصنيفه له كثرة ما توفي له من الأولاد بحيث لم يبق منهم أحد إلا الشيخ حسن، وهو مؤلف يسلي فيه نفسه ويعزيها ويعزي به كل من ابتلى بنفس المصيبة.
* منية المريد في آداب المفيد والمستفيد: هو كتاب صغير يضمنه ما يجب على العالم والمتعلم المواظبة عليه من الأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة، وواجبات القاضي والمفتي حين القضاء والإفتاء.
يعتبر هذا الكتاب فتحاً في عالم التربية، سكب فيه الشهيد خلاصة تجربته، فيقدم يقدم نظرية تربوية متكاملة تراعي مختلف جوانب المعرفة التي ينبغي توافرها في المعلّم، وما يتطلبه من مستوى لائق في العلم حتى يكمل أهليته، ويعمل على تربية نفسه وتصبح مسلكه مع ما لذلك من تأثير على نفوس المتعلمين، ومن تفاعل وانجذابهم إليه، وذلك عن طريق إغرائهم وترغيبهم بالعلم ومراقبته لسلوكهم، وهذا ما يمكنه بالتالي من إنجاح العملية التربوية فيعالج أخطاءهم بحكمة.
ويوصي الشهيد الثاني المعلم بالتدرج في إعطاء المعرفة، ويعتمد في منهاجه التعليمي نظام الوحدات في الصفوف، والتنويع في مواد التعليم، واتباع الأساليب التي تجذب الطالب إليه فيدخل إلى قلبه ويزرع المحبة فيها، وينقذه من الملل، بإثارته حماسه بالثناء على إحسانه، وحضّه على بذل المزيد من الجهد.
كما ينصح المعلم بمراعاة الوقار وحسن الهندام، لما لذلك من أثر في تقريب العلم من الطالب وكسب احترامه، كما عليه أن لا يغفل ما قد يسببه الوضع الاقتصادي من حرج للطالب من تشويش على ذهنه وأفكاره، ما يجعله في حالة قلق على حياته، فيوصي بتجاوز أزماته وتأمين حياة إقتصادية مرضية له.
كان له اهتمامات شعرية بالرغم من مشاغله، نعرض منها قوله عندما زار النبي(ص):
صلاة وتسليم على أشرف الورى ومن فضله ينبو عن الحد والحصر
ومن قد رقى السبع الطباق بنعله وعوّضه الله البراق عن المهر
وخاطبه الله العلي بحبه شفاهاً ولم يحصل لعبد ولا حر
عدولي عن تعداد فضلك لائق يكل لساني عنه في النظم والشعر
إلى أن يقول:
ومن عادة العرب الكرام بوفدهم إعادته بالخير والحبر والوفر
فحقق رجائي سيدي في زيارتي بنيل مناي والشفاعة في حشري
الشيخ زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد بن محمد بن علي بن جمال الدين بن تقي بن صالح بن مشرف العاملي الجبعي الشهير بالشهيد الثاني.
ولد الشهيد الثاني في 13 شوال 911هـ، من أسرة علمية عريقة فأبوه كان من كبار أفاضل عصره، وكان ستة من آبائه من الفضلاء المرموقين، وامتدت هذه الصفات في أبنائه فعرفت بسلسلة الذهب.
كان الشهيد يتمتع بمخايل النجابة والذكاء وحب العلم والمعرفة، وقد ساهمت الظروف في تأمين البيئة الصالحة له، فكان ختمه للقرآن في سنة 920هـ، وهو لم يتجاوز التاسعة من عمره، وشكل ذلك انطلاقة لقراءة الفنون الأدبية والفقه يرعاه والده ويدرسه، فقرأ عليه مختصر الشرائع واللمعة الدمشقية وفي الروضات حتى وفاته سنة 925هـ.
