![]() |
انشالله
.................................. |
قدح.. من خلال النور
المريضة المعافاة: راضية اليعقوبي. من مدينة بُرُوجِرْد. الحالة المرضية: سرطان الكليتين. تاريخ الشفاء: مايس 1989. ـ تعالَيْنَ يا بنات ادخُلْنَ. الهواء بارد.. لا تَمْرَضْن. فُتِحت نافذة، أطلّت منها امرأة على رأسها منديل، وهي تنادينا بهذه الكلمات. أمّا نحن فلم نهتمّ بما قالت. كنّا نُمسك يداً بيد ولا نهتمّ بشيء. واقفات على شكل دائرة ننشد نشيداً بسرور لا حدّ له. المطر الذي كان ينزل قد بلّل ثيابنا.. وأصواتنا المَرِحة تملأ الزُّقاق. ولمّا أخذ المطر يشتدّ ونَقَعت ثيابنا.. جَرَيْنا بأصوات صاخبة، نحو البيت الذي كانت المرأة قد نادَتْنا من نافذته. لا فرق.. أكانت تلك المرأة أمّي أو أُمّ الأُخرَيات.. سواء أكان بيتنا أم بيت سواي. نجفّف ثيابنا قرب المدفئة ونشرب الشاي الذي قُدِّم لنا. هكذا كنّا دائماً. وكان هذا دأبنا كلّما أمطرت السماء. * * * السماء تُمطر. حبّات المطر تضرب زجاج النافذة بإيقاع متناغم محبَّب، ويختلط صوتها بأصوات مياه الميازيب.. وأنا وحيدة مُرهَقة متمدّدة على سرير المستشفى. في عيوني مطر.. وتفكيري يذهب إلى البعيد: إلى تلك الأيّام الجميلة.. زخّات المطر الربيعيّ.. ابتلال الثياب.. الأناشيد الجماعيّة.. والجَرْي تحت المطر. ترى.. ما الذي بقي لي من تلك الأيّام الحلوة غير ذكرى خرساء وشبح لصديقاتي اللاتي لابدّ قد طالت قاماتهنّ الآن وكبرن ؟! ما اشدَّ شوقي إليهنّ! أُغمض عينيّ.. وأحاول أن أتذكّر. أحاول أن أستحضر في ذهني صورة كلّ واحدة منهنّ. أتسمّع إلى أصواتهنّ مع إيقاع الميزاب والمطر يقرأن الأناشيد. كم هُنّ سعيدات ومَرِحات! أُحِدّ سمعي، أريد أن أستمع إلى الأصوات: كأنّ هذا صوت رُقيّة، طاهرة، حوراء، سمر.. وأنا! صوت تصفيقهنّ يموج في أذني، مختلطاً بصوت المرأة التي تنادينا: ـ بنات.. يا بنات، تعالَين ادخُلنَ. الهواء بارد.. لا تَمرضْن. راضية! يا راضية! الصوت صوت أمّي. أفتح عينيّ. أراها جالسة عند رأسي تتطلّع بنظراتها إليّ. ـ هل نمتِ ؟ ـ لا يا ماما. تضع كفّها الرقيقة على كتفي. تنحني وتقبّل وجهي: ـ اليوم تخرجين من المستشفى. الدكتور قال إنّ حالتك أفضل كثيراً. آخذك إلى البيت. بعدها نذهب في سفرة. ـ أين ؟ أنا أسأل، وتبتسم أمّي قائلة: ـ إلى أين تحبيّن أن نسافر ؟ أفلتَت منّي ضحكة بلا اختيار: ـ واضح، إلى مشهد. * * * كلّ انتباهي متوجّه إليها. لمّا استيقظَتْ من النوم.. أخذَتْ تنظر حوالَيها وهي مدهوشة. العَرَق يغطّي رأسها ووجهها. ترتعش. مدّت يدها إلى الحبل المعقود حول عنقها فانحلّت عُقدته. قامت من مكانها مضطربة. نظراتها تتنقّل هنا وهناك بلا هدف. وعندما رأتني.. هدأت قليلاً. انفرجَت شفتاها عن ابتسامة لطيفة.. وضحكتْ بصوت مسموع. تحوّلت ضحكتها إلى بكاء. اقتربت منّي وجلست ملاصقة لي: ـ أين أمّي ؟ احتضنتُها وسألت: ـ شُفِيتِ.. أليس كذلك ؟ هزّت رأسها وقالت: ـ رأيت رؤيا رؤيا عجيبة. منذ سبعة أيّام وأنا «دخيلة». شُفِيَت في هذه المدّة اثنتان، إحداهما هذه الصبيّة الجالسة إلى جواري، والأخرى امرأة شُفيت البارحة، يقال: عندها سرطان.. مِثلي. لكنها حصلت على العافية وذهبت. هي أيضاً رأت رؤيا. لكنْ: أنا لماذا لا يأتيني الإمام في المنام ؟! إذا جاءني في المنام فسوف أتعلّق بثيابه، سأقع على قدمَيه، سأحكي له ما فعل بي السرطان. واحدة من الكليتين توقّفت عن العمل تماماً، والثانية قد تَلفَت. سأحكي له ما أُعانيه من أوجاع في كلّ مرّة أذهب فيها لتصفية الدم بالجهاز، وسأرجوه أن يشفيني. حمائم تحلّق عالياً فوق رأسي.. وتختفي وراء منارات الحرم. تهبّ نسمة عذبة. تقع عيني على أمّي التي أحضرت لي الآن كاسة ماء جاءت بها من المشربة التي تتوسّط الصحن الكبير. لكني لست عطشانة. ـ خذي. الماء شفاء. صوتُ مَن تكلّم معي ؟! أمّي ؟! لكنّ أمّي ما نطقَتْ بحرف! أدرتُ وجهي ففاجأ عينيّ نور. نور يأتي من جهة الضريح. ثَمَّ قدح من خلال النور.. رشّ الماء على وجهي. رشّ الماء مرّة، مرّتين، عدّة مرّات.. حتّى نقعتُ بالماء. هزّتني أمّي وهي في حَيرة: ـ راضية.. راضية! ماذا حدث ؟ أفيقي يا ابنتي. أفَقتُ. كانت السماء تمطر.. وقد تبلّلتُ ونقعت. امّي لَفّتني ببطانيّة وضمّتني إليها.. وحملتني إلى داخل الروضة. ـ ماذا بك يا راضية ؟ هل رأيت رؤيا ؟ ـ ها.. ماما. رأيت رؤيا. رؤيا عجيبة. كم أُحبّ أن أنام مرّة أخرى وأرى الرؤيا.. ومرّة أخرى ترشّ عليّ الماء تلك اليد النورانيّة مِن قدَح النور. أُطبق جفنيّ من جديد، وأنا أهمس بصوت خفيض: ـ ليتكِ لم توقظيني يا ماما! * * * نحن معاً رفيقات اللعب القديم: نمسك يداً بيد في دائرة، وننشد نشيداً بمرح وسرور. نشيد المطر.. وتُفتَح النافذة أيضاً، فتُطلّ منها أمرأة على رأسها منديل: ـ يا بنات.. تعالَين ادخُلْن.. صوت أمّي. أفتح عينيّ. أمّي وأقفة أمامي، ومعها كلّ رفيقات اللعب القديم. كلهنّ يضحكنَ لي بفرح وابتهاج. كلّ واحدة حملت في يدها وردة قدّمتها لي: ـ زيارتك مقبولة يا راضية! آخذ الورد وأضحك لهنّ. وضعَتْ أمّي الورد في مزهرية عند النافذة. وفي الخارج.. كان المطر ينزل. صوت حَبّات المطر التي تُداعب زجاج النافذة يختلط بصوت الميزاب، مُحْدِثاً نغمةً جميلة محبَّبة. یتبع |
بسم الله تعالى
اللهم صل على محمد وآل محمد سلام عليكم أختي الغالية مليكا بارك الله بيج على هذا الموضوع القيم و ذوالوزن الثقيل عن كرامات سيدي ومولاي علي ابن موسى الرضا عليه السلام ، فعلا كرامات عظيمة تقشعر لها الأبدان من عظمتها وهيبتها وترين النور الذي يسعى بين الناس ، نور أهل البيت عليهم السلام ، وفضلهم على عباد الله جميعا بارك الله فيكم وأشكركم على هذا الموضوع القيم الذي يثبت حقيقة أهل البيت عليهم السلام لمن ضدهم دمتم برعاية بقية الله الأعظم |
اهلااا اختی وحبیبتی الغالیه
جزیل الشکر لحضورک ومرورک الطیب الذی انار صفحتی المتواضعه دمتی بحفظ الله ورعایته.. |
إنّ أحداً.. يأتي!
