ام هاني
19-06-2010, 02:36 PM
قال لي صاحبي مجادلاً:
إذا كان الله عز وجل قد أوحى لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) بالنص على خلافة الإمام علي (عليه السلام) من بعده، فكيف وقع المسلمون - وفيهم جلة الصحابة - في هذا الانحراف الخطير والعصيان الكبير، باستخلاف أبي بكر وإقصاء عليٍّ عن الخلافة؟! أنسوا أم تناسوا؟!.
وإذا كان المسلمون - وفيهم جلة الصحابة - قد انحرفوا وعصوا، فكيف حل لعليٍّ (عليه السلام) أن يقر هذا الانحراف والعصيان، أو على الأقل يسكت عنه ولا يقوّمه، ثم يوالي بعد ذلك ويبايع من عصوا وانحرفوا طائعاً أو مكرهاً؟!.
هذان سؤالان صريحان واضحان، أريد منك جواباً صريحاً وواضحاً عليها مع الأدلة التي تزيل الشبهة وتثبت الحقيقة.
قلت مبتسماً:
- إذا كنت مستعداً حقاً للاستماع بقلب مفتوح وعقل مستوعب، وتنوي الانقياد للبرهان والدليل، ولديك الوقت لأن تعطيني الفرصة الكافية للكلام دون إسهاب ممل ولا إيجاز مخل، أجبتك على سؤاليك.
قال:
- ما جئتك إلا لهذا، وإني مصغ بكل جوارحي لما تقول:
قلت متكلاً على الله تعالى:
* السقيفة اجتهاد في مقابل النص المتواتر المقطوع بصحته وصدوره عن النبي.
* السقيفة لم تحصل بشورى صحيحة من المسلمين، ولا بنص من رسول الله وإنما بمؤامرة حيكت بغياب أهل الرأي والمشورة والفضل والسابقة.
* (ما ولت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه، إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً - أي إلى الأسفل -).
إنني أعلم يا صاحبي العزيز أن سؤالك لأول يدور على لسان كل مسلم غير شيعي، بل وربما على ألسنة بعض قليلي الثقافة والإطلاع من الشيعة أنفسهم، والشباب منهم على وجه الخصوص. ومصدر هذا السؤال شبهتان: الكثرة، والمكانة المرسومة لبعض الرجال ممن سميتهم (جلة الصحابة).
أما شبهة (جلة الصحابة) فلا تشكل عند العاقل اللبيب أي عقبة، لأنه يدرك أن الشرع هو الميزان الحقيقي السليم للحق، وأن الحق يعرف بالشرع لا بالرجال، ومن هنا قال الإمام علي (عليه السلام) قولته المشهورة:
(لا يعرف الحق بالرجال، ولكن أعرف الحق تعرف أهله).
فالشرع ميزان الحق، والحق ميزان الرجال، وليس العكس. أتقر معي بهذا أم أنه يحتاج لمزيد بيان؟!
قال: بل أقر معك هذا الميزان وألتزمه.
قلت: أما الشبهة الثانية وهي الكثرة فستكون لنا معها وقفة مفصلة فيما سيلي من فقرات.
• ملابسات اجتماع السقيفة
1- إن الذين حضروا اجتماع السقيفة لم يكونوا كثرة من جماهير المسلمين كما يتوهم البعض، فالسقيفة لا تتسع أصلاً لاجتماع جماهيري، وإنما كانوا جمعاً من أرباب النفوذ وذوي المطامح والمطامع والتطلعات السلطوية من رؤوس الأنصار.
- أوسهم وخزرجهم - ولم يحضره من المهاجرين سوى أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، ذهبوا إليه متسللين لانتهاز الفرصة في غياب أهل الرأي والمشورة وغياب جماهير المسلمين، الذين كانوا ملتفين - في حزن عميق وألم شديد - حول حجره رسول الله (صلى الله عليه وآله) والدموع تسيل من مآقيهم حزناً وألماً لوفاة نبيهم الجليل.
2- ليس من المسلمات العقلية ولا النقلية أن تكون الكثرة دائماً مع الحق، بل العكس هو الصحيح في أغلب الأحيان، وذلك لأسباب نفسية واجتماعية كثيرة، ليس هنا مجال بحثها، واستمع معي إلى ما يقرره لقرآن الكريم عن موقف الكثرة:
(وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)[سورة يوسف: الآية 102].
(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)[سورة يوسف: الآية 106].
(إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)[سورة البقرة: الآية 242].
(وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)[سورة الأنعام: الآية 116].
(قل إن علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون)[سورة الأعراف: الآية 187].
(لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون)[سورة الزخرف: الآية 78].
(وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين)[سورة الأعراف: الآية 102].
(يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون)[سورة المائدة: الآية 102].
(إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)[سورة هود: الآية 17].
3- فإذا كانت هذه حال الكثرة، فبأي ميزان عقلي أو شرعي ننفي عن الكثرة إمكانية النسيان أو التناسي؟! إن الكثرة ليست عاصمة من النسيان أو التناسي، بل هي محلهما في الغالب الأعم من أحوالها وأمورها ومواقفها، والواقع يؤكد ذلك ويثبته، خاصة بالنسبة لجمع نفضوا أيديهم من الانشغال بتجهيز الرسول الكريم والصلاة عليه ودفنه، وسارعوا إلى ساحة الصراع على السلطة، ونسأل عمن اعتبروا (جلة الصحابة):
- كيف نسي عمر أو تناس قوله تعالى (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) [سورة النجم: الآية 3] عندما قال: إن نبيكم ليهجر، أو استفهموه! ما باله؟ أيهجر؟!(1).
وكيف نسي قوله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون)[سورة الزمر: الآية 30]، حين استلّ سيفه وروّع به جموع المسلمين وهو يصرخ: إن محمداً لم يمت وقد ذهب إلى ربه وسيعود فيقطع أيدي وأرجل أناس أدّعوا أنه مات(2).
- وكيف نسي زعماء الأنصار الذين هرعوا إلى السقيفة أو تناسوا قول نبيهم (الأئمة من قريش)(3) أو (لا تقوم الساعة حتى يكون على هذه الأمة اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)(4).
- وكيف نسيت (أم المؤمنين) عائشة قول ربها (وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن برّج الجاهلية الأولى)[سورة الأحزاب: الآية 33]، وقول نبيها: (كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب، وإياك أن تكوينها يا حميراء(5). خاصة وقد ذكرتها أم سلمة كل ذلك فأبت أن تتراجع عن الفتنة الهوجاء التي أثارتها وفرقت بها المسلمين.
- وكيف نسي أبو بكر قوله تعالى على لسان نبيه زكريا (عليه السلام) (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك ولياً. يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً)[سورة مريم: الآية 5-6] وقوله تعالى: (وورث سليمان داوود)[سورة النمل: الآية 16] حين اغتصب أرض فدك من فاطمة الزهراء (عليها السلام) وحرمها من فيئها.
