|
|
صحيفة المقاطعة ، وشعب أبي طالب :
عمه وعن دعوته الإسلامية ، ومناصرة بنو هاشم وبنو عبد المطلب ، وتيقن المشركون أن لا قدرة لهم على قتل محمد ( صلى الله عليه وآله ) وإن أبا طالب لا يسلم محمدا ( صلى الله عليه وآله ) إليهم ولا يخذله ، فأخذهم الفرق من اتساع الدعوة وانتشارها ، وأحسوا بالخطر المحدق بهم على زعامتهم ومصالحهم
وأن جميع جهودهم وظلمهم ومقاومتهم للإسلام ولرسوله باءت بالفشل . لذا حاولت قريش أن تقوم بتجربة جديدة غير أسلوب الإرهاب والتعذيب والضغط ، فلجأت إلى الحصار الاقتصادي والاجتماعي ، ضد أبي طالب والهاشميين ، وهذا الحصار لا يخلو من ثلاث حالات : إما أن يرضخوا لمطالبها في تسليم محمد ( صلى الله عليه وآله ) لها لتقتله . وإما أن يتراجع محمدا ( صلى الله عليه وآله ) عن دعوته . وإما أن يموتوا جوعا وذلا ، وهذا الإجراء يرفع المسؤولية عن الفرد المحدد ، فتكون مسؤولية جماعية عامة ، فقروا هذا الرأي بعد اجتماع مشيخة قريش في دار الندوة .
وتداولوا الآراء مع شياطينهم وقلبوا الأمور ظهرا لبطن ، فاتخذوا قرارا بالإجماع أن يكتبوا صحيفة مقاطعة بني هاشم ويودعوها في الكعبة بشروط قاسية وملزمة لكل قريش ومن تباعهم ، وهي أن لا يبايعوا بني هاشم ولا يشاروهم ، ولا يحدثوهم ، ولا يجتمعوا معهم ، ولا يناكحوهم ولا يقضوا لهم
حاجة ولا يعاملوهم حتى يدفع بنو هاشم إليهم محمدا فيقتلوه ،
بكل ما يستطيع من قوة ويذكرهم على فضله وشرفه ، ويضرب لهم المثل بناقة صالح ، ويذكرهما بإلغاء أمر الصحيفة ، بقوله : ألا أبلغا عني على ذات بينها * لؤيا
وخصا من لؤي بني كعب
إلى آخر الأبيات المذكورة في كتاب ( إيمان أبي طالب - للإمام شمس الدين بن معد المتوفى سنة 630 ه ) . ودخل بنو هاشم الشعب - شعب أبي طالب - ومعهم بنو المطلب بن عبد مناف باستثناء عبد العزى ( أبي لهب ) ، لعنه الله وأخزاه ، واستمروا فيه إلى السنة العاشرة ، وكانوا ينفقون من أموال السيدة خديجة بنت خويلد ، وأموال أبي طالب ( عليه السلام ) حتى نفدت ، ولقد اضطروا بعدها إلى أن يقتاتوا بورق الشجر ، وكان صبيتهم يتضوعون جوعا ، وظل المسلمون في شعب أبي طالب يقاسون الجوع والحرمان لا يخرجون منه إلا في أيام الموسم ، موسم العمرة في رجب ، وموسم الحج في ذي الحجة ، فكانوا يشترون حينئذ ويبيعون ضمن ظروف صعبة جدا
. وكان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يأتيهم بالطعام سرا من
مكة ، من حيث تمكن ، وقد كان يأتيهم سرا من أناس كانوا مرغمين على مجاراة قريش كهشام بن عمرو أحد بني عامر ، الذي كان يأتي بالبعير بعد البعير ليلا محملا بأنواع الطعام والتمر إلى فم الشعب ، فإذا انتهى به إلى ذلك المكان نزع عنه خطامه وضربه على جبينه ، فيدخل الشعب بما عليه ، ولكن تلك الصلات البسيطة لم تكن لتكفيهم . وكان أبو طالب كثيرا ما يخاف على النبي ( صلى الله عليه وآله ) البيات في مكان معين ، فإذا أخذ الناس مضاجعهم ، واضطجع النبي ( صلى الله عليه وآله ) على فراشه ، ورآه جميع من في الشعب ، ونام الناس جاء وأقامه ، وأضجع ابنه عليا مكانه ، وقاية له ، ويقول له : اصبرن يا بني فالصبر أحجى * كل حي
مصيره لشعوب
لفداء الأعز ذي الحسب الثاقب * والباع ، والكريم النجيب إلى آخر أبياته . . . فيجيبه ابنه علي ( عليه السلام ) : أتأمرني بالصبر في نصر أحمد * ووالله
ما قلت الذي قلت جازعا واستمرت هذه المحنة ثلاث سنين ، من السنة السابعة إلى العاشرة من البعثة ، عند ذلك تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن قصي وسواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم على هذا العمل المنكر ( حصار بني هاشم ) . وأول من سعى إلى نقض الصحيفة والاتفاق ، وفك
الحصار عن الهاشميين ، هشام بن عمرو ، وزهير بن أبي أمية المخزومي ، والمطعم بن عدي ، وزمعة بن المطلب بن أسد ، والبختري بن هشام ، واتفقوا أن يفدوا إلى أنديتهم ، ويعلنوا رفض المقاطعة ، وإنهاء الحصار .