رحلته العلمية والإيمانية:
بعد وفاة والده قصد ميس الجبل لطلب العلم فتتلمذ على يد الشيخ علي عبد العالي، وكان له من العمر أربعة عشر عاماً، وبقي فيها إلى أواخر سنة 933هـ، فقرأ عليه "شرائع الإسلام" و"الإرشاد" وأكثر القواعد، وكانت المدة التي قضاها في ميس ثماني سنوات وثلاثة أشهر، وحصلت فيها بينه وبين الشيخ مودة.
ارتحل بعدها إلى كرك نوح حيث يقيم الشيخ علي الميسي زوج خالته الذي زوجه ابنته، وقرأ بها على المرحوم السيد حسن ابن السيد جعفر صاحب كتاب المحجة البيضاء جملة من الفنون منها "قواعد ميثم البحراني" في الكلام و"التهذيب" في أصول الفقه و"العمدة الجلية" في الأصول الفقهي و"الكافية" في النحو.
بعد سبعة أشهر راوده الحنين إلى بلده، فعاد إلى جبع، فاستقبله أهلها بالحفاوة والترحاب، وبقي فيها من عام 934إلى عام 937هـ، استغلها في المذاكرة والمطالعة والتوجيه، فكان مثالاً للرجل الرسالي المشفق على أبناء بلده والحريص عليهم، غير أن ذلك لم يمنعه من متابعة تحصيله العلمي فانتقل إلى دمشق، واستُقبل بها على بعض أعلامها لا سيما الشيخ الفاضل المحقق الفيلسوف شمس الدين محمد بن مكي وقرأ عليه بعض مؤلفاته في الطب والهيئة، وبعض "حكمة الإشراق" للسهروردي، ودرس "علم القراءة" على الشيخ أحمد بن جابر عاد بعدها إلى جبع عام 938هـ.
دفعه الفضول العلمي للعودة في سنة 941هـ إلى دمشق ثانية، واجتمع بجماعة من الأفاضل في مقدمتهم الشيخ شمس الدين بن طولون الدمشقي وقرأ عليه جملة من الصحيحين وأجازه في الرواية.
لم يتوقف الشغف العلمي للشهيد على بلاد الشام، بل آثر الاطلاع على المناهج والمدارس الفكرية لدى المذاهب الإسلامية بمختلف تفرعاتها، فرحل إلى مصر سنة 943هـ، ولما وصل إلى غزة اجتمع بالشيخ محيي الدين عبد القادر بن أبي الخير الغزي وجرت بينهما بعض المناقشات وأجازه إجازة عامة، وتوطدت العلاقات بينهما وصلت إلى درجة أدخله معها الشيخ الغزّي إلى خزانة كتبه فجال فيها وقلب كتبها ولما هم بالخروج طلب إليه أن يختار منها كتاباً.
ومكث في غزة مدة تابع بعدها السير إلى مصر التي كانت في تلك الأيام حاضرة مهمة في عالم الفكر والثقافة والعلوم فحضر فيها كثيراً من حلقات المساجد والمدارس وقرأ على كثير من شيوخ الفقه والحديث والتفسير كالشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي، والملاّ حسين الجرجاني، والملا محمد الاسترابادي، وغيرهم، دارساً الفقه والفنون العربية والعقلية (المعاني والبيان وأصول الفقه والنحو والهندسة والهيئة والمنطق والعروض والحديث والتفسير القراءة والحساب).
كان يرفض أن يقف كل جماعة على مذهب واتباعه دون الاطلاع على معارف المذاهب الأخرى وعلومها. وكان يدعو إلى الحوار والمناقشة، وأن يكون الأخذ بالآراء مبني على الوضوح والبيان، ولا أدل على ذلك ما كان من مناقشته للشيخ أبو الحسن البكري حيث يرفض أن يجمد "كل فريق منهم على مذهب من المذاهب" ولم يدر ما قيل فيما عدا المذهب الذي اختاره مع قدرته على الاطلاع والفحص وإدراك المطالب.
وبعد أن ألم بجملة وافية من العلوم والمعارف الإسلامية، واطلع على مناهج الدراسة وتعرف على المذاهب والمدارس الفكرية المتنوعة، غادر في عام 943هـ لأداء فريضة الحج والعمرة، وعاد في عام 944 هـ إلى بلده فابتهج أهل العلم بعودته وتزاحمت على داره أفواج طلبة العلوم فشرع بالتدريس والتوجيه، ولم يكتف بذلك فبنى مسجداً وغيره من المشاريع.