ـ عيشتنا نحن الفقراء مثل الزقّوم. لا أدري لماذا الله... تقاطعينه: ـ لا تكفر يا رجل! هي حكمة الله. (عليّ) إذا يَحدث له شيء.. فهو من إرادة الله. يرنو إليكِ يعقوب. يحسّ بالخجل يملأ وجوده، ويهمس مع نفسه: ـ كلامكِ صحيح.. لكنْ ماذا أفعل ؟! سبحان الذي يختبر عباده دائماً بالبلاء. ثمّ يلتفت إليك ويصيح: ـ عفّت.. انظري هنا! وتنظرين إلى حيث أشار، إلى شاشة التلفزيون بالأبيض والأسود: تشاهدين عَتَبة الإمام الرضا عليه السّلام، وأمواج الناس التي تُهرَع هناك إلى ينبوع النور والرحمة. ـ كلّ واحد منهم عنده همّ. نحن أيضاً عندنا همّ! يعقوب مشدود نظره إلى التلفزيون، وعيناه قد غرقتا بالدمع والرجاء. يقول: ـ ليت عندنا نقوداً، فنأخذ (عليّ) إلى مشهد، لعلّ الإمام ينظر بلطفه إلينا وإلى هذا الولد. ابتلع بقيّة كلامه.. لكنّكِ تعرفين هذه البقيّة. كلامك كلام يعقوب، وكلام يعقوب حديث قلبك. ـ تعرفين.. ما عندي إلاّ قطعة أرض زراعيّة. والفلوس التي نحصل عليها كلّ سنة من بيع المزروعات هي بمقدار «قُوت.. حتّى لا يموت»! « وتفكّرين أنت في عليّ. في عينيه بريق النشاط والمرح. يضع كفّكِ في كفّه ويضغط عليها بمحبّة: ـ بعد التخرّج أشتغل يا ماما، وترتاحين أنت وأبي من هذا الوضع. وتَهمِّين أن تنطقي معترضة على كلامه، لكنّه يبادرك بالقول: ـ يعني.. نبقى راضين بهذه الأرض وهذا البيت القفص ؟! إذا اشتغلتُ نذهب لنعيش في المدينة. أردتِ أن تقولي له: « أنت وأبوك يعقوب قد وُلدتما في هذه القرية وكبرتما فيها على حليبها الطازج، وخبزها الحارّ الذي أُخرج توّاً من التنوّر ».. لكنّ نظرات عليّ صرفتك عن توجيه ضربة إلى قلعة أحلامه تُحوّلها في لحظة إلى حطام. إنّه شاب ممتلئ بالأحلام. لم تفعلي غير الابتسام، وهمستِ له: ـ إن شاء الله. وانحنى عليّ فطبع قُبلة على يدك ». ويلاحظ يعقوب دمعة عالقة بأطراف أهدابك. ينهض من مكانه، ويلقي نظرة على طرف الغرفة الآخر.. حيث يرقد عليّ في فراشه على الأرض، وهو ما بين الحياة والموت. يهزّ رأسه آسفاً، ويذهب إلى عليّ. يزيح البطانيّة عنه قليلاً، ويقول له بلطف: ـ علاّوي. لا يصدر من عليّ جواب. يتحرّك حركة دون أن ينطق. وجهه مغسول بالدموع. أنتِ تنظرين إلى يعقوب، ويعقوب ينظر إلى عليّ. عليّ.. آه! لقد حُرمتِ من نظراته الهادئة الطَّموحة، وتشوّقتِ إلى حديثه وإلى شفته وهي تطبع قُبلة على يدك الكادحة المُخشَوشِنة. تنظرين إلى يعقوب الذي كان ينظر إلى ولده بوجوم، فتخنقك العَبرة. وبعد لحظة يخرج يعقوب من الغرفة، وتظلّلين أنت وعليّ والتلفزيون الذي لم يَعُد يعرض على شاشته صورة العتبة الرضويّة. تنهضين من مكانك ساهمة، وأنت تنقلين ساقَيك الثقيلتين بعسر. لو مشيتِ متّكئة على كتف عليّ لَسَهُل عليكِ المشي. ( وتعود بك الذكرى إلى الوراء: ـ لازم أشتري لك كرسيّاً متحرّكاً يا ماما. لا.. لماذا الكرسيّ المتحرّك ؟! أنا نفسي أكون عصا ليدك، آخذك أينما تريدين.. أينما تريدين. ترنو نظراتك إلى عليّ، وهو يرنو إليك أيضاً. تقولين له: ـ لا ماما. في البداية مَشِّ حالك، ثمّ فكِّرْ بي بعد ذلك. ـ لا يا ماما، أنت أوّلاً. تعلو شفتيك الشاحبتين ابتسامة: ـ هذا كلام الآن. في غد إذا وجدتَ ابنة الحلال تنسى هذا الكلام.. تُخلّينا وتروح! ـ ما هذا الكلام يا ماما ؟! هل ممكن أن أنسى ؟! أنتِ أوّلاً ثمّ المرأة. محبّة الأمّ لها مكانها، والزوجة لها مكانها. ثمّ تنفرج شفتاه بابتسامة. تأنسين بهذا الكلام، وتضفي عليك نظراته طمأنينة وأنت تشمّين في كلماته عطر الصدق والإخلاص. ـ أنتِ وأبي.. كلاكما أُصعِّدكما إلى السماء... تضحكين أنت، في حين يلثم عليّ جبينك، ويقول: ـ فقط ادعي لي، فقط ادعي. تلتمع عيناه بدمعة، فينهض من مكانه عاجلاً ويخرج من الغرفة، ويَدَعكِ وحيدة بقلب كلّه استفهام واضطراب ). * * * تجدين يعقوب مختلياً بنفسه في فِناء الدار، جالساً وحده بصمت.. وكأنّه لم يشعر بوجودك. لعلّه مثلك يفكّر في عليّ. يفكّر بالسكوت الذي يتخلّل حديثه الودود.. بدفء كفّه.. بنظراته. وتتقدّمين باتّجاه يعقوب.. يخاطبك: ـ هل تصدّقين يا عفّت أنّ عليّ الذي كان شعلة مرح ونشاط يقع هكذا دفعة واحدة ؟! تقولين باكية: ـ لا.. أبداً. ويتابع يعقوب: ـ أنا أيضاً لا أصدّق. هل خطر هذا على بال أحد ؟! لا.. لا أحد. تقولين بصوت منكسر: ـ بغير وجود عليّ.. أنا لا شيء. ويقول يعقوب: ـ لا أدري كيف أستطيع أن أواصل العيش بدونه. عليّ قطعة من كبدَينا. ثمّ يغطّي يعقوب وجهه بيديه.. وتغطّي وجهَك الدموع، فتشتعل في قلبك نيران اليأس. وتعود إلى ذهنك ذكرى ذلك اليوم حيّةً شاخصة: ( كنتِ منشغلة عند التنّور في باحة الدار تُعدّين الخبز.. لمّا أقبل عليك ابن الجيران صارخاً: ـ خالة.. خالة.. عليّ.. سيّارة قرب دكّان حاج قاسم... ولم تسمعي بقيّة كلامه. وضعتِ العباءة على رأسك بارتباك. وبعد دقيقة واحدة ـ وربّما أقلّ من دقيقة ـ وصلت إلى دكان الحاج قاسم. الناس متجمّعون. واقتحمتِ الجمع. ولمّا شاهدتِ عليّ أردت أن تصرخي، لكنّ الحياء الذي في داخلك منعك من الصراخ. الأرض حمراء مصبوغة بدم عليّ.. المطروح على الأرض نصف ميّت ونصف حيّ. يصل أيضاً يعقوب. يعقوب زوجك وأنيسك.. وأبو عليّ. بعد لحظات يُحمَل عليّ على الأيدي، ويوضع على كرسيّ سيّارة. تريدين أن تذهبي أنت كذلك مع يعقوب وعليّ، لكنّ يعقوب يمنعك: ـ أنتِ روحي إلى المنزل. لم تكوني تطيقين الرَّواح إلى المنزل، لكنْ لا مفرّ. وحين تدخلين الغرفة تنظرين إلى صورة عليّ وتطيلين التحديق. كان عليّ في الصورة يضحك.. أمّا أنت فتبكين. تجلسين في زاوية الغرفة تنتظرين. تمرّ ساعة.. ساعتان، ويطول على قلبك الانتظار..