![]() |
حلم الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وتربيته للآخرين حول حلمه ( عليه السلام ) نروي القصة الآتية : كانت إحدى جواري الإمام تسكب الماء للإمام ( عليه السلام ) ، فسقط من يدها الإبريق على وجهه ، فشجَّه ، فرفع ( عليه السلام ) رأسه إليها فقالت له : إن الله يقول : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) آل عمران 134 . فقال ( عليه السلام ) : ( قد كظمتُ غَيظي ) . قالت : ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) آل عمران 134 . فقال ( عليه السلام ) : ( عَفا اللهُ عَنكِ ) . ثم قالت : ( وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) آل عمران 134 . فقال ( عليه السلام ) : ( اِذهبي ، أنتِ حُرَّة لوجه الله عزَّ وجلَّ ) . وحول تربيته ( عليه السلام ) للآخرين نروي القصة الآتية : دخل محمد بن مسلم الزهَري على الإمام السجاد ( عليه السلام ) وهو - محمد بن مسلم - كئيبٌ ، حزينٌ ، فقال له الإمام ( عليه السلام ) : ( مَا بالُك مغموماً ) ؟ فقال الزهري : يا ابن رسول الله ، غموم وهموم تتوالى عليَّ لما امتحنت به من جهة حُسَّاد نعمتي ، والطامعين فيَّ ، ومِمَّن أرجوه ، ومِمَّن أحسنتُ إليه ، فيخلف ظنِّي . فقال له ( عليه السلام ) : ( احفظ لسانَكَ تملك به إخوانك ) . قال الزهري : يا ابن رسول الله ، إني أحسن إليهم بما يبدر من كلامي . قال ( عليه السلام ) : ( هَيْهات هَيْهات ، إيَّاك أن تعجب من نفسك بذلك ، وإياك أن تتكلَّم بما يسبق إلى القلوب إنكاره ، وإن كان عندك اعتذاره ، فليس كُل من تُسمِعه نكراً يمكنك أن توسِعه عُذراً ) . ثم قال ( عليه السلام ) : ( يا زهري ، مَن لم يكن عَقلُه من أكمَلِ مَا فيه ، كان هَلاكُه مِن أيسَر ما فيه ) . ثم قال ( عليه السلام ) : ( يا زهري ، أما عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك ، فتجعل كبيرَهم منك بمنزلَةِ والدِك ، وتجعل صَغيرَهم منك بمنزلة وَلدك ، وتجعل تربك منهم بمنزلة أخيك ، فأي هؤلاء تُحب أن تَظلم ، وأي هؤلاء تُحب أن تدعو عليه ، وأيُّ هؤلاء تحبُّ أن تهتِكَ سِتره . وإن عَرض لك إبليس بأنَّ لك فضلاً على أحد من أهل القبلة ، فانظر ، إن كان أكبر منك فقل : قد سبقني بالإيمان ، والعمل الصالح ، فهو خير منِّي ، وإن كان أصغر منك فقل : قد سبقتُهُ بالمعاصي ، والذنوب ، فهو خَيرٌ مني . وإن كان تربك فقل : أنا على يَقِينٍ من ذنبي ، وفي شك من أمره ، فما لِي أدَعُ يقيني لِشَكِّي ، وإن رأيت المسلمين يُعظِّمونك ، ويوقِّرونك ، ويبجِّلونك ، فقل : هذا فضل أخذوا به . وإن رأيت منهم جفاءً ، وانقباضاً عنك ، فقل : هذا لِذَنبٍ أحدثتُه ، فإنك إذا فعلتَ ذلك سهَّل الله عليك عَيشَك ، وَكَثُر أصدقاءُك ، وقلَّ أعداءُك ، وفرحت بما يكون من بِرِّهِم ، ولم تأسف على مَا يكون من جفائهم . واعلم أَنَّ أكرم الناس على الناس من كان خيرُه عليهم فائضاً ، وكان عنهم مستغنياً ، وأكرم الناس بعده عليهم من كان عنهم متعفِّفاً ، وإن كان إليهم مُحتاجاً ، فإنما أهل الدنيا يَعشقون الأموال ، فمن لم يزاحِمهم فيما يعشقونه كَرُم عليهم ، ومن لم يزاحمهم ومَكَّنهم من بعضها كان أعزَّ عليهم وأكرم ) . |
حوار الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) مع الزهري حول الصوم روى المؤرّخون : أنّ الزهري كان يعترف بالفضل والفقه للإمام علي زين العابدين ( عليه السلام ) ، وكان ممّن يرجع إليه في ما يهمّه من الأحكام الشرعية ، ورُوي أنّه رأى في منامه كأنّ يده مخضوبة ، وفسّرت له رؤياه بأنّه يبتلى بدم خطأ ، وكان في ذلك الوقت عاملاً لبني أُميّة ، فعاقب رجلاً فمات في العقوبة ، ففزع وخاف من الله ، وفرّ هارباً فدخل في غار يتعبّد فيه ، وكان الإمام ( عليه السلام ) قد مضى حاجّاً إلى بيت الله الحرام فاجتاز على الغار الذي فيه الزهري . فقيل له : هل لك في الزهري حاجة ؟ فأجابهم إلى ذلك ، ودخل عليه فرآه فزعاً خائفاً قانطاً من رحمة الله ، فقال الإمام ( عليه السلام ) له : ( إنّي أخاف عليك من القنوط ما لا أخاف عليك من ذنبك ، فابعث بدية مسلّمة إلى أهله ، واخرج إلى أهلك ومعالم دينك ) ، فاستبشر الزهري وقال له : فرّجت عنّي يا سيّدي ، الله أعلم حيث يجعل رسالته في مَن يشاء . ودخل الزهري مع جماعة من الفقهاء على الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) فسأل الإمام ( عليه السلام ) الزهري عمّا كانوا يخوضون فيه ؟ فقال له : تذاكرنا الصوم فأجمع رأيي ورأي أصحابي على أنّه ليس من الصوم واجب إلاّ شهر رمضان . فنعى عليهم الإمام ( عليه السلام ) قلّة معلوماتهم بشؤون الشريعة وأحكام الدين ، وبيّن لهم أقسام الصوم قائلاً : ( ليس كما قلتم ، الصوم على أربعين وجهاً ، عشرة منها واجبة كوجوب شهر رمضان ، وعشرة منها صومهنّ حرام ، وأربعة عشر وجهاً صيامهنّ بالخيار ، إن شاء صام وإن شاء أفطر ، وصوم الإذن على ثلاثة أوجه ، وصوم التأدّب ، وصوم الإباحة ، وصوم السفر والمرض ) . وبهر الزهري وبقيّة الفقهاء من سعة علم الإمام ( عليه السلام ) وإحاطته بأحكام الدين ، وطلب منه الزهري إيضاح تلك الوجوه وبيانها ، فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( أمّا الواجب فصيام شهر رمضان ، وصيام شهرين متتابعين لمن أفطر يوماً من شهر رمضان متعمّداً ، وصيام شهرين في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق واجب ، قال الله تعالى : ( وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ... فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ) النساء : 92 . وصيام شهرين متتابعين في كفّارة الظهار لمن لم يجد العتق ، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ) المجادلة : 3 ـ 4 . وصيام ثلاثة أيّام : ( فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ) ، كل ذلك تتابع وليس بمفترق . وصيام أذى الحلق ( حلق الرأس ) واجب ، قال الله تبارك وتعالى : ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) البقرة : 196 ، وصاحبها فيها بالخيار بين صيام ثلاثة أيّام أو صدقة أو نسك . وصوم دم المتعة واجب لمن لم يجد الهدي ، قال الله تبارك وتعالى : ( فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) البقرة : 196 . وصوم جزاء الصيد واجب ، قال الله تبارك وتعالى : ( وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ) المائدة : 95 . ثمّ قال ( عليه السلام ) : ( أو تدري كيف يكون عدل ذلك صياماً يا زهريّ ؟ ) فقال : لا أدري ، قال ( عليه السلام ) : ( تقوّم الصيد قيمة ثمّ تفضي تلك القيمة على البُرّ ، ثمّ يكال ذلك البرّ أصواعاً ، فيصوم لكلّ نصف صاع يوماً . وصوم النذر واجب ، وصوم الإعتكاف واجب ، وأمّا الصوم الحرام فصوم يوم الفطر ، ويوم الأضحى ، وثلاثة أيّام من أيّام التشريق ، وصوم يوم الشكّ أُمِرنا به ونُهينا عنه ، أُمرنا أن نصومه من شعبان ، ونهينا أن ينفرد الرجل بصيامه في اليوم الذي يشكّ فيه الناس ) . والتفت الزهري إلى الإمام ( عليه السلام ) قائلاً : جعلت فداك فإن لم يكن صام من شعبان شيئاً كيف يصنع ؟ قال ( عليه السلام ) : ( ينوي ليلة الشك أنّه صائم من شَعبان ، فإن كان مِن شَهر رَمَضان أجزأ عنه ، وإن كان من شعبان لم يضرّ ) . وأشكل الزهري على الإمام ( عليه السلام ) : كيف يجزي صوم تطوّع عن فريضة ؟ فأجابه الإمام ( عليه السلام ) : ( لو أنّ رَجُلاً صامَ يوماً مِنْ شَهْرِ رَمَضان تَطَوّعاً وهو لا يَدْري ولا يَعلم أنّه مِن شَهْرِ رَمَضان ، ثمّ عَلِمَ بَعْدَ ذلك أجزأ عنه ، لأنّ الفرض إنّما وَقَعَ على اليوم بِعَينه ) . ثمّ استأنف الإمام حديثه في بيان أقسام الصوم قائلاً : ( وصوم الوصال حرام ، وصوم الصمت حرام ، وصوم النذر للمعصية حرام ، وصوم الدهر حرام . وأمّا الصوم الذي صار صاحبه فيه بالخيار فصوم يوم الجمعة والخميس والإثنين ، وصوم الأيّام البيض ، وصوم ستّة أيّام من شوال بعد شهر رمضان ، ويوم عرفة ، ويوم عاشوراء ، كلّ ذلك صاحبه فيه بالخيار ، إن شاء صام وإن شاء أفطر . وأمّا صوم الإذن فإنّ المرأة لا تصوم تطوّعاً إلاّ بإذن زوجها ، والعبد لا يصوم تطوّعاً إلاّ بإذن سيّده ، والضيف لا يصوم تطوّعاً إلاّ بإذن مضيّفه ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فَمَن نَزَلَ على قَوم فَلا يَصُوم تَطوّعاً إلاّ بإذنهم . وأمّا صوم التأديب فإنّه يؤمر الصبيّ إذا راهق تأديباً وليس بفرض ، وكذلك من أفطر لعلّة أوّل النهار ، ثمّ قوي بعد ذلك أمر بالإمساك بقيّة يومه تأديباً ، وليس بفرض ، وكذلك المسافر إذا أكل من أوّل النهار ثمّ قدم أهله أمر بالإمساك بقيّة يومه تأديباً وليس بفرض . وأمّا صوم الإباحة فمن أكل أو شرب أو تقيّأ من غير تعمّد أباح الله ذلك وأجزأ عنه صومه . وأمّا صوم السفر والمرض فإنّ العامّة إختلفت فيه ، فقال قوم : يصوم ، وقال قوم : لا يصوم ، وقال قوم : إن شاء صام وإن شاء أفطر ، وأمّا نحن فنقول : يفطر في الحالتين جميعاً ، فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء في ذلك ، لأنّ الله عز وجل يقول : ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ... ) ) . |
رحلة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) من دمشق إلى المدينة الإمام ( عليه السلام ) في دمشق : بعد وصول الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) إلى الشام مع أخته زينب ( عليها السلام ) وباقي سبايا آل البيت ( عليهم السلام ) ، ألقى وبحضور يزيد بياناً خالداً عَرَّى فيه سياسة الأمَويِّين الظالمة ، وقد جاء فيه : ( أيُّها الناس ، أُعطينا ستاً وفُضِّلنا بسبع ، أُعطِينا العِلم ، والحِلم ، والسَّمَاحة ، والفَصَاحة ، والشَّجاعة ، والمَحَبَّة في قلوب المؤمنين . وفُضِّلنا بأنَّ مِنَّا النبي المختار ، والصدِّيق ، والطيَّار ، وأسد الله ، وأسد رسوله ، ومنِّا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول ، وسبطا هذه الأمة . أيُّها الناس ، من عَرَفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بِحَسَبي ونَسَبي ، أنا ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء ، وابن خديجة الكبرى ، انا ابن المُرَمَّل بالدماء ، انا ابن ذبيح كربلاء ) . فضجَّ الحاضرون بالبكاء بعد أن فوجئوا بالحقيقة ، مِمَّا اضطرَّ يزيد أن يأمر المؤذن أن يؤذن للصلاة ليقطع الخطبة على الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، غير أن الامام سكت حتى قال المؤذن ( أشهد أن محمداً رسول الله ) . فالتفت ( عليه السلام ) إلى يزيد قائلاً : ( هذا الرسول العزيز الكريم جدُّك أم جدِّي ؟ فإن قلت جدَّك ، علم الحاضرون والناس كلهم أنك كاذب ، وإن قلت جَدِّي ، فلِمَ قتلت أبي ظلماً وعدواناً ، وانتهبت ماله ، وسَبَيْت نساءه ؟ فويل لك يوم القيامة إذا كان جَدِّي خصمك ) . ووجم يزيد ولم يجر جواباً ، فإنَّ الرسول العظيم ( صلى الله عليه وآله ) هو جدُّ سيِّد العابدين ( عليه السلام ) . وأما جَدُّ يزيد فهو أبو سفيان ، العدو الأول للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وتبيَّن لأهل الشام أنَّهم غارقون في الإثم ، وأنَّ الحكم الأموي قد جهد في إغوائهم وإضلالهم . وتَبيَّن بوضوح أنَّ الحقد الشخصي ، وغياب النضج السياسي ، هما السببان لعدم إدراك يزيد عمق ثورة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، مِمَّا أدَّى إلى توهُّمِه بأنها لن تؤديَ إلى نتائج خطيرة على حكمه . ولعلَّ أكبر شاهد على هذا التوهم هو رسالة يزيد في بدايات تسلّمه الحكم لواليه على المدينة ، والتي أمره فيها بأخذ البيعة من الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، أو قتله وبعث رأسه إلى دمشق إن رفض البيعة . الإمام ( عليه السلام ) في المدينة المنورة : بعد أن غادر الإمام السجاد ( عليه السلام ) الشام إلى العراق ، ومن ثم الى المدينة ، وقبل دخوله المدينة أقام خارجها ، ودعا الناس إليه بواسطة أحد الشعراء . وخطب بهم خطبة وضَّح فيها مأساة أهل البيت ( عليهم السلام ) ومظلوميتهم ، وما لاقوه من الظلم والاضطهاد على أيدي الأمويين ، جاء فيها : ( الحمد لله ربِّ العالمين ، مالك يوم الدين ، بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بَعُد فارتفع في السماوات العُلَى ، وقَرُب فَشهد النَّجْوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، ومَضَاضة اللَّوَاذع ، وجَليل الرُّزْء ، وعظيم المصائب ، الفاظعة ، الكاظَّة ، الفادحة ، الجائحة . أيُّها القوم ، إن الله - وله الحمد - ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلْمَة في الإسلام عظيمة ، قُتل أبو عبد الله الحسين ( عليه السلام ) ، وسُبي نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان ، وهذه الرزيَّة التي لا مثلها رزيَّة . أيُّها الناس ، فأيُّ رجالات منكم يُسَرُّون بعد قتله ؟! ، أم أي فؤاد لا يحزن مِن أجله ؟! أم أيَّة عين منكم تحبس دمعها ، وتضنُّ عن انْهمالِها ؟! فلقد بكت السبع الشِّدَاد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسَّمَاوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان ، ولُجَج البحار ، والملائكة المقرَّبون ، وأهل السماوات أجمعون . أيُّها الناس ، أي قلب لا ينصدع لقتله ؟! أم أي فؤاد لا يَحنُّ إليه ؟! أم أي سَمْع يسمع هذه الثلمة التي ثُلِمت في الإسلام ولا يُصَمُّ ؟! . أيُّها الناس ، أصبحنا مطرودين مُشَرَّدين ، مذودين وشاسعين عن الأمصار ، كأنَّا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوَّلين ، إنْ هذا إلاَّ اختلاق ، والله ، لو أنَّ النبيَّ تقدَّم اليهم في قتالنا ، كما تقدم إليهم في الوصاية بنا ، لما زادوا على ما فعلوا بنا . فإنا لله وإنا إليه راجعون ، مِن مصيبة ما أعظمها وأوجعها ، وأفجعها وأكظُّها ، وأفظعها وأمرُّها وأفدحها ، فعند الله نحتسب فيما أصابنا ، وأبلغ بنا ، فإنَّه عزيز ذو انتقام ) . ثم سار ( عليه السلام ) بأهله ودخل المدينة المنورة ، وأخذ يمارس دوراً جديداً مستمسكاً بالنهج الإصلاحي ، والتوعية الفكرية العامة . لأنه ( عليه السلام ) كان يعلم أن هذا الطريق هو الطريق الشرعي لحماية الرسالة ، والحفاظ على البقية الباقية من أهل البيت ( عليهم السلام ) . مستفيداً من ذلك في إنجاح خططه تلك ، إنشغال الحكم الأموي وعملائه بإخماد الانتفاضات الإسلامية ، الرافضة لظلم الأمويين ، وبالخصوص خلال السنوات العشر التي أعقبت استشهاد الإمام الحسين ( عليه السلام ) . |
سيرة الامام الباقر عليه السلام |
استدعاء الإمام الباقر ( عليه السلام ) إلى دمشق استولى هشام بن عبد الملك على الحكم في اليوم الذي هلك فيه أخوه يزيد ، وهو المعروف بـ( أحول بني أميَّة ) . وكان حقوداً على ذوي الأحساب العريقة ، ومبغضاً لكل شريف ، وهو الذي قتل زيد بن علي ، وتعرَّض الإمام الباقر ( عليه السلام ) في عهده إلى ضروب من المِحَن والآلام . ولغرض الحَدِّ من تحرُّك الإمام ( عليه السلام ) وتأثيره على الناس ، أمر الطاغية هشام بن عبد الملك عامِلَه على المدينة بحمل الإمام إلى ( دمشق ) . الإمام ( عليه السلام ) في دمشق : لما انتهى الإمام الباقر ( عليه السلام ) إلى ( دمشق ) ، وعَلِم هشام بقدومه ، أوعزَ إلى حاشيته أن يقابلوه بمزيد من التوهين والتوبيخ عندما ينتهي حديثه معه . ودخل الإمام ( عليه السلام ) على هشام ، فَسَلَّم على القوم ، ولم يُسلِّم عليه بالخلافة . فاستشاط هشام غضباً ، وأقبل على الإمام (عليه السلام ) فقال له : يا محمد بن علي ، لا يزال الرجل منكم قد شَقَّ عصا المسلمين ، ودعا إلى نفسه ، وزعم أنه الإمام سفهاً ، وقِلَّة عِلم . ثم سكت هشام ، فانبرى عملاؤه ، وجعلوا ينالون من الإمام ( عليه السلام ) ويسخرون منه . وهنا تكلم الإمام ( عليه السلام ) فقال : ( أيُّها الناس ، أين تذهبون ؟ وأين يُرَاد بكم ؟ بِنَا هدى الله أوَّلكم ، وبنا يختم آخركم ، فإنَّ يَكُن لكم مُلْكٌ مُعَجَّل ، فإنَّ لنا مُلكاً مؤجلاً ، وليس بعد مُلكِنا مُلك ، لأنَّا أهل العاقبة ، والعاقبة للمتقين ) . وخرج الإمام ( عليه السلام ) بعد أن ملأ نفوسهم حزناً وأسى ، ولم يستطعيوا الرد على منطقه القوي . وازدحم أهل الشام على الإمام ( عليه السلام ) وهم يقولون : هذا ابن أبي تراب . فرأى الإمام ( عليه السلام ) أن يهديهم إلى سواء السبيل ، ويعرفهم بحقيقة أهل البيت ( عليهم السلام ) . فقام ( عليه السلام ) فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصَلَّى على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم قال : ( اِجتنبوا أهل الشِّقاق ، وذُرِّية النِّفاق ، وحشو النار ، وحصب جَهَنَّم ، عن البَدْر الزاهر ، والبحر الزَّاخِر ، والشهاب الثَّاقب ، وشهاب المؤمنين ، والصراط المستقيم ، من قبل أن نطمس وجوهاً فَنَردُّها على أدبارها ، أو يُلعَنوا كما لُعِن أصحاب السبت ، وكان أمر الله مفعولاً ) . ثم قال ( عليه السلام ) بعد كلام له : ( أبِصِنْوِ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) - أي : الإمام علي ( عليه السلام ) - تستهزئون ؟ أم بِيَعْسوب الدِّين تلمزون ؟ وأيُّ سبيلٍ بَعدَه تسلكون ؟ وأيُّ حُزن بَعده تدفعون ؟ هيهات ، برز والله بالسبق ، وفاز بالخصل ، واستولى على الغاية ، وأحرز على الختار [ الغدر ] ، فانحسرت عنه الأبصار ، وخضعت دونه الرقاب ، وفرع الذُّروة العُليا ، فَكذب من رام من نفسه السعي ، وأعياه الطلب ، فأنَّى لهم التناوش من مكان بعيد ؟! . فَأنَّى يسدُّ ثلمة أخي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذ شَفَعُوا ، وشقيقه إذْ نَسَبوا ، وندّ يده إذ قَتَلوا ، وذي قرني كنزها إذ فَتَحوا ، ومُصلِّي القبلتين إذ تَحرَّفوا ، والمشهود له بالإيمان إذ كَفَروا ، والمُدَّعي لنبذ عهد المشركين إذ نكلوا ، والخليفة عَلى المِهَاد ليلة الحصار إذ جَزَعوا ، والمستودع الأسرار ساعة الوداع ) . ولمّا ذاع فضل الإمام ( عليه السلام ) بين أهل الشام ، أمر الطاغية باعتقاله وسجنه . وحين احتفَّ به السجناء ، وأخذوا يتلقون من علومه وآدابه ، خشي مدير السجن من الفتنة ، فبادر إلى هشام فأخبره بذلك ، فأمره بإخراجه من السجن ، وإرجاعه إلى بلده ( المدينة ) . وهنا أمر الطاغية بمغادرة الإمام الباقر ( عليه السلام ) لمدينة ( دمشق ) ، خوفاً من أن يفتتن الناس به ، وينقلب الرأي العام ضد بني أمية . ولكنه أوعَزَ الى أسواق المدن ، والمحلات التجارية ، الواقعة في الطريق ، أن تغلق محلاتها بوجهه ، ولا تبيع عليه أية بضاعة ، وأراد بذلك هلاك الإمام ( عليه السلام ) والقضاء عليه . وسارَت قافلة الإمام ( عليه السلام ) وقد أضناها الجوع والعطش ، فاجتازت على بعض المدن ، فبادر أهلها إلى إغلاق محلاَّتهم بوجه الإمام ( عليه السلام ) ، ولما رأى الإمام ذلك صعد على جبل هناك ، ورفع صوته قائلاً : ( يا أهل المدينة ، الظالم أهلها ، أنا بقية الله ، يقول الله تعالى : ( بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) ) هود : 86 . وما أنهى الإمام ( عليه السلام ) هذه الكلمات حتى بادر شيخ من شيوخ المدينة فنادى أهل قريَتِه قائلاً : يا قوم ، هذه والله دعوة شعيب ، والله لَئِن لن تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذنَّ من فوقكم ، ومن تحت أرجلكم ، فصدِّقُوني هذه المرة ، وأطيعوني ، وكذِّبوني فيما تستأنفون ، فإني ناصح لكم . وفزع أهل القرية ، فاستجابوا لدعوة الشيخ الذي نَصَحَهم ، ففتحوا حوانيتهم ، واشترى الإمام ( عليه السلام ) ما يريده من المتاع ، وفَسَدَت مكيدة الطاغية ، وما دبَّره للإمام ( عليه السلام ) ، وقد انتهت إليه الأنباء بِفَشَل مؤامرته . |
الإمام الباقر ( عليه السلام ) مع نافع مولى عمر حج هشام بن عبد الملك ومعه نافع مولى عمر بن الخطاب ، فنظر نافع إلى الإمام الباقر ( عليه السلام ) في ركن البيت وقد اجتمع عليه الخلق ، فقال : يا أمير المؤمنين ! من هذا الذي قد تكافأ عليه الناس ؟ فقال : هذا محمد بن علي بن الحسين . قال نافع : لآتينَّه ولأسألنَّه عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبيّاً أو وصيَّ نبيٍّ . قال هشام : فاذهب إليه لعلَّك تخجله ، فجاء نافع حتى اتكأ على الناس وأشرف على الإمام ( عليه السلام ) ، فقال : يا محمد بن علي ، إني قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وقد عرفت حلالها وحرامها ، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبيّاً أو وصيَّ نبيٍّ أو ابنَ نبيٍّ . فرفع الإمام ( عليه السلام ) رأسه ، فقال : ( سَلْ عَمَّا بَدا لك ) ! قال نافع : أخبرني كم بين عيسى ومحمد من سنة ؟ قال ( عليه السلام ) : ( أجيبك بقولك أم بقولي ) ؟ قال نافع : أجبني بالقولين . قال ( عليه السلام ) : ( أما بقولي فخمسمائة سنة ، وأما بقولك فستمائة سنة ) . قال نافع : فأخبرني عن قول الله عزَّ وجلَّ : ( وَاسْأَلْ مَن أَرسَلْنَا مِنْ قَبلِكَ مِن رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يَعْبُدُونَ ) الزخرف : 45 . من الذي سأل محمد وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة ؟ فتلا الإمام ( عليه السلام ) : ( سُبحَانَ الَّذِي أَسرَى بِعَبدِهِ لَيلاً مِنَ المَسجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسجِدِ الأَقصَى الَّذِي بَارَكنَا حَولَهُ لِنُريهُ مِن آيَاتِنَا ) الإسراء : 1 . كانت من الآيات التي أراها محمداً ( صلى الله عليه وآله ) – حيث أُسري به إلى بيت المقدس – أنه حشر الله الأولين والآخرين من النَّبيِّينَ والمرسلين ، ثم أمر جبرئيل ( عليه السلام ) ، فأذن شفعاً وأقام شفعاً وقال في أذانه : ( حَيَّ عَلى خَيرِ العَمَلِ ) . ثم تقدم محمد ( صلى الله عليه وآله ) فَصَلَّى بالقوم ، فلما انصرف قال الله عزَّ وجلَّ : ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رُسُلِنَا أَجَعَلنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يَعبُدُونَ ) الزخرف : 45 . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( على من تشهدون ؟ وما كنتم تعبدون ) ؟ قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأنَّك رسول الله ، أخذت على ذلك عهودنا ومواثيقنا . فقال نافع : صدقت يا أبا جعفر !! قال نافع : فأخبرني عن قول الله عزَّ وجلَّ : ( يَومَ تُبَدَّلُ الأرضُ غَير الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ ) إبراهيم : 48 . أي أرضٍ تُبَدَّل ؟ فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( خبزة بيضاء يأكلونها ، حتى يفرغ الله من حساب الخلائق ) . فقال نافع : إنهم عن الأكل لمشغولون . قال ( عليه السلام ) : ( إنهم حينئذٍ أَشْغَلُ أَمْ هُم فِي النار ) ؟ قال نافع : بل هم في النار . قال ( عليه السلام ) : ( فقد قال الله عزَّ وجلَّ : ( وَنَادَى أَصحَابُ النَّارِ أَصحَابَ الجَنَّةِ أَن أَفِيضُوا عَلَينَا مِنَ المَاءِ أَو مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) ـ الأعراف : 50 ـ ما أشغلهم إذ دعوا بالطعام فأطعموا الزقوم ، ودعوا بالشراب فسقوا من الحميم ) ؟! فقال نافع : صدقت يا ابن رسول الله ! وبقيت مسألة واحدة . قال ( عليه السلام ) : ( وما هي ) ؟ قال نافع : فأخبرني متى كان الله ؟ قال ( عليه السلام ) : ( ويلك ! أخبرني متى لم يكن حتى أخبرك متى كان ؟! سبحان من لم يزل ولا يزال ، فرداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ) . ثم أتى هشام بن عبد الملك فقال : ما صنعتَ ؟ قال نافع : دعني من كلامك ، هو والله أعلم الناس !! وهو ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حقاً . |
الإمام الباقر ( عليه السلام ) ومسائل طاووس اليماني أقبل طاووس اليماني مع جماعة من أصحابه على الإمام الباقر ( عليه السلام ) فقال : أتأذن لي في السؤال ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( أَذِنَّا لك فَسَلْ ) . قال : لِمَ سُمِّيَ آدمُ آدماً ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( لأنَّه رُفعت طينته من أديم الأرض السفلى ) . قال : وَلِمَ سُمِّيَت حوَّاءُ حوَّاءاً ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( لأنَّها خُلقت من ضلع حيٍّ ) يعني ضلع آدم . قال : فَلِمَ سُمِّي إبليس إبليساً ؟ قال ( عليه السلام ) : ( لأنَّه أَبلَسَ – آَيَسَ – من رحمة الله فلا يرجوها ) . قال : فَلِمَ سُمِّي الجِنُّ جِنّاً ؟ قال ( عليه السلام ) : ( لأنَّهم استَجَنَّوا فلم يروا ) . قال : فَأخبرني عن أولِ كذبة كُذِبَتْ ، ومن صاحبها ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( إبليس ، حين قال : أنا خير منه ، خلقتني من نار وخلقته من طين ) . قال : فأخبرني عن رسولٍ بعثه اللهُ تعالى ليس من الجنِّ ، ولا من الإنس ، ولا من الملائكة ، ذكره الله تعالى في كتابه . فقال ( عليه السلام ) : ( الغراب ، حين بعثه الله عزَّ وجلَّ لِيُرِي قابيلَ كيف يواري سَوْأةَ أخيه هابيل حين قتله ) . قال : فأخبرني عن شيء يزيد وينقص ، وعن شيء يزيد ولا ينقص ، وعن شيء ينقص ولا يزيد ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( أمَّا الشيء الذي يزيد وينقص فهو ( القَمَرُ ) ، والشيء الذي يزيد ولا ينقص فهو ( البَحْرُ ) ، والشيء الذي ينقص ولا يزيد هو ( العُمْرُ ) ) . قال : فأخبرني متى هلك ثُلث الناس ؟ قال ( عليه السلام ) : ( وَهَمُتَ يا شيخ ، أردت أن تقول : متى هلك ربع الناس ؟ وذلك يوم قتل قابيل هابيل ، كانوا أربعة : آدم ، وحواء ، وقابيل ، وهابيل ، فهلك ربعهم ) . فقال : أَصَبتَ وَوَهَمْتُ أنا ، فأيهما كان أباً للناس القاتل أو المقتول ؟ قال ( عليه السلام ) : ( لا واحد منهما ، بل أبوهم شيث بن آدم ) . قال : فأخبرني عن قوم شَهَدوا شهادة الحقِّ وكانوا كاذبين ؟ قال ( عليه السلام ) : ( المنافقون حين قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : نشهد أنَّك لَرَسُول الله ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : ( إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولهُ وَاللهُ يَشهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) . قال : فأخبرني عن طائرٍ طارَ مرَّة ، ولم يَطِر قبلها ولا بعدها ؟ ، ذكره الله عزَّ وجلَّ في القرآن ، ما هو ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( طور سيناء ، أطارَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ على بني إسرائيل حين أظلَّهم بجناح منه ، فيه ألوان العذاب ، حتى قبلوا التوراة ، وذلك قوله عزَّ وجلَّ : ( وَإِذَ نَتَقنَا الجَبَلَ فَوقَهُم كَأَنَّهُ ظلَّة وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِم ) ) الأعراف : 171 . قال : فأخبرني عمَّن أنذر قومه ، ليس من الجنِّ ولا من الإنس ولا من الملائكة ، ذكره الله عزَّ وجلَّ في كتابه ؟ قال ( عليه السلام ) : ( النَّملة حين قالت : ( يَا أَيُّهَا النَّمل ادخُلُوا مَسَاكِنَكُم لا يَحْطِمَنَّكُم سُلَيمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُم لا يَشعُرُونَ ) ) النحل : 18 . قال : فأخبرني عمَّن كُذِب عليه ، ليس من الجنِّ ولا من الإنس ولا من الملائكة ، ذكره الله عزَّ وجلَّ في كتابه ؟ قال ( عليه السلام ) : ( الذئبُ الذي كذبَ عليه أخوة يوسف ) . قال : فأخبرني عن شيءٍ قليلُه حَلالٌ وكثيرُه حرامٌ ، ذكره الله عزَّ وجلَّ في كتابه ؟ قال ( عليه السلام ) : ( نهر طالوت ، قال الله عزَّ وجلَّ : ( إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غرْفَةً بِيَدِهِ ) ) البقرة : 249 . قال : فأخبرني عن صلاة مفروضة ، تُصَلَّى بغير وضوءٍ ، وعن صومٍ لا يحجز عن أكلٍ ولا شربٍ ؟ قال ( عليه السلام ) : ( أمّا الصلاة بغير وضوء فالصلاة على النبي وآله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأما الصوم فقول الله عزَّ وجلَّ : ( إِنِّي نَذَرتُ لِلرَّحمَنِ صَوماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَومَ إِنسِياً ) ) مريم : 26 . |
