خادم للمذهب
16-07-2010, 04:10 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الغضب
و هو كيفية نفسانية موجبة لحركة الروح من الداخل الى الخارج للغلبة، و مبدؤه شهوة الانتقام، و هو من جانب الافراط، و اذا اشتد يوجب حركة عنيفة، يمتلىء لاجلها الدماغ و الاعصاب من الدخان المظلم، فيستر نور العقل و يضعف فعله، و لذا لا يؤثر فى صاحبه الوعظ و النصيحة، بل تزيده الموعظة غلظة و شدة. قال بعض علماء الاخلاق: «الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة، الا انها لا تطلع الا على الافئدة، و انها لمستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد، و تستخرجها حمية الدين من قلوب المؤمنين، او حمية الجاهلية و الكبر الدفين من قلوب الجبارين، التي لها عرق الى الشيطان اللعين، حيث قال:
«خلقتني من نار و خلقته من طين» (95) .
فمن شان الطين السكون و الوقار، و من شان النار التلظي و الاستعار» .
ثم قوة الغضب تتوجه عند ثورانها اما الى دفع المؤذيات ان كان قبل وقوعها او الى التشفي و الانتقام ان كان بعد وقوعها، فشهوتها الى احد هذين الامرين و لذتها فيه، و لا تسكن الا به. فان صدر الغضب على من يقدر ان ينتقم منه، و استشعر باقتداره على الانتقام، انبسط الدم من الباطن الى الظاهر، و احمر اللون، و هو الغضب الحقيقي. و ان صدر على من لا يتمكن ان ينتقم منه لكونه فوقه، و استشعر بالياس عن الانتقام. انقبض الدم من الظاهر الى الباطن، و صار حزنا. و ان صدر على من يشك في الانتقام منه انبسط الدم تارة او انقبض اخرى، فيحمر و يصفر و يضطرب.
فصل (الغضب)
(الغضب) من المهلكات العظيمة، و ربما ادى الى الشقاوة الابدية، من القتل و القطع، و لذا قيل: (انه جنون دفعى) . قال امير المؤمنين (ع) :
«الحدة ضرب من الجنون، لان صاحبها يندم، فان لم يندم فجنونه مستحكم» و ربما ادى الى اختناق الحرارة، و يورث الموت فجاة. و قال بعض الحكماء:
«السفينة التي وقعت في اللجج الغامرة، و اضطربتبالرياح العاصفة و غشيتها الامواج الهائلة ارجى الى الخلاص من الغضبان الملتهب» . و قد ورد به الذم الشديدة في الاخبار، قال رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-: «الغضب يفسد الايمان كما يفسد الخل العسل» ، و قال الباقر (ع) ، ان هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، و ان احدكم اذا غضب احمرت عيناه و انتفخت اوداجه و دخل الشيطان فيه، فاذا خاف احدكم ذلك من نفسه فليلزم الارض، فان رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك» . و قال الصادق (ع) : «و كان ابي (ع) يقول: اي شيء اشد من الغضب؟ ان الرجل يغضب فيقتل النفس التي حرم الله، و يقذف المحصنة» و قال (ع) (99) : «ان الرجل ليغضب فما يرضى ابدا حتى يدخل النار» . و قال الصادق (ع) :
«الغضب مفتاح كل شر» . و قال (ع) : «الغضب ممحقة لقلب الحكيم» .
و قال (ع) : من لم يملك غضبه لم يملك عقله» .
ثم مما يلزم الغضب من الآثار المهلكة الذميمة، و الاغراض المضرة القبيحة: انطلاق اللسان بالشتم و السب، و اظهار السوء و الشماتة بالمساءة و افشاء الاسرار و هتك الاستار و السخرية و الاستهزاء، و غير ذلك من قبيح الكلام الذي يستحيي منه العقلاء، و توثب الاعضاء بالضرب و الجرح و التمزيق و القتل و تالم القلب بالحقد و الحسد و العداوة و البغض و مما تلزمه الندامة بعد زواله، و عداوة الاصدقاء، و استهزاء الاراذل، و شماتة الاعداء، و تغير المزاج، و تالم الروح و سقم البدن، و مكافاة العاجل و عقوبة الآجل.