- وكيف نسي الزبير قول رسول الله له (ستقاتله - أي علياً - وأنت له ظالم)(6) حين قاد الجيوش مع معاوية لقتال الخليفة الشرعي المنتخب من قبل الأمة، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
- وكيف نسي عثمان بن عفان أن رسول الله قد نفى الحكم بن العاص إلى الطائف ولعنه وما ولد وحرّم عليه سكن المدينة المنورة، وقال عنه: (من عذيري من هذا الوزغ)(7)، وقوله عن مروان بن الحكم (هو الوزغ بن الوزغ، الملعون بن الملعون)(http://illiweb.com/fa/i/smiles/icon_cool.gif، حين أعادهما إلى المدينة، وجعل مروان مستشاره الخاص وحامل أختامه، والمستحكم برقاب وأموال المسلمين، ونسي قول رسول الله في أبي ذر: (ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر)(9)، حين نفاه عن المدينة إلى الربذة فمات هناك وحيداً مصداقاً لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) (رحم الله أبا ذر يموت وحده ويبعث وحده).
- وكيف نسي المجتمعون في السقيفة بيعتهم بالإمامة والخلافة لعلي بن أبي طالب يوم غدير خم(10)، تلك الواقعة المشهورة المشهودة.
ولا أدري لعمري أنسي هؤلاء جميعاً أم تناسوا؟!
قاطعني صاحبي قائلاً: أو ليس قد قال النبي (صلى الله عليه وآله) (لا تجتمع أمتي على خطأ) أو (على ضلالة)؟! أليس الإجماع عاصماً؟.
قلت: نعم، إجماع الأمة عاصم لمجموع الأمة على وجه العموم الجمعي، - كما هو منطوق ومفهم الإجماع - لا على وجه العموم الاستفراقي. أي أن العصمة تكون للإجماع الذي يعم كل الأمة أو كل علمائها، لأنه عندئذ كاشف عن دخول المعصوم فيهم، أما الإجماع القائم على وجه الكثرة أو الغلبة، فقد عرفت حاله فيما قدمنا، وحيث غاب الإمام مع جمع من الأنصار وجميع المهاجرين عدا ثالوث أبي بكر - عمر - أبي عبيدة فقد انقطعت العصمة عن هؤلاء المجتمعين في السقيفة، وأصبح احتمال كل من النسيان أو التناسي - عصياناً وانحرافاً - احتمالاً وارداً لا يمكن رده.
4- إن أحداث السقيفة ورواياتها ليست مسلمة بشكل مؤكد بالصيغة التي رويت بها، وظاهر كل الظهور أن هذه الروايات من تلك الأحداث لم تكتب دفعة واحدة، وإنما حبكت على مراحل متتابعة، وبما يخدم السلطات الحاكمة - الأموية منها والعباسية - وقد تم إخضاعها لعمليات الحذف والإضافة والتزويق والتنسيق المرة تلو المرة، حتى وصلت إلينا بصيغتها الأخيرة التي رواها بها الطبري والمسعودي وابن قتيبة وغيرهم من المؤرخين.
* أنا أحق وأجدر بها منك ومن صاحبك يا عمر، ولئن كنتم نسيتم أو تناسيتم يوم غدير خم، يوم بخبختم لي وبايعتموني أنت وصاحبك والمسلمون.
* ألستم قد احتججتم عليهم بمكان رسول الله منكم؟ فأنا ألصق به مكاناً وأقرب إليه نسباً وصهراً.
ومع ذلك كله فقد بقيت في هذه الروايات إشارات مبثوثة، ومقاطع مبعثرة، تلفت النظر السليم، وتهدي بصيرة اللبيب، ومنها على سبيل المثال ما ورد من قول الأنصار أو بعضهم: (لا نبايع إلا علياً)(11) هذا القول ما أشبهه بشجرة خضراء مثمرة في صحراء قاحلة مرملة، أو قصر منيف بين مجموعة من بيوت الشعر!!.
هؤلاء الأنصار أو بعضهم، متى قالوا هذا القول؟ وما هي حجتهم في تخصيص علي، وكيف سكتوا أو أسكتوا بعد هذا القول الجازم الحازم؟ ومارد بقية الأنصار وثالوث المهاجرين على هذا القول؟!
كل هذه الأسئلة لا يجيب عليها التاريخ، وما غيب هذه الأجوبة إلا الحذف والإضافة كما شاء الرواة إرضاء لحكامهم وأولياء نعمتهم، مما شوه التاريخ وطمس حقائقه، إنها السياسة وبيع الدين بالدنيا، ألا قائل الله السياسة والجري وراء الأهواء والشهوات ومطامع الدنيا.
ونحن لابد أن نسأل: أبدون حجة ألقوها ولا بينة أبدوها قال هؤلاء الأنصار بصيغة حاسمة جازمة (لا نبايع إلا علياً)؟!. أم أنهم أسكتوا قبل الإدلاء بأي بينة أو حجة؟! إنه لوضع غريب وأمر مريب، بمنعنا من أن نثق بكل تلك الروايات ونسلم بها.
5- إذا كان الأنصار حقاً هم الذين بدأوا معركة الصراع على السلطة حين اجتمعوا في السقيفة، وحدهم دون دعوة المهاجرين، فإن سؤالاً جوهرياً يقفز إلى الأذهان، ما الذي دفعهم إلى ذلك الموقف وهم الذين سبق لهم أن بايعوا علياً يوم غدير خم؟! أكان ذلك منهم طمعاً في السلطة أم خوفاً على أنفسهم من قريش بعد أن أيقنوا أنها لن تخلي بين علي وخلافة المسلمين؟! ولاحظوا ما يحاك في السر والعلن من مؤامرات لاستئثار قريش بالسلطة(12)، وفيهم من الطلقاء الذين أسلموا أخيراً يوم فتح مكة من يخاف الأنصار جوره وظلمه وحيفه وانتقامه لو استولى على مقاليد السلطة.
هذه ناحية، والأخرى أن الخلافة إن خرجت عن عهدة أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)، فأية ميزة تبقى لسواه من المهاجرين على بقية الأنصار؟!
وبماذا يستحقون الخلافة والإمارة دونهم؟!.
6- وأخيراً - وأرجو أن لا أكون قد أطلت عليك يا صاحبي - فإن جماهير المسلمين المحتشدين في المسجد النبوي حول حجرة رسول الله، الغافلين عن كل ما كان يجري حولهم، فاجأهم صوت التكبير خارج المسجد، فاشر أبوا يستطلعون النبأ المذهل، ليروا أصحاب السقيفة قد اقبلوا بأبي بكر يزفونه زفة العروس، يتقدمهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، لا يمرون على أحد من المسلمين إلا خبطوه بعنف وأخذوا يده فمسحوها على يد أبي بكر طائعاً أو مكرهاً(13)، حتى أخذوا له بيعة صورية لا نص عليها ولا شورى فيها، ولا تتمتع بأي مسحة شرعية، حتى أن عمر نفسه قال عنها بعد أن خلفه في السلطة (إن بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها)(14).
• موقف الإمام علي من هذه البيعة الباطلة:
أما أنها باطلة فذلك للأسباب التالية:
* ألستم تعلمون أنني أخوه وابن عمه ووزيره وصهره، وأنا منه كهارون من موسى، فأنصفونا إن كنتم تخافون الله.
* فوالله لقد احتججتم بالشجرة وضيعتم الثمرة.
1- لأنها اجتهاد في مقابل النص المتواتر المقطوع بصحته وصدوره عن النبي (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم، بأمر من الله سبحانه وتعالى: (يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس)[سورة المائدة: الآية 67]، وبلّغ النبي المسلمين امتثالاً لأمر ربه، فقال لهم يوم غدير خم في جمع من المسلمين يزيد عن مائة ألف مسلم (ألست أولى بالمسلمين من أنفسهم؟(15)، قالوا بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار)(16).
