نووورا انا
06-07-2010, 03:13 AM
اللهم صل على محمد وآل محمد
كيف يستحق الإمام مقام الإمامة؟
آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني/ الحوزة العلمية ـ قم المقدسة
لابد لنا أن نستطرد البحث إلى أصول الدين، لنجبر ما فاتنا من التفسير. فالواجب علينا أن نبني أصول ديننا بناء علمياً عميقاً، ولا نرضى أن تكون ناقصة!
إن فقرة الدعاء هذه: اللهم عرفني حجتك، فإنك إن لم تعرفني حجتك، ضللت عن ديني.(1)
كلمة مملوءة بالخطورة! فمسألة معرفة الحجة لله على خلقه مهمة جداً، وليست هي كمعرفة العبادات أو المعاملات، أو معرفة الصحيح والأعم، والبراءة والإشتغال! ليست من هذه البحوث التي ندخل فيها بكل قوتنا! بل ترانا ندخل في بحوث العقائد والإمامة ونحن نرتعش خوفاً، لأنا لسنا من فرسانها المسلحين، لكن لابد من الكلام.
اللهم عرفني حجتك.. إن المعرفة الكاملة لحجة الله تعالى فوق مستوانا! وهي مسألة لم تستوف بحثاً، وإن كان أعيان علمائنا رضوان الله عليهم وجزاهم الله خيراً قد بذلوا جهوداً كبيرة ولم يقصروا. لكن السر في عظمة المطلب وليس في تقصير الباحثين في مسائل الإمامة!إن عظمة مطالب الإمامة وعلو مقامها توجب أن لا نتوصل إلى أعماقها بسهولة.
ومما يجب التنبيه عليه أن الشرط الأساسي لمعرفة أصول الدين أن يكون مصدرنا فيها القرآن والسنة فقط، فمن القرآن نأخذ أصولها ومن الروايات فروعها وتفصيلها، وما سبب الإنحرافات إلا أنا رجعنا في بحوث العقائد إلى غير القرآن والأحاديث.
والإمامة أهم من جميع مسائل البناء العقيدي على الإطلاق، لأنها المقدمة الموصلة إلى الله تعالى! وهذا واضح لكم لأنكم أهل فضل والحمدلله، تعرفون بماذا عُرف الله، وبماذا عُبد الله تعالى، وتعرفون معنى: لولانا ما عُرف الله، ولولانا ما عُبد الله،(2) وتعرفون أن الإرتباط العلمي والعملي بين العبد وربه يتوقف على توسط الإمامة الكبرى، فلا معرفة إلا عن طريقها، ولا عبادة إلا عن طريقها.. فما هي الإمامة؟
نستعرض آية من القرآن هي أصل المطلب، ونذكر معناها بالإجمال، وهي قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)). (السجدة:24)، وفيها أربعة مباحث، أرجو أن تتأملوا فيها:
المبحث الأول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ.. فالإمامة أمر مجعول من الله تعالى، لا من السقيفة! والقرآن يعطي هدايته لجميع الناس بالعبارة وبالإشارة، والعلماء والواعون يفهمون هدايته، ولا ذنب للقرآن إذا لم يهتد به غلاظ القلوب والأذهان! وعندما ندرس أصحاب المستويات العالية من العلماء نجد أنهم بعد أن يستكملوا مراحلهم العلمية يعودون إلى مطالعة القرآن! ومطالعة القرآن غير هذه القراءة العادية المعروفة.
وهذه الآية في مطلق الإمامة وليست في الإمامة المطلقة، لأنها في إمامة عدد من أئمة بني إسرائيل، ومع ذلك لا يصح فيهم جعل البشر، بل لا بد فيهم من جعل الله تعالى. وإذا كان هذا حال مطلق الإمامة، فكيف بالإمامة المطلقة بعد خاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليه وآله وسلم؟!
إن إمامة أئمتنا المعصومين عليهم السلام وإمامة صاحب العصر والزمان أرواحنا فداه إمامة مطلقة، وليست مطلق إمامة، والفرق بينهما كبير.
المبحث الثاني: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً..)) ومن هنا للتبعيض، فالذين يصلحون لهذا المنصب الإلهي هم بعض المؤمنين مع الرسل، وليسوا كلهم.
والمبحث الثالث: في بيان أصل الإمامة.
والمبحث الرابع: في بيان فرع الإمامة. فما هو أصل الإمامة، وما هو فرعها؟
أما أصل الإمامة فهو: لَمَّا صَبَرُوا. وأما فرعها فهو: ((يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)). وهذا هو إعجاز القرآن! فإعجاز الفصاحة والبلاغة فيه إعجاز لفظي، ولكن إعجازه لكبار المفكرين من العلماء أنه في آية واحدة بل في جزء من آية، يقدم العجائب! وهو هنا يوجب على الباحث أن يفهم معنى الصبر أولاً، ثم يفهم معنى الهداية، ثم يفهم معنى الأمر في الآية، ثم يفهم معنى الهداية بالأمر!