حتّى يحلّ الليل. كأنّ قيامة قد قامت، يومها مقداره ألف سنة. وتقضين الليل مستوحدة حَيرى محزونة تترقّبين.. حتّى يُقبل الصباح.. تتوضئين وتقومين لصلاة الفجر: ترفعين يديك بالدعاء لعليّ.. وليعقوب. على حين غرّة.. يقتحم الدارَ صوت. تقفزين من مكانك، وتخرجين إلى فناء الدار. الشمس لم تطلع بعد. تفتحين الباب.. وإذا بيعقوب. يلقي عليك التحيّة مُرهَقاً، ويلج إلى الفِناء. يدور في داخل الغرفة، وأنت معه تدورين. ويَعلَق بصره بصورة عليّ، ثمّ يلتفت إليك: ـ يتحسّن عليّ، لكن... ألف «لكن» تطنّ في ذهنك: ـ لكنْ .. ماذا ؟! ـ سلامته الكاملة.. ليس للدكتور فيها أمل. لا أدري، يقولون نُخاعه أٌصيب بضرر. قلت: آخذه إلى طهران.. قالوا: لا فائدة. ينبوع الدمع يجفّ من عينيك، وتتمنّين لو كان بإمكانك أن تذرفي دمعة على خدّك. تحدّقين بصورة عليّ. إنّه يضحك أيضاً.. وأنت تبكين. إنّه يستمرّ يضحك ). أنتِ ويعقوب غائصان في عتمة باحة الدار. وأنت على تلك الحال تتطلّعين إلى عينَيّ يعقوب. عيناه نديّتان بالدمع، يقول: ـ فقط علينا أن نظلّ على أمل. يمنّ الله علينا ويحفظ لنا عَلِيَّنا. الله يعلم كم هو عزيز علينا عليّ. التمعَتْ في ذهنك فكرة، لا تدرين أتقولينها ليعقوب. تتردّدين مدّة، ثمّ تنطقين: ـ أريد أن أحوك سجّادة. تبتسمين لنظرة يعقوب المتسائلة، وتواصلين الكلام: ـ مِن غد أبدأ.. أبيعها، وبثمنها آخذ عليّ إلى مشهد. يرنو إليك يعقوب، وتلمحين في عينيه وميض والقبول والاستحسان. كأنّما تهمّين أن تقولي إنّك تأملين أن يظلّ عليّ يحكي لك عن آماله وأحلامه، وإنّك تحنّين إلى لمس دفء يديه.. بَيْد أنّ العَبرة التي كانت تتكسّر في صدرك تمنعك من الكلام. * * * أنتِ جالسة إلى النُّول العموديّ أمامك.. تحوكين السجّادة التي وعدتِ بها يعقوب. أنت منهمكة بها لا تشعرين ممّا حولك بشيء. لا تشعرين حتّى بيعقوب الذي جاء من خلفك. إنّه هو الذي يقول: ـ لا تُرهقي نفسكِ كثيراً. يجلس يعقوب إلى جنبك عند النُّول، وبصره يرنو إلى السجّادة التي لم تكتمل بعد. ـ تحوكين السجّادة بطريقة «نقش زهرة الآس» ؟ ـ إي، الآس أفضل من الكلّ. يضحك يعقوب: ـ في الليلة الآتية يقام مجلس لدعاء (التوسّل).. هل تأتين ؟ يجري تفكيرك على لسانك: ـ لا، أريد أن أكمل السجّادة. * * * بغتة.. تسمعين عليّ يئنّ. تتسارع في صدرك دقّات القلب، وبارتباك تروحين إلى عليّ. ـ ماء! يُحضر يعقوب الماء ويناوله إلى عليّ. يشرب عليّ بمشقّة، ثمّ يرمي برأسه على المخدّة.. بوجهٍ ناحل، وعين مفتوحة إلى النصف. ترجعين، وتجلسين عند النول، وفي قلبك عالَم من الآمال. يداك تحوكان آخر (أدوار) السجّادة. تَعْبى النفس حقّاً، لكنّك تصرّين على مواصلة العمل حتّى النهاية. قلبك دافئ بوجود عليّ، بأحلام حديثه الودود، ووعوده الجميلة. عليّ! الآن اتّضحت صورة زهر الآس على السجّادة بجلاء. تتذكرين عليّ، فتجدين في داخلك طاقة مضاعفة. تعلمين أنّ الليلة هي ليلة الأربعاء، ليلة دعاء (التوسّل) الجماعيّ في المسجد، ويعقوب... . فجأةً ترتجف يداك على النُّول.. أنتِ كلّك ترتجفين. تُحسّين أحداً في الغرفة! تقولين في سرّك: ـ مَن غيرنا أنا وعليّ في الغرفة ؟! كلّ لحظة يزداد شعورك بوجود الشخص. إنّ أحداً يأتي في انفراد قلبك وعليّ. إحساس مبهم يقتحم وجودك. تحدّقين بالسجّادة وتهمسين: ـ أستغفر الله وأتوب إليه. ما زلتِ تسمعين وَقْع أقدام الآتي.. في قلبك.. في كيانك. ويفاجؤك صوت عليّ يتأوّه. تلتفتين إليه، فترَين عليّ حائراً مبهوتاً. كلاكما مبهوت: عليّ ينظر اليك مندهشاً. أنت ترتجفين.. وكذلك عليّ. أمام ناظرَيك المذهولين: عليّ على فراشه في نصف قَعدة. تعجين كذلك وتَحارين، كأنّك لستِ الآنَ في هذه الدنيا. عليّ يقعد على الفراش. إنّه الأمل الذي طالما ذرفتِ من أجله ساخن الدمع. عليّ الذي ليس في وسعه أن ينطق بحرف واحد ها هو يتكلّم.. يخاطبك: ـ ماما.. أين ذهب ؟! يأخذك الخوف. عليّ يقوم واقفاً.. كما كان مِن قبل. تكادين تموتين من الدهشة. عليّ ينقل قدمَيه، ويتقدّم إلى الأمام باضطراب ظاهر. تقرئين سورة (الحمد) بصوت خفيض. إنّه ما يزال يمشي: ـ أين ذهب ؟! أين ذهب ؟! وأنت في حيرتك الخائفة تسألين: ـ مَن هو ؟! عليّ لا يجيب عن السؤال. يُطلق ساقَبه يركض باتّجاه فِناء الدار.. وأنتِ تلحقينه. يَفتح الباب ويمدّ رأسه إلى خارجه لحظات يفتّش في الزقاق. ثمّ يغلق الباب على مهل. وحين يستدير تشاهدين وجهه مغسولاً بالدموع. تتطلّعين إلى عليّ بِحَيرةٍ حائرة: ـ ولدي عليّ.. أنا فداء لك.. أنت.. أنت الذي.. ها أنت تمشي الآن! وتنساب من عينيكِ أنتِ أيضاً سيول الدموع. وكطفلٍ هائج يضرب عليّ رأسه بالحائط. يضرب ويضرب ويبكي. ويبلغ الآذانَ صوتُ مذياع المسجد. دعاء التوسّل: (... يا عليّ بنَ موسى، أيّها الرضا.. يا ابنَ رسول الله يا حجّةَ الله على خلقه، يا سيّدَنا ومولانا إنّا توجّهنا واستشفعنا وتوسّلنا بك إلى الله وقدّمناك بين يدَي حاجاتِنا، يا...) وتتذكّرين أن يعقوب الآن في المسجد. وتقولين في سرّك: ـ لم يبقَ كثير على عودة يعقوب. * * * واضح لديك أنّ عليك أن تسجدي شكراً لله. تنظرين إلى السماء، وتذرفين دمعة. عليّ جالس على الأرض في حَيرة ووجوم. تقودينه إلى داخل الغرفة. تنشّفين دموع عينيه، وتجلسين عند النّول. أنت منهمكة الآن بأخر (دَور) من أدوار السجّادة تحوكينه.. ويدخل يعقوب. ينهض عليّ من مكانه ويرمي بنفسه باكياً في أحضان يعقوب. يبكي يعقوب بكاءً صامتاً، وعليّ ينتحب. لا يقرّ له قرار، كأنه قد فقد عزيزاً عليه. ومن خلال النُّول المنتصب تنظرين إلى عليّ ويعقوب. عليّ يُقبِل إليك. يتطلّع إلى السجّادة المنقوشة عليها زهرة الآس. أنت تحدّقين في عليّ، وعليّ يحدّق في السجّادة على النُّول. تمرّ لحظات. يأخذ عليّ كفّك بين كفَّيه، ثمّ تلامس شفته كفّك: ـ في يدك يا ماما عطر الآس. لكنْ لا عطر أروع أبداً من عطر وجود مولاي الإمام.. الذي أتاني عند فراشي، وأطلقني من العذاب والمرارات. تحتضنين عليّ بمسرّة وابتهاج.. ويتوحّد قلبك بقلب عليّ. یتبع |