2- لأنها لم تحصل بشورى صحيحة من المسلمين، ولا بنص من رسول الله وإنما بمؤامرة حيكت بغياب أهل الرأي والمشورة والفضل والسابقة، كعلي والعباس، وطلحة والزبير، والمقداد وسلمان وأبي ذر، والبراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان، وعبادة بن الصامت وسواهم من المسلمين الذين غابوا عن اجتماع السقيفة وأخذت البيعة منهم كرهاً.
3- لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما ولت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه، إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً - أي إلى الأسفل - حتى يرجعوا إلى ما تركوا - أي إلى الشرك والجاهلية).
- وأما موقف علي من هذه البيعة فقد تجلى في صور عديدة ومراحل متتالية عديدة نذكر منها:
1- ما أن أزدحم الأنصار على أبي بكر يبايعونه، حتى هرع رجل منهم إلى الإمام ينقل إليه خبر السقيفة، فسأله الإمام: وبماذا احتجوا على الأنصار؟
قال الرجل: احتجوا بأنهم عشيرة الرسول وأولياؤه والسابقون إلى الإيمان به ونصرته، هنا أطلق الإمام بيانه الأول ضد هذه المؤامرة، قال (عليه السلام): (احتجوا بالشجرة وضيعوا الثمرة)(17).
2- ما أن أتم الإمام علي تجهيز الرسول ودفنه حتى أنطلق مع زوجته فاطمة الزهراء (عليهما السلام) يستنفران الأنصار لنقض هذه البيعة، ويذكرانهم بتعاليم القرآن ووصايا النبي بجعله إماماً للمسلمين واجب الطاعة والمودة، فما كان الأنصار يزيدون على أن يقولوا: (يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أن زوجك سبق إلينا ما عدلنا به أحداً)، فكان عليه السلام يقول:
(أفكنت أدع رسول الله في بيته لم أدفنه وأخرج فأنازع الناس سلطانه؟) وتقول فاطمة (عليها السلام): (والله ما صنع أبو الحسن إلا ما ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه وطالبهم به)(18).
3- أمتنع الإمام علي عن بيعة أبي بكر، واعتصم في بيته مع عدد من أصحاب رسول الله من مهاجرين وأنصار لا يجاوز عددهم الأثني عشر رجلاً منهم: الزبير وطلحة وخالد بن سعيد والمقداد وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان وابن الثيهان وعبادة بن الصامت(19)، فقرر أبو بكر وعمر اقتحام البيت عليهم وإرغامهم على البيعة بالقوة والعنف.
وهكذا حاصروا بيت الإمام علي في جمهرة كبيرة من الأنصار والمهاجرين على رأسهم عمر وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة وأبو عبيدة بن الجراح وسواهم وقد رموا أكواماً من الحطب خلف الباب يهددون بحرقه ما لم يخرج من فيه من المعتصمين لبيعة أبي بكر(20).
وجُرّوا من البيت إلى المسجد مرغمين، وبايعوا مكرهين، وامتنع علي عن البيعة رغم التهديد والوعيد والجدال الشديد، ونقتطف جزءاً يسيراً من الحوار الذي دار في ذلك الموقف بين علي وعمر:
- بايع أبا الحسن وأدخل فيما دخل فيه المسلمون.
- أكلما دخل المسلمون في أمر طائعين أو مكرهين دخلنا معهم؟ ألا تعلم يا عمر أنه لا يقاس بآل محمد أحد وقد جُعلوا للناس أئمة لا تبعاً؟!.
- يا أبا الحسن لقد تقدمك المسلمون بالبيعة لأبي بكر فالحق بهم ولا تتخلف عن قومك.
- ما أبعد ما تقول يا عمر، ألم تسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (لا تقدّموهم فتهلكوا ولا تتأخروا عنهم فتضلوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)(21).
- يا أبا الحسن إن أبا بكر في فضله وسنه وسابقته لجدير بالخلافة.
- أنا أحق وأجدر بها منك ومن صاحبك يا عمر، ولئن كنتم نسيتم أو تناسيتم يوم غدير خم، يوم بخبختم لي وبايعتموني أنت وصاحبك والمسلمون، فإني أحتج عليكم بحجتكم التي غلبتم بها الأنصار، ألستم قد احتججتم عليهم بمكان رسول الله منكم؟ فأنا ألصق به مكاناً وأقرب إليه نسباً وصهراً، ألستم تعلمون أنني أخوه وابن عمه ووزيره وصهره، وأنا منه كهارون من موسى، فأنصفونا إن كنتم تخافون الله، واعرفوا لنا من الأمر مثلما عرفت الأنصار لكم، فوالله لقد احتججتم بالشجرة وضيعتم الثمرة، فأنصفونا من أنفسكم إن كنتم تؤمنون، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون(22).
- بايع يا علي فانك لست متروكاً حتى تبايع.
- احلب يا ابن الخطاب حلباً لك شطره، واشدد له أمره اليوم يردده عليك غداً. لا والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أطيع أمرك، ولا أخاف وعيدك ولا أخشى تهديدك، ولا أبايع صاحبك(23).
وهنا تدخل أبو عبيدة بن الجراح يلطف الجو المتوتر، ويستأنف الضغط على عليّ لينتزع منه البيعة لأبي بكر. قال أبو عبيدة:
- يا ابن عم، إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالاً له واضطلاعاً به، فسلم الأمر لأبي بكر، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء، فأنك لهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك.
- الله الله يا معاشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى دوركم وبيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامهم في الناس وحقهم في الخلافة، فو الله يا معاشر المهاجرين، لنحن - أهل البيت - أحق بهذا الأمر منكم ما كان منا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، القاسم بينهم بالسوية. والله إن هذا الأمر لفينا نحن أهل البيت، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله وتزدادوا من الحق بعداً(24).
وإذ يلاحظ عمر تغير وجه المهاجرين وتأثرهم بكلام علي وما أدلى به من الحجج والبينات، يشتدّ على عليّ قبل أن ينقلب الموقف ويتغير الحال لصالح علي فيقول بلهجة غاضبة ولسان متوتر منفعل:
- لاخيار لك يا ابن أبي طالب، وإنه لابد لك من البيعة.
- وإن أنا لم أفعل فمه؟
- إذن والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك!!
- إذن والله تفتلون عبد الله وأخا رسوله.
وشجع كلام عمر وسكوت أبي بكر رجلاً ثالثاً هو خالد بن الوليد، فتنطع للمهمة الصعبة وجرد سيفه من غمده ورفعه بيده وهو يهزه في وجه علي ويقول: بايع وإلا قتلتك.
وتهيجت نفوس المهاجرين والأنصار وتوترت أعصابهم وماجت قلوبهم وأفئدتهم بالإشفاق والخوف واهتزت وجداناتهم بالقلق والرعب، وبين دهشة الحاضرين، وتحفز فاطمة، وصراخ الحسنين، وتعلق الأبصار بالسيف المصلت فوق رأس علي، امتدت يدا أبي الحسن إلى خالد بن الوليد فأخذتا بمجامع ثوبه ورفعتاه عالياً - كعصفور ضعيف في يدي نسر - ثم ألقتاه أرضا، فوقع خائر النفس واهن العزيمة مرعوب الفؤاد مرتجف القلب فوق سيفه الذي أفلت من يده.