تراث الإمام الباقر ( عليه السلام ) التفسيري لا ريب في أنّ القرآن الكريم هو أوّل مصادر التشريع الإسلامي ، وأهم مصادر الثقافة الإسلامية ، التي تعطي للأمّة الإسلامية وللرسالة الإلهية هويّتها الخاصّة ، وتسير بالأُمة إلى حيث الكمال الإنساني المنشود . وقد اعتنى الإمام الباقر ( عليه السلام ) كسائر الأئمّة من أهل البيت ( عليهم السلام ) بالقرآن الكريم تلاوةً وحفظاً وتفسيراً ، وصيانةً له عن أيدي العابثين وانتحال المبطلين ، فكانت محاضراته التفسيرية للقرآن الكريم تشكّل حقلاً خصباً لنشاطه المعرفي وجهاده العلمي ، وهو يرسم للأُمة المسلمة معالم هويتها الخاصّة . ومن هنا خصّص الإمام ( عليه السلام ) للتفسير وقتاً من أوقاته ، وتناول فيه جميع شؤونه ، وقد أخذ عنه علماء التفسير ـ على اختلاف آرائهم وميولهم ـ الشيء الكثير ، فكان من ألمع المفسّرين للقرآن الكريم في دنيا الإسلام . وقد نهج الإمام الباقر ( عليه السلام ) في تفسير القرآن الكريم منهجاً علميّاً خاصّاً متّسقاً مع أهداف الرسالة وأُصولها ، ونعى على أهل الرأي والاستحسان وأهل التأويل والظنون ، فكان ممّا اعترض به على قتادة أن قال له : ( بلغني أنّك تفسّر القرآن ! ) . فقال له : نعم . فأنكر عليه الإمام ( عليه السلام ) قائلاً : ( يا قتادة إن كنت قد فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، يا قتادة ويحك إنّما يعرف القرآن من خوطب به ) . وقد قصر الإمام ( عليه السلام ) معرفة الكتاب العزيز على أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فهم الذين يعرفون المحكم من المتشابه ، والناسخ من المنسوخ ، وليس عند غيرهم هذا العلم . فقد ورد عنهم ( عليهم السلام ) : ( أنّه ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ، الآية يكون أوّلها في شيء ، وآخرها في شيء ، وهو كلام متّصل ينصرف إلى وجوه ) . أمّا الأخذ بظواهر الكتاب فلا يعد من التفسير بالرأي المنهيّ عنه . وألّف الإمام الباقر ( عليه السلام ) كتاباً في تفسير القرآن الكريم نص عليه ابن النديم في ( الفهرست ) عند عرضه للكتب المؤلّفة في تفسير القرآن الكريم حيث قال : كتاب الباقر محمّد بن علي بن الحسين رواه عنه أبو الجارود زياد بن المنذر رئيس الجارودية . وقال السيد حسن الصدر : وقد رواه عنه أيّام استقامته جماعة من ثقاة الشيعة منهم أبو بصير يحيى بن القاسم الأسدي ، وقد أخرجه علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي في تفسيره من طريق أبي بصير ( تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : 327 ) . نماذج من تفسيره : 1ـ فسّر الإمام الباقر ( عليه السلام ) الهداية في قوله تعالى : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) ( طه : 82 ) بالولاية لأئمّة أهل البيت حين قال : ( فو الله لو أنّ رجلاً عبد الله عمره ما بين الركن والمقام ، ولم يجيء بولايتنا إلاّ أكبّه الله في النار على وجهه ) . 2ـ وعن قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) ( المائدة : 67 ) ، قال ( عليه السلام ) : ( إنّ الله أوحى إلى نبيّه أن يستخلف علياً فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعاً له على القيام بما أمره الله بأدائه ) . 3ـ وفي قوله تعالى : ( تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) ( القدر : 4 ) ، قال ( عليه السلام ) : ( تنزّل الملائكة والكتبة إلى سماء الدنيا ، فيكتبون ما يكون في السنة من أمور ما يصيب العباد ، والأمر عنده موقوف له فيه على المشيئة ، فيقدّم ما يشاء ، ويؤخّر ما يشاء ، ويثبت ، وعنده أم الكتاب ) . 4ـ وفي قوله تعالى : ( فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ) ( الشعراء : 94 ) ، قال الإمام ( عليه السلام ) : ( إنّها نزلت في قوم وصفوا عدلاً بألسنتهم ثمّ خالفوه إلى غيره ) . 5ـ وفي قوله تعالى : ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) ( النحل : 43 ) . روى محمّد بن مسلم قال : قلت للإمام أبي جعفر : إنّ من عندنا يزعمون أنّ المعنيين بالآية هم اليهود والنصارى ، قال : ( إذاً يدعونكم إلى دينهم ! ) ، ثمّ أشار ( عليه السلام ) إلى صدره فقال : ( نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون ) . 6ـ وفي قوله تعالى : ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) ( الإسراء : 71 ) . روى جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر ( عليه السلام ) أنّه قال : ( لمّا نزلت هذه الآية ، قال المسلمون : يا رسول الله ألست إمام الناس كلّهم أجمعين ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أنا رسول الله إلى الناس أجمعين ، ولكن سيكون من بعدي أئمّة على الناس من أهل بيتي يقومون في الناس فيُكَذّبون ، ويظلمهم أئمّة الكفر والضلال وأشياعهم ، فمن والاهم واتّبعهم ، وصدّقهم فهو منّي ومعي وسيلقاني ، ألا ومن ظلمهم وكذّبهم فليس منّي ، ولا معي ، وأنا منه بريء ) . 