ومما يجدر ذكره أن الشهيد كان قد التمس في نفسه ابتداء من عام 933هـ ملامح الاجتهاد، وبانت قدرته على الاستنباط وأظهر ذلك عودة الناس إليه في التقليد وكان عمره 33 سنة.
كان مولعاً بحب السفر وشغوفاً في ركوبه ومجاهدة نفسه، خاصة إذا كان المقصد الأئمة (ع)، فترك مهوى قلبه وفؤاده، وغادر إلى العراق، وكان ذلك في عام 946هـ، ومما يروى أن رفقاءه في السفر كانوا متعددي الأوطان والانتماءات الدينية، ومنهم من كان يعادي الشيعة، ولكن الشهيد استطاع أن يستميله بحكمته وتعاطيه الرصين، أضحت بينهما إلفة ومودة وصلت إلى ملازمته والصلاة معه، محولاً بذلك العدو إلى صديق حميم.
ونظراً لما كان بيت المقدس يختزنه من حب في قلبه وفي وجدانه لما يشكله من مخزون قيمي وتراثي، وحيث كان أولى القبلتين وثاني الحرمين، آثر زيارته في منتصف ذي الحجة عام 948هـ، والتقى بالشيخ شمس الدين بن أبي اللطف المقدسي، وقرأ عليه بعض صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم وأجازه إجازة عامة، ثم رجع إلى جبع، وأقام بها إلى سنة 951هـ مستقلاً بالمطالعة والمذاكرة متفرغاً وسعه في ذلك.
سفره إلى القسطنطينية:
سافر بعدها إلى القسطنطينية ليلتقي فيها بعض كبار المسؤولين، وكان في العادة يتوجب على من يريد لقاء المسؤولين في الآستانة أن يأخذ تعريفاً من حاكم منطقته، وكان القاضي المعروف بالشامي هو قاض صيدا آنذاك، فامتنع الشهيد أن يأخذ منه تعريفاً مؤثراً الاكتفاء بتعريف نفسه هناك بتأليف رسالة من عشرة مباحث كل منها في فن من الفنون العقلية والفقهية والتفسير وغير ذلك فقبلها قاضي العسكر دون أن يطالب بتعريف قاضي صيدا، وهذا ما يدل على أن الشهيد الثاني كان يحظى باحترام القادة والحكام في الآستانة وما يزيد في إيضاح علو مكانته أنه ترك له الحرية في اختيار ما يشاء من الوظائف والمدارس فاختار التدريس في المدرسة النورية في بعلبك على مختلف المذاهب بما فيها المذهب الشيعي، ويعد ذلك بمثابة فتح أدى إلى اعتراف السلطان العثماني رسمياً بالمذهب الشيعي من جهة، والإطلالة للشهيد على المذاهب الإسلامية الأخرى تدريساً وبحثاً من جهة أخرى، ما أكسبه وداً واحتراماً زائدين، وأصبح مجال حركته في دائرة أوسع تشمل الساحة الإسلامية كلها، ما جعله في مكانة يحسده عليها الخصوم والمتربصون.
وقبل أن يعود إلى المدرسة النورية أبى عليه حبه للاستطلاع والسفر الذي يعتبر مدرسة حيّة ومتنقلة يزيد فيها من معارفه ويكسب تجربته قوة ومناعة، ويعمق فيها من منهجه ومراسه في ميداني الكتابة والمجتمع، وتجلى ذلك حركة إبداعية فكتب بقلم الباحث المتزن والواثقِ، فاتسمت كتابته بالدقة والموضوعية، فوصف المدن والبلاد التي زارها واتصل بعلمائها من غير أن يفوته ذكر مناخها وثمارها وبعض عادات أهلها، واستمرت جولته هذه تسعة أشهر.