وهنا فقط تدخل أبو بكر قائلاً: خلّوا عن عليّ أيها الناس.
واعترض عمر مغضباً وقد أكل الغيظ قلبه: لا تتركه قبل أن يبايع يا أبا بكر. وأسكته أبو بكر حاسماً الموقف: لا والله يا عمر، لا أكرهه على شيء ما دامت فاطمة بنت محمد إلى جنبه(25).
وأدرك عمر - كما أدرك علي - مغزى ما ترمي إليه كلمات أبي بكر من تهديد ووعيد مؤجل.
ما أكثر ما ينس عمر وما أسرع ما يذكّره أبو بكرّ!! كيف غاب عن وعي عمر قول النبي (صلى الله عليه وآله) لا بنته فاطمة: أنت أول أهل بيتي لحوقاً بي؟!
انتهت الجولة الأولى من الصراع، وهرع علي إلى قبر أخيه وابن عمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبثه الأشجان ويشكو إليه الأحزان:
- يا ابن أم، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني(26)، ولولا وصية أوصيتني بها وعهد عهدة به إليّ بالصبر وعدم الاحتكام إلى السيف لما كنت أضعف القوم، اللهم رضىً بقضائك وصبراً على بلوائك.
وبقي علي بعد ذلك ستة أشهر معتزلاً في بيته لم يبايع لا هو ولا أحد من بني هاشم، فلما توفيت فاطمة (عليها السلام) انصرفت وجوه الناس عن علي، وتغيروا عليه وفقاً لتوجهات الخليفة الحاكم وأعوانه وازلامه، ورأى كذلك تموجات فتنة المرتدين وما رافقها من امتناع أقوام عن دفع الزكاة للخليفة غير الشرعي، فرأى أن ينهي هذا الموقف بعد أن أعذر إلى الله ورسوله وإلى المسلمين، فبايع وبايع بنو هاشم إيثاراً لمصلحة الإسلام العليا بعد أن آثر خصومه مصالحهم الشخصية والقبلية.
كانت هذه بعض مواقف الإمام علي من خلافة أبي بكر، وهناك مواقف أخرى في مواطن كثيرة، نستغني يا صاحبي بما ذكرنا عما تركنا أو أجلنا، خوف الإطالة والملل.
قال صاحبي: قد أسمعتني ما يزيل الباطل ويهدي إلى الحق ويغني عن المزيد.
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
1- البخاري ج 3 ص 1259 - الكامل في التاريخ ج 2 ص 217 - تاريخ الطبري ج 3 ص 192.
2- تاريخ الطبري ج 3 ص 197.
3- صحيح البخاري 9: 147/79، صحح مسلم 3: 1452/5 (1821) و 3: 1453/ 10(1822)، سنن الترمذي 4: 501/ 2223، سنن أبي داوود 4/106-4280.
4- نفس المصادر السابقة.
5- العقد الفريد لابن عبد الله الأندلسي ج 4 ص 258.
6- تاريخ الطبري ج 5 ص 204 ط1 المطبعة الحسينية المصرية - العقد الفريد ج 2 ص 279.
7- العقد الفريد ج 2 ص 292 - الصواعق المحرقة ص 179 - الدر المنثور للسيوطي ج 4 ص 191 و ج 6 ص 41 سير أعلام النبلاء ج 2 ص 80 - أسد الغابة ج 2 ص 34 - السيرة الحلبية ج 1 ص 217 - سيرة زيني وحلان بهامش الحلبية ج1 ص 225 - 226 الغدير للأميني ج 8 ص 245.
8- نفس المصادر السابقة.
9- معاني الأخبار ص 178.
10- روي الحديث بنصوص مختلفة في صحيح مسلم ج 4 ص 1872 حديث رقم 2408 - وسنن الترمذي ج 5 ص 662 حديث رقم 2788 ومسند أحمد ج 2 ص 17 والمستدرك ج 2 ص 148 وقال صحيح عن شرط الشيخين وكثير من الرواة غيرهم.
11- تاريخ الأمم والملوك لابن جرير الطبري ج 3 ص 198 طبعة دار القلم - بيروت.
12- لقد ألمح - رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى هذه القضية أكثر من مرة بقول للمسلمين (لو وليتم عليكم علياً لحكمكم على الجادة البيضاء ليلها نهارها، ولن تفعلوا) كررها أكثر من مرة.
13- السقيفة وفدك للجوهري ص 46، الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج1 ص 16.
14- تاريخ الطبري ج 3 ص 200.
15- هذا تذكير للمسلمين بقوله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)[سورة الأحزاب: الآية 6].
16- رواياته كثيرة ومنها في مسند أحمد ج 1 ص 119 وأيضا ج 1 ص 152 و ج 4 ص 281 و ج 4 ص 270 و271 _ سنن ابن ماجة ج 1 ص 43 الحديث رقم 116 - مستدرك الحاكم ج 3 ص 109 و 110 و خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص 21 - 27 و البداية والنهاية لابن كثير ج 5 ص 182 ص 189 وتاريخ دمشق لابن عساكر ج 2 ص 12 الحديث رقم 508 و 512 و 514 و 522 و 544 و 562 و 549 وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 62 كنز العمال للمتقي الهندي ج 6 ص 402 و ج 15 ص 115 الحديث رقم 222 و 402 وشواهد التنزيل للحكاني ج 1 ص 157 الحديث رقم 200 و ج 1 ص 192 الحديث رقم 250 ومجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 105 وغيرهم كثير.
17- السقيفة وفدك للجوهري ص 60 والإمامة والسياسة ج 1 ص 11.
18- الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1ج ص 12 وفيه: قال بشير بن سعد الأنصاري: (لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان).
19- الكامل في التاريخ ج 2 ص 200 وتاريخ الطبري ج 3 ص 198 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص 124 وتاريخ أبي الفداء ج 2 ص 62 وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 214 ص 215 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 49 ص 56 ص 116.
20- السقيفة وفدك للجوهري ص 59 و60 العقد الفريد ج 4 ص 259 ص260 تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 156 أعلام النساء ج 3 ص 1207 وتاريخ الطبري ج 3 ص 198 والإمامة والسياسة ج 1 ص 12 شرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 124.
21- مجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 162 وينابيع المودة للقندوزي ص 41 و 200 الدر المنثور للسيوطي ج 2 ص 60 كنز العمال للمتقي الهندي ج 1 ص 168 وأسد الغابة ج 3 ص 172 الصواعق المحرقة ص 148.
22- السقيفة وفدك للجوهري ص 60 والإمامة والسياسة ج 1 ص 11.
23- الإمامة والسياسة ج 1 ص 11.
24- السقيفة وفدك ص 61 والإمامة والسياسة ج 1 ص 11 ص 12 وشرح النهج ج 6 ص 11.
25- الإمامة والسياسة ج 1 ص 13 والعقد الفريد ج 2 ص 215 و تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 156 وأعلام النساء للزركلي ج 2 ص 1207 وتاريخ الطبري ج 1 ص 12 والملل والنحل للشهرستاني ص 83 وانساب الأشراف للبلاذري ج 1 ص 404 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 124.
26- الإمامة والسياسة ج 1 ص 12 وأعلام النساء ج 4 ص 114 ص 115 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 126 وشرح النهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 56 و ج 6 ص 11.