7ـ وسئُل الإمام الباقر ( عليه السلام ) عن قوله تعالى : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) ( فاطر : 32 ) ، فقال ( عليه السلام ) : ( السابق بالخيرات الإمام ، والمقتصد العارف للإمام ، والظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام ) . 8ـ وعن المتوسّمين في قوله تعالى : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ ) ( الحجر : 75 ) ، قال ( عليه السلام ) : ( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المتوسّم ، وأنا من بعده والأئمّة من ذرّيتي المتوسّمون ) . 9ـ وفي قوله تعالى : ( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ) ( الجن : 16 ) ، قال ( عليه السلام ) : ( يعني لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والأوصياء من ولده ، وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماءاً غدقاً ، يعني أشربنا قلوبهم الإيمان ، والطريقة : هي الإيمان بولاية علي والأوصياء ) . 10ـ وفي ما يرتبط بقوله تعالى : ( قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ( الرعد : 43 ) ، سأل بريد بن معاوية الإمام ( عليه السلام ) عن المعنيين بقوله تعالى : ( وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( إيّانا عنى ، وعليّ أوّلنا ، وأفضلنا وخيرنا بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ) . |
حكم الإمام الباقر ( عليه السلام ) هذه بعض الحكم والمواعظ للإمام الباقر ( عليه السلام ) جاءت من فوح القرآن الكريم ، وبوح وجدانه العظيم . ولنا ملء الأمل أن تؤخذ لدى طلاب العلم للبحث والتفكير ، والدراسة والتمحيص ، ثم العمل على تطبيقها في الحياة الفردية والجماعية . وكذلك والالتزام بما اشتملت عليه من تعاليم اجتماعية ، ودروس أخلاقية ، ليتحقق الغرض الأسمى الذي أراده ( عليه السلام ) من هدف هذه الحكم الخالدة على صدر الزمن . 1ـ قال ( عليه السلام ) : ( قُم بالحق ، واعتزل ما لا يعنيك ، وتجنب عَدوَّك ، واحذر صديقك من الأقوام ، إلا الأمين من خشي الله ، ولا تصحب الفاجر ، ولا تطلعه على سِرِّك ، واستشر في أمرك الذين يخشون الله ) . 2ـ قال ( عليه السلام ) : ( ثلاثة من مَكَارم الدنيا والآخرة : أن تعفو عَمَّن ظَلَمَك ، وتَصِلْ مَن قطعك ، وتَحلَم إذا جُهل عليك ) . 3ـ قال ( عليه السلام ) : ( مَا من عِبادة لله تعالى أفضل من عِفَّة بَطنٍ أو فرج ، وما من شيء أحب إلى الله تعالى من أن يُسْأل ، وما يَدفَع القضاء إلى الدعاء ، وإنَّ أسرَعَ الخير ثواباً البِرّ والعدل ، وأسرع الشَّرِّ عقوبة البغي ) . 4ـ قال ( عليه السلام ) : ( مَن صَدَق لسانُه زَكا عَملُه ، ومن حَسنت نِيَّته زِيدَ في رزقه ، ومن حسن بِرُّه بأهله زِيدَ في عُمره ) . 5ـ قال ( عليه السلام ) : ( إنَّ أشَدَّ الناس حَسرَةً يوم القيامة عَبدٌ وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره ) . 6ـ قال ( عليه السلام ) : ( مَنْ أعطى الخُلق والرفق فقد أعطى الخير والراحة ، وحَسُن حاله في دنياه وآخرته ، ومن حَرَم الخلق والرفق كان ذلك سبيلاً إلى كل شَرٍّ وبَليَّة ، إلا من عَصَمَه الله ) . 7ـ قال ( عليه السلام ) : ( اِعرف الموَدَّة في قلب أخيك بما له في قلبك ) . 8ـ قال ( عليه السلام ) : ( مَا دَخل قلبَ امرئٍ شيءٌ من الكِبَر إلا نقص من عقله مثل ذلك ) . 9ـ قال ( عليه السلام ) : ( لَمَوت عَالِمٍ أحبُّ إلى إبليس من موت سبعين عابداً ) . 10ـ قال ( عليه السلام ) : ( لا يُقبل عَمَل إلا بمعرفة ، ولا معرفة إلا بِعَمل ، ومن عَرَف دَلَّتْهُ معرفته على العمل ، ومن لم يعرف فلا عَمَل له ) . 11ـ قال ( عليه السلام ) : ( ليس شيء مُميِّل الإخوان إليك مثل الإحسان إليهم ) . 12ـ قال ( عليه السلام ) : ( مَن لم يجعل مِن نفسه واعظاً فإنَّ مواعظ الناس لن تُغنِي عنه شيئاً ) . 13ـ قال ( عليه السلام ) : ( إنما شيعة علي المتباذلون في ولايتنا ، المُتحابُّون في مَوَدَّتنا ، المتآزِرُون لإِحياء الدين ، إذا غضبوا لم يظلموا ، وإذا رضوا لم يسرفوا ، بركة على من حَاوَرَهم ، وسِلْم لِمَن خَالَطَهم ) . 14ـ قال ( عليه السلام ) : ( المُتكَبِّر يُنازِعُ اللهَ رِداءَه ) . 15ـ قال ( عليه السلام ) : ( مَن عَمل بما يَعْلَم ، عَلَّمَه اللهُ ما لا يَعلم ) . 16ـ قال ( عليه السلام ) : ( بِئْس العبد يَكون ذا وجهين وذا لسانين ، يَطري أخاه في الله شاهداً ، ويأكله غائباً ، إنْ أعطِيَ حَسَدَه ، وإن ابتُلِيَ خَذَله ) . 17ـ قال ( عليه السلام ) : ( مَا عَرفَ اللهُ مَنْ عَصَاه ) ، وأنشد ( عليه السلام ) : تعصي الإلَهَ وأنت تُظهِر حُبَّهُ هَذا لَعَمرِك فِي الفِعَال بِديعُ لَوْ كَانَ حُبُّك صَادقاً لأطَعْتَهُ إِنَّ المُحِبَّ لِمَن أحَبَّ مُطيعُ 18ـ قال ( عليه السلام ) : ( الحياءُ والإِيمان مَقرُونان في قرن ، فإذا ذَهَب أحَدُهُما تَبِعه صَاحِبُه ) . 19ـ قال ( عليه السلام ) : ( مَن قُسِمَ لَهُ الخَرَق حُجِب عنه الإيمان ) . 20ـ قال ( عليه السلام ) : ( إنَّ المؤمِنَ أخُو المؤمن ، لا يَشتُمُه ، ولا يَحرمه ، ولا يسيء بِهِ الظَّنَّ ) . 21ـ قال ( عليه السلام ) : ( مَنْ أصَابَ مَالاً مِنْ أربع لم يُقبل منه في أربع ، من أصاب مالاً من غلول أو رِبَا أو خِيَانة أو سَرِقة ، لم يقبل منه في زَكَاة ولا في صَدَقة ولا في حَجٍّ ولا في عُمرة ) . 22ـ قال ( عليه السلام ) : ( شَرُّ الآباء مَنْ دَعَاهُ البِرُّ إلى الإفراط ، وشَرّ الأبناء من دعاه التقصير إلى العقوق ) . 23ـ قال ( عليه السلام ) : ( كَفى بالمرءِ عَيباً أن يتعرَّف مِن عُيوب الناس مَا يعمى عليه من أمر نفسه ، أو يَعيب الناس على أمر هو فِيه لا يستطيع التحول عنه إلى غيره ، أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه ) . 24ـ قال ( عليه السلام ) : ( إنِّي لا أكره أن يَكُون مقدار لسان الرجل فاضلاً على مقدار علمه ، كما أكره أن يكون مُقدار عِلمِه فاضلاً على مُقدار عَقله ) . |