و العجب ممن توهم ان شدة الغضب من فرط الرجولية، مع ان ما يصدر عن الغضبان من الحركات القبيحة انما هو افعال الصبيان و المجانين دون الرجال و العاقلين، كيف و قد تصدر عنه الحركات غير المنتظمة، من الشتم و السب بالنسبة الى الشمس، و القمر، و السحاب، و المطر، و الريح، و الشجر، و الحيوانات و الجمادات، و ربما يضرب القصعة على الارض، و يكسر المائدة، و يخاطب البهيمة و الجماد كما يخاطب العقلاء، و اذا عجز عن التشفي، ربما مزق ثوبه، و لطم وجهه، و قد يعدو عدو المدهوش المتحير، و ربما اعتراه مثل الغشية، او سقط على الارض لا يطيق النهوض و العدو. و كيف يكون مثل هذه الافعال القبيحة من فرط الرجولية و قد قال رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-: «الشجاع من يملك نفسه عند غضبه» .
فصل (امكان ازالة الغضب و طرق علاجه)
قد اختلف علماء الاخلاق في امكان ازالة الغضب بالكلية و عدمه، فقيل: قمع اصل الغضب من القلب غير ممكن، لانه مقتضى الطبع، انما الممكن كسر سورته و تضعيفه، حتى لا يشتد هيجانه، و انتخبير بان الغضب الذي يلزم ازالته هو الغضب المذموم، اذ غيره مما يكون باشارة العقل و الشرع ليس غضبا فيه كلامنا، بل هو من آثار الشجاعة، و الاتصاف به من اللوازم، و ان اطلق عليه اسم الغضب احيانا حقيقة او مجازا، كما روي عن امير المؤمنين (ع) انه قال: «كان النبي-صلى الله عليه و آله و سلم-لا يغضب للدنيا، و اذا اغضبه الحق لم يصرفه احد، و لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له» . و لا ريب ان الغضب الذي يحصل لرسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-لم يكن غضبا مذموما، بل كان غضبا ممدوحا يقتضيه منصب النبوة، و توجيه الشجاعة النبوية. ثم الغضب المذموم ممكن الزوال، و لولا امكانه لزوم وجوده للانبياء و الاوصياء، و لا ريب في بطلانه.
ثم علاجه يتوقف على امور، و ربما حصل ببعضها:
(الاول) ازالة اسبابه المهيجة له، اذ علاج كل علة بحسم مادتها، و هي: العجب، و الفخر، و الكبر، و الغدر، و اللجاج، و المراء، و المزاح، و الاستهزاء، و التعيير، و المخاصمة، و شدة الحرص على فضول الجاه و الاموال الفانية، و هي باجمعها اخلاق ردية مهلكة، و لا خلاص من الغضب مع بقائها، فلا بد من ازالتها حتى تسهل ازالته.
(الثاني) ان يتذكر قبح الغضب و سوء عاقبته، و ما ورد في الشريعة من الذم عليه، كما تقدم.
(الثالث) ان يتذكر ما ورد من المدح و الثواب على دفع الغضب في موارده، و يتامل فيما ورد من فوائد عدم الغضب، كقول النبي-صلى الله عليه و آله و سلم-: «من كف غضبه عن الناس كف الله تبارك و تعالى عنه عذاب يوم القيامة» . و قول الباقر (ع) : «مكتوب في التوراة: فيما ناجى الله به موسى: امسك غضبك عمن ملكتك عليه اكف عنك غضبي» . و قول الصادق (ع) : «اوحى الله تعالى الى بعض انبيائه: يابن آدم! اذكرني في غضبك اذكرك في غضبي، و لا امحقك فيمن امحق، و اذا ظلمتبمظلمة فارض بانتصاري لك، فان انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك» . و قوله (ع) :
«سمعت ابي يقول: اتى رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-رجل بدوي:
فقال: اني اسكن البادية، فعلمني جوامع الكلم. فقال: آمرك الا تغضب.
فاعاد الاعرابي عليه المسالة ثلاث مرات، حتى رجع الرجل الى نفسه، فقال: لا اسالك عن شيء بعد هذا، ما امرني رسول الله-صلى الله عليه و آله-الا بالخير» . و قوله (ع) : «ان رسول الله-صلى الله عليه و آله- اتاه رجل، فقال: يا رسول الله! علمني عظة اتعظ بها، فقال له: انطلق و لا تغضب، ثم عاد عليه، فقال له: انطلق و لا تغضب. . . ثلاث مرات» و قوله (ع) : «من كف غضبه ستر الله عورته» . . . الى غير ذلك من الاخبار.