ينتقل بعدها إلى العراق وتسبقه إليها شهرته، فيتدفق عليه الناس من مختلف الطبقات، فيزور سامراء في عام 952ه، ويحقق قبلة مسجد الكوفة ويصلي وفق ما أدّى إليه اجتهاده فيتابعه الناس.
وفي منتصف شهر صفر 953هـ، عاد إلى بعلبك وأقام بها يشتغل بالتدريس على المذاهب الخمسة ويقوم بإرشاد الناس وتوجيههم وقضاء حوائجهم والقيام بشؤونهم الدينية، فتتحول معه بعلبك إلى حاضرة علمية، وانتقل بعد ذلك إلى جبع، واشتغل بالتصنيف والتأليف.
معاناته:
لقد عانى الشهيد الثاني الكثير من المشاق واعترضته صعاب جمّة، فيتحدث عن أوضاعه: "فتضطرني الحال وأنا في سن الشيخوخة إلى شراء حوائجي من السوق بنفسي وإلى غير ذلك من الأعمال البيتية ولا أزال وقد جاوزت الرابعة والثمانين من عمري أزاول ذلك وأشتغل بالتأليف والتصنيف ليلي ونهاري ولا مساعد ولا معين إلا الله".
كان يقضي نهاره في التدريس وقضاء حاجات المحتاجين، وليله في الاحتطاب وحفظ الكرم، ومع ذلك جاء كثير التأليف خصب الكتابة مع ضبط للمواضيع ودقة في النقل، وترو في طرح الموضوعات وعمق في النظريات، ونضج في الفتاوى، ونجاح قلّ نظيره في التدريس، رافداً مطالعاته وثقافته بكثرة السفر.
استهشاده:
تعددت الأقوال والأراء في سبب استشهاده، فيقول البعض إنه كان نتيجة مرافعة عنده لرجلين فحكم لأحدهما على الآخر، فغضب المحكوم عليه وذهب إلى قاضي صيدا المعروف بالشامي الآنف الذكر الذي لم ينس له عدم أخذه بتوصية منه لما ذهب إلى القسطنطينية، وفي رواية أخرى أن السبب في شهادته يعود إلى جماعة من أهل السنة وشوا عليه لرستم باشا الوزير الأعظم للسطان سليمان بدعوى الاجتهاد.
وبدأت السعايات والوشايات عليه، وهكذا فما إن عاد لرؤية أهل جبع (1955هـ) حتى بدأ الضغط عليه ومراقبته وإحاطته بالعيون والجواسيس بدعوى الاجتهاد وأنه يتردد إليه كثير من علماء الشيعة ويقرأون عليه كتب الإمامية وغرضهم إشاعة التشيع الذي كان الحكم العثماني يرى فيه تهديداً لسلطته، وكانت النتيجة أن أرسل الوزير في طلب الشيخ وكان وقتئذ في مكة للذهاب إلى الآستانة فقتلوه وهو في الطريق إليها قبل أن يعرضوه على السلطان سليمان فقضى بذلك شهيداً.
مؤلفاته:
له مؤلفات كثيرة تربو على الثمانين، فتوزع على مختلف فنون العلم والمعرفة، منها:
* شرح الإرشاد: يشتمل على خطبته المعروفة التي أخذت بمجامع الفصاحة والبلاغة، وخاض فيها في مجالات ثقافة عصره باطمئنان واعتداد بالنفس، جامعاً فيها بين الدقة والعمق في اختصاصه وبين الإحاطة بحقول المعرفة البشرية المختلفة.
* اللمعة الدمشقية: هو مؤلف فقهي للشهيد الأول أبدى فيه الشهيد الثاني رأيه، وللكتاب مكانة مرموقة بين الكتب الفقهية، حاز على اهتمام العلماء وأصبح محط عنايتهم وتعليقاتهم، فزادت الشروح عليه على التسعين.
* مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام، شرح على شرائع المحقق الحلّي، كتاب في سبع مجلدات.
* روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان للعلامة الحلّي وهو كتاب في الفقه الاستدلالي حول الطهارة والصلاة.