أما الصبر فهو في اللغة حبس النفس، وهو مقولة نسبية متفاوتة المراتب، أو مشككة بالتعبير المنطقي، وهو الجذر والطريق لوصول الإنسان إلى مستويات عالية من الكمال الإنساني، فبالصبر وصل كبار الأنبياء والأئمة عليهم السلام إلى أن تكون عوالم الكون في قبضة يدهم!
لو كنا نفهم هذا الطريق، لو أن أحداً ربَّانا عليه لما كنا اليوم في مستوانا هذا!
يبدأ الصبر بقلة الكلام، فانظروا في روايات الحث على قلة الكلام والنهي عن كثرته! وتعلموا أن تحفظوا أنفسكم بالصبر عن الكلام، لتروا أثره!
إن كبار المفكرين والعلماء والمرتاضين في جهاد النفس، إنما بلغوا ما بلغوا بتحقيق شروط في سلوكهم، من أولها الصمت والسكوت وقلة الكلام!
فالصبر يبدأ بحفظ العين واللسان، أي بالصبر عن النظر والكلام، وفي ذلك سر، وهو أن النقطة التي يبدأ منها فضول النفس هو النظر واللسان!
ثم يتواصل الصبر، إلى أن يصل إلى الصبر على كل الأمور: الصبر على المشتهيات، والصبر على المنازعات والمجادلات، والصبر على المؤلمات والمصائب.. الخ. فإذا تم ذلك فقد تمت ألف باء الصبر، حتى يصل إلى درجة الصبر عن جميع الدنيا، ويتحقق لصاحبه حبس النفس عن كل عالم المادة، ويخرج روحه من كل متعلقاتها.
وإذا تم له ذلك، وحبس نفسه عن كل عالم المادة، وما فيه من مال ومقام ولذائذ، فلم يصل إلى درجة الإنسان الكامل أيضاً! لأن قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا))، يعني أنهم صبروا عن الدنيا وعن البرزخ أيضاً! والبرزخ هنا هو الصور الخيالية، والصبر عليها يعني محوها من عالم النفس والروح.
فإذا تم له محو عالم الدنيا وعالم البرزخ، يصل إلى المرحلة الثالثة وهي الصبر عن شؤون عالم الآخرة.
فإذا استطاع أن يصبر على الآخرة بكل ما فيها من نعيم، يكون بذلك محا الدنيا والبرزخ والآخرة من روحه، وحينئذ يمكنه أن يفرغ نفسه وروحه لله تعالى دون أن يكون له فيه شريك، ويصل إلى درجة العبد المطلق.
إن الله تعالى لا يقبل الشريك، ولا يصح أن تكون الدنيا ولا الآخرة شريكاً له في نفس العبد المطلق. وما لم يمح الإنسان من نفسه وروحه كل الدنيا والبرزخ والآخرة، فلا يستطيع أن يجمع نفسه ويقدمها لله تعالى! وكما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء. (وسائل الشيعة- آل البيت:16/254)(3) وهذا الكلام لم يقله النبي صلى الله عليه وآله وسلم لي ولك، بل قاله لأعيان الإنسانية الذين وصلوا إلى هذه المراحل!
وعندما يصل الإنسان إلى درجة العبد المطلق يكون كما نقرأ في زيارة الجامعة: وذلَّ كلُّ شيء لكم، وأشرقتِ الأرضُ بنوركم. (العيون:1/304)!
كل شيء.. كل ما يصدق عليه أنه شيء في تلك الحضرة ذليل! وجيرئيل شيء وميكائيل شيء، والكرسي واللوح والقلم، أشياء.. وكلها ذليلة أمام الإمام الحجة بن الحسن صلوات الله عليه!
وذل كل شيء لكم.. لماذا؟ لأنه صار عبداً مطلقاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: يا علي، من خاف الله عز وجل أخاف منه كل شيء، ومن لم يخف الله عز وجل أخافه الله من كل شيء. ( من لا يحضره الفقيه:4/357) .(4)
وهذه العبودية هي التي قالوا عنها (العبودية جوهرة كنهها الربوبية) أي ربوبية للأشياء بالله تعالى.
أرأيتم النتيجة التي ينتهي إليها الصبر، وكيف يصل الإنسان الذي صبر نفسه في جنب الله تعالى إلى مقام العبد المطلق، ويستحق الإمامة المطلقة؟ فماذا نستطيع أن نقول في مقام الإمام صاحب الزمان عليه السلام؟أليس الأفضل أن نصمت ونكتفي بذكر اسمه الشريف فقط؟!
لإمام العصر وولي الأمر صلوات الله عليه مئةٌ وثمانون صفةً أو لقباً، ونيفاً:
منها تعرف شخصيته ويعرف مقامه.
فمن صفاته المئة والثمانين أنه: خليفة الله.
ومن صفاته المئة والثمانين أنه: حجة الله.
ومنها أنه: ربانيُّ آيات الله.
ومنها أنه: دليل إرادة الله.
ومنها أنه: مدار الدهر.
ومنها أنه: نور الله المطلق.