(الرابع) ان يتذكر فوائد ضد الغصب، اعني الحلم و كظم الغيظ، و ما ورد من المدح عليهما في الاخبار-كما ياتي-و يواظب على مباشرته و لو بالتكلف، فيتحلم و ان كان في الباطن غضبانا، و اذا فعل ذلك مدة صار عادة مالوفة هنيئة على النفس، فتنقطع عنها اصول الغضب.
(الخامس) ان يقدم الفكر و الرواية على كل فعل او قول يصدر عنه، و يحافظ نفسه من صدور غضب عنه.
(السادس) ان يحترز عن مصاحبة ارباب الغضب، و الذين يتبجحون بتشفي الغيظ و طاعة الغضب، و يسمون ذلك شجاعة و رجولية، فيقولون:
نحن لا نصبر على كذا و كذا، و لا نحتمل من احد امرا. و يختار مجالسة اهل الحلم، و الكاظمين الغيظ، و العافين عن الناس.
(السابع) ان يعلم ان ما يقع انما هو بقضاء الله و قدره، و ان الاشياء كلها مسخرة في قبضة قدرته، و ان كل ما في الوجود من الله، و ان الامر كله لله، و ان الله لا يقدر له ما فيه الخيرة، و ربما كان صلاحه في جوعه، او مرضه، او فقره، او جرحه او قتله، او غير ذلك. فاذا علم بذلك غلب عليه التوحيد، و لا يغضب على احد، و لا يغتاظ عما يرد عليه، اذ يرى-حينئذ- ان كل شيء في قبضة قدرته اسير، كالقلم في يد الكاتب. فكما ان من وقع عليه ملك بضرب عنقه لا يغضب على القلم، فكذلك من عرف الله و علم ان هذا النظام الجملى صادر منه على وفق الحكمة و المصلحة، و لو تغيرت ذرة منه عما هي عليه خرجت عن الاصلحية، لا يغضب على احد، الا ان غلبة التوحيد على هذا الوجه كالكبريت الاحمر و توفيق الوصول اليه من الله الاكبر. و لو حصل لبعض المتجردين عن جلباب البدن يكون كالبرق الخاطف، و يرجع القلب الى الالتفات الى الوسائط رجوعا طبيعيا، و لو تصور دوام ذلك لاحد لتصور لفرق الانبياء، مع ان التفاتهم في الجملة الى الوسائط مما لا يمكن انكاره.
(الثامن) ان يتذكر ان الغضب مرض قلب و نقصان عقل، صادر عن ضعف النفس و نقصانها، لا عن شجاعتها و قوتها، و لذا يكون المجنون اسرع غضبا من العاقل، و المريض اسرع غضبا من الصحيح. و الشيخ الهرم اسرع غضبا من الشاب، و المراة اسرع غضبا من الرجل، و صاحب الاخلاق السيئة و الرذائل القبيحة اسرع غضبا من صاحب الفضائل. فالرذل يغضب لشهوته اذا فاتته اللقمة، و البخيل يغاظ لبخله اذا فقد الحبة، حتى يغضب لقد ادنى شىء على اعزة اهله و ولده. و النفس القوية المتصفة بالفضيلة اجل شانا من ان تتغير و تضطرب لمثل هذه الامور، بل هي كالطود الشاهق و لا تحركه العواصف، و لذا قال سيد الرسل-صلى الله عليه و آله و سلم-: «ليس الشديد بالصرعة، انما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب» . و ان شككت في ذلك فافتح عينيك و انظر الى طبقات الناس الموجودين، ثم ارجع الى كتب السير و التواريخ، و استمع الى حكايات الماضين، حتى تعلم: ان الحلم و العفو و كظم الغيظ شيمة الانبياء و الحكماء و اكابر الملوك و العقلاء، و الغضب خصلة الجهلة و الاغبياء.
