سيرة المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) لقد لخصت من الصحيح في
سيرة النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) للعلامة السيد جعفر مرتضى العاملي من
الصفحة 89 فما بعد ،
ومن سيرة المصطفى للمحقق السيد هاشم معروف ابتداء من الصفحة 47 ، بتغيير بعض
العبارات دون المساس بالمعنى ، لتقريب معنى البحث إلى ذهن القارئ العزيز .
لقد شاءت الإرادة الربانية ، أن يفقد محمد ( صلى الله عليه وآله ) أباه وهو لا
يزال جنينا في بطن أمه ، بعد ولادته المباركة ثم صارت حليمة السعدية مرضعة له
وضئرا ، وظهرت منه البركات والمعاجز ، كما سبق تفصيله في المجلد الأول
- شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام - الحاج حسين الشاكري ص
36 : |
من موسوعتنا ( المصطفى والعترة ) .
وفي الرابعة من عمره عاد محمد ( صلى الله عليه وآله ) من بني
سعد إلى أحضان أمه آمنة بنت وهب ، لتقر عينها باحتضان صبيها .
وفي السادسة من عمره صاحب أمه لزيارة قبر أبيه زوجها عبد الله
بن عبد المطلب في يثرب ومعها بركة خادمتها ، وفي الطريق مرضت الأم وتوفت في (
الأبواء ) ودفنت فيه ، وعادت به أم أيمن بركة إلى مكة ، وحيدا وكان عمرها حين
وفاتها حوالي ثلاثين عاما .
وروى مسلم في صحيحه أنه ( صلى الله عليه وآله ) قال : استأذنت
ربي في زيارة أمي فأذن لي ، فزوروا القبور تذكركم الموت . انتهى .
والدليل على أنها ماتت حنيفية موحدة إذن الله لرسوله ( صلى
الله عليه وآله ) زيارة قبر أمه ، كما أن هذا الحديث هو حجة دامغة على من يدعي
حرمة زيارة القبور ، وله مؤيدات كثيرة ، منها زيارة فاطمة الزهراء ( عليها
السلام ) قبر عم أبيها سيد
- شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام - الحاج حسين الشاكري ص
37 : |
الشهداء حمزة بن عبد المطلب ( عليه السلام ) في أحد ودوام
زيارة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وجل أهل البيت والصحابة قبور موتاهم في
البقيع وفي مقابر قريش بالحجون بمكة ، وغير ذلك . فانصرف إليه جده العظيم يحيطه
بعناية ويفضله على
أولاده ، وكان يفرش له في ظل الكعبة نهارا يستظل فيه ويحيط به ولده وأشراف مكة
من قريش وغيرهم ، فيأتي محمد
( صلى الله عليه وآله ) وهو غلام صغير فيثب على فراش جده ، فيأخذه أعمامه
ليصرفوه عنه ، فيقول لهم عبد المطلب :
دعوه ، إن لابني هذا شأن عظيم . ولقد عاش ( صلى الله عليه وآله ) في كنف جده
عبد المطلب الذي كان يرعاه خير رعاية
، وكان عارفا بنبوته من تلميحات الكهنة والأحبار ، وما سيكون من أمره ، لما
وجدوه من أخبار الأنبياء في توراتهم
وأناجيلهم ، بظهور نبي من بني إسماعيل في قريش ذلك العصر ،
تتفق صفاته تماما مع الصفات التي تحلى بها محمد ( صلى الله عليه وآله ) وكانوا
يخبرون من
- شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام - الحاج حسين الشاكري ص
38 : |
يثقون به ويطمئنون إليه أحيانا .
ولما تغلب سيف بن ذي يزن ملك الحبشة على اليمن ، وفد عليه
وجوه مكة من القرشيين بزعامة عبد المطلب للتهنئة على انتصاره ، فخلا به سيف بن
ذي يزن ، وبشره بمولود لقريش في مكة ، يكون رسولا من الله إلى الناس أجمعين ،
ووصفه
بصفات ، فوجد عبد المطلب أن تلك الصفات تتوفر في حفيده محمد ، فسجد لله شكرا ،
هذا مما يدل على أن عبد المطلب وآباؤه أحناف موحدين ، وأحس سيف بن ذي يزن أن
المولود الذي تحدث عنه ، موجود في بيت عبد المطلب ، فأوصاه به
خيرا وحذره من غدر ومكائد اليهود وغيرهم . على أن هذا الحنان الدافق الذي مسح
به جده بعض جراحات اليتم لم يدم له طويلا ، فما أن بلغ محمدا الثامنة من عمره
الشريف ، حتى أحس عبد المطلب بالانهيار ، وأن الموت يسرع إليه بين عشية وضحاها
، وكان قد بلغ
- شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام - الحاج حسين الشاكري ص
39 : |
مئة عام أو يزيد ، فجمع أولاده قبل موته ، وقسم عليهم المهمات
التي كان يقوم بها ، من السقاية والرفادة وغيرها ،
والخدمات التي كان يقدمها للمكيين والوافدين من الحجاج وغيرهم ، ولم يكن يفكر
في شئ كتفكيره في حفيده ( صلى الله
عليه وآله ) الذي سيمضي عنه ويتركه وحيدا في هذه الدنيا ، بلا مال ، ولا أب
يرعاه ، ولا أم تحنو عليه ، فأوصى أولاده العشرة بمحمد ( صلى الله عليه وآله )
خير ، وأن يرعوه ، وخص من بينهم ولده عبد مناف ( أبو طالب ) فعهد إليه برعايته
وأن يضمه إلى أولاده . وكان شقيق والده الراحل عبد الله ، فقد ولدتهما أم واحدة
، ولوح لهم بما سيكون له شأن في مستقبل حياته ، ومما قال لهم : إني قد خلفت لكم
الشرف العظيم الذي تطأون به رقاب الناس - على حد تعبير اليعقوبي في تأريخه - .
وانتقل الغلام اليتيم بعد وفاة جده إلى بيت عمه
- شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام - الحاج حسين الشاكري ص
40 : |
أبي طالب بعد أن رحل جده عن هذه الدنيا - فحلت بالبيت البركة
مع ضيق الحال وكثرة العيال - فأدى أبو طالب الإمامة وحفظ الوصية بكل أبعادها ،
وكان خير كفيل له في صغره ، وخير ناصر له عند بلوغه عندما احتاج إلى الأنصار
والدفاع
عن رسالته ، وجعل حياة محمد ووجوده شغله الشاغل الذي شغله حتى
عن أولاده ، في أشد الحالات ضيقا وحرجا حتى النفس الأخيرة من حياته كما سنعرض
لذلك في الفصول الآتية .
وجاء في تأريخ اليعقوبي وغيره : أن عبد الله بن عبد المطلب والد النبي محمد (
صلى الله عليه وآله ) ، وعبد مناف ( أبو طالب ) والزبير والمقدم المعروف - بعبد
الكعبة - كانوا لأم واحدة وهي فاطمة بنت عائذ المخزومي ، وتكنى بأم حكيم
البيضاء ، وبقية أولاد عبد المطلب لأمهات شتى ، وورث أبو طالب
مع فقره ماليا زعامة أبيه عبد المطلب على قريش ، وخضع له القريب والبعيد .
- شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام - الحاج حسين الشاكري ص
41 : |
وجاء عن علي ( عليه السلام ) أنه قال : إن أبي ساد الناس
فقيرا وما ساد الناس وقريش فقير غيره من قبل . وما كان يعنيه شئ كما تعنيه
رعاية محمد قط من المحافظة عليه ، والحرص على حياته ، فإذا اضطر إلى سفر لخارج
مكة أو الحجاز
أخرجه معه ، وكانت أولى سفرات النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع عمه إلى بصرى
وله من العمر تسع سنين ، فلم تطب نفس أبي طالب يوم ذاك أن يتركه مع أولاده
ويمضي في سفرته الطويلة هذه ، في حين أن زوجته الطاهرة فاطمة بنت أسد كانت تحرص
عليه أكثر مما كانت تحرص على أولادها وصبيتها ، وترعاه في ليلها ونهارها .
ويقول المؤرخون وأهل الأخبار أن الأحبار والرهبان ومن رآه من الكهان في تلك
السفرة - لا سيما راهب بصرى ( بحيرى ) ، الذي أخبر عمه أبو طالب أنه نبي هذه
الأمة ، وكان يعلم مما شاهده من صفاته ومعاجزه ومما
- شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام - الحاج حسين الشاكري ص
42 : |
أكد له أبوه عبد المطلب ، وأصر عليه أن يرجعه إلى مكة حتى لا
يغتاله اليهود ، الذين يرون العلامات التي في كتبهم
متحققة فيه ، فقطع سفرته وعاد به إلى مكة كما أن بعض المخلصين من الأحبار
والرهبان وكل من رآه قد نصحوا أبا طالب
بالحرص عليه ، وخوفوه من غدر اليهود الذين كانوا ينتظرون مولودا من قريش يبعثه
الله رسولا إلى العرب والعجم . وقد أظهر الله سبحانه لنبيه ( صلى الله عليه
وآله ) في تلك الرحلة من الكرامات والفضائل ما لا يدخل في حدود التصور ، وهو
مع تلك القافلة التي ضمت أعيان المكيين والقرشيين . وظل يتيم عبد الله في أحضان
عمه أبي طالب وزوجته فاطمة بنت أسد الهاشمية ، لا يشعر بالغربة بين أولادهم ولا
يحس بمرارة اليتم والحاجة ، ووجد منهما من الحرص والرعاية فوق ما يتصوره إنسان
من أبوين مع وحيد عزيز عليهما ، وبلغ من حرص فاطمة بنت أسد
- شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام - الحاج حسين الشاكري ص
43 : |
عليه أنها كانت في سنين الجدب والقحط التي مات فيها الناس
جوعا وعطشا ، تحرم أولادها من القوت الضروري وتطعمه إياه ، وبمجرد أن يمد يده
إلى الطعام تحل البركة فكلهم يأكلون ويشبعون والزاد كما هو ، واستمرت تعامله
بهذه المعاملة
الفدائية إلى أن شب وترعرع ، وأسرعت إلى تصديقه والإيمان برسالته والإخلاص له
في السر والعلانية هي وزوجها وأولادهما منذ أن بدأ يدعو الناس لعبادة الواحد
الأحد ، والاستخفاف بعبادة الأصنام والأوثان التي اتخذوها أربابا من دون الله
، لأنهم في الأصل كانوا أحناف موحدون على دين جدهم إبراهيم
الخليل . ولم يكن النبي محمد بن عبد الله ، وهو الوفي الكريم الذي علم أجيال
الناس الوفاء والإحسان ، أن ينسى مواقفها الجليلة التي أنسته فقد أبيه وأمه
وجده ، فلما ماتت بكاها بكاء الثكلى ، وقال والدموع تنهمر من
- شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام -
الحاج حسين الشاكري ص 44 : |
عينيه : " اليوم ماتت أمي " ، وكفنها بقميصه ونزل في قبرها
واضطجع فيه ، وصنع ما لم يصنعه مع غيرها من قبلها ،
وقال لما سئل عن موقفه الذي لم يعهدوا منه مع أحد قبلها ، قال : إنها كانت
بمثابة أمي ، تجيع أولادها وتطعمني ، وتشعثهم وتدهنني ، وما أحسست باليتم منذ
أن التجأت إليها .
وعلى أي حال كما كان عمه معه ، كانت زوجته الوفية ، حرصا وعطفا وإيمانا وتضحية
في سبيل محمد ( صلى الله عليه وآله ) ورسالته ، ودفاعا عنه وعنها في جميع
المواقف والمشاهد .
وامتاز هذا البيت عن غيره ، حتى من بني عمومته وبنيهم الأقربين ومن تناسل منهم
في جميع المراحل التي مر بها ودعوته
( صلى الله عليه وآله ) . ولما أعلن سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب إسلامه على
رؤوس الأشهاد مدحه أخوه أبو طالب مشجعا
- شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام - الحاج حسين الشاكري ص
45 : |
إسلامه ، بقوله :
فصبرا - أبا يعلى - على دين أحمد *
وكن مظهرا للدين وفقت صابرا
نبي أتى بالدين من عند ربه * بصدق وحق لا تكن حمزة كافرا
فقد سرني إذ قلت " لبيك " مؤمنا * فكن لرسول الله في الدين ناصرا
وناد قريشا بالذي قد أتيته * جهارا وقل : ما كان أحمد ساحرا
( 1 )
فقد كان إسلام حمزة تطورا جديدا لم يكن داخلا في حسابات قريش
، حيث قلب الموازين رأسا على عقب ، وفت في عضد قريش ، وزاد في مخاوفها وكبح
جماحها ، ومرغ كبريائها .
|
* ( هامش ) *
( 1 )
شرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 315 ، وإيمان
أبي طالب للشيخ المفيد : 80 . ( * ) |
|