ومنها أنه:صاحب السماء.
ومنها أنه: ضياء الله المشرق.
ومنها أنه: الكلمة التامة.
ومنها أنه: الرحمة التي وسعت كل شيء، نعم، الرحمة التي وسعت كل شيء!
فهل باستطاعتنا أن نفسر صفة واحدة من هذه المئة والثمانين؟ أم أنها جميعاً فوق تفسيرنا؟!
سيدي، لقد عشنا عمرنا على مائدتك، وباسمك قدمنا أنفسنا إلى الناس، لكنا عندما نراجع حسابنا، نجد أننا ما عرفناك ولا عرفنا قدرك، ولا أدينا تجاهك واجب الإحترام! بل إني أتساءل: كيف سيحاسبنا الله تعالى لأنا أنقصنا من حقك ونزلنا مقامك إلى مستوياتنا؟!
يا من هو الواسطة في فيض نعم الله على خلقه، يا من جعله الله الذي منه الوجود فاعل ما به الوجود. وحاشاك أن نشركك معه في ذرة من ملكه، فقد تعلمنا منكم التوحيد والتنزيه والتحميد، فنحن نشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)). ( سورة لأعراف:54) ونشهد أنك تقول كجدك المصطفى: ((لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاضَرّاً إِلامَا شَاءَ اللهُ)). ( سورة الأعراف: 188) لكنا نعتقد أن ما استثناه تعالى بقوله إِلاَّمَا شَاءَ اللهُ، هو الكثير الكثير، فقد جعلكم واسطة فيضه وعطائه لخلقه، فحيثما كان عطاء إلهي فأنت موجود، وحيثما كان فعل إلهي فأنت وسيلته.. فالنَّفَسُ الذي نتنفسه من الله تعالى بكم، والنظر الذي ننظر به من الله تعالى بكم، والخطوة التي نخطوها من الله بكم!
نحن نعتقد أنك لا تملك من نفسك شيئاً، لكنك تملك بالله عظيم ما ملكك! فأنتم أهل البيت، وأنت يا إمام العصر: رحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء! وخير لنا أن نصمت عن مديحكم ونتركه لمن هو أكفأ منا، فإنما أردنا هذا اليوم أن نفهم أننا مقصرون جاهلون عاجزون، وأن نطلب العذر لتقصيرنا.
نحن بهذا الحديث عنك نعرض أنفسنا أمامك، لعلك تتفضل علينا بنظرة.
أخبرني أحد الأشخاص الكبار الذين أثق بهم، أنه سمع أنه توجد رياضة خاصة من يفعلها يستطيع أن يرى واقعة كربلاء كما هي في يومها! وهذا أمر يتفق مع الكشوف العلمية التي تؤكد أن الأحداث والوقائع في الأرض محفوظة في عالم أثيري خاص، وأنه يمكن للروح أن تتصل بها وتراها!
قال: لكنه لم يمكنه مشاهدة جميع وقائع عاشوراء، فهناك مقطع نحو ثلاث ساعات غير قابل للمشاهدة لأحد، من حين هوى الإمام الحسين عليه السلام من على ظهرجواده إلى أن جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم دمه فصعد به وجعله على أسطوانة العرش، فهو يهتز إلى يوم القيامة! هذا المقطع غير قابل للرؤية!
هذا هو الصبر الذي نتجت عنه الإمامة الكبرى، وهو نفسه صبر صاحب الزمان أرواحنا فداه، الذي يرى هذا المشهد كل يوم صباحاً ومساء!
إن حياته عليه السلام كلها امتحان، وقد ورد أنه يوجد عنده في البيت الذي يسكن فيه قميص جده الحسين عليه السلام معلقٌ فوق رأسه وهو يراه، فإذا حان وقت ظهوره يراه قد صار دماً عبيطاً!(5)
إن صبره لا يشبه صبر أحد من الناس، بسبب سعة علمه ورقة قلبه وشفافية مشاعره عليه السلام! فهو يرى كل مظالم العالم وجناياته، وهو يرى مظالم جده النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجداده الطاهرين عليهم السلام أمام عينيه،ولاشك أنه يتجول في زيارة مشاهدهم المشرفة، من بيت الله في مكة، إلى قبر جده المصطفى وأجداده المعصومين في المدينة المنورة، إلى قبر جده أمير المؤمنين عليه السلام في النجف، إلى قبر جده الحسين في كربلاء، إلى بقية مشاهد المعصومين عليهم السلام، وتتجسد أمام عينيه مظالمهم ومصائبهم!
وهو في ذلك يعيش حياته بقلب حي وإحساس نابض، يعيش بقداسة روح جده أمير المؤمنين عليه السلام الذي لا يتحمل أن يسلب نملة جلب شعيرة، حتى لو أعطي مقابلها الأقانيم السبعة بما تحت أفلاكها! والذي عنده الموت أهون من أن يرى امرأة مسلمة أو ذمية تسلب حليها، ولا يستطيع أن يدافع عنها!
فأي صبر هو صبر الإمام المهدي أرواحنا فداه؟!