سرّ المَرايا
المريضة المعافاة: فاطمة الاستانيستي. العمر: 29 سنة، من منطقة كلات نادري. الحالة المرضيّة: سرطان الدم، شلل، تعفّن الكليّة. تاريخ الشفاء آذار1994. نظرَتْ في المرآة.. فأبصرت صورة حُطام امرأة معذَّبة. إنّها ليست صورتها! وجه شاحب اللون، متغضِّن.. وتحت العينين أخدود مستطيل يتوسّط منطقة هي أقرب إلى السواد. وبدت صورة المرأة في المرآة أكبر من عمرها هي بكثير. أطلقت زَفرةً مُلْتاعة، وأدارت ظهرها عن المرآة، ففاجأتها مرآة أخرى منتصبة أمامها. ارتدّت على أعقابها في حيرة! ثَمّة مرآة ثالثة تعكس صورتها المرتبكة. أرادت أن تتخلّص من المرآة.. فأخذت تدور في مكانها. المرايا في كلّ الجهات.. في الجهات الأربع! واه.. لَكأنّها سجينة محاصرة بالمرايا! وشعرت أن المرايا تدنو منها. تدنو منها باستمرار، ولحظةً بعد لحظة يضيق عليها الحصار. تتكاثر الصورة في المرايا وتتعدّد في كلّ اتّجاه. عزمت على الفرار والخلاص من هذا العذاب الغريب. اقتحمَتْ إحدى المرايا.. وغابت وراءها. لم تتكسّر المرآة! لكنّها خرجت من حصار لتدخل في حصار! راحت صورتها المتكاثرة في المرايا الجديدة تضحك عليها باستهزاء. كانت مضطربة تتعذّب. شيء لا يُصدَّق. أرادت أن تصرخ من الأعماق. وقبل أن تفجّر صرختها.. امتدّت من كلّ مرآة حولها يد، وراحت تضغط على حنجرتها بشدّة.. والمرايا ما تزال تقترب منها حتّى لاصقت جسدها. لم تَعُد تبصر في المرايا حتّى صورتها. استولى عليها رعب لا عهد لها به مِن قبل. رعب من نوع جديد. وأحسّت أنّ روحها تكاد تخرج مُندلقةً من عينيها. ولا تدري لماذا أغمضت عينيها.. فوجدت نفسها مستغرقة في ظلام مُطبِق عميق. تَسمَّعتْ إلى وقع أقدام منتَظَم يقترب منها. وعلى حين غَرّة.. صَمَّ أُذنَيها صوت مرايا تتكسّر وتتحطّم على الأرض شظايا. فتحت جفنَيها: ضياء في كلّ مكان.. وسفع عينيها ضياء ثاقب. إنّ شخصاً قد صار الآن على مقربة منها! شخصاً غير مرئيّ.. مستغرقاً في محضر الضوء والنور. ما شبّهَتْه إلاّ بينبوع ضياء ساطع يُمطر في عينيها المضطربتين. أغمضت عينيها.. ثمّ فتحتهما من جديد. ألْفَتْ أمامها مرآة صغيرة، زاهية اللون الأخضر.. تعكس صورتها. اطمأنّت إلى المرآة الخضراء. ابتسمت هي.. فابتسمت معها الصورة. صورتها هي، خالية من اللوعة والمعاناة. أين هي تغضّنات الوجه ؟1 أين هما العينان الغائرتان ؟! تماماً.. كما كانت قبل أن يحلّ بها المرض، وترقد على سرير المستشفى ببؤس. ها هي ذي مرحة موفورة السعادة في نشاط. ومن فرط حيويّتها ومسرّتها: أطلقت صيحة أُنس، وقفزت في الهواء. * * * حتّى محمود.. كان يخفي عنها شيئاً. تقرأ هذا في قلق نظراته. تسأله. فيجيبها إجابة مقتضبة، ويحاول أن يغيّر الموضوع. فراره من الجواب كان يزيد المسألة تعقيداً. وغدا واضحاً لديها أنّ «شيئاً» ما قد حدث. لكن.. ما هو ؟ لا تعلم. تلاحظ أنّها تنحف ويزداد وهنها يوماً بعد يوم. وأدركت أنّ داءً مستعصياً هو ما ابتُليَت به. الأطبّاء لا يبوحون لها بشيء.. لكنّها كانت تلحظهم يتهامسون مع محمود تهامساً مثيراً للتساؤل. محمود ما كان يخبرها بما تودّ أن تعرفه. كلّما سألته عن مرضها حاول ـ بضحكة مفتعلة ـ أن يخفي همومه، ويقول: ـ شيء غير مهم، وعكة خفيفة. تشفين منها.. أعاهدك. والواقع أنّ داءها لم يكن وعكة خفيفة. استنبطت هذا من قدمَيها اللتين فقدَتا القدرة على الحركة. إنّه الشلل! وزوجها ما يزال يسعى لإقناعها بأنّه شيء غير مهمّ. لكنّها لم تُعد تكترث بما يقابلها به محمود من ارتياحٍ ظاهر، ومن ضحكات هي كالقناع.. إنّها واثقة الآن أنّ حياتها قد بلغت آخر يوم من أيّام الربيع.. وها هي ذي تدخل بلا شكّ في صقيع الشتاء. ورقة متيبّسة تكاد تنفصل عن شجرة الحياة، وتهوي ميّتة على الأرض. لقد أيقنت أنّ الموت قادم إليها في الطريق. وسيصل سريعاً.. أسرع ممّا كانت تتصوّر. * * * في آخر فحصّ طبيّ.. قرأتْ الحقيقة في نظرات الأطباء. نظراتهم تقطر يأساً ممزوجاً بالأسف. ما قالوا لها شيئاً، لكنّهم اختلَوا بمحمود جانباً: ـ القضيّة منتهية.. لم نَعُد قادرين على شيء! أحسّ محمود أن قلبه ينخلع، وتخور قواه. اتّكأ على الحائط، وراح ينزلق رُوَيداً رويداً.. حتّى قعد على الأرض. أمسك رأسه بيديه، وراح يحدّق مطرقاً في نقطة مجهولة. ما نطق بحرف.. بَيْد أنّ داخله كان يحتدم بضجّة هائلة. ثمّ.. بلا مقدّمات: نهض من مكانه ومضى إلى الطبيب: ـ هل يمكن أن آخذها ؟ ـ إلى أين ؟ ـ أريد أن آخذها إلى مشهد.. إلى الإمام الرضا. ـ لا يمكن، غير مسموح لها بالحركة. وجاء ردّ محمود أقرب ما يكون إلى الصيحة: ـ أنت قطعت الأمل فيها يا دكتور، أنت تعلم أنّها تموت، فاسمحْ لي آخذها إلى مشهد. إذا كان مكتوباً لها أن تموت الآن.. فلتَمُتْ عند ضريح الإمام الرضا. هزّ الدكتور رأسه بالنفي قائلاً. ـ أنا مسؤول عن مريضتي، لا أقدر أن أسمح لك. أمسك محمود بعضد الطبيب، وقال له: ـ لكن.. يجب أن آخذها. أرجوك يا دكتور. قال الطبيب بشيء من الانفعال: ـ جنازة تريد أن تحملها إلى مشهد.. ثمّ ماذا ؟! رمى محمود نفسه في أحضان الطبيب.. ينتحب. عدّل الطبيب من وضع نظّارته. قال محمود وهو يبكي: ـ فاطمة ما تزال شابّة يا دكتور. ليس هذا أوان موتها. آخذها إلى مشهد. أطلب من الإمام أن يساعدها. أدري أن قلبه يحترق على شباب فاطمة. شيء في صدري يقول لي: إنّ شفاء فاطمة في مشهد. إي.. يا دكتور آخذ فاطمة إلى مشهد، لعلّ الله يصنع لها شيئاً. ثم إنّه انتزع نفسه من أحضان الطبيب، والتقت نظراته الباكية بعينَيه النديّتين.