![]() |
نبذة من السياسة الحسينية
|
بحث مستلّ من كتاب (نبذة من السياسة الحسينية) للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ره) ـ من مراجع التقليد وكبار الفقهاء المعاصرين ـ نشر في مجلة تراثنا العدد المزدوج 79ـ80 ـ رجب 1425 ـ مؤسسة آل البيت(ع) لإحياء التراث ـ قم. بسم الله الرحمن الرحيم نبذة من السياسة الحسينية كَتَبْتَ إليَّ أيّها الفاضل(1)ـ مدّك الله منه بالعون والعناية ـ تذكر سؤال الناقد المشكّك عن الحسين(ع) إذا كان عالماً بقتله في خروجه إلى كربلاء وسبي عياله، فقد عَرَّضَ بِعِرْضِهِ إلى الهتك. وأنّك أجبت: بـ «أنّ الهتك فيه مزيد شناعة لأعمال الأُمويّين لم تكن تحصل بقتله فحسب»، وذكرت أنّ المشكّك لم يقنع بهذا الجواب، وطلبت منّا جليّ البيان ليقف المشكّك على صراط الاعتقاد. فنقول والله المستعان: أوّلاً: إنّ هذا السؤال وأمثاله من البحث والنظر الذي يتمخّض عن الاعتراض والتحدّي لأعمال الأئمّة، بل ولأعمال رسول الله وخلفائه المعصومين سلام الله عليهم، لا موقع له على أُصول مذهبنا معشر الإمامية، الّذين قادنا الدليل والبرهان إلى القول بعصمة أُولئك النفر المخصوص(2). فليس عندنا في مناهجهم الخاصّة، وأعمالهم التي تصدر عنهم طول حياتهم بين البشر، إلاّ كمثل رَجُل عَرَفَ مِنْهُ المَلِكُ تمام الكَفاءَةِ، وأحْرَزَ مِنْهُ صِدْقَ الطاعةِ، فأرسلَه سفيراً إلى قوم، يَبُثُّ بينهم الدعاية، ويقوم فيهم بالإرشاد والهداية، وزوّده بمناهج مخصوصة، وألزمه أن لا ينحرف عنه قيد شعرة. ولكلّ واحد من الأنبياء والأئمّة سجلٌّ خاصٌّ به، من بدء قيامه بالسفارة والدعوة إلى منتهى أجله، حسب المصالح ومناسبات الظروف الخاصّة، والحِكَمِ التي اقتضت لذلك المَلِك الحَكيم أن يسجّلها على ذلك السفير، مِن قتل، أو سمّ، أو أسر، أو غير ذلك من قضايا التضحية والمفاداة. وعبء السؤال وعبء البحث عن تلك الحِكَم والأسرار مطروحٌ عن الرعية، وهو تكلّفٌ زائد، بل ربّما يكون نفس السفير غير واقف عليها تماماً، إنّما يجد في سجلّ أحواله: عليك أن تبذل نفسك للقتل في الوقت الفلاني ; فيقول: سمعاً وطاعة ; وليس له حقّ السؤال والمراجعة عن الحكمة أو المصلحة بعد أن كان من اليقين على مثل ضوء الشمس أن قضايا ذلك الحَكَم(3) وعزائِمَهُ كُلُّها مُنبَعِثَةٌ عن أقصى ما يمكن من الصلاح ومعالي الحكمة، ليس في الإمكان أبدع ممّا كان. وكلّ هذه النظريات سلسلة عقائد يبتني بعضها على بعض، وكلّها مدعومة بالحجّة والبرهان ممّا تمخّضت عن عقول الفلاسفة وآراء الحكماء من معاهد العلم والتأريخ، وكلّها فروع أصل واحد، ينتهي إليه البحث والجدل، وتنقطع عن الخصومة. وما هو إلاّ إثبات العناية الأزلية والقوّة القاهرة الشاعرة، وأنّها هي المدبّرة لهذه العوامل، لا الطبيعة العمياء والمادّة الصمّاء الفاقدة للحسّ والشعور، وبعد إثبات تلك العناية ورسوخ الاعتقاد بها يهون ويسهل إثبات ما يتفرّع عليها من تلك النظريات. وأنّ مِنْ لازم تلك العناية، بعث الهُداة والمُرشدين البالغين أقصى مراتب الكمال البشري ; لتكميل الناقصين من بني جنسهم، ولا يتسنّى التكميل والاهتداء إلاّ بالتسليم والانقياد لهم، واليقين بعصمتهم عن الخطأ والخطيئة، وأنّهم مؤيدون بتلك العناية. وبعد الإلزام بكلّ هاتيك المبادئ عن براهينها، لا يبقى مجال للشكّ والارتياب، والنقد والاعتراض في شيء من أعمالها مهما كانت في الفظاعة والاستنكار في مطارح العقول المحدودة والأفكار المحجوبة. {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (4). ولعلّ إلى ذلك أشاروا سلام الله عليهم بقولهم ـ إنْ صحّ الحديث ـ: « نحن أسرار الله المودعة في هياكل البشرية ; يا سلمان! أنزلونا عن الربوبية ثمّ قولوا فينا ما استطعتم، فإنّ البحر لا ينزف، وسرّ الغيب لا يعرف، وكلمة الله لا توصف، ومن قال هناك: لِم؟ وممَّ؟ وبمَ؟ فقد كفر »(5). ولعلّ المراد بالكفر معناه الأوّل، وهو الظلام.. … *** إنْ صحّ أنّ الليلَ كافِرْ(6) يعني: إنْ تعرّضَ لتلك الاعتراضات فقد ظَلمَ وأظلمَ كمن خاض في لُجّ من الظلمات. وما ذكرتُ هذ النبذة إلاّ للإشارة إلى جواب ذلك السؤال من الوجهة الدينية محضاً، وإن كنت أعلم أنّ ذلك ممّا لا يُعَوِّل عليه المشكّك الناقد، ولا يعتدّ به المُعْتَرِضُ المُتَحَيِّر، سيّما لو كان ممّن لا يعرف الحسين(ع) كما تعرفه علماء الشيعة وخواصّها، إماماً معصوماً لا يتطرّق إليه العبث والعيث(7)، فضلا عن الغلط والاشتباه، بل غاية ما يقول فيه أنّه من عَلِيّةِ الرجال وأفاضلهم، نسباً ونفساً وشجاعة وبراعة، لكن لا يمنع كُلُّ ذلك مِنْ أنْ يجري عليه ما يجري على غيره مِن نوابغ الدهر، وأفذاذ البشر، من الصواب تارة، والخطأ أُخرى، والاستقامة أحياناً، والالتواء حيناً، وكرم سجاياه وعظم مزاياه لا يقع سدّاً بين العقول وبين النقد عليه في بعض سيرته وسياسته، إن لم يكن في كلّها ; والكمال لله. وحينئذ فلنفرض الحسين(ع) ـ كما يفترضه السائل ـ زعيماً من الزعماء يرى نفسه بما أُوتي من شرف الحسب والنسب أَوْلى بالخلافة من يزيد(8)، وأحقّ بالمُلكِ منه، ولا جرم أنّه يبذل كلّ ما في وسعه لاستعادة ذلك الحقّ المغصوب منه ومن أبيه. الهوامش ----------- (1) هو الشيخ عبد المهدي بن عبد الحسين مطر، كتب رسالة الى الشيخ (ره) حول بعض المشككين، جاء فيها: ... يسأل المشكّك أو الناقد عمّا إذا كان الحسين(ع) عالماً بقتله في خروجه إلى (كربلاء) وسبي عياله، فقد عرَّضَ بعِرْضِهِ إلى الهتك، وليس في تعريضه هذا شيء من الحسن العقلي المعنوي يوازي قبح الهتك، وكُنْتُ قد أجبتُ: أنّ الهتك فيه مزيد شناعة لأعمال الأُمويّين لم تكن تحصل بقتل الحسين(ع) فحسب، وكانت الغاية للحسين(ع) في خروجه إطفاء نائرة الأُمويّين، والبروز في المظلومين بكلّ مظاهرها، من قتل، وحرق، وسبي. غير أنّ المشكّك لم يقنع أن تكون وسائل الإطفاء قد قلّت على الحسين(ع) وهو بذلك المظهر الديني، حتّى احتاج إلى عرض عائلته على الهتك...(المصحح). (2) راجع مباحث الإمامة في: دلائل الصدق 4 / 205 وما بعدها. (3) كذا في الأصل، والظاهر أنّه تصحيف: « الحكيم »، بقرينة: « الملِك الحكيم » التي جاءت قبل عدّة أسطر. (4) النساء: 65. (5) اللمعة البيضاء ـ للتبريزي ـ : 64 ـ 65 عن معاني الأخبار، الأنوار اللامعة في شرح الزيارة الجامعة ـ للسيّد عبد الله شبّر ـ : 201. (6) عجز بيت من قصيدة للشاعر بهاء الدين زهير، المتوفّى 656 هـ، وتمامه في الديوان، ص 156: لي فيكَ أجرُ مجاهِد * إنْ صحَّ أنّ الليلَ كافِرْ والكَفر ـ لغةً ـ : ستر النعمة، وأصله الكَفر ـ بالفتح ـ ; أي: الستر، ومنه سُمّيَ المزارع كافراً لستره البذر، وقيل: الليل كافر ; لأنّه يستر بظلمته كلّ شيء، وكَفَر الليلُ الشيءَ، وكَفر عليه ; بمعنى غطّاه. انظر: تفسير الطبري 1 / 143، فيض القدير في شرح