((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا..)) هذا هو الصبر المطلق الذي يوصل إلى الإمامة المطلقة! فما هو الفرق بين مطلق الإمامة، والإمامة المطلقة؟
إن الإمامة مقولة لها شروط ترتفع درجتها بها حتى تصل طبقاً لنظام العلة والمعلول إلى الإمامة المطلقة، وتكون النسبة بينها وبين مطلق الإمامة كنسبة مطلق الوجود إلى الوجود المطلق، ومطلق العلم إلى العلم المطلق، ومطلق القدرة إلى القدرة المطلقة!
فإذا التفتم إلى هذه الفروق عرفتم معنى الرحمة المطلقة التي وصف بها الأئمة عليهم السلام في الزيارات والأدعية، فالرحمة المطلقة هي التي وسعت كل شيء، ومطلق الرحمة لا تسع كل شيء.
وينبغي هنا أن نعرف أن الآية في الأئمة المختارين من بني إسرائيل، وهؤلاء ليسوا كأئمتنا عليهم السلام أهل الصبر المطلق والإمامة المطلقة.
فالإمام المهدي صاحب الزمان أرواحنا فداه، صاحب الإمامة المطلقة وليس مطلق إمام، وهذا يعني أنه صاحب العلم المطلق بتعليم الله تعالى، والقدرة المطلقة بإقدار الله تعالى، والرحمة المطلقة بعطاء الله تعالى.
فهو كلمة الله التامة ورحمته الواسعة.. صلوات الله عليه.
توجد رواية عن الإمام الرضا عليه السلام يصف فيها الإمام المهدي عليه السلام ينبغي أن نقرأها، فهي من الغرر التي خص بها الحسن بن محبوب الزراد، الذي هو من كبار علماء الطائفة، من أصحاب الإجماع الذين أجمعت الطائفة على تصحيح ما يصح عنهم(6)، والأئمة عليهم السلام لا يقولون كل المطالب لكل أحد، بل يدخرون بعضها لأهلها. قال الحسن بن محبوب رحمه الله قال لي: ( لابد من فتنة صماء صيلم، تسقط فيها كل بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي، يبكي عليه أهل السماء وأهل الأرض، وكل حرَّى وحران، وكل حزين لهفان. ثم قال: بأبي وأمي سميُّ جدي، شبيهي وشبيه موسى بن عمران، عليه جيوب النور تتوقد بشعاع ضياء القدس! كم من حرى مؤمنة، وكم مؤمن متأسف حيران حزين عند فقدان الماء المعين!كأني بهم آيس ما كانوا قد نودوا نداء يسمع من بعد كما يسمع من قرب، يكون رحمةً على المؤمنين وعذاباً على الكافرين).(العيون:1/9)(7)
إن كلام الإمام لا مبالغة فيه فهو عين الواقع، وأوصافه لهذه الفتنة حقيقية.
بأبي وأمي سميُّ جدي، شبيهي وشبيه موسى بن عمران، عليه جيوب النور تتوقد بشعاع ضياء القدس! فالإمام الرضا عليه السلام الذي هو شرط قبول الله تعالى لكلمة التوحيد من عباده، يقول هذا الكلام للحسن بن محبوب الفقيه الجليل! وفي هذا فليفكر العقل الكامل، وليصل إن استطاع إلى أعماقه!
أي جيوب تتوقد على الإمام؟ والجيوب هي طيات قبائه وعباءته وثيابه، فهي لشدة نوره تتوقد، لا من النور العادي، بل من شعاع ضياء القدس!
فإلى أي مرتبة وصل الإمام في اتصاله بنور الأنوار سبحانه، حتى صارت روحه وبدنه وثيابه تتوقد بشعاع ضياء القدس؟!
إنه نور الله في أرضه الذي قال عنه تعالى: ((مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضئُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ)). ( سورة النور:35)
إنه مدار الدهر وناموس العصر.. صلوات الله عليه.
وطريق الوصول إليه بأمرين: أولهما، التقوى، فإن كتاب الله تعالى ((هدىً للمتقين)) والإمام كتاب الله الناطق، هدىً للمتقين أيضاً. والتقوى من إنسان بحسبه، ومنكم بحسبكم.
وثانيهما، التمسك بأهل بيت العصمة والطهارة، وأن تجعلوا إمام الزمان عليه السلام أمام نظركم، لتكونوا مشمولين لنظره ولطفه. فإن أردتم أن تكونوا موضع لطفه، وأن توصلوا الناس به، فلا بد أن تحققوا هذين الشرطين.
وأوصيكم بأمرين يقربانكم من الله تعالى وحجته صلوات الله عليه:
الأول، أن لا تنسوا ظلامة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام، هذه الظلامة التي يذكرها الإمام صباحاً ومساء ويتألم لها ويذوب لها فؤاده، فقد هجموا على بيتها نهاراً جهاراً، وأوصت أن يدفنوها ليلاً سراً.
والثاني، أن تحافظوا على إحياء عاشوراء وتحفظوا مقام سيد الشهداء عليه السلام.