(التاسع) ان يتذكر ان قدرة الله عليه اقوى و اشد من قدرته على هذا الضعيف الذي يغضب عليه، و هو اضعف في جنب قوته القاهرة بمراتب غير متناهية من هذا الضعيف في جنب قوته، فليحذر، و لم يامن اذا امضى غضبه عليه ان يمضى الله عليه غضبه في الدنيا و الآخرة، و قد روي: «انه ما كان في بنى اسرائيل ملك الا و معه حكيم، اذا غضب اعطاه صحيفة فيها: (ارحم المساكين، و اخش الموت، و اذكر الاخرة) ، فكان يقراها حتى يسكن غضبه»
و في بعض الكتب الالهية: «يا ابن آدم! اذكرنى حين تغضب اذكرك حين اغضب، فلا امحقك فيمن امحق» (100) .
(العاشر) ان يتذكر ان من يمضي عليه غضبه ربما قوى و تشمر لمقابلته و جرد عليه لسانه باظهار معائبه و الشماتة بمصائبه، و يؤذيه في نفسه و اهله و ماله و عرضه.
(الحادي عشر) ان يتفكر في السبب الذي يدعوه الى الغيظ و الغضب فان كان خوف الذلة و المهانة و الاتصاف بالعجز و صغر النفس عند الناس، فليتنبه ان الحلم و كظم الغيظ و دفع الغضب عن النفس ليست ذلة و مهانة، و لم يصدر من ضعف النفس و صغرها، بل هو من آثار قوة النفس و شجاعتها و اضدادها تصدر من نقصان النفس و خورها. فدفع الغضب عن نفسه لا يخرجه من كبر النفس في الواقع، و لو فرض خروجه به منه في اعين جهلة الناس فلا يبالى بذلك، و يتذكر ان الاتصاف بالذلة و الصغر عند بعض اراذل البشر اولى من خزي يوم المحشر و الافتضاح عند الله الملك الاكبر، و ان كان السبب خوف ان يفوت منه شيء مما يحبه، فليعلم ان ما يحبه و يغضب لفقده اما ضروري لكل احد، كالقوت و المسكن و اللباس و صحة البدن، و هو الذى اشار اليه سيد الرسل-صلى الله عليه و آله و سلم-بقوله: «من اصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، و له قوت يومه، فكانما خيرت له الدنيا بحذافيرها» . او غير ضرورى لاحد، كالجاه و المنصب و فضول الاموال.
او ضرورى لبعض الناس دون بعض، كالكتاب للعالم، و ادوات الصناعات لاربابها. و لا ريب ان كل ما ليس من هذه الاقسام ضروريا فلا يليق ان يكون محبوبا عند اهل البصيرة و ذوى المروات، اذ ما لا يحتاج اليه الانسان في العاجل لا بد له من تركه في الآجل، فما بال العاقل ان يحبه و يغضب لفقده و اذا علم ذلك لم يغضب على فقد هذا القسم البتة. و اما ما هو ضرورى للكل او البعض، و ان كان الغضب و الحزن من فقده مقتضى الطبع لشدة الاحتياج اليه، الا ان العاقل اذا تامل يجد ان ما فقد عنه من الاشياء الضرورية ان امكن رده و الوصول اليه يمكن ذلك بدون الغيظ و الغضب ايضا، و ان لم يمكن لم يمكن معهما ايضا. و على اى حال بعد التامل يعلم ان الغضب لا ثمرة له سوى تالم العاجل و عقوبة الآجل، و حينئذ لا يغضب، و ان غضب يدفعه عن نفسه بسهولة.
(الثاني عشر) ان يعلم ان الله يحب منه الا يغضب، و الحبيب يختار البتة ما يحب محبوبه، فان كان محبا لله فليطفىء شدة حبه له غضبه.
(الثالث عشر) ان يتفكر في قبح صورته و حركاته عند غضبه، بان يتذكر صورة غيره و حركاته عند الغضب.
تتميم
اعلم ان بعض المعالجات المذكورة يقتضى قطع اسباب الغضب و حسم مواده، حتى لا يهيج و لا يصدر، و بعضها يكسر سورته او يدفعه اذا صدر وهاج. و من علاجه عند الهيجان الاستعاذة من الشيطان، و الجلوس ان كان قائما، و الاضطجاع ان كان جالسا، و الوضوء او الغسل بالماء البارد، و ان كان غضبه على ذى رحم فليدن منه و ليمسه، فان الرحم اذا مستسكنت، كما ورد في الاخبار (101) .