سأل بلطف: ـ أتسمح يا دكتور ؟ مدّ الطبيب طرف إبهامه تحت عدسة نظّارته يُخفي قطرات دمع. ثمّ هزّ رأسه قائلاً: ـ حسناً.. خذها. تجد الشفاء بإذن الله. * * * كانت مرهقة.. مرهقة كثيراً. ما إن جلست عند الشبّاك الفولاذي في الصحن العتيق.. حتّى جاءها النعاس وأخلدت إلى النوم. في نومها.. دخلت في عالم الرؤيا: رؤيا المرايا الكثيرة التي كانت تحاصرها وتضيّق عليها الأنفاس. بلغت روحها التراقي. عزمت أن تجأر بصرخة قويّة، فلم تستطع. ضغط شديد على حنجرتها. كادت تختنق. أغمضت عينيها بخوف. ملأ سمعها صوت مهيب. صوت مرايا كثيرة تتكسّر متحطّمة على الأرض. باعَدَتْ بين جفنيها.. فتلألأ في نظراتها نور. انكسر حصار المرايا وتبدّد. وعاينت يداً مُشرَبة بنور غير أرضيّ، وهي تحمل أمامها مرآة خضراء. تطلّعت إلى صورتها في المرآة، وراحت تتقحّص الصورة. لقد اختفت من مُحيّاها أعراض المرض، وكأنها سليمة معافاة. خطر في داخلها خاطر غريب: إنّها تريد أن ترى صاحب هذه اليد العجيبة، وتطبع قبلة امتنان على يده التي تفيض بالنور والبركة. قامت من مكانها.. واقفة على قدميها اللتين كانتا قبل لحظات عاجزتين. استغربت حالتها. ونظرت إلى ساقَيها، ومدّت يدها تتلمّسهما، فما وجدت فيهما للألم مِن أثر. ومن فرحتها.. أطلقت صيحة أُنس غامر، وقفزت في الهواء. هرعت إليها النسوة الحاضرات.. وظهرت فاطمة محمولة على أيديهنّ بسعادة. تطلّع محمود إلى زوجته وهي تغوص بين أمواج الأيدي.. وتعالت من كلّ مكان أصوات الصلاة على محمّد وآل محمّد. خشع قلبه وارتجف. سالت دمعة منه على الخدّ. قعد على ركبتيه، ثمّ هوى على الأرض في سجدة شكر واعتراف بالجميل. یتبع |
أيدي الرجاء
فتحت النافذة، فمرَّ نسيم السهل يتهادى بعذوبة ورَواء، وسَرَت إلى كيانها برودة الصباح. تنفّست نفساً عميقاً، ثمّ عادت وألقت نظرة على نُول الحياكة المستند إلى الحائط المقابل في داخل الغرفة. لَكأنّها تود لو تحسّ بنعومة الأزهار التي قضت أياماً في حياكتها وإبداعها. تطلّعت إلى (كُبّات) الصوف الملوّنة المعلّقة في أعلى النُّول.. ثمّ هبّطت بصرها إلى السجادة التي ما تزال تحت الشغل. حدّقت بالأزهار التي ستتجلّى في نسيج السجّادة بإبداع أصابعها الماهرة، وكأنّها شتلات في حديقة. وفي وسط السجادة ينبغي أن تكمل صورة لطائرين متقابلَين ينظر أحدهما إلى الآخر نظرة حبّ. وسَرَحت لحظة مع الخيال. تراءى لها سهل أخضر فسيح.. وجدت نفسها في وسطه على حصان جميل أبيض اللون، يمسك بزمامه رجل شاب يبتسم. لكنّها سُرعانَ ما عادت إلى نفسها بارتباكِ عذراء مُستَحيية. تلفّتت يمنةً ويسرة. لم تكن الأمّ في الغرفة.. واصطبغت وجنتاها بحمرة الحياء. ثمّ استجمعت همّتها وشرعت تشتغل بالحياكة. قالت لها أمّها مِن قبل: ـ إنّ هذه السجّادة ليست للبيع. ثمّ أضافت: ـ هذه السجّادة لزواجك. وقرّ عزمها على أن تحوك أفضل سجّادة ممكنة، وبأحسن ما تقدر عليه من المهارة والإتقان. فكرها يذهب إلى المستقبل، ويداها تشتغلان بلباقة وسرعة وهما تعقدان على سَدى النُّول خيوط النسيج الملوّنة: أصفر، بُنيّ، أخضر، أزرق. ثمّ مدّت يدها لتتناول الخيط الأحمر. لكنّها لم تدرِ كيف فاجأها بغتة وفي لحظة سريعة ألم حادّ، لفَّ كلّ كيانها. كأنّ ناراً قد اضطرمت منها في كلّ مكان، وراحت تتلوّى.. ويدها مشتبكة بخيوط النسيج. ومن بين فكَّيها التي كانت تضغطهما بقوّة أصدرت أنّةَ ألم مختنقة. وسقطت من النُّول كُبّة الخيوط الحمراء، وتدجرجت حتّى بلغت باب الغرفة.. ساحبةً وراءها خطّاً نحيفاً من الخيط الأحمر. * * * باعَدَت بين أجفانها.. فأبصرت أمّها جالسة عند فراشها. كان الدكتور قد ذهب بعد أن نصح بنقلها على جناح السرعة إلى طهران، لإجراء الفحوصات اللازمة. وقرأت هي القلق على مُحيّا الأمّ.. وحاولت أن تضحك: ـ أشفى يا ماما. المسألة بسيطة.. لا شيء. ابتسمت الأمّ ابتسامة تعبّر ـ أكثر ما تعبّر ـ عن الأسى والحزن. كانت تفكّر بكلام الطبيب: ـ إذا تأخّر إجراء العمليّة فمن الممكن أن تتلف كليتاها جميعاً. كان الألم يتمشّى في عروقها. حاولت القيام، فلم تستطع. قالت الأم: ـ لازم نأخذك إلى طهران.. الدكتور قال. استدرات الفتاة تتطلّع إلى السجادة التي لم تكتمل. وكانت كُبّة الخيوط الحمراء ما تزال محلولة على الأرض. * * * يمرّ ظلّ معتم من أمام عينيها.. لم تتعرّف فيه على وجه أمّها المتغضِّن البائس إلاّ بعد لحظات. ابتسمت الأمّ بمرارة: ـ الأطبّاء يقولون: تتحسّنين إن شاء الله. وأدرات الأمّ ظهرها. لكنّ اهتزاز كتفَيها وصوت عَبرتها المختنقة كانا يقولان شيئاً آخر. * * * انسلخَتْ ثلاث من السنوات، أُجريت لها في خلالها ثلاث عمليّات جراحيّة... وبعدها فقد الأطبّاء أيّ بارقة أمل: ـ أمعاؤكِ قد تعفّنت، وتَلفَت الكليتان. نحن نعمل ما نستطيع، والبقيّة على الله. ثلاث سنوات من الآلام والأوجاع والمشقّات. وها هي ذي قد أمست نحيفة ناحلة الجسم واهنة القوى لا تقدر على شيء. والسجّادة التي ظلّت على النصف.. ما تزال مصلوبة. الغبار المتراكم دفن تحته الأزهار الحمراء، والطائران اللذان لم تكمل حياكتهما كأنهما في مقبرة للأموات. لقد ضاع منها كلّ شيء.. وماتت الآمال. * * * تهبّ نسمة دافئة من نافذة سيّارة الركّاب الكبيرة إلى الداخل. تلاطف النسمة وجهها الشاحب العليل. أفكار مشتّتة في ذهنها تدور: الحصان الأبيض، أزهار السجّادة، السهل الأخضر، كُبّة الخيوط الحمراء، الأمّ، والأوجاع التي رافقتها طيلة هذه السنوات الثلاث.. وها هي ذي تصل إلى