كيف يستحق الإمام مقام الإمامة؟
آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني/ الحوزة العلمية ـ قم المقدسة
لابد لنا أن نستطرد البحث إلى أصول الدين، لنجبر ما فاتنا من التفسير. فالواجب علينا أن نبني أصول ديننا بناء علمياً عميقاً، ولا نرضى أن تكون ناقصة!
إن فقرة الدعاء هذه: اللهم عرفني حجتك، فإنك إن لم تعرفني حجتك، ضللت عن ديني.(1)
كلمة مملوءة بالخطورة! فمسألة معرفة الحجة لله على خلقه مهمة جداً، وليست هي كمعرفة العبادات أو المعاملات، أو معرفة الصحيح والأعم، والبراءة والإشتغال! ليست من هذه البحوث التي ندخل فيها بكل قوتنا! بل ترانا ندخل في بحوث العقائد والإمامة ونحن نرتعش خوفاً، لأنا لسنا من فرسانها المسلحين، لكن لابد من الكلام.
اللهم عرفني حجتك.. إن المعرفة الكاملة لحجة الله تعالى فوق مستوانا! وهي مسألة لم تستوف بحثاً، وإن كان أعيان علمائنا رضوان الله عليهم وجزاهم الله خيراً قد بذلوا جهوداً كبيرة ولم يقصروا. لكن السر في عظمة المطلب وليس في تقصير الباحثين في مسائل الإمامة!إن عظمة مطالب الإمامة وعلو مقامها توجب أن لا نتوصل إلى أعماقها بسهولة.
ومما يجب التنبيه عليه أن الشرط الأساسي لمعرفة أصول الدين أن يكون مصدرنا فيها القرآن والسنة فقط، فمن القرآن نأخذ أصولها ومن الروايات فروعها وتفصيلها، وما سبب الإنحرافات إلا أنا رجعنا في بحوث العقائد إلى غير القرآن والأحاديث.
والإمامة أهم من جميع مسائل البناء العقيدي على الإطلاق، لأنها المقدمة الموصلة إلى الله تعالى! وهذا واضح لكم لأنكم أهل فضل والحمدلله، تعرفون بماذا عُرف الله، وبماذا عُبد الله تعالى، وتعرفون معنى: لولانا ما عُرف الله، ولولانا ما عُبد الله،(2) وتعرفون أن الإرتباط العلمي والعملي بين العبد وربه يتوقف على توسط الإمامة الكبرى، فلا معرفة إلا عن طريقها، ولا عبادة إلا عن طريقها.. فما هي الإمامة؟
نستعرض آية من القرآن هي أصل المطلب، ونذكر معناها بالإجمال، وهي قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)). (السجدة:24)، وفيها أربعة مباحث، أرجو أن تتأملوا فيها:
المبحث الأول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ.. فالإمامة أمر مجعول من الله تعالى، لا من السقيفة! والقرآن يعطي هدايته لجميع الناس بالعبارة وبالإشارة، والعلماء والواعون يفهمون هدايته، ولا ذنب للقرآن إذا لم يهتد به غلاظ القلوب والأذهان! وعندما ندرس أصحاب المستويات العالية من العلماء نجد أنهم بعد أن يستكملوا مراحلهم العلمية يعودون إلى مطالعة القرآن! ومطالعة القرآن غير هذه القراءة العادية المعروفة.
وهذه الآية في مطلق الإمامة وليست في الإمامة المطلقة، لأنها في إمامة عدد من أئمة بني إسرائيل، ومع ذلك لا يصح فيهم جعل البشر، بل لا بد فيهم من جعل الله تعالى. وإذا كان هذا حال مطلق الإمامة، فكيف بالإمامة المطلقة بعد خاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليه وآله وسلم؟!
إن إمامة أئمتنا المعصومين عليهم السلام وإمامة صاحب العصر والزمان أرواحنا فداه إمامة مطلقة، وليست مطلق إمامة، والفرق بينهما كبير.
المبحث الثاني: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً..)) ومن هنا للتبعيض، فالذين يصلحون لهذا المنصب الإلهي هم بعض المؤمنين مع الرسل، وليسوا كلهم.
والمبحث الثالث: في بيان أصل الإمامة.
والمبحث الرابع: في بيان فرع الإمامة. فما هو أصل الإمامة، وما هو فرعها؟
أما أصل الإمامة فهو: لَمَّا صَبَرُوا. وأما فرعها فهو: ((يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)). وهذا هو إعجاز القرآن! فإعجاز الفصاحة والبلاغة فيه إعجاز لفظي، ولكن إعجازه لكبار المفكرين من العلماء أنه في آية واحدة بل في جزء من آية، يقدم العجائب! وهو هنا يوجب على الباحث أن يفهم معنى الصبر أولاً، ثم يفهم معنى الهداية، ثم يفهم معنى الأمر في الآية، ثم يفهم معنى الهداية بالأمر!
