مريم محمد
03-07-2010, 01:46 PM
البحث عن الحياة/ نوال الحوطة
** ** ** **
أيكون البحث عن الحياة هو الغرق في الموت حتى النهاية؟
أيكون الغرق في الموت هو التشبع بالحياة منذ البداية؟
أيمكن أن تكون الابتسامة هي بداية الحزن؟
أم أنّ الحزن هي بداية الابتسامة؟
تلك هي حياتي.. وذلك هو السؤال الذي ظل يتردّد في ذاكرتي وأنا أغرق في منغلق الموت بحثاً عن الحياة..
أنا لم أولد وفي فمي ملعقة من ذهب كما الآخرين، بل ولدت وفي فمي ملعقة من طعم المرارة والألم...
ولدت بين أبوين لم يجتمعا يوماً.. فوالدي رجل مزواج هوايته في الحياة اللعب بمربّعات الشطرنج.. مرة ببياض الزواج ومرة بسواد الطلاق.. ولأن أُمّي محظوظة فلم يطلقها يوماً وبقيت إلى جانبه تتجرع من كأس المرار حتى طلقت الحياة بما فيها ورحلت.. بقيت أنا وإخوتي الصغار تحت رحمة والدنا الذي تميز دائماً بمستواه العالي في البخل وتكديس الأموال..
كنت إذا ما احتجت إلى المال يدفعني إلى الشحاذة من الناس، الذين كانوا أكثر حناناً وإشفاقاً عليَّ من والدي.. وكنت أفعل ذلك مراراً وتكراراً من أجل إخوتي الصغار، الذين حرموا مثلي تماماً من كل شيء حتى من الطعام الذي كان يزورنا في اليوم مرّة واحدة، ولم تكن سوى وجبة الغداء التي يحملها إلينا كل يوم في طبق صغير بالكاد يكفي لإشباع شخص واحد.
مرّت السنوات صعبة متثاقلة تحمل في طياتها المزيد من الألم.. ولأنّ الحرمان يدفع المرء إلى البحث عن ما حرم منه والتشبث بالأحلام حتى تحقيقها.. واصلت تعليمي رغم الفقر والحرمان اللذين جعلهما والدي عنواناً لحياتنا على الرغم من امتلاكه الملايين.. ولكنني لم أستطع إلا الحصول على الشهادة الثانوية.
فدموع إخوتي وحرمانهم كانا أشد قسوة عليَّ من إحساسي بالحرمان. تركت دراستي وبدأت في البحث عن عمل.. والحمد لله وفقت في الحصول على وظيفة عادية في أحد مكاتب تلك الشركة الاستثمارية والتي بمرور سنوات من الجهد والمثابرة ترقيت إلى أن حصلت على وظيفة نائب المدير..
كنت حينها متزوجاً ولي ثلاثة أولاد وأعيش حياة مستقرة وسعيدة، إلى أن كدر صفو تلك الحياة خلافي مع المدير، الذي أخذ يضايقني في الآونة الأخيرة بسبب أو بآخر، إلى أن اضطرني في النهاية إلى أن أستقيل من عملي، ليبدأ فصل جديد من حياتي قادني إلى تمني الموت، حيث بدأت أتنقل من وظيفة إلى أخرى بحثاً عن لقمة العيش إلى أن ساءت الأحوال أكثر فأكثر..
اضطررت إلى بيع البيت والسكن في شقة متواضعة وبدأت أفرض نظاماً صارماً على زوجتي وأولادي في التكيف مع الراتب الضئيل بعد أن استقرت بي الحال أخيراً في وظيفة سائق خاص.. فتمردت زوجي على الحياة وثارت في وجهي، ولم لا؟ وهي التي ولدت وفي فمها ملعقة ليست من ذهب وإنّما من ألماس، ولم تذق طعم الحرمان يوماً كما تشربتها أنا. وتمرد الأولاد مثلها تماماً وأعلنوا الحرب عليَّ وكأنّني سبب في ما آلت إليه الأوضاع..
ولأنّني أعاني مرض القلب فقد ساءت حالتي الصحية وبت لا أقوى على الحركة في معظم الأوقات لتشعر هي والأولاد بأنّني شخص عديم الفائدة وأن وجودي أو عدمه سواء، وهذا ما كانت تردّده على مسمعي ليل نهار، وكان كلامها هذا كالسم.. يجري في عروقي كلّما نطقت، لينتقل سمها اللاذع إلى عقول أولادي، الذين بدأوا يعاملونني وكأنّني شخص غريب عنهم ولا أمت لهم بأي صلة..
ووصل بهم الأمر إلى حد ضربي وطردي من الشقة كلّما اشتد العراك بيني وبين والدتهم التي أخذت تحرضهم على ضربي لتسوء بذلك حالتي النفسية أكثر فأكثر حتى وجدتني مريضاً لا يفارق مستشفى الطب النفسي، أشكو حالتي لطبيبي، الذي لم يعد يحتمل سماع المزيد عن معاناتي، وخصوصاً الفصل المتعلّق برفض زوجتي وأبنائي لي، فقط لأنّني مريض وعاجز عن العمل.
وأخيراً شاءت الأقدار أن يتوفى والدي ويترك لنا البيت الذي تقاسمنا حقه أنا وإخوتي.. حينها فقط وبعد أن علمت زوجتي بأنّني ورثت مبلغاً من المال عن والدي، جاءتني تجر أذيال الخيبة تطلب مني المغفرة وترجوني أن أعود للعيش معهم، لكنّني ولأوّل مرّة تشتعل بداخلي نار القسوة لأرفض وبشدة عرضها المقنع بمليون قناع.. وقرّرت أن أبني حياتي بعيداً عنها.. فحزمت أمتعتي وودعت إخوتي وموطني وهاجرت بعيداً حيث يكون الموت أقرب.