آخر الخطّ. الأطبّاء اعترفوا بصراحة أنهم غير قادرين على شيء. بكت الأمّ، وبكت هي كذلك. وها هما الآن ذاهبتان بالحافلة.. إلى الإمام الرضا عليه السّلام. وعلى مشارف مدينة مشهد.. توقّفت الحافلة قليلاً. وجذب نظر الفتاة منظر القبّة الذهبيّة المتألّقة التي تتلامع من بعيد، فتمتمت بصوتٍ حفيض: ـ السّلام عليك يا مولاي يا عليّ بن موسى الرضا. * * * كان الحرم مغموراً بنور مدهش كلّه عظمة وجلال. وتعطّرت مشامُّها بنسيم الليل المجبول من ماء الورد. هي ذي واقفة عند الباب. انحنت أمام القبّة الرضويّة وهمست بالسّلام. الألم لا يدعها لحظة تستريح.. وتهالكت جالسةً عند الباب. ثمّ دسّت رأسها ووجهها تحت عباءتها السوداء. من عمق وجودها انبثقت دمعتان سالتا منها على الخدّين. رفعت رأسها.. فتجلّت لها القبّة الذهبيّة أكثر جلالاً وعظَمة؛ لقد كانت تنظر إليها من خلال الدموع. جلست لحظات وعيناها مشدودتان إلى القبّة الباسقة. العابرون يمرّون من قربها، لكنها لم تكن تبصر منهم أحداً. عيناها لا تَرَيان إلاّ هذه القبّة الرفيعة المتألّقة بالنور. شيء يتحرّك في أعماق فؤادها، وماثَمّ سواها مَن يعلم ماذا كان يجول في أعماق الفؤاد. ثمّ قامت واقفة، وصعّدت نفَساً عميقاً كانت تحبسه في الصدر. * * * أمام الشباك الفولاذيّ.. تجمهر فوج من الناس كبير. كلٌّ قد رُبط هنا «دخيلاً» عند الإمام الرؤوف. كانت تتخطّاهم على مهل.. حتّى وقفت قبالة النافذة العريضة. شاهدت خيوطاً كثيرة وقطعاً من القماش معقودة على مشبّك النافذة. وأخذتها «حالة».. فتدفّقت فجأة من عينيها أمطار الدموع. انخرطت في البكاء.. بلا خجل من أحد. وقعدت عند النافذة.. جيث يلوح من وراء المشبّك جلال الضريح. أخفَتْ رأسها تحت عباءتها، وأخذت تنتحب نحيباً متعالياً.. لكنّه كان يغيب بين أصوات ضراعات الحاضرين التي تتصاعد من كلّ مكان. ولم تدرِ كم من الوقت ظلّت على هذه الحالة حينما بدأ يهيمن عليها النوم. * * * لم تكن تعلم أنامت حقّاً أم أنّها كانت مستيقظة: امرأتان ورجل على مسافة منها جالسون. نَسِيَت أين هي الآن، ولم تَعُد تتذكّر أيّ شيء. دائخة كانت، قد سلبها الألم كلّ قدرة على التفكير. وسمعت صوتاً! كأنّ أحداً يخاطبها: ـ قُومي. هزّت رأسها: ـ لا أقدر. إحدى المرأتين التفت إلى الرجل قائلة: ـ أعِنْها.. يا أخي الرضا. هي تتلوّى من الألم، مطأطئةً رأسها تحت العباءة، لا ترى إلاّ قدمَي الرجل الذي يتقدّم إليها، وإلاّ يده التي مسحت على رأسها بحنان. وبغتةً.. سطع نور في مقابل عينيها، حتّى غرق كلّ شيء في لجّة النور. * * * فتحَت عينيها. ما تزال تبلغ مسامعَها أصوات الحاضرين المرتفعة بالِّذكر والمناجاة. كم من الوقت قد أغفَت ؟ لا تدري. تذكّرت أمّها. لعلّها استبطَأتْها فقلقَتْ عليها. وحاولت أن تستذكر ما رأته قبل قليل. وفاجأها أنّها انتبهت إلى نفسها، وتفطّنت إلى أنّ وضعها طبيعيّ! طبيعيّ جدّاً.. فلا آلام ولا أوجاع! واشتملت عليها الدهشة لحظات. وتذكّرت كلّ شيء: تلكما المرأتين، وذلكم الرجل، والصوت الذي قال: ـ أعِنْها.. يا أخي الرضا. شبكت أصابعها على الشبّاك، وألصقت رأسها به.. وراحت تبكي من القلب، ويعلو منها البكاء. بكاء ترفرف في أعماقه المسرّة ويموج فيه الحبّ العظيم. ما ثمّة من ألم يؤذيها وينغّص عليها أيّام الحياة. في خيالها: أزهار السجّادة الحمراء وهي تهتزّ مرحةً بنسيم السهل الأخضر. وعلى كتفها حطّ طائرا السجّادة يغرّدان بابتهاج. وكانت هي ما تزال تبكي بكاء الفرح والامتنان. یتبع |
الإمام الرؤوف
المريضة المعافاة: زهراء المنصوري. من مدينة خُرَّم آباد. الحالة المرضيّة: سكتة قلبيّة. تاريخ الشفاء تموز 1987. هجموا عليها. قبضوا على يديها ورجليها. صرخَتْ: ـ اتركوني! لكنّهم لم يتركوها. أمسكوها بقوّة. تكاد تختنق . قالت بتوسّل: ـ لخاطر الله.. اتركوني! انهالت عليها ضربات شديدة مبرِّحة. الأوجاع في كلّ مكان. أشدّ الأوجاع في يدها اليمنى وفي الكتف. لا تقوى على الحركة. جرّبت أن تتحرّك.. فأخفقت. تحاملت لتجرّب مرّة أخرى، لكن بلا جدوى. المتلفّعون بالسواد كانوا يقبضون عليها بعنف. بكت منتحبة. نحيبها يختلط بأصوات المتلفّعين بالسواد العابثة وهم يضحكون. إنّهم يدورون حولها في رقصة بغيضة هازئة. وراحت تتملاّهم ببصرها: غارقون في السواد.. حتّى وجوههم مقنّعة بالأسود. مَن يكون هؤلاء ؟! وانتفضت من نومها مرعوبة. الألم يمور في كتفها الأيمن. همّت أن تقوم. لم تستطع. الألم يتمشّى ثقيلاً كريهاً من كتفها إلى أطراف الأصابع، ثمّ ينعطف سارياً إلى رقبتها حتّى استولى منها على الوجه: راحت تتلوّى من الألم، وأطلقت صوتها بالصراخ. جاءها صوت من باحة الدار. وتناهى إلى سمعها وقعُ أقدام مرتبكة ترتقي السلّم على عجل. دخل الغرفة شبح رجل. صرخت: ـ إلحقْني! ركض إليها الرجل، وطوّق بيده رأسها برفق: ـ ماذا بك يا زهراء ؟! انفجرت تبكي. أمسك بها الرجل من عَضُدَيها ليُنهضها. صرخت تتلوّى من الألم. الألم في كل مكان. هرع الرجل إلى خارج الدار. وبعد أمد.. حضر ومعه أمّها والطبيب. المرأة عيناها شابحتان. نصف وجهها بدون حسّ ولا حركة. فمها أمالته لقوة شلل، وفقدت السيطرة على نصف بدنها الأيمن. ضربت أمّها كفّاً على كفّ قائلة: ـ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله! الطبيب منهمك بالفحص.. وبعد دقائق خرج من الغرفة، وخرج معه الرجل. الأمّ جالسة عندها: تختضنها، وتحرّك شفتيها بالدعاء. عاد الرجل.. فقرأت الأمّ على ملامحه علامات الحزن والأسى. سألته: ـ ماذا قال ؟ مشى الرجل باتّجاه النافذة مُديراً ظهره للأمّ، وغارزاً أصابع كفَّيه بشعر رأسه: ـ يجب أن نأخذها إلى المستشفى. اتّصلتُ هاتفياً.. لتأتي سيّارة الإسعاف. لطمت الأمّ وجهها. نَدّت منها شبه صيحة: ـ لأيّ شيء ؟! ما الذي نزل بها ؟! استدار الرجل، وسمعته الأمّ في استدارته يقول: ـ سكتة. ضربت الأم جبينها بيدها، وقالت مستعبرة: ـ أيّها الإمام الرضا. .. وفي تلك اللحظة كان صوت سيارة الإسعاف يُسمع من بعيد. * * * ـ عباس! عباس! تقلّب في مكانه، وبعد لأي.. فتح عينيه الغافيتين: ـ هـ ... ا ...ا ...ا. جلست الأمّ في قباله: ـ رأيتُ رؤيا يا عباس، رؤيا عجيبة. قعد في مكانه نصف قعدة، ونظر إلى الأمّ بعينين ما يزال يخامرهما النوم: ـ ها ماما.. ماذا رأيت ؟ ـ في الطّيف رأيت زهراء هربت من المستشفى، فأخذناها وأرجعناها إلى المستشفى بالقوّة.. وهي لا تسكت عن التوسّل والصياح: خذوني إلى مشهد... خذوني إلى مشهد. فرك عباس عينيه، وأخذت الأمَّ حالةُ بكاء. سترت وجهها بكفّيها باكية. وخلال بكائها سمعها عباس تغمغم: ـ أنا متأكّدة أنّ شفاءها بيد الإمام الرضا عليه السّلام.. ثمّ كشفت وجهها المبلَّل وقالت لعباس: ـ خذها إلى مشهد.. لخاطر الله خذها. وبينها وبين نفسها.. شرعت تخاطب الإمام: ـ أيّها الرضا.. أيّها الإمالم الرؤوف.. بحقّ أمّك الصدّيقة فاطمة الزهراء. قام عباس، فارتدى ثيابه.. وخرج من الدار. ولمّا بلغ المستشفى كان الطبيب المعالج ينزل من السلّم باتّجاه باب الخروج. قفز عباس صاعداً على درجات السلّم واعترض طريق الطبيب: ـ كيف حالتها يا دكتور ؟ نظر إليه الطبيب متعباً. هزّ رأسه قائلاً: ـ مريضتكم مرخَّصة. وعزم أن ينصرف لمّا سأله عباس: ـ يعني.. حالتها جيدة ؟ أطرق برأسه، وقال بهدوء: ـ لا.. مع الأسف. ليس في أيدينا شيء. بقاؤها هنا بلا جدوى. خذوها إلى المنزل.. إلاّ أن يشاء الله. خرّ عباس جالساً على إحدى درجات السلّم. هذه المرّة شعر بالهزيمة ترنّحه. مالَ جسده إلى جانب وسقط. انحنى الطبيب يعينه.. حتّى عدّل جلسته، ثمّ وضع يده على كتفه وقال يواسيه: ـ توكّلْ على الله. الجزع لن يغيّر شيئاً. ليكن أملك بالله. ثمّ إنّه أقامه من جلسته، وأعانه آخران.. حتّى أجلسوه على المصطبة. كان الطبيب واقفاً أمامه.. وعباس يتطلّع إليه. غمغم الطبيب. ـ مع الأسف. ثمّ ذهب، ونظرات عباس تتبعه... حتّى غيّبه باب المستشفى. نهض عباس مرهقاً.. يخطو خطوات متعثّرة باتّجاه غرفة زهراء. فتحت زهراء عينيها متريّثة. انطبعت صورة عباس في عينيها ذابلة مكدودة. ابتسمت زهراء ونطقت.. لكنّ عباس لم يميّز ما قالت. مرّة أخرى تحرّكت الشفتان. أدنى عباس أذنه من فمها. كانت تنطق بكلمة واحدة: ـ مشهد. ثمّ أطبقت الجفنين. * * * زهراء غافية.. إلى جنب الشبّاك الفولاذي، وثَمّةَ حبل موصول من عنقها إلى المشبّك. عباس قاعد إلى جوارها منصرفاً إلى القراءة في كتاب الزيارة.. يزور. قامت زهراء واقفة وهي نائمة. تطلّع إليها عباس باستغراب. أمسك بيدها وأجلسها في مكانها. ونهضت مرّة ثانية بعينين نائمتين. استولت الدهشة على عباس. وحانت منه التفاتة. فرأى الحبل محلولاً من جهة الشباك ومطروحاً على الأرض. سحب الحبل، ثمّ انتزع الحلقة التي تشكّل طرفه الآخر، من عنق زهراء. هزّها من عضدها برفق.. محاولاً إيقاظها. تحرّكت أجفان زهراء.. ووقع بصرها على عينَي عباس المذهولتين. عيناها صحيحتان! نقّلت بصرها: من عباس، إلى الناس، إلى السماء، إلى المنارة العالية، إلى شبّاك الفولاذ. ثمّ ألصقت بدنها بالشبّاك، واطلقت عنان البكاء. في تلك اللحظة.. تفطّن عباس إلى أنّ زوجته ليست مشلولة: لقوة الشلل لا أثر لها، ويدها تتحرّك. صاح عباس صيحة من هذه المفاجئة العظيمة السارّة، وألقى بنفسه قربها على الشباك.. وانتحب. كلاهما كان يبكي. تطلّعت زهراء إلى السماء، ورفعت يدَيها بالدعاء وبالشكر الكبير. وكانت تتذوّق لأوّل مرّة معنى من معاني «الإمام الرؤوف» لم يكن قد خطر على بالها من قبل. یتبع |
حينما تتفتّح في القلب براعم الدعاء
المريض المعافى: پرستو محمدي، تاريخ الولادة: 1980 مهنة الأب: خبّاز في مدينة جُرجان الداء: تعفّن شديد في الأذن والحنجرة عمره وقت الشفاء: ثمانية أشهر كان قد مضى من الليل نصفه، والقمر يتراءى من خلال السحاب في السماء، والصمت الحزين يغطّي كلّ أرجاء المدينة. تحت السماء المقمرة كان المصباح الكهربائي مُضاءً في أحد المنازل المتواضعة يتناهى إلى الآذان منه صوتُ ترنيمةِ أمٍّ تُنيم طفلها الصغير، وعيناها الواجمتان تحدّقان بعزيزها « پَرَستُو ». في قلب الليل كانت فاطمة المحزونة تناغي مريضها ذا الأشهر الثمانية الذي هو كلّ حياتها وكلّ أملها.. واضعةً صغيرها المهزول على ساقَيها تحرّكهما كالمهد، لعلّه يغفو لحظةً وينام، فيستريح قليلاً من هذه الآلام المبرِّحة التي لا تفارقه. وعلى صوت مناغاة أمّه الدافئ يغفو وليدها وينام، لكنّه سرعان ما يفتح عينيه صارخاً من شدّة الألم. وعلى بكاء الصغير يستفيق الأب المُتعَب « هُوشَنگ » الذي أخلد قبل دقائق إلى النوم، ونهض باتّجاه زوجته. أراد أن يشاطرها متاعبها ومأساتها، فاحتضن « پرستو » وراح يناغيه، وهو يدور به في الغرفة جِيئةً وذهاباً. قال لزوجته: ـ استريحي أنت يا فاطمة، فقد تعبتِ كثيراً. لكنّ فاطمة لم تُطِق أن تنام. أعطت صغيرها دواءه وهو محمول في أحضان أبيه. * * * لم تكن هذه هي الليلة الأولى التي تمضي على هذا النحو. لقد كان دأب هذين الزوجين، منذ شهر ونصف الشهر، القيام بتمريض عزيزهما الغالي ومقاساة سهر الليالي. كان « پرستو » مركز اهتمام فاطمة ومحور كلّ مساعيها. صحيح أنّ عمره لم يتجاوز شهوراً ثمانية، لكنّ ما انطبع على قسمات وجهها ووجه زوجها كأنّما هو آثار ثمانين سنة من الكرب والعذاب. إنّ عينَي الأمّ تتطلّعان، طيلة تلكم الأيّام الثقيلة، إلى