إذا كان الله عز وجل قد أوحى لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) بالنص على خلافة الإمام علي (عليه السلام) من بعده، فكيف وقع المسلمون - وفيهم جلة الصحابة - في هذا الانحراف الخطير والعصيان الكبير، باستخلاف أبي بكر وإقصاء عليٍّ عن الخلافة؟! أنسوا أم تناسوا؟!.
وإذا كان المسلمون - وفيهم جلة الصحابة - قد انحرفوا وعصوا، فكيف حل لعليٍّ (عليه السلام) أن يقر هذا الانحراف والعصيان، أو على الأقل يسكت عنه ولا يقوّمه، ثم يوالي بعد ذلك ويبايع من عصوا وانحرفوا طائعاً أو مكرهاً؟!.
هذان سؤالان صريحان واضحان، أريد منك جواباً صريحاً وواضحاً عليها مع الأدلة التي تزيل الشبهة وتثبت الحقيقة.
قلت مبتسماً:
- إذا كنت مستعداً حقاً للاستماع بقلب مفتوح وعقل مستوعب، وتنوي الانقياد للبرهان والدليل، ولديك الوقت لأن تعطيني الفرصة الكافية للكلام دون إسهاب ممل ولا إيجاز مخل، أجبتك على سؤاليك.
قال:
- ما جئتك إلا لهذا، وإني مصغ بكل جوارحي لما تقول:
قلت متكلاً على الله تعالى:
* السقيفة اجتهاد في مقابل النص المتواتر المقطوع بصحته وصدوره عن النبي.
* السقيفة لم تحصل بشورى صحيحة من المسلمين، ولا بنص من رسول الله وإنما بمؤامرة حيكت بغياب أهل الرأي والمشورة والفضل والسابقة.
* (ما ولت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه، إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً - أي إلى الأسفل -).
إنني أعلم يا صاحبي العزيز أن سؤالك لأول يدور على لسان كل مسلم غير شيعي، بل وربما على ألسنة بعض قليلي الثقافة والإطلاع من الشيعة أنفسهم، والشباب منهم على وجه الخصوص. ومصدر هذا السؤال شبهتان: الكثرة، والمكانة المرسومة لبعض الرجال ممن سميتهم (جلة الصحابة).
أما شبهة (جلة الصحابة) فلا تشكل عند العاقل اللبيب أي عقبة، لأنه يدرك أن الشرع هو الميزان الحقيقي السليم للحق، وأن الحق يعرف بالشرع لا بالرجال، ومن هنا قال الإمام علي (عليه السلام) قولته المشهورة:
(لا يعرف الحق بالرجال، ولكن أعرف الحق تعرف أهله).
فالشرع ميزان الحق، والحق ميزان الرجال، وليس العكس. أتقر معي بهذا أم أنه يحتاج لمزيد بيان؟!
قال: بل أقر معك هذا الميزان وألتزمه.
قلت: أما الشبهة الثانية وهي الكثرة فستكون لنا معها وقفة مفصلة فيما سيلي من فقرات.
• ملابسات اجتماع السقيفة
1- إن الذين حضروا اجتماع السقيفة لم يكونوا كثرة من جماهير المسلمين كما يتوهم البعض، فالسقيفة لا تتسع أصلاً لاجتماع جماهيري، وإنما كانوا جمعاً من أرباب النفوذ وذوي المطامح والمطامع والتطلعات السلطوية من رؤوس الأنصار.
- أوسهم وخزرجهم - ولم يحضره من المهاجرين سوى أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، ذهبوا إليه متسللين لانتهاز الفرصة في غياب أهل الرأي والمشورة وغياب جماهير المسلمين، الذين كانوا ملتفين - في حزن عميق وألم شديد - حول حجره رسول الله (صلى الله عليه وآله) والدموع تسيل من مآقيهم حزناً وألماً لوفاة نبيهم الجليل.
2- ليس من المسلمات العقلية ولا النقلية أن تكون الكثرة دائماً مع الحق، بل العكس هو الصحيح في أغلب الأحيان، وذلك لأسباب نفسية واجتماعية كثيرة، ليس هنا مجال بحثها، واستمع معي إلى ما يقرره لقرآن الكريم عن موقف الكثرة:
(وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)[سورة يوسف: الآية 102].
(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)[سورة يوسف: الآية 106].
(إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)[سورة البقرة: الآية 242].
(وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)[سورة الأنعام: الآية 116].
(قل إن علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون)[سورة الأعراف: الآية 187].
(لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون)[سورة الزخرف: الآية 78].
(وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين)[سورة الأعراف: الآية 102].
(يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون)[سورة المائدة: الآية 102].
(إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)[سورة هود: الآية 17].
3- فإذا كانت هذه حال الكثرة، فبأي ميزان عقلي أو شرعي ننفي عن الكثرة إمكانية النسيان أو التناسي؟! إن الكثرة ليست عاصمة من النسيان أو التناسي، بل هي محلهما في الغالب الأعم من أحوالها وأمورها ومواقفها، والواقع يؤكد ذلك ويثبته، خاصة بالنسبة لجمع نفضوا أيديهم من الانشغال بتجهيز الرسول الكريم والصلاة عليه ودفنه، وسارعوا إلى ساحة الصراع على السلطة، ونسأل عمن اعتبروا (جلة الصحابة):
- كيف نسي عمر أو تناس قوله تعالى (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) [سورة النجم: الآية 3] عندما قال: إن نبيكم ليهجر، أو استفهموه! ما باله؟ أيهجر؟!(1).
وكيف نسي قوله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون)[سورة الزمر: الآية 30]، حين استلّ سيفه وروّع به جموع المسلمين وهو يصرخ: إن محمداً لم يمت وقد ذهب إلى ربه وسيعود فيقطع أيدي وأرجل أناس أدّعوا أنه مات(2).
- وكيف نسي زعماء الأنصار الذين هرعوا إلى السقيفة أو تناسوا قول نبيهم (الأئمة من قريش)(3) أو (لا تقوم الساعة حتى يكون على هذه الأمة اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)(4).
- وكيف نسيت (أم المؤمنين) عائشة قول ربها (وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن برّج الجاهلية الأولى)[سورة الأحزاب: الآية 33]، وقول نبيها: (كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب، وإياك أن تكوينها يا حميراء(5). خاصة وقد ذكرتها أم سلمة كل ذلك فأبت أن تتراجع عن الفتنة الهوجاء التي أثارتها وفرقت بها المسلمين.
- وكيف نسي أبو بكر قوله تعالى على لسان نبيه زكريا (عليه السلام) (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك ولياً. يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً)[سورة مريم: الآية 5-6] وقوله تعالى: (وورث سليمان داوود)[سورة النمل: الآية 16] حين اغتصب أرض فدك من فاطمة الزهراء (عليها السلام) وحرمها من فيئها.