أما الصبر فهو في اللغة حبس النفس، وهو مقولة نسبية متفاوتة المراتب، أو مشككة بالتعبير المنطقي، وهو الجذر والطريق لوصول الإنسان إلى مستويات عالية من الكمال الإنساني، فبالصبر وصل كبار الأنبياء والأئمة عليهم السلام إلى أن تكون عوالم الكون في قبضة يدهم!
لو كنا نفهم هذا الطريق، لو أن أحداً ربَّانا عليه لما كنا اليوم في مستوانا هذا!
يبدأ الصبر بقلة الكلام، فانظروا في روايات الحث على قلة الكلام والنهي عن كثرته! وتعلموا أن تحفظوا أنفسكم بالصبر عن الكلام، لتروا أثره!
إن كبار المفكرين والعلماء والمرتاضين في جهاد النفس، إنما بلغوا ما بلغوا بتحقيق شروط في سلوكهم، من أولها الصمت والسكوت وقلة الكلام!
فالصبر يبدأ بحفظ العين واللسان، أي بالصبر عن النظر والكلام، وفي ذلك سر، وهو أن النقطة التي يبدأ منها فضول النفس هو النظر واللسان!
ثم يتواصل الصبر، إلى أن يصل إلى الصبر على كل الأمور: الصبر على المشتهيات، والصبر على المنازعات والمجادلات، والصبر على المؤلمات والمصائب.. الخ. فإذا تم ذلك فقد تمت ألف باء الصبر، حتى يصل إلى درجة الصبر عن جميع الدنيا، ويتحقق لصاحبه حبس النفس عن كل عالم المادة، ويخرج روحه من كل متعلقاتها.
وإذا تم له ذلك، وحبس نفسه عن كل عالم المادة، وما فيه من مال ومقام ولذائذ، فلم يصل إلى درجة الإنسان الكامل أيضاً! لأن قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا))، يعني أنهم صبروا عن الدنيا وعن البرزخ أيضاً! والبرزخ هنا هو الصور الخيالية، والصبر عليها يعني محوها من عالم النفس والروح.
فإذا تم له محو عالم الدنيا وعالم البرزخ، يصل إلى المرحلة الثالثة وهي الصبر عن شؤون عالم الآخرة.
فإذا استطاع أن يصبر على الآخرة بكل ما فيها من نعيم، يكون بذلك محا الدنيا والبرزخ والآخرة من روحه، وحينئذ يمكنه أن يفرغ نفسه وروحه لله تعالى دون أن يكون له فيه شريك، ويصل إلى درجة العبد المطلق.
إن الله تعالى لا يقبل الشريك، ولا يصح أن تكون الدنيا ولا الآخرة شريكاً له في نفس العبد المطلق. وما لم يمح الإنسان من نفسه وروحه كل الدنيا والبرزخ والآخرة، فلا يستطيع أن يجمع نفسه ويقدمها لله تعالى! وكما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء. (وسائل الشيعة- آل البيت:16/254)(3) وهذا الكلام لم يقله النبي صلى الله عليه وآله وسلم لي ولك، بل قاله لأعيان الإنسانية الذين وصلوا إلى هذه المراحل!
وعندما يصل الإنسان إلى درجة العبد المطلق يكون كما نقرأ في زيارة الجامعة: وذلَّ كلُّ شيء لكم، وأشرقتِ الأرضُ بنوركم. (العيون:1/304)!
كل شيء.. كل ما يصدق عليه أنه شيء في تلك الحضرة ذليل! وجيرئيل شيء وميكائيل شيء، والكرسي واللوح والقلم، أشياء.. وكلها ذليلة أمام الإمام الحجة بن الحسن صلوات الله عليه!
وذل كل شيء لكم.. لماذا؟ لأنه صار عبداً مطلقاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: يا علي، من خاف الله عز وجل أخاف منه كل شيء، ومن لم يخف الله عز وجل أخافه الله من كل شيء. ( من لا يحضره الفقيه:4/357) .(4)
وهذه العبودية هي التي قالوا عنها (العبودية جوهرة كنهها الربوبية) أي ربوبية للأشياء بالله تعالى.
أرأيتم النتيجة التي ينتهي إليها الصبر، وكيف يصل الإنسان الذي صبر نفسه في جنب الله تعالى إلى مقام العبد المطلق، ويستحق الإمامة المطلقة؟ فماذا نستطيع أن نقول في مقام الإمام صاحب الزمان عليه السلام؟أليس الأفضل أن نصمت ونكتفي بذكر اسمه الشريف فقط؟!
لإمام العصر وولي الأمر صلوات الله عليه مئةٌ وثمانون صفةً أو لقباً، ونيفاً:
منها تعرف شخصيته ويعرف مقامه.
فمن صفاته المئة والثمانين أنه: خليفة الله.
ومن صفاته المئة والثمانين أنه: حجة الله.
ومنها أنه: ربانيُّ آيات الله.
ومنها أنه: دليل إرادة الله.
ومنها أنه: مدار الدهر.
ومنها أنه: نور الله المطلق.
ومنها أنه:صاحب السماء.