هذا الجسد الذابل النحيل الذي ترى أنّه شمعة حياتها. لم يَعُد لها اشتهاء لطعام ولا رغبة في نوم. لقد تركّز كلّ شيء عندها في « پرستو » العليل. وكان التفكير في مستقبل الصغير ومصيره يحفر في ذهنها حُفَراً عميقة، ويُسلِمها إلى ظلام دنيا اليأس. وتغرق فاطمة في التفكير.. تستذكر السنوات الصعبة التي مرّت عليها بعد الزواج.. السنوات التي كانت لها ولزوجها فيها ذكريات للانتظار في حلاوتها ومرارتها. لم تكن ثلاث سنوات من انتظارِ وليدٍ بالسنوات القليلة. وما أكثر الليالي التي مَدّا فيها أيدي الضراعة والدعاء! وكم سمعا عتاباً وتأنيباً من هذا وذاك! وكم من نذر قد نذرا في هذا السبيل! وفي آخر الأمر.. أثمر الانتظار ثمرته، ومَنّ الله عليهما بولد غدا نوراً في عشّ الأسرة الصغير. غير أنّ هذا الدفء الحاني الذي جاء مع الوليد لم يكن ذا عمر طويل! وعلى خلاف ما سعى إليه الأطبّاء من وراء إجراء العمليّة الجراحيّة، كان التقدير أن يصرع الداء طفلهما ذا الأشهر التسعة بعد إصابته بتعفّن حادّ في الأذن. ومرّةً أخرى عاد منزلهما البائس إلى الصمت والخفوف سنوات عديدة، ودخل في برودة موحشة.. حتّى تفضّل الله عليهما، بعد التضرّع والدعاء، بـ « پرستو » الذي ودّعا بمَقدَمه مرارات الذكريات الغابرة. لقد كانت فاطمة معذورة إذن أن تخاف من مثل هذا المرض الذي سلبها وليدها البِكْر وحرمها حنان الأمومة. إنّها الآن على استعداد لتعمل أيّ شيء، خشية أن تتكرّر مأساتها من جديد. اختارت لمعالجة « پرستو » أمهر الأطبّاء، واضعةً نصب عينيها الإفادة من خبرات الأطبّاء في معالجة وليدها الأوّل. ابتُلي « پرستو » الحبيب بتعفّن شديد في الأذن، وكان الدم يخرج من أُذنَيه مختلطاً بالمُدّة وبالسوائل الكريهة الرائحة، حتّى لم يَعُد يتحمّله أحد ممّن كانوا حولها من الأهل والأقرباء. ولم يُفِد العلاج شيئاً، وكان قلق فاطمة يتضاعف وخوفها في ازدياد. كتب لها الدكتور « الديلميّ » في جرجان رسالة توصية إلى مستشفى القائم في مشهد ـ قسم الأطفال ( الأنف والأذن والحنجرة ) ـ لإجراء اللازم، فقد كان ولدها بحاجة إلى عناية خاصّة لا يوفّرها مستشفى جرجان. * * * وصلت فاطمة إلى مدينة مشهد متعبة، تتناهبها هواجس القلق والخوف، حاملةً على يديها قطعة من كيانها، تخشى عليها أن يخطفها الموت في أيّة لحظة. وأحسّت بالعجز. إنّها عاجزة عن حماية وحيدها العزيز.. عاجزة عن فعل أيّ شيء. إنّها جاءت إلى مشهد بتوصية طبيب، لكنّ لها تجربة مع الطبّ في وليدها الأوّل الذي انزلق من يدها بمحضر الأطبّاء. وها هي ذي تجيء مضطرّة إلى المستشفى في مشهد. كانت تتعلّق بأيّ شيء وكانت ذكرى ولدها البكر تضغط عليها بعنف. كانت السيارة تقودها وزوجَها في شوارع مشهد إلى الفندق حيث ينبغي أن تقيم. وفي الطريق لمحت القبّة الذهبيّة السامقة في قلب المدينة المقدّسة. إنّها قبّة رضا آل محمّد عليهم السّلام. لعلّها فُوجئت بمرآها. كأنّ شيئاً كان غافياً في داخلها واستيقظ في لحظة، فإذا هي تحسّ فجأة أنّها أمام كعبة الآمال. نَسِيَت تماماً المستشفى ورسالة الطبيب. اختنقت بعبرتها، وانفجرت من عينيها الدموع. هناك جرى بَوحُ القلب منها على اللسان. كانت فاطمة تحكي للإمام الرضا عليه السّلام كما يحكي الضائع الذي عثر على أهله بعد طول نأي واغتراب.. كأنّما هو عليه السّلام أبوها الشفيق، وملجأ قلبها الذي تشعر ـ حين تأوي إليه ـ بالطمأنينة والأمان. * * * كانت خطواتها ـ وهي تمضي قُدُماً في أرض الصحن العتيق ـ خطواتِ مُتعجِّل يريد بلوغ هدف نفيس. ها هي قد جاءت إليه بحبّة قلبها المُعَنّى يحدوها ألف أمل وأمل. إنّ قلبها يحدّثها بالشفاء الذي ستفوز به روحها إذا ما فاز به « پرستو ». إنّها الآن في ضيافة نور قدسيّ تعلم أنّه قادر على كشف جميع الكروب. ربطت يد « پرستو » إلى الشبّاك الفولاذيّ بخيطٍ عثرت عليه هناك، واقتعدت به ناحية بعينين ملؤهما أمل ورجاء. وكان قلبها هو مَن يحكي أُنشودة مناجاة عميقة لا يقوى على الإفصاح بها اللسان. عيناها مشدودتان إلى « پرستو » المربوط معصمه إلى نافذة الكريم.. تتحسّس من وقت لآخر حرارة بدنه المرتفعة بظاهر كفّها. اتّسعت حَدَقتاها ذُعراً بادئ الأمر إذ رأت عقدة الحبل محلولة من معصم طفلها الصغير، ولاحظت حرارته تهبط. ثمّ فتح « پرستو » عينيه بطريقة جعلتها تدرك أنّها قد فازت من فورها بالمأمول. ونَدّت منها صيحة فرح مفاجئ.. كان « پرستو » محمولاً بعدها على أيدي الحاضرين. وكان العطر الرضويّ المُسعِد يملأ كلّ ذرّات الهواء، ممتزجاً بالصلوات على محمّدٍ وآل محمّد عليهم السّلام. ( ترجمة وإعداد إبراهيم رفاعة، من مجلة الحرم ) |
http://ansaralhojah.name/uploads/cbca381f97.gif
اللهم صل على فاطمه وابيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها بعدد مااحاط به علمك..... من ذي قار الحبيبة إلى طوس البعيدة المسافات القريبة لقلب كل محب .. من تحفة العاشقين إلى أرض الكرامات.. ومن القلوب الوالهة إلى الأجساد الطاهرة.. السلام عليك ياعلي بن موسى الرضا ياسراج منير في سماء الدنيا، ياحلمي الساهر، وياعشقي الباهر، والجوهر النادر وأنت محقق للأمنيات في الزمن الجائر،، لك تحن النفس وتشتاق العين وتتمنى الروح الوصول والشهادة بين يديك و( ياكريم أهل البيت ) نهنئ قائم آل محمد ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) بولادتك البهية ياضامن الجنة حبيبتي مليكا موضوعك من اروع ماقرات عيناي واصلي حبيبتي ولكي من المتابعين |
الشبكة: أحد مواقع المجموعة الشيعية للإعلام الساعة الآن: 03:44 PM. بحسب توقيت النجف الأشرف |
Powered by vBulletin 3.8.14 by DRC © 2000 - 2025