المصدر جامع السعادات المولى محمد مهدي النراقي ج (1) ص (266)
الغضب
و هو كيفية نفسانية موجبة لحركة الروح من الداخل الى الخارج للغلبة، و مبدؤه شهوة الانتقام، و هو من جانب الافراط، و اذا اشتد يوجب حركة عنيفة، يمتلىء لاجلها الدماغ و الاعصاب من الدخان المظلم، فيستر نور العقل و يضعف فعله، و لذا لا يؤثر فى صاحبه الوعظ و النصيحة، بل تزيده الموعظة غلظة و شدة. قال بعض علماء الاخلاق: «الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة، الا انها لا تطلع الا على الافئدة، و انها لمستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد، و تستخرجها حمية الدين من قلوب المؤمنين، او حمية الجاهلية و الكبر الدفين من قلوب الجبارين، التي لها عرق الى الشيطان اللعين، حيث قال:
«خلقتني من نار و خلقته من طين» (95) .
فمن شان الطين السكون و الوقار، و من شان النار التلظي و الاستعار» .
ثم قوة الغضب تتوجه عند ثورانها اما الى دفع المؤذيات ان كان قبل وقوعها او الى التشفي و الانتقام ان كان بعد وقوعها، فشهوتها الى احد هذين الامرين و لذتها فيه، و لا تسكن الا به. فان صدر الغضب على من يقدر ان ينتقم منه، و استشعر باقتداره على الانتقام، انبسط الدم من الباطن الى الظاهر، و احمر اللون، و هو الغضب الحقيقي. و ان صدر على من لا يتمكن ان ينتقم منه لكونه فوقه، و استشعر بالياس عن الانتقام. انقبض الدم من الظاهر الى الباطن، و صار حزنا. و ان صدر على من يشك في الانتقام منه انبسط الدم تارة او انقبض اخرى، فيحمر و يصفر و يضطرب.
فصل (الغضب)
(الغضب) من المهلكات العظيمة، و ربما ادى الى الشقاوة الابدية، من القتل و القطع، و لذا قيل: (انه جنون دفعى) . قال امير المؤمنين (ع) :
«الحدة ضرب من الجنون، لان صاحبها يندم، فان لم يندم فجنونه مستحكم» و ربما ادى الى اختناق الحرارة، و يورث الموت فجاة. و قال بعض الحكماء:
«السفينة التي وقعت في اللجج الغامرة، و اضطربتبالرياح العاصفة و غشيتها الامواج الهائلة ارجى الى الخلاص من الغضبان الملتهب» . و قد ورد به الذم الشديدة في الاخبار، قال رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-: «الغضب يفسد الايمان كما يفسد الخل العسل» ، و قال الباقر (ع) ، ان هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، و ان احدكم اذا غضب احمرت عيناه و انتفخت اوداجه و دخل الشيطان فيه، فاذا خاف احدكم ذلك من نفسه فليلزم الارض، فان رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك» . و قال الصادق (ع) : «و كان ابي (ع) يقول: اي شيء اشد من الغضب؟ ان الرجل يغضب فيقتل النفس التي حرم الله، و يقذف المحصنة» و قال (ع) (99) : «ان الرجل ليغضب فما يرضى ابدا حتى يدخل النار» . و قال الصادق (ع) :
«الغضب مفتاح كل شر» . و قال (ع) : «الغضب ممحقة لقلب الحكيم» .
و قال (ع) : من لم يملك غضبه لم يملك عقله» .
ثم مما يلزم الغضب من الآثار المهلكة الذميمة، و الاغراض المضرة القبيحة: انطلاق اللسان بالشتم و السب، و اظهار السوء و الشماتة بالمساءة و افشاء الاسرار و هتك الاستار و السخرية و الاستهزاء، و غير ذلك من قبيح الكلام الذي يستحيي منه العقلاء، و توثب الاعضاء بالضرب و الجرح و التمزيق و القتل و تالم القلب بالحقد و الحسد و العداوة و البغض و مما تلزمه الندامة بعد زواله، و عداوة الاصدقاء، و استهزاء الاراذل، و شماتة الاعداء، و تغير المزاج، و تالم الروح و سقم البدن، و مكافاة العاجل و عقوبة الآجل.