ومنها أنه: ضياء الله المشرق.
ومنها أنه: الكلمة التامة.
ومنها أنه: الرحمة التي وسعت كل شيء، نعم، الرحمة التي وسعت كل شيء!
فهل باستطاعتنا أن نفسر صفة واحدة من هذه المئة والثمانين؟ أم أنها جميعاً فوق تفسيرنا؟!
سيدي، لقد عشنا عمرنا على مائدتك، وباسمك قدمنا أنفسنا إلى الناس، لكنا عندما نراجع حسابنا، نجد أننا ما عرفناك ولا عرفنا قدرك، ولا أدينا تجاهك واجب الإحترام! بل إني أتساءل: كيف سيحاسبنا الله تعالى لأنا أنقصنا من حقك ونزلنا مقامك إلى مستوياتنا؟!
يا من هو الواسطة في فيض نعم الله على خلقه، يا من جعله الله الذي منه الوجود فاعل ما به الوجود. وحاشاك أن نشركك معه في ذرة من ملكه، فقد تعلمنا منكم التوحيد والتنزيه والتحميد، فنحن نشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)). ( سورة لأعراف:54) ونشهد أنك تقول كجدك المصطفى: ((لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاضَرّاً إِلامَا شَاءَ اللهُ)). ( سورة الأعراف: 188) لكنا نعتقد أن ما استثناه تعالى بقوله إِلاَّمَا شَاءَ اللهُ، هو الكثير الكثير، فقد جعلكم واسطة فيضه وعطائه لخلقه، فحيثما كان عطاء إلهي فأنت موجود، وحيثما كان فعل إلهي فأنت وسيلته.. فالنَّفَسُ الذي نتنفسه من الله تعالى بكم، والنظر الذي ننظر به من الله تعالى بكم، والخطوة التي نخطوها من الله بكم!
نحن نعتقد أنك لا تملك من نفسك شيئاً، لكنك تملك بالله عظيم ما ملكك! فأنتم أهل البيت، وأنت يا إمام العصر: رحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء! وخير لنا أن نصمت عن مديحكم ونتركه لمن هو أكفأ منا، فإنما أردنا هذا اليوم أن نفهم أننا مقصرون جاهلون عاجزون، وأن نطلب العذر لتقصيرنا.
نحن بهذا الحديث عنك نعرض أنفسنا أمامك، لعلك تتفضل علينا بنظرة.
أخبرني أحد الأشخاص الكبار الذين أثق بهم، أنه سمع أنه توجد رياضة خاصة من يفعلها يستطيع أن يرى واقعة كربلاء كما هي في يومها! وهذا أمر يتفق مع الكشوف العلمية التي تؤكد أن الأحداث والوقائع في الأرض محفوظة في عالم أثيري خاص، وأنه يمكن للروح أن تتصل بها وتراها!
قال: لكنه لم يمكنه مشاهدة جميع وقائع عاشوراء، فهناك مقطع نحو ثلاث ساعات غير قابل للمشاهدة لأحد، من حين هوى الإمام الحسين عليه السلام من على ظهرجواده إلى أن جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم دمه فصعد به وجعله على أسطوانة العرش، فهو يهتز إلى يوم القيامة! هذا المقطع غير قابل للرؤية!
هذا هو الصبر الذي نتجت عنه الإمامة الكبرى، وهو نفسه صبر صاحب الزمان أرواحنا فداه، الذي يرى هذا المشهد كل يوم صباحاً ومساء!
إن حياته عليه السلام كلها امتحان، وقد ورد أنه يوجد عنده في البيت الذي يسكن فيه قميص جده الحسين عليه السلام معلقٌ فوق رأسه وهو يراه، فإذا حان وقت ظهوره يراه قد صار دماً عبيطاً!(5)
إن صبره لا يشبه صبر أحد من الناس، بسبب سعة علمه ورقة قلبه وشفافية مشاعره عليه السلام! فهو يرى كل مظالم العالم وجناياته، وهو يرى مظالم جده النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجداده الطاهرين عليهم السلام أمام عينيه،ولاشك أنه يتجول في زيارة مشاهدهم المشرفة، من بيت الله في مكة، إلى قبر جده المصطفى وأجداده المعصومين في المدينة المنورة، إلى قبر جده أمير المؤمنين عليه السلام في النجف، إلى قبر جده الحسين في كربلاء، إلى بقية مشاهد المعصومين عليهم السلام، وتتجسد أمام عينيه مظالمهم ومصائبهم!
وهو في ذلك يعيش حياته بقلب حي وإحساس نابض، يعيش بقداسة روح جده أمير المؤمنين عليه السلام الذي لا يتحمل أن يسلب نملة جلب شعيرة، حتى لو أعطي مقابلها الأقانيم السبعة بما تحت أفلاكها! والذي عنده الموت أهون من أن يرى امرأة مسلمة أو ذمية تسلب حليها، ولا يستطيع أن يدافع عنها!
فأي صبر هو صبر الإمام المهدي أرواحنا فداه؟!
