لا أخفي عليك .. كانت طقوس الرحيل أكبر مما أتصور ,, و أعترف أنه كان أختباراً قاسياً تختبرني به الحياة ,, بل لربما هو من أقساها .. و لعل أقسى ما فيه أنني كلما نجحت فيه كنت أنا الخاسر الأكبر .. فآخر ما تخبؤه لي الدنيا هو عملية جراحية سيامية تجتثني من الجذور فتتركني اتلاشى في فراغ ليس ينتهي |
سأقول لهم أنك كنت هنا ,, تقفين على راحة يدي ,, تحفرين خطوط القدر على كفي ,, سأخبر النوارس البيضاء ,, و النهر القديم ,, أنني أنا من فتح لك أبواب الفضاء الكبير ,, و قال لك لا تنظري الا للنجوم ,, و أنا من كسر قيود الرعب في معصميك ,, و صنع أجمل ما في الدنيا من مرايا ,, و أهداك صورتك الجديدة عليها ,, فأعجَبَتْكِ ,, لربما لأنها كانت كهدايا أبيك الكبير ,, كبر الشفق في عين الصباح ,, و بصدق صباك بين يديه الدافئتين ,, سأقول لهم أنك وعدتني وعد الفجر ,, ووعد الغروب ,, ووعد السكون في الشجر ,, عندما ينتاب وحدتي شجون الحنين ,, ساعة السحر ,, وعدتني وعد الندى فوق الزهور ,, ووعد أحلام الصبا عند المطر ,, أنك مهما عصفت بك رياح الصقيع ,, لن ترحلين ,, لكنني في فورة الصخب تنتابني رغبة في سؤال السماء ,, و نافذتي عندما أنظر الى القمر هل حقاً يأتي يوم فتقتلعين جذورك من على خطوط يدي و تأخذين أخر ما على وجهي من قطرات مطر هل سوف يأتي يوم فترحلين ..؟؟... و أقول لهم في قرارة قلبي,, أنك كنت هنا يوماً ؟؟!!! |
يا صديقي .. تعلم من الغمامة البيضاء ,, كيف تحلق على كتف الريح ,, فتلون جبين السماء,, و تأبى أن تنظر إلا الى رؤوس الجبال ,, و لا تهبط أبداً ,, الا مطرا |
سأقول لهم أنك كنت هنا و شهقات الرحيل بين أضلعي ,, تقتل في نبضي الف صباح والف قطار انتظره عند محطات العمر.. سأقول لهم أنك كنت هنا بين أوراقي ,, ترتشفين دمائي من فوق أحرفي و استراحة محارب بين كفيك .. تمنحني دفئاً في قلب الزمهرير و تأخذ الجفن من يقظتي ,, فترميني في عين السبات حتى مطلع الفجر .. تخبرني حكايا الليل من عينيك أنني قدر الورد ,, و قدر الشذى و قدر الجنان في خديك و انتفاضة النبض في أوردة السنين و أني أحمل من عالم الماضين صدق أباك ,, و ابتسامة أخاك و ارتعاشة الندى على أكف الياسمين سأقول لهم أنك أقسمت بالثريا بالشفع و الوتر و ليال عشر بأولادنا .. بأحلى أقمارنا أنك لن تتركي نبضي دون وريد أسكبه على سبيل الانتظار كل غروب .. على قارعة الطريق .. و أعلم أن الخريف الذي أرتحل ,, بأحلى أوراق العمر لن يعود بها من جديد .. ما كان أقصر ساعاته كأنها لحظات مرت بين أصابع يدي كنسمة صيف تجتاحني تتحدى كبريائي ,, و رجولتي ,, و يقظة الحزن في قرارة نفسي ,, و تلقي بي وحيداً ,, في لهوات التيه ,, من جديد ,, سأقول لهم أنك كنت هنا ,, و أنك وعدت بألف قديس أنك لن ترحلين .. سأقول أنني كنت أحلم و أغمض عيني عليك و أحاول أن لا أصحو ثانية فأجدك قد رحلت. |
سأقول لهم أنك كنت هنا ... لكن قبل سنين |
سأقول لهم أنها كانت هنا .. و أنها لا تزال .. لكنها لم تعد كما كانت.. الدار بعدها لم تعد كما كانت النهر القديم بعدها لم يعد كما كانت و النوارس البيضاء بعدها لم تعد كما كانت و الدنيا بعدها لم تعد كما كانت هي لا تزال هنا في كل مكان في كل زاوية من زوايا المنزل في عتمة الغروب على سعف النخيل و في أحمرار الغسق لكنها مجرد خيال وحلم ضاع في صباه و روعة أمنية تلاشت ,, ساعة نشيج المطر سأقول لهم ,, أنها شقشقة قلب ,, عزيز على قلبي ,, هدرت و ماقرت |
يا صاحبي .. نصيحة لن تجد مثلها صدقا .. حطم جميع المرايا التي لا ترى وجهك فيها لأنها بكل بساطة تسلب منك ذاتك ,, و ما يسلب ذاتك يقتلك ,, و أن أقسم برب العرش العظيم ,, بأنه أحبك |
خمسة عشر عاماً في عمر الزمان ,, مرت يا صاحبي ,, كطيف تحمله الرياح ,, الى شرفات وردية ,, بعيدة خلف المغيب .. لا تزال لحظات الانتظار ,, تغترف من قلبي عمراً ,, و تزرع في نفسي ملامح الحزن القديم .. لازال نهرنا العتيق ,, كأنما لم تمسسه يد الخريف ,, و النوارس البيضاء ,, تحلق عبر آفاق الصخب ,, تعانق هدهدات الموج على ضفتيه .. و لا زلت أنا ,, كما عرفتني,, قبل خمسة عشر عاماً ,, أمر كل يوم من نفس الطريق ,, و أنظر الى مسافة اللقاء ,, كأنها جسر التنهدات .. لا زالت معالم المكان من حولي كما هي ,, أعرفها كما أعرف ملامح يدي ,, أتفقدها كل يوم ,, أبحث عنك فيها ,, دون جدوى .. فأعول النفس ,, بذكرى ,, إنها على الاقل كانت هنا .. |
في مقادير المواعيد ,, موعد لي كل عام مع النوارس البيضاء على ضفاف نهري القديم ,, تعصف بالغروب من أمامي عيني ,, و تخرق هدأة المغيب ,, تجرحني بأجنحة الرحيل ,, تحفر على أضلعي متاهات الدروب ,, و تزجرني أن أصرخ متوجعاً ,, كي لا أجرح شعور الغربان في أعشاش الخمول ,, تنتحر على صدري ألف مرة و تحيا ,, و تنتحب فوق خطوط يدي ,, ومن بعد استفاقة الدمع تبتسم ,, و تقسم بالخنس الجوار الكنس أنها تحمد الله الذي أخرجها من صحراء التيه ,, ثم تعود لتزجرني من جديد ,, أن أنطق بآهة أحتضار ,, كي لا أقلق نوم طائر الفينيق .. |
وكأني أرى وجعاً يلفظُ دفء الضلوع .. !
|
الشبكة: أحد مواقع المجموعة الشيعية للإعلام الساعة الآن: 11:18 PM. بحسب توقيت النجف الأشرف |
Powered by vBulletin 3.8.14 by DRC © 2000 - 2024