و العجب ممن توهم ان شدة الغضب من فرط الرجولية، مع ان ما يصدر عن الغضبان من الحركات القبيحة انما هو افعال الصبيان و المجانين دون الرجال و العاقلين، كيف و قد تصدر عنه الحركات غير المنتظمة، من الشتم و السب بالنسبة الى الشمس، و القمر، و السحاب، و المطر، و الريح، و الشجر، و الحيوانات و الجمادات، و ربما يضرب القصعة على الارض، و يكسر المائدة، و يخاطب البهيمة و الجماد كما يخاطب العقلاء، و اذا عجز عن التشفي، ربما مزق ثوبه، و لطم وجهه، و قد يعدو عدو المدهوش المتحير، و ربما اعتراه مثل الغشية، او سقط على الارض لا يطيق النهوض و العدو. و كيف يكون مثل هذه الافعال القبيحة من فرط الرجولية و قد قال رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-: «الشجاع من يملك نفسه عند غضبه» .
فصل (امكان ازالة الغضب و طرق علاجه)
قد اختلف علماء الاخلاق في امكان ازالة الغضب بالكلية و عدمه، فقيل: قمع اصل الغضب من القلب غير ممكن، لانه مقتضى الطبع، انما الممكن كسر سورته و تضعيفه، حتى لا يشتد هيجانه، و انتخبير بان الغضب الذي يلزم ازالته هو الغضب المذموم، اذ غيره مما يكون باشارة العقل و الشرع ليس غضبا فيه كلامنا، بل هو من آثار الشجاعة، و الاتصاف به من اللوازم، و ان اطلق عليه اسم الغضب احيانا حقيقة او مجازا، كما روي عن امير المؤمنين (ع) انه قال: «كان النبي-صلى الله عليه و آله و سلم-لا يغضب للدنيا، و اذا اغضبه الحق لم يصرفه احد، و لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له» . و لا ريب ان الغضب الذي يحصل لرسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-لم يكن غضبا مذموما، بل كان غضبا ممدوحا يقتضيه منصب النبوة، و توجيه الشجاعة النبوية. ثم الغضب المذموم ممكن الزوال، و لولا امكانه لزوم وجوده للانبياء و الاوصياء، و لا ريب في بطلانه.
ثم علاجه يتوقف على امور، و ربما حصل ببعضها:
(الاول) ازالة اسبابه المهيجة له، اذ علاج كل علة بحسم مادتها، و هي: العجب، و الفخر، و الكبر، و الغدر، و اللجاج، و المراء، و المزاح، و الاستهزاء، و التعيير، و المخاصمة، و شدة الحرص على فضول الجاه و الاموال الفانية، و هي باجمعها اخلاق ردية مهلكة، و لا خلاص من الغضب مع بقائها، فلا بد من ازالتها حتى تسهل ازالته.
(الثاني) ان يتذكر قبح الغضب و سوء عاقبته، و ما ورد في الشريعة من الذم عليه، كما تقدم.
(الثالث) ان يتذكر ما ورد من المدح و الثواب على دفع الغضب في موارده، و يتامل فيما ورد من فوائد عدم الغضب، كقول النبي-صلى الله عليه و آله و سلم-: «من كف غضبه عن الناس كف الله تبارك و تعالى عنه عذاب يوم القيامة» . و قول الباقر (ع) : «مكتوب في التوراة: فيما ناجى الله به موسى: امسك غضبك عمن ملكتك عليه اكف عنك غضبي» . و قول الصادق (ع) : «اوحى الله تعالى الى بعض انبيائه: يابن آدم! اذكرني في غضبك اذكرك في غضبي، و لا امحقك فيمن امحق، و اذا ظلمتبمظلمة فارض بانتصاري لك، فان انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك» . و قوله (ع) :
«سمعت ابي يقول: اتى رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-رجل بدوي:
فقال: اني اسكن البادية، فعلمني جوامع الكلم. فقال: آمرك الا تغضب.
فاعاد الاعرابي عليه المسالة ثلاث مرات، حتى رجع الرجل الى نفسه، فقال: لا اسالك عن شيء بعد هذا، ما امرني رسول الله-صلى الله عليه و آله-الا بالخير» . و قوله (ع) : «ان رسول الله-صلى الله عليه و آله- اتاه رجل، فقال: يا رسول الله! علمني عظة اتعظ بها، فقال له: انطلق و لا تغضب، ثم عاد عليه، فقال له: انطلق و لا تغضب. . . ثلاث مرات» و قوله (ع) : «من كف غضبه ستر الله عورته» . . . الى غير ذلك من الاخبار.