((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا..)) هذا هو الصبر المطلق الذي يوصل إلى الإمامة المطلقة! فما هو الفرق بين مطلق الإمامة، والإمامة المطلقة؟
إن الإمامة مقولة لها شروط ترتفع درجتها بها حتى تصل طبقاً لنظام العلة والمعلول إلى الإمامة المطلقة، وتكون النسبة بينها وبين مطلق الإمامة كنسبة مطلق الوجود إلى الوجود المطلق، ومطلق العلم إلى العلم المطلق، ومطلق القدرة إلى القدرة المطلقة!
فإذا التفتم إلى هذه الفروق عرفتم معنى الرحمة المطلقة التي وصف بها الأئمة عليهم السلام في الزيارات والأدعية، فالرحمة المطلقة هي التي وسعت كل شيء، ومطلق الرحمة لا تسع كل شيء.
وينبغي هنا أن نعرف أن الآية في الأئمة المختارين من بني إسرائيل، وهؤلاء ليسوا كأئمتنا عليهم السلام أهل الصبر المطلق والإمامة المطلقة.
فالإمام المهدي صاحب الزمان أرواحنا فداه، صاحب الإمامة المطلقة وليس مطلق إمام، وهذا يعني أنه صاحب العلم المطلق بتعليم الله تعالى، والقدرة المطلقة بإقدار الله تعالى، والرحمة المطلقة بعطاء الله تعالى.
فهو كلمة الله التامة ورحمته الواسعة.. صلوات الله عليه.
توجد رواية عن الإمام الرضا عليه السلام يصف فيها الإمام المهدي عليه السلام ينبغي أن نقرأها، فهي من الغرر التي خص بها الحسن بن محبوب الزراد، الذي هو من كبار علماء الطائفة، من أصحاب الإجماع الذين أجمعت الطائفة على تصحيح ما يصح عنهم(6)، والأئمة عليهم السلام لا يقولون كل المطالب لكل أحد، بل يدخرون بعضها لأهلها. قال الحسن بن محبوب رحمه الله قال لي: ( لابد من فتنة صماء صيلم، تسقط فيها كل بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي، يبكي عليه أهل السماء وأهل الأرض، وكل حرَّى وحران، وكل حزين لهفان. ثم قال: بأبي وأمي سميُّ جدي، شبيهي وشبيه موسى بن عمران، عليه جيوب النور تتوقد بشعاع ضياء القدس! كم من حرى مؤمنة، وكم مؤمن متأسف حيران حزين عند فقدان الماء المعين!كأني بهم آيس ما كانوا قد نودوا نداء يسمع من بعد كما يسمع من قرب، يكون رحمةً على المؤمنين وعذاباً على الكافرين).(العيون:1/9)(7)
إن كلام الإمام لا مبالغة فيه فهو عين الواقع، وأوصافه لهذه الفتنة حقيقية.
بأبي وأمي سميُّ جدي، شبيهي وشبيه موسى بن عمران، عليه جيوب النور تتوقد بشعاع ضياء القدس! فالإمام الرضا عليه السلام الذي هو شرط قبول الله تعالى لكلمة التوحيد من عباده، يقول هذا الكلام للحسن بن محبوب الفقيه الجليل! وفي هذا فليفكر العقل الكامل، وليصل إن استطاع إلى أعماقه!
أي جيوب تتوقد على الإمام؟ والجيوب هي طيات قبائه وعباءته وثيابه، فهي لشدة نوره تتوقد، لا من النور العادي، بل من شعاع ضياء القدس!
فإلى أي مرتبة وصل الإمام في اتصاله بنور الأنوار سبحانه، حتى صارت روحه وبدنه وثيابه تتوقد بشعاع ضياء القدس؟!
إنه نور الله في أرضه الذي قال عنه تعالى: ((مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضئُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ)). ( سورة النور:35)
إنه مدار الدهر وناموس العصر.. صلوات الله عليه.
وطريق الوصول إليه بأمرين: أولهما، التقوى، فإن كتاب الله تعالى ((هدىً للمتقين)) والإمام كتاب الله الناطق، هدىً للمتقين أيضاً. والتقوى من إنسان بحسبه، ومنكم بحسبكم.
وثانيهما، التمسك بأهل بيت العصمة والطهارة، وأن تجعلوا إمام الزمان عليه السلام أمام نظركم، لتكونوا مشمولين لنظره ولطفه. فإن أردتم أن تكونوا موضع لطفه، وأن توصلوا الناس به، فلا بد أن تحققوا هذين الشرطين.
وأوصيكم بأمرين يقربانكم من الله تعالى وحجته صلوات الله عليه:
الأول، أن لا تنسوا ظلامة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام، هذه الظلامة التي يذكرها الإمام صباحاً ومساء ويتألم لها ويذوب لها فؤاده، فقد هجموا على بيتها نهاراً جهاراً، وأوصت أن يدفنوها ليلاً سراً.
والثاني، أن تحافظوا على إحياء عاشوراء وتحفظوا مقام سيد الشهداء عليه السلام.