- وكيف نسي الزبير قول رسول الله له (ستقاتله - أي علياً - وأنت له ظالم)(6) حين قاد الجيوش مع معاوية لقتال الخليفة الشرعي المنتخب من قبل الأمة، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
- وكيف نسي عثمان بن عفان أن رسول الله قد نفى الحكم بن العاص إلى الطائف ولعنه وما ولد وحرّم عليه سكن المدينة المنورة، وقال عنه: (من عذيري من هذا الوزغ)(7)، وقوله عن مروان بن الحكم (هو الوزغ بن الوزغ، الملعون بن الملعون)(http://illiweb.com/fa/i/smiles/icon_cool.gif، حين أعادهما إلى المدينة، وجعل مروان مستشاره الخاص وحامل أختامه، والمستحكم برقاب وأموال المسلمين، ونسي قول رسول الله في أبي ذر: (ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر)(9)، حين نفاه عن المدينة إلى الربذة فمات هناك وحيداً مصداقاً لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) (رحم الله أبا ذر يموت وحده ويبعث وحده).
- وكيف نسي المجتمعون في السقيفة بيعتهم بالإمامة والخلافة لعلي بن أبي طالب يوم غدير خم(10)، تلك الواقعة المشهورة المشهودة.
ولا أدري لعمري أنسي هؤلاء جميعاً أم تناسوا؟!
قاطعني صاحبي قائلاً: أو ليس قد قال النبي (صلى الله عليه وآله) (لا تجتمع أمتي على خطأ) أو (على ضلالة)؟! أليس الإجماع عاصماً؟.
قلت: نعم، إجماع الأمة عاصم لمجموع الأمة على وجه العموم الجمعي، - كما هو منطوق ومفهم الإجماع - لا على وجه العموم الاستفراقي. أي أن العصمة تكون للإجماع الذي يعم كل الأمة أو كل علمائها، لأنه عندئذ كاشف عن دخول المعصوم فيهم، أما الإجماع القائم على وجه الكثرة أو الغلبة، فقد عرفت حاله فيما قدمنا، وحيث غاب الإمام مع جمع من الأنصار وجميع المهاجرين عدا ثالوث أبي بكر - عمر - أبي عبيدة فقد انقطعت العصمة عن هؤلاء المجتمعين في السقيفة، وأصبح احتمال كل من النسيان أو التناسي - عصياناً وانحرافاً - احتمالاً وارداً لا يمكن رده.
4- إن أحداث السقيفة ورواياتها ليست مسلمة بشكل مؤكد بالصيغة التي رويت بها، وظاهر كل الظهور أن هذه الروايات من تلك الأحداث لم تكتب دفعة واحدة، وإنما حبكت على مراحل متتابعة، وبما يخدم السلطات الحاكمة - الأموية منها والعباسية - وقد تم إخضاعها لعمليات الحذف والإضافة والتزويق والتنسيق المرة تلو المرة، حتى وصلت إلينا بصيغتها الأخيرة التي رواها بها الطبري والمسعودي وابن قتيبة وغيرهم من المؤرخين.
* أنا أحق وأجدر بها منك ومن صاحبك يا عمر، ولئن كنتم نسيتم أو تناسيتم يوم غدير خم، يوم بخبختم لي وبايعتموني أنت وصاحبك والمسلمون.
* ألستم قد احتججتم عليهم بمكان رسول الله منكم؟ فأنا ألصق به مكاناً وأقرب إليه نسباً وصهراً.
ومع ذلك كله فقد بقيت في هذه الروايات إشارات مبثوثة، ومقاطع مبعثرة، تلفت النظر السليم، وتهدي بصيرة اللبيب، ومنها على سبيل المثال ما ورد من قول الأنصار أو بعضهم: (لا نبايع إلا علياً)(11) هذا القول ما أشبهه بشجرة خضراء مثمرة في صحراء قاحلة مرملة، أو قصر منيف بين مجموعة من بيوت الشعر!!.
هؤلاء الأنصار أو بعضهم، متى قالوا هذا القول؟ وما هي حجتهم في تخصيص علي، وكيف سكتوا أو أسكتوا بعد هذا القول الجازم الحازم؟ ومارد بقية الأنصار وثالوث المهاجرين على هذا القول؟!
كل هذه الأسئلة لا يجيب عليها التاريخ، وما غيب هذه الأجوبة إلا الحذف والإضافة كما شاء الرواة إرضاء لحكامهم وأولياء نعمتهم، مما شوه التاريخ وطمس حقائقه، إنها السياسة وبيع الدين بالدنيا، ألا قائل الله السياسة والجري وراء الأهواء والشهوات ومطامع الدنيا.
ونحن لابد أن نسأل: أبدون حجة ألقوها ولا بينة أبدوها قال هؤلاء الأنصار بصيغة حاسمة جازمة (لا نبايع إلا علياً)؟!. أم أنهم أسكتوا قبل الإدلاء بأي بينة أو حجة؟! إنه لوضع غريب وأمر مريب، بمنعنا من أن نثق بكل تلك الروايات ونسلم بها.
5- إذا كان الأنصار حقاً هم الذين بدأوا معركة الصراع على السلطة حين اجتمعوا في السقيفة، وحدهم دون دعوة المهاجرين، فإن سؤالاً جوهرياً يقفز إلى الأذهان، ما الذي دفعهم إلى ذلك الموقف وهم الذين سبق لهم أن بايعوا علياً يوم غدير خم؟! أكان ذلك منهم طمعاً في السلطة أم خوفاً على أنفسهم من قريش بعد أن أيقنوا أنها لن تخلي بين علي وخلافة المسلمين؟! ولاحظوا ما يحاك في السر والعلن من مؤامرات لاستئثار قريش بالسلطة(12)، وفيهم من الطلقاء الذين أسلموا أخيراً يوم فتح مكة من يخاف الأنصار جوره وظلمه وحيفه وانتقامه لو استولى على مقاليد السلطة.
هذه ناحية، والأخرى أن الخلافة إن خرجت عن عهدة أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)، فأية ميزة تبقى لسواه من المهاجرين على بقية الأنصار؟!
وبماذا يستحقون الخلافة والإمارة دونهم؟!.
6- وأخيراً - وأرجو أن لا أكون قد أطلت عليك يا صاحبي - فإن جماهير المسلمين المحتشدين في المسجد النبوي حول حجرة رسول الله، الغافلين عن كل ما كان يجري حولهم، فاجأهم صوت التكبير خارج المسجد، فاشر أبوا يستطلعون النبأ المذهل، ليروا أصحاب السقيفة قد اقبلوا بأبي بكر يزفونه زفة العروس، يتقدمهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، لا يمرون على أحد من المسلمين إلا خبطوه بعنف وأخذوا يده فمسحوها على يد أبي بكر طائعاً أو مكرهاً(13)، حتى أخذوا له بيعة صورية لا نص عليها ولا شورى فيها، ولا تتمتع بأي مسحة شرعية، حتى أن عمر نفسه قال عنها بعد أن خلفه في السلطة (إن بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها)(14).
• موقف الإمام علي من هذه البيعة الباطلة:
أما أنها باطلة فذلك للأسباب التالية:
* ألستم تعلمون أنني أخوه وابن عمه ووزيره وصهره، وأنا منه كهارون من موسى، فأنصفونا إن كنتم تخافون الله.
* فوالله لقد احتججتم بالشجرة وضيعتم الثمرة.
1- لأنها اجتهاد في مقابل النص المتواتر المقطوع بصحته وصدوره عن النبي (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم، بأمر من الله سبحانه وتعالى: (يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس)[سورة المائدة: الآية 67]، وبلّغ النبي المسلمين امتثالاً لأمر ربه، فقال لهم يوم غدير خم في جمع من المسلمين يزيد عن مائة ألف مسلم (ألست أولى بالمسلمين من أنفسهم؟(15)، قالوا بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار)(16).