(الرابع) ان يتذكر فوائد ضد الغصب، اعني الحلم و كظم الغيظ، و ما ورد من المدح عليهما في الاخبار-كما ياتي-و يواظب على مباشرته و لو بالتكلف، فيتحلم و ان كان في الباطن غضبانا، و اذا فعل ذلك مدة صار عادة مالوفة هنيئة على النفس، فتنقطع عنها اصول الغضب.
(الخامس) ان يقدم الفكر و الرواية على كل فعل او قول يصدر عنه، و يحافظ نفسه من صدور غضب عنه.
(السادس) ان يحترز عن مصاحبة ارباب الغضب، و الذين يتبجحون بتشفي الغيظ و طاعة الغضب، و يسمون ذلك شجاعة و رجولية، فيقولون:
نحن لا نصبر على كذا و كذا، و لا نحتمل من احد امرا. و يختار مجالسة اهل الحلم، و الكاظمين الغيظ، و العافين عن الناس.
(السابع) ان يعلم ان ما يقع انما هو بقضاء الله و قدره، و ان الاشياء كلها مسخرة في قبضة قدرته، و ان كل ما في الوجود من الله، و ان الامر كله لله، و ان الله لا يقدر له ما فيه الخيرة، و ربما كان صلاحه في جوعه، او مرضه، او فقره، او جرحه او قتله، او غير ذلك. فاذا علم بذلك غلب عليه التوحيد، و لا يغضب على احد، و لا يغتاظ عما يرد عليه، اذ يرى-حينئذ- ان كل شيء في قبضة قدرته اسير، كالقلم في يد الكاتب. فكما ان من وقع عليه ملك بضرب عنقه لا يغضب على القلم، فكذلك من عرف الله و علم ان هذا النظام الجملى صادر منه على وفق الحكمة و المصلحة، و لو تغيرت ذرة منه عما هي عليه خرجت عن الاصلحية، لا يغضب على احد، الا ان غلبة التوحيد على هذا الوجه كالكبريت الاحمر و توفيق الوصول اليه من الله الاكبر. و لو حصل لبعض المتجردين عن جلباب البدن يكون كالبرق الخاطف، و يرجع القلب الى الالتفات الى الوسائط رجوعا طبيعيا، و لو تصور دوام ذلك لاحد لتصور لفرق الانبياء، مع ان التفاتهم في الجملة الى الوسائط مما لا يمكن انكاره.
(الثامن) ان يتذكر ان الغضب مرض قلب و نقصان عقل، صادر عن ضعف النفس و نقصانها، لا عن شجاعتها و قوتها، و لذا يكون المجنون اسرع غضبا من العاقل، و المريض اسرع غضبا من الصحيح. و الشيخ الهرم اسرع غضبا من الشاب، و المراة اسرع غضبا من الرجل، و صاحب الاخلاق السيئة و الرذائل القبيحة اسرع غضبا من صاحب الفضائل. فالرذل يغضب لشهوته اذا فاتته اللقمة، و البخيل يغاظ لبخله اذا فقد الحبة، حتى يغضب لقد ادنى شىء على اعزة اهله و ولده. و النفس القوية المتصفة بالفضيلة اجل شانا من ان تتغير و تضطرب لمثل هذه الامور، بل هي كالطود الشاهق و لا تحركه العواصف، و لذا قال سيد الرسل-صلى الله عليه و آله و سلم-: «ليس الشديد بالصرعة، انما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب» . و ان شككت في ذلك فافتح عينيك و انظر الى طبقات الناس الموجودين، ثم ارجع الى كتب السير و التواريخ، و استمع الى حكايات الماضين، حتى تعلم: ان الحلم و العفو و كظم الغيظ شيمة الانبياء و الحكماء و اكابر الملوك و العقلاء، و الغضب خصلة الجهلة و الاغبياء.