* شرح: ألفية الشهيد الأول وهي تتضمن ألف واجب في الصلاة، ونفلية الشهيد الأول التي تتحدث عن مستحبات الصلاة.
* رسالة في الحث على صلاة الجمعة.
* منسك الحج والعمرة.
* رسالة في ميرات الزوجة.
* رسالة في عدم تقليد الأموات من المجتهدين.
هذا عدا عن إجاباته عن المسائل التي كانت ترد عليه.
* تمهيد القواعد الأصولية لتفريع الأحكام الشرعية: يحتوي على مائة قاعدة في الأصول ومثلها في العربية، وله منظومة في النحو، يصفه مؤلفه بأنه كتاب واحد في فنه.
* حقائق الإيمان: يبحث في معنى الإيمان في الإسلام، ويرد فيه على بعض الشبهات ثم يبحث في أصول الدين مع تفصيل أكثر في الإمامة.
* البداية في سبيل الهداية: يبحث في القواعد وغيره.
* الدراية: مؤلف رسالة صغيرة في هذا العلم ويشرحها.
* كشف الريبة عن أحكام الغيبة: يعالج فيه ما رآه من ابتلاءات الناس بها.
* مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد: سبب تصنيفه له كثرة ما توفي له من الأولاد بحيث لم يبق منهم أحد إلا الشيخ حسن، وهو مؤلف يسلي فيه نفسه ويعزيها ويعزي به كل من ابتلى بنفس المصيبة.
* منية المريد في آداب المفيد والمستفيد: هو كتاب صغير يضمنه ما يجب على العالم والمتعلم المواظبة عليه من الأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة، وواجبات القاضي والمفتي حين القضاء والإفتاء.
يعتبر هذا الكتاب فتحاً في عالم التربية، سكب فيه الشهيد خلاصة تجربته، فيقدم يقدم نظرية تربوية متكاملة تراعي مختلف جوانب المعرفة التي ينبغي توافرها في المعلّم، وما يتطلبه من مستوى لائق في العلم حتى يكمل أهليته، ويعمل على تربية نفسه وتصبح مسلكه مع ما لذلك من تأثير على نفوس المتعلمين، ومن تفاعل وانجذابهم إليه، وذلك عن طريق إغرائهم وترغيبهم بالعلم ومراقبته لسلوكهم، وهذا ما يمكنه بالتالي من إنجاح العملية التربوية فيعالج أخطاءهم بحكمة.
ويوصي الشهيد الثاني المعلم بالتدرج في إعطاء المعرفة، ويعتمد في منهاجه التعليمي نظام الوحدات في الصفوف، والتنويع في مواد التعليم، واتباع الأساليب التي تجذب الطالب إليه فيدخل إلى قلبه ويزرع المحبة فيها، وينقذه من الملل، بإثارته حماسه بالثناء على إحسانه، وحضّه على بذل المزيد من الجهد.
كما ينصح المعلم بمراعاة الوقار وحسن الهندام، لما لذلك من أثر في تقريب العلم من الطالب وكسب احترامه، كما عليه أن لا يغفل ما قد يسببه الوضع الاقتصادي من حرج للطالب من تشويش على ذهنه وأفكاره، ما يجعله في حالة قلق على حياته، فيوصي بتجاوز أزماته وتأمين حياة إقتصادية مرضية له.
كان له اهتمامات شعرية بالرغم من مشاغله، نعرض منها قوله عندما زار النبي(ص):
صلاة وتسليم على أشرف الورى ومن فضله ينبو عن الحد والحصر
ومن قد رقى السبع الطباق بنعله وعوّضه الله البراق عن المهر
وخاطبه الله العلي بحبه شفاهاً ولم يحصل لعبد ولا حر
عدولي عن تعداد فضلك لائق يكل لساني عنه في النظم والشعر
إلى أن يقول:
ومن عادة العرب الكرام بوفدهم إعادته بالخير والحبر والوفر
فحقق رجائي سيدي في زيارتي بنيل مناي والشفاعة في حشري