2- لأنها لم تحصل بشورى صحيحة من المسلمين، ولا بنص من رسول الله وإنما بمؤامرة حيكت بغياب أهل الرأي والمشورة والفضل والسابقة، كعلي والعباس، وطلحة والزبير، والمقداد وسلمان وأبي ذر، والبراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان، وعبادة بن الصامت وسواهم من المسلمين الذين غابوا عن اجتماع السقيفة وأخذت البيعة منهم كرهاً.
3- لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما ولت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه، إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً - أي إلى الأسفل - حتى يرجعوا إلى ما تركوا - أي إلى الشرك والجاهلية).
- وأما موقف علي من هذه البيعة فقد تجلى في صور عديدة ومراحل متتالية عديدة نذكر منها:
1- ما أن أزدحم الأنصار على أبي بكر يبايعونه، حتى هرع رجل منهم إلى الإمام ينقل إليه خبر السقيفة، فسأله الإمام: وبماذا احتجوا على الأنصار؟
قال الرجل: احتجوا بأنهم عشيرة الرسول وأولياؤه والسابقون إلى الإيمان به ونصرته، هنا أطلق الإمام بيانه الأول ضد هذه المؤامرة، قال (عليه السلام): (احتجوا بالشجرة وضيعوا الثمرة)(17).
2- ما أن أتم الإمام علي تجهيز الرسول ودفنه حتى أنطلق مع زوجته فاطمة الزهراء (عليهما السلام) يستنفران الأنصار لنقض هذه البيعة، ويذكرانهم بتعاليم القرآن ووصايا النبي بجعله إماماً للمسلمين واجب الطاعة والمودة، فما كان الأنصار يزيدون على أن يقولوا: (يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أن زوجك سبق إلينا ما عدلنا به أحداً)، فكان عليه السلام يقول:
(أفكنت أدع رسول الله في بيته لم أدفنه وأخرج فأنازع الناس سلطانه؟) وتقول فاطمة (عليها السلام): (والله ما صنع أبو الحسن إلا ما ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه وطالبهم به)(18).
3- أمتنع الإمام علي عن بيعة أبي بكر، واعتصم في بيته مع عدد من أصحاب رسول الله من مهاجرين وأنصار لا يجاوز عددهم الأثني عشر رجلاً منهم: الزبير وطلحة وخالد بن سعيد والمقداد وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان وابن الثيهان وعبادة بن الصامت(19)، فقرر أبو بكر وعمر اقتحام البيت عليهم وإرغامهم على البيعة بالقوة والعنف.
وهكذا حاصروا بيت الإمام علي في جمهرة كبيرة من الأنصار والمهاجرين على رأسهم عمر وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة وأبو عبيدة بن الجراح وسواهم وقد رموا أكواماً من الحطب خلف الباب يهددون بحرقه ما لم يخرج من فيه من المعتصمين لبيعة أبي بكر(20).
وجُرّوا من البيت إلى المسجد مرغمين، وبايعوا مكرهين، وامتنع علي عن البيعة رغم التهديد والوعيد والجدال الشديد، ونقتطف جزءاً يسيراً من الحوار الذي دار في ذلك الموقف بين علي وعمر:
- بايع أبا الحسن وأدخل فيما دخل فيه المسلمون.
- أكلما دخل المسلمون في أمر طائعين أو مكرهين دخلنا معهم؟ ألا تعلم يا عمر أنه لا يقاس بآل محمد أحد وقد جُعلوا للناس أئمة لا تبعاً؟!.
- يا أبا الحسن لقد تقدمك المسلمون بالبيعة لأبي بكر فالحق بهم ولا تتخلف عن قومك.
- ما أبعد ما تقول يا عمر، ألم تسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (لا تقدّموهم فتهلكوا ولا تتأخروا عنهم فتضلوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)(21).
- يا أبا الحسن إن أبا بكر في فضله وسنه وسابقته لجدير بالخلافة.
- أنا أحق وأجدر بها منك ومن صاحبك يا عمر، ولئن كنتم نسيتم أو تناسيتم يوم غدير خم، يوم بخبختم لي وبايعتموني أنت وصاحبك والمسلمون، فإني أحتج عليكم بحجتكم التي غلبتم بها الأنصار، ألستم قد احتججتم عليهم بمكان رسول الله منكم؟ فأنا ألصق به مكاناً وأقرب إليه نسباً وصهراً، ألستم تعلمون أنني أخوه وابن عمه ووزيره وصهره، وأنا منه كهارون من موسى، فأنصفونا إن كنتم تخافون الله، واعرفوا لنا من الأمر مثلما عرفت الأنصار لكم، فوالله لقد احتججتم بالشجرة وضيعتم الثمرة، فأنصفونا من أنفسكم إن كنتم تؤمنون، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون(22).
- بايع يا علي فانك لست متروكاً حتى تبايع.
- احلب يا ابن الخطاب حلباً لك شطره، واشدد له أمره اليوم يردده عليك غداً. لا والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أطيع أمرك، ولا أخاف وعيدك ولا أخشى تهديدك، ولا أبايع صاحبك(23).
وهنا تدخل أبو عبيدة بن الجراح يلطف الجو المتوتر، ويستأنف الضغط على عليّ لينتزع منه البيعة لأبي بكر. قال أبو عبيدة:
- يا ابن عم، إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالاً له واضطلاعاً به، فسلم الأمر لأبي بكر، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء، فأنك لهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك.
- الله الله يا معاشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى دوركم وبيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامهم في الناس وحقهم في الخلافة، فو الله يا معاشر المهاجرين، لنحن - أهل البيت - أحق بهذا الأمر منكم ما كان منا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، القاسم بينهم بالسوية. والله إن هذا الأمر لفينا نحن أهل البيت، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله وتزدادوا من الحق بعداً(24).
وإذ يلاحظ عمر تغير وجه المهاجرين وتأثرهم بكلام علي وما أدلى به من الحجج والبينات، يشتدّ على عليّ قبل أن ينقلب الموقف ويتغير الحال لصالح علي فيقول بلهجة غاضبة ولسان متوتر منفعل:
- لاخيار لك يا ابن أبي طالب، وإنه لابد لك من البيعة.
- وإن أنا لم أفعل فمه؟
- إذن والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك!!
- إذن والله تفتلون عبد الله وأخا رسوله.
وشجع كلام عمر وسكوت أبي بكر رجلاً ثالثاً هو خالد بن الوليد، فتنطع للمهمة الصعبة وجرد سيفه من غمده ورفعه بيده وهو يهزه في وجه علي ويقول: بايع وإلا قتلتك.
وتهيجت نفوس المهاجرين والأنصار وتوترت أعصابهم وماجت قلوبهم وأفئدتهم بالإشفاق والخوف واهتزت وجداناتهم بالقلق والرعب، وبين دهشة الحاضرين، وتحفز فاطمة، وصراخ الحسنين، وتعلق الأبصار بالسيف المصلت فوق رأس علي، امتدت يدا أبي الحسن إلى خالد بن الوليد فأخذتا بمجامع ثوبه ورفعتاه عالياً - كعصفور ضعيف في يدي نسر - ثم ألقتاه أرضا، فوقع خائر النفس واهن العزيمة مرعوب الفؤاد مرتجف القلب فوق سيفه الذي أفلت من يده.