الجامع الصغير 1 / 22، لسان العرب 12 / 120 مادّة « كفر »، تاج العروس 7 / 452 مادّة « كفر ». (7) العَيْثُ: مصدر عاثَ يعيثُ عَيثاً وعُيوثاً وعَيثاناً: أفسد وأخذ بغير رفق، وقيل: هو الإسراع في الفساد. انظر: لسان العرب 9 / 491 مادّة « عيث ». (8) هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وُلد سنة 22 وقيل سنة 27 هجرية، ثاني ملوك الدولة الأُموية، ترعرع في تدمر فنشأ نشأة بدوية، وكان دائم الشغل بالصيد والعبث واللهو والشراب، يدخل المغنّين إلى قصر معاوية « الخضراء » في جوف الليل مع علم معاوية. أُمّه: ميسون بنت بحدل بن حنيف الكلبية، و « كلب » قبيلة كانت نصرانية، أسلمت بعد الفتح الإسلامي للشام. كان يزيد أوّل من سنّ الملاهي في الإسلام، وآوى المغنّين، وأظهر الفسق وشرب الخمر، وكان ينادم عليها جون ـ مولاه ـ والأخطل الشاعر، وظهر الغناء بمكّة والمدينة في أيّامه، وأظهر الناس شرب الشراب، وكان يفعل فعل المجوس من نكح الأُمهات والمحارم، ويتّخذ الغلمان والقيان. ذكر المؤرّخون أنّه أمر مسلم بن عقبة باستباحة المدينة ثلاثة أيّام في وقعة الحرّة، وقتل أهلها الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ وحتّى بقيّة صحابة رسول الله(ص). وأمر أيضاً الحصين بن نمير بإحراق الكعبة بالمنجنيق ورميها بالنار والحجارة حتّى هدّمت وأُحرقت البنية. إضافة إلى كلّ هذه الأفعال الشنيعة، فإنّه ارتكب جريمة يندى لها جبين البشرية ووجه التاريخ إلى يوم القيامة، ألا وهي جريمة قتل سبط النبيّ(ص) وسيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب (ع) وأخذ عياله ونسائه سبايا، فهذه الجريمة النكراء هي وحدها كافية بأن تخرج يزيد اللعين من الدين والملّة. انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 4 / 212، أنساب الأشراف 5 / 299 ـ 376، الإمامة والسياسة 1 / 234 ـ 239 و ج 2 / 5 ـ 17، تاريخ اليعقوبي 2 / 154 ـ 168، تاريخ الطبري 5 / 623، الفتوح ـ لابن أعثم ـ 3 / 180 ـ 188، البدء والتاريخ 2 / 241 ـ 244، العقد الفريد 3 / 362، مروج الذهب 3 / 67 ـ 72، الأغاني 8 / 336، البداية والنهاية 8 / 181 ـ 189. وللمزيد من التفصيل راجع: كتاب « يزيد في محكمة التاريخ » لجواد القزويني. |
|
أروع مقطع في الرسالة
مرّ على الحسين عشرون عاماً ـ مدّة خلافة معاوية ـ ما ذاق فيها طعم الخضوع والاستكانة، حتّى إذا هلك معاوية وامتنع عن البيعة ليزيد، ورأى من السداد الهجرة عن المدينة ; ليعرف العالم الإسلامي امتناعه عن البيعة، فخرج من المدينة بأهل بيته قاصداً مكّة، ولزم الطريق الأعظم ( الدرب السلطاني )، فقيل له: « لو تنكّبت الطريق كما فعل ابن الزبير؟ |
وهناك وجه ثالث لحمل العيال، وهو: كما كانت العرب عليه من أنّهم إذا أرادوا أن يستميتوا في الحرب، ويصبروا للطعن والضرب، جعلوا الحريم خلفهم، واستقبلوا العدوّ، فأمّا الحتف أو الفتح، ويستحيل عندهم النكوص أو الفرار، وترك الحريم للذلّ والإسار، ويشهد لهذا عدّة وقائع لا تغيب عن الضليع في تاريخ العرب(38)، عليه حَمَلَ العيال كي يستميت أصحابه دونها، وينالوا درجة السعادة بالشهادة كما فعلوا. |
أليس زين العابدين(ع) مع أنّه عليل أسير ـ والأسير لا يُقتل ـ قد أمر ابن زياد بقتله لجواب خفيف وقول طفيف، فإنّ ابن زياد بعد أن فرغ من تحدّي زينب وأخرجته بقوّة العارضة والبيان من الميدان مكعوماً(