(التاسع) ان يتذكر ان قدرة الله عليه اقوى و اشد من قدرته على هذا الضعيف الذي يغضب عليه، و هو اضعف في جنب قوته القاهرة بمراتب غير متناهية من هذا الضعيف في جنب قوته، فليحذر، و لم يامن اذا امضى غضبه عليه ان يمضى الله عليه غضبه في الدنيا و الآخرة، و قد روي: «انه ما كان في بنى اسرائيل ملك الا و معه حكيم، اذا غضب اعطاه صحيفة فيها: (ارحم المساكين، و اخش الموت، و اذكر الاخرة) ، فكان يقراها حتى يسكن غضبه»
و في بعض الكتب الالهية: «يا ابن آدم! اذكرنى حين تغضب اذكرك حين اغضب، فلا امحقك فيمن امحق» (100) .
(العاشر) ان يتذكر ان من يمضي عليه غضبه ربما قوى و تشمر لمقابلته و جرد عليه لسانه باظهار معائبه و الشماتة بمصائبه، و يؤذيه في نفسه و اهله و ماله و عرضه.
(الحادي عشر) ان يتفكر في السبب الذي يدعوه الى الغيظ و الغضب فان كان خوف الذلة و المهانة و الاتصاف بالعجز و صغر النفس عند الناس، فليتنبه ان الحلم و كظم الغيظ و دفع الغضب عن النفس ليست ذلة و مهانة، و لم يصدر من ضعف النفس و صغرها، بل هو من آثار قوة النفس و شجاعتها و اضدادها تصدر من نقصان النفس و خورها. فدفع الغضب عن نفسه لا يخرجه من كبر النفس في الواقع، و لو فرض خروجه به منه في اعين جهلة الناس فلا يبالى بذلك، و يتذكر ان الاتصاف بالذلة و الصغر عند بعض اراذل البشر اولى من خزي يوم المحشر و الافتضاح عند الله الملك الاكبر، و ان كان السبب خوف ان يفوت منه شيء مما يحبه، فليعلم ان ما يحبه و يغضب لفقده اما ضروري لكل احد، كالقوت و المسكن و اللباس و صحة البدن، و هو الذى اشار اليه سيد الرسل-صلى الله عليه و آله و سلم-بقوله: «من اصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، و له قوت يومه، فكانما خيرت له الدنيا بحذافيرها» . او غير ضرورى لاحد، كالجاه و المنصب و فضول الاموال.
او ضرورى لبعض الناس دون بعض، كالكتاب للعالم، و ادوات الصناعات لاربابها. و لا ريب ان كل ما ليس من هذه الاقسام ضروريا فلا يليق ان يكون محبوبا عند اهل البصيرة و ذوى المروات، اذ ما لا يحتاج اليه الانسان في العاجل لا بد له من تركه في الآجل، فما بال العاقل ان يحبه و يغضب لفقده و اذا علم ذلك لم يغضب على فقد هذا القسم البتة. و اما ما هو ضرورى للكل او البعض، و ان كان الغضب و الحزن من فقده مقتضى الطبع لشدة الاحتياج اليه، الا ان العاقل اذا تامل يجد ان ما فقد عنه من الاشياء الضرورية ان امكن رده و الوصول اليه يمكن ذلك بدون الغيظ و الغضب ايضا، و ان لم يمكن لم يمكن معهما ايضا. و على اى حال بعد التامل يعلم ان الغضب لا ثمرة له سوى تالم العاجل و عقوبة الآجل، و حينئذ لا يغضب، و ان غضب يدفعه عن نفسه بسهولة.
(الثاني عشر) ان يعلم ان الله يحب منه الا يغضب، و الحبيب يختار البتة ما يحب محبوبه، فان كان محبا لله فليطفىء شدة حبه له غضبه.
(الثالث عشر) ان يتفكر في قبح صورته و حركاته عند غضبه، بان يتذكر صورة غيره و حركاته عند الغضب.
تتميم
اعلم ان بعض المعالجات المذكورة يقتضى قطع اسباب الغضب و حسم مواده، حتى لا يهيج و لا يصدر، و بعضها يكسر سورته او يدفعه اذا صدر وهاج. و من علاجه عند الهيجان الاستعاذة من الشيطان، و الجلوس ان كان قائما، و الاضطجاع ان كان جالسا، و الوضوء او الغسل بالماء البارد، و ان كان غضبه على ذى رحم فليدن منه و ليمسه، فان الرحم اذا مستسكنت، كما ورد في الاخبار (101) .
المصدر جامع السعادات المولى محمد مهدي النراقي ج (1) ص (266)