** ** ** **
أيكون البحث عن الحياة هو الغرق في الموت حتى النهاية؟
أيكون الغرق في الموت هو التشبع بالحياة منذ البداية؟
أيمكن أن تكون الابتسامة هي بداية الحزن؟
أم أنّ الحزن هي بداية الابتسامة؟
تلك هي حياتي.. وذلك هو السؤال الذي ظل يتردّد في ذاكرتي وأنا أغرق في منغلق الموت بحثاً عن الحياة..
أنا لم أولد وفي فمي ملعقة من ذهب كما الآخرين، بل ولدت وفي فمي ملعقة من طعم المرارة والألم...
ولدت بين أبوين لم يجتمعا يوماً.. فوالدي رجل مزواج هوايته في الحياة اللعب بمربّعات الشطرنج.. مرة ببياض الزواج ومرة بسواد الطلاق.. ولأن أُمّي محظوظة فلم يطلقها يوماً وبقيت إلى جانبه تتجرع من كأس المرار حتى طلقت الحياة بما فيها ورحلت.. بقيت أنا وإخوتي الصغار تحت رحمة والدنا الذي تميز دائماً بمستواه العالي في البخل وتكديس الأموال..
كنت إذا ما احتجت إلى المال يدفعني إلى الشحاذة من الناس، الذين كانوا أكثر حناناً وإشفاقاً عليَّ من والدي.. وكنت أفعل ذلك مراراً وتكراراً من أجل إخوتي الصغار، الذين حرموا مثلي تماماً من كل شيء حتى من الطعام الذي كان يزورنا في اليوم مرّة واحدة، ولم تكن سوى وجبة الغداء التي يحملها إلينا كل يوم في طبق صغير بالكاد يكفي لإشباع شخص واحد.
مرّت السنوات صعبة متثاقلة تحمل في طياتها المزيد من الألم.. ولأنّ الحرمان يدفع المرء إلى البحث عن ما حرم منه والتشبث بالأحلام حتى تحقيقها.. واصلت تعليمي رغم الفقر والحرمان اللذين جعلهما والدي عنواناً لحياتنا على الرغم من امتلاكه الملايين.. ولكنني لم أستطع إلا الحصول على الشهادة الثانوية.
فدموع إخوتي وحرمانهم كانا أشد قسوة عليَّ من إحساسي بالحرمان. تركت دراستي وبدأت في البحث عن عمل.. والحمد لله وفقت في الحصول على وظيفة عادية في أحد مكاتب تلك الشركة الاستثمارية والتي بمرور سنوات من الجهد والمثابرة ترقيت إلى أن حصلت على وظيفة نائب المدير..
كنت حينها متزوجاً ولي ثلاثة أولاد وأعيش حياة مستقرة وسعيدة، إلى أن كدر صفو تلك الحياة خلافي مع المدير، الذي أخذ يضايقني في الآونة الأخيرة بسبب أو بآخر، إلى أن اضطرني في النهاية إلى أن أستقيل من عملي، ليبدأ فصل جديد من حياتي قادني إلى تمني الموت، حيث بدأت أتنقل من وظيفة إلى أخرى بحثاً عن لقمة العيش إلى أن ساءت الأحوال أكثر فأكثر..
اضطررت إلى بيع البيت والسكن في شقة متواضعة وبدأت أفرض نظاماً صارماً على زوجتي وأولادي في التكيف مع الراتب الضئيل بعد أن استقرت بي الحال أخيراً في وظيفة سائق خاص.. فتمردت زوجي على الحياة وثارت في وجهي، ولم لا؟ وهي التي ولدت وفي فمها ملعقة ليست من ذهب وإنّما من ألماس، ولم تذق طعم الحرمان يوماً كما تشربتها أنا. وتمرد الأولاد مثلها تماماً وأعلنوا الحرب عليَّ وكأنّني سبب في ما آلت إليه الأوضاع..
ولأنّني أعاني مرض القلب فقد ساءت حالتي الصحية وبت لا أقوى على الحركة في معظم الأوقات لتشعر هي والأولاد بأنّني شخص عديم الفائدة وأن وجودي أو عدمه سواء، وهذا ما كانت تردّده على مسمعي ليل نهار، وكان كلامها هذا كالسم.. يجري في عروقي كلّما نطقت، لينتقل سمها اللاذع إلى عقول أولادي، الذين بدأوا يعاملونني وكأنّني شخص غريب عنهم ولا أمت لهم بأي صلة..
ووصل بهم الأمر إلى حد ضربي وطردي من الشقة كلّما اشتد العراك بيني وبين والدتهم التي أخذت تحرضهم على ضربي لتسوء بذلك حالتي النفسية أكثر فأكثر حتى وجدتني مريضاً لا يفارق مستشفى الطب النفسي، أشكو حالتي لطبيبي، الذي لم يعد يحتمل سماع المزيد عن معاناتي، وخصوصاً الفصل المتعلّق برفض زوجتي وأبنائي لي، فقط لأنّني مريض وعاجز عن العمل.
وأخيراً شاءت الأقدار أن يتوفى والدي ويترك لنا البيت الذي تقاسمنا حقه أنا وإخوتي.. حينها فقط وبعد أن علمت زوجتي بأنّني ورثت مبلغاً من المال عن والدي، جاءتني تجر أذيال الخيبة تطلب مني المغفرة وترجوني أن أعود للعيش معهم، لكنّني ولأوّل مرّة تشتعل بداخلي نار القسوة لأرفض وبشدة عرضها المقنع بمليون قناع.. وقرّرت أن أبني حياتي بعيداً عنها.. فحزمت أمتعتي وودعت إخوتي وموطني وهاجرت بعيداً حيث يكون الموت أقرب.