وهنا فقط تدخل أبو بكر قائلاً: خلّوا عن عليّ أيها الناس.
واعترض عمر مغضباً وقد أكل الغيظ قلبه: لا تتركه قبل أن يبايع يا أبا بكر. وأسكته أبو بكر حاسماً الموقف: لا والله يا عمر، لا أكرهه على شيء ما دامت فاطمة بنت محمد إلى جنبه(25).
وأدرك عمر - كما أدرك علي - مغزى ما ترمي إليه كلمات أبي بكر من تهديد ووعيد مؤجل.
ما أكثر ما ينس عمر وما أسرع ما يذكّره أبو بكرّ!! كيف غاب عن وعي عمر قول النبي (صلى الله عليه وآله) لا بنته فاطمة: أنت أول أهل بيتي لحوقاً بي؟!
انتهت الجولة الأولى من الصراع، وهرع علي إلى قبر أخيه وابن عمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبثه الأشجان ويشكو إليه الأحزان:
- يا ابن أم، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني(26)، ولولا وصية أوصيتني بها وعهد عهدة به إليّ بالصبر وعدم الاحتكام إلى السيف لما كنت أضعف القوم، اللهم رضىً بقضائك وصبراً على بلوائك.
وبقي علي بعد ذلك ستة أشهر معتزلاً في بيته لم يبايع لا هو ولا أحد من بني هاشم، فلما توفيت فاطمة (عليها السلام) انصرفت وجوه الناس عن علي، وتغيروا عليه وفقاً لتوجهات الخليفة الحاكم وأعوانه وازلامه، ورأى كذلك تموجات فتنة المرتدين وما رافقها من امتناع أقوام عن دفع الزكاة للخليفة غير الشرعي، فرأى أن ينهي هذا الموقف بعد أن أعذر إلى الله ورسوله وإلى المسلمين، فبايع وبايع بنو هاشم إيثاراً لمصلحة الإسلام العليا بعد أن آثر خصومه مصالحهم الشخصية والقبلية.
كانت هذه بعض مواقف الإمام علي من خلافة أبي بكر، وهناك مواقف أخرى في مواطن كثيرة، نستغني يا صاحبي بما ذكرنا عما تركنا أو أجلنا، خوف الإطالة والملل.
قال صاحبي: قد أسمعتني ما يزيل الباطل ويهدي إلى الحق ويغني عن المزيد.
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
1- البخاري ج 3 ص 1259 - الكامل في التاريخ ج 2 ص 217 - تاريخ الطبري ج 3 ص 192.
2- تاريخ الطبري ج 3 ص 197.
3- صحيح البخاري 9: 147/79، صحح مسلم 3: 1452/5 (1821) و 3: 1453/ 10(1822)، سنن الترمذي 4: 501/ 2223، سنن أبي داوود 4/106-4280.
4- نفس المصادر السابقة.
5- العقد الفريد لابن عبد الله الأندلسي ج 4 ص 258.
6- تاريخ الطبري ج 5 ص 204 ط1 المطبعة الحسينية المصرية - العقد الفريد ج 2 ص 279.
7- العقد الفريد ج 2 ص 292 - الصواعق المحرقة ص 179 - الدر المنثور للسيوطي ج 4 ص 191 و ج 6 ص 41 سير أعلام النبلاء ج 2 ص 80 - أسد الغابة ج 2 ص 34 - السيرة الحلبية ج 1 ص 217 - سيرة زيني وحلان بهامش الحلبية ج1 ص 225 - 226 الغدير للأميني ج 8 ص 245.
8- نفس المصادر السابقة.
9- معاني الأخبار ص 178.
10- روي الحديث بنصوص مختلفة في صحيح مسلم ج 4 ص 1872 حديث رقم 2408 - وسنن الترمذي ج 5 ص 662 حديث رقم 2788 ومسند أحمد ج 2 ص 17 والمستدرك ج 2 ص 148 وقال صحيح عن شرط الشيخين وكثير من الرواة غيرهم.
11- تاريخ الأمم والملوك لابن جرير الطبري ج 3 ص 198 طبعة دار القلم - بيروت.
12- لقد ألمح - رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى هذه القضية أكثر من مرة بقول للمسلمين (لو وليتم عليكم علياً لحكمكم على الجادة البيضاء ليلها نهارها، ولن تفعلوا) كررها أكثر من مرة.
13- السقيفة وفدك للجوهري ص 46، الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج1 ص 16.
14- تاريخ الطبري ج 3 ص 200.
15- هذا تذكير للمسلمين بقوله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)[سورة الأحزاب: الآية 6].
16- رواياته كثيرة ومنها في مسند أحمد ج 1 ص 119 وأيضا ج 1 ص 152 و ج 4 ص 281 و ج 4 ص 270 و271 _ سنن ابن ماجة ج 1 ص 43 الحديث رقم 116 - مستدرك الحاكم ج 3 ص 109 و 110 و خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص 21 - 27 و البداية والنهاية لابن كثير ج 5 ص 182 ص 189 وتاريخ دمشق لابن عساكر ج 2 ص 12 الحديث رقم 508 و 512 و 514 و 522 و 544 و 562 و 549 وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 62 كنز العمال للمتقي الهندي ج 6 ص 402 و ج 15 ص 115 الحديث رقم 222 و 402 وشواهد التنزيل للحكاني ج 1 ص 157 الحديث رقم 200 و ج 1 ص 192 الحديث رقم 250 ومجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 105 وغيرهم كثير.
17- السقيفة وفدك للجوهري ص 60 والإمامة والسياسة ج 1 ص 11.
18- الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1ج ص 12 وفيه: قال بشير بن سعد الأنصاري: (لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان).
19- الكامل في التاريخ ج 2 ص 200 وتاريخ الطبري ج 3 ص 198 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص 124 وتاريخ أبي الفداء ج 2 ص 62 وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 214 ص 215 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 49 ص 56 ص 116.
20- السقيفة وفدك للجوهري ص 59 و60 العقد الفريد ج 4 ص 259 ص260 تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 156 أعلام النساء ج 3 ص 1207 وتاريخ الطبري ج 3 ص 198 والإمامة والسياسة ج 1 ص 12 شرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 124.
21- مجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 162 وينابيع المودة للقندوزي ص 41 و 200 الدر المنثور للسيوطي ج 2 ص 60 كنز العمال للمتقي الهندي ج 1 ص 168 وأسد الغابة ج 3 ص 172 الصواعق المحرقة ص 148.
22- السقيفة وفدك للجوهري ص 60 والإمامة والسياسة ج 1 ص 11.
23- الإمامة والسياسة ج 1 ص 11.
24- السقيفة وفدك ص 61 والإمامة والسياسة ج 1 ص 11 ص 12 وشرح النهج ج 6 ص 11.
25- الإمامة والسياسة ج 1 ص 13 والعقد الفريد ج 2 ص 215 و تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 156 وأعلام النساء للزركلي ج 2 ص 1207 وتاريخ الطبري ج 1 ص 12 والملل والنحل للشهرستاني ص 83 وانساب الأشراف للبلاذري ج 1 ص 404 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 124.
26- الإمامة والسياسة ج 1 ص 12 وأعلام النساء ج 4 ص 114 ص 115 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 126 وشرح النهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 56 و ج 6 ص 11.