الحياة العلمية والسياسية في زمن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أولاً : الحياة العلمية والثقافية : لقد أثرت الحياة السياسية وما سادها من قلق واضطرابات على الحياة العلمية تأثيراً سلبياً واضحاً ، ظهرت معالمه بكثير من الجمود والخمول في عصر الإمام الباقر ( عليه السلام ) . فالتيارات السياسية التي حَرَّفت الناس وتهالكت من خلالها البيوتات الرفيعة على الظفر بالحكم ، والطاقات البشرية والمالية استهلكت جميعها في حروب طاحنة ومذهلة . والنكبات الفظيعة التي مُنِيت فيها الأمّة ، وجرت عليها أفدح الخسائر المادية والبشرية . كل ذلك أثَّر على الحركة العلمية ، وجعلها تتردَّى ضموراً وانحلالاً . أما الحياة الثقافية في عصر الإمام الباقر ( عليه السلام ) فقد مَرَّت بحالة من الجمود ، وكانت ضحلة للغاية . لأنَّ معظم الناس من حُكَّام ومحكومين ابتعدوا عن الأخلاق النبيلة ، والمثل العليا التي جاء بها الإسلام ، وعادوا إلى جاهليتهم الأولى من عصبية قبلية ، وتفاخر بالآباء والأنساب . وكان الطابع العام للأدب في ذلك العصر هو التفاخر والتنابز ، ولم يكن يمثل وعياً فكرياً ، بل كُلّه شَرٌّ وضرر للناس جميعاً . ثانياً : الحياة السياسية : أصبحت الحياة السياسية بسبب التنازع الداخلي ، والعصبية القبلية المدمرة في ذلك العصر وضيعة وبشعة للغاية . فالفتن والاضطرابات عَمَّت بين الناس في البلاد ، وبدأت أحداث رهيبة ومفجعة أدَّتْ إلى فقدان الأمن ، وانتشار الخوف . ثم تطوَّرَت هذه الأحداث ، فقامت ثورات دامية ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء ، وهذا بلا ريب نتيجة السياسة الأموية الخاطئة ، التي كان كل هَمُّها تحقيق أهدافها الخاصة ، ومآربها الشخصية ، بعيداً عن مصالح شعوبها العامة . ونتج عن ذلك وجود أحزاب سياسية كل منها كان يسعى لتحقيق غاياته ، ونشر مبادئه ، التي تتعارض مع الأحزاب الأخرى . دورالإمام الباقر ( عليه السلام ) : أطلَّ الإمام الباقر ( عليه السلام ) على عالم مليء بالاضطرابات ، والفتن ، والأحداث الدامية . فنظر ( عليه السلام ) إلى الحياة من حوله ، فوجدها قد فقدت جميع مقوِّمَاتها ولم تعد كما أرادها الله في وحدتها ، وتطورها ، في ميادين العلم والعطاء . فلم يجد ( عليه السلام ) بُداً إلا أن يقوم بواجبه الشرعي لإعادة مَجْد الأمة الإسلامية ، ورَدِّها إلى الخط السليم ، وبناء كيانها الحضاري ، ولا يتم ذلك إلا عن طريق منائر العلم وصروح الفكر . فانصرف ( عليه السلام ) عن كل تحرك سياسي ، واتَّجه صوب العلم وحده ، متفرغاً له في عزلته في المدينة المنورة ، حصن الإسلام الأمين . وفي هذا الحصن المنيع كان يَخفُّ إليه العلماء من أعيان الأمة ، وسائر الأقطار ، للاستفسار والشرح والتحصيل . وكان مِمَّن وفد إليه العالم الكبير جابر بن يزيد الجعفي ، ومحمد بن مسلم الطائفي ، وأبو بصير المرادي ، وأبو حمزة الثمالي ، ووفود علمية تترى جاءت لتأخذ عنه ( عليه السلام ) العلوم والمعارف . وقد تميَّز الإمام ( عليه السلام ) بمواهب عظيمة ، وطاقات هائلة ، وعبقريات ضخمة من العلم ، شملت جميع أنواع العلوم ، وشَتَّى المعارف من فقه ، وعلم كلام ، وحديث ، وفلسفة ، وحِكَم إنسانية عالية ، وآداب أبديَّة سَامية . مضافاً إلى علم خاص زود به بأخبار عن أحداث قبل وقوعها ، ثم تحققت على مسرح الحياة . وفي زمنه ( عليه السلام ) حَمَلت بعض العناصر الحاقدة على الإسلام ، والباغية عليه إلى البلاد الإسلامية ، موجات من الكفر والإلحاد والزندقة . وقد أعرض الحكّام الأمويون عن ملاحقة دعاتها ، مما أوجب انتشارها بين المسلمين . وقد تصدَّى لها الإمام الباقر وولده الإمام الصادق ( عليهما السلام ) إلى نقدها وتزييفها . من ذلك ما عرض للإمام الباقر مع رجل مُلحِد ، حيث كان ( عليه السلام ) جالساً في فناء الكعبة ، فقصده رجل وقال له : هل رأيتَ الله حتى عبدتَه ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( ما كنتُ لأعبدَ شَيئاً لمْ أرَه ) . قال الرجل : فكيف رأيته ؟ أجاب ( عليه السلام ) : ( لم تره الأبصار بمشاهدة العيان ، ولكنْ رأته القلوب بحقائق الإيمان ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، معروف بالآيات ، منعوت بالعلامات . يجوز في قضيته ، بان من الأشياء ، وبانت الأشياء ، ليس كمثله شيء ، ذلك الله لا إله إلا هو ) . فلما سمع الرجل الجواب تفنَّدَتْ أوهامه ، واقتنع من كلام الإمام ( عليه السلام ) لأنه كلام واقعي ، مشرق ، مبني على جوانب التوحيد . فراح يقول : الله أعلمُ حيثُ يجعل رسالته فيمن يشاء . وخلاصة القول : إن العالم الإسلامي استمد من الإمام الباقر ( عليه السلام ) جميع مقومات نهوضه وارتقائه في المنهج الحضاري . ولم يقتصر المَد الثقافي والحضاري على عصره ، وإنما امتد إلى العصور التالية . وقد جاء ( عليه السلام ) لِيُكمِل رسالة أهل البيت ( عليهم السلام ) في تطور الحياة العلمية في الإسلام . |
الشبكة: أحد مواقع المجموعة الشيعية للإعلام الساعة الآن: 06:15 PM. بحسب توقيت النجف الأشرف |
Powered by vBulletin 3.8.14 by DRC © 2000 - 2025