قبل أن يثير النفر الخمسة اعتراضهم على الحصار والمقاطعة ،
وقال : يا معشر قريش ، إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا ، فهلم إلى صحيفتكم ، فإن
كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عما فيها ، وإن يكن كاذبا دفعت
إليكم ابن أخي ، فقال القوم بأجمعهم : قد أنصفت ورضينا ، وتعاقدوا على ذلك .
وقام المطعم إلى الصحيفة وجاء بها وفتحت على مرأى من الجميع ، فإذا بها كما أخبرهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) على لسان عمه أبي طالب ، قد أكلت الأرضة جميع حروفها إلا " بسمك اللهم " ، ومزقت الصحيفة ، بعد موقف هؤلاء النفر الذين أبت نفوسهم الكريمة هذه القطيعة التي كادت أن تقضي على الهاشميين .
زعمت قريش أن أحمد ساحر * كذبوا ورب
الراقصات إلى الحرم
وقال : إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر * فعبد
مناف سرها وصميها
أبو طالب ثم توفي ، رضوان الله عليه ، وكان ذلك في شهر رمضان ، السنة العاشرة من البعثة النبوية ، وكان له من العمر ست وثمانون سنة ، وقيل : تسعون سنة ، ودفن بالحجون إلى جنب قبري جده وأبيه .
بالحجون ، بالقرب من قبور أجداده هاشم ، وعبد المطلب ، وأبي طالب ، رضوان الله عليهم .
- أي من لؤلؤ - لا نصب فيه ، ولا صخب " أي لا تعب فيه ولا
ضوضاء " عزت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هذه الفاجعة ، وشقت عليه ،
وقد اجتمعت عليه مصيبتان دفعة واحدة ، فقد عمه وحاميه أبي طالب وفقد زوجته
وحبيبته خديجة
بنت خويلد ، فقال : والله لا أدري بأيهما أشد جزعا . وسمي ذلك
العام بعام الأحزان . فلزم بيته ، وقل خروجه ، وطمعت الجاهلية ، فجاءه وقال : يا محمد ، امض لما أردت ، وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا فاصنعه ، لا واللات لا يوصل إليك حتى أموت ! وذات يوم سب ابن الغيطلة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأقبل عليه أبو لهب فنال منه ، فولى صارخا وهو يصيح : يا معشر قريش ، صبأ أبو عتبة ! ! فأقبلت قريش حتى
وقفوا على أبي لهب مستنكرين ، فقال : ما فارقت دين عبد المطلب ، ولكني أمنع ابن
أخي أن يضام - أي يظلم - حتى يمضي لما يريد ، قالوا جميعا : قد أحسنت ، وأجملت
، ووصلت الرحم ، فمكث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أياما يذهب ويأتي
لا يتعرض له أحد من قريش ، وهابوا سطوة أبي لهب ، إلى أن جاء عقبة بن أبي معيط ، وأبو جهل بن هشام ، فاحتالا على أبي لهب حتى صرفاه عن عزمه ونصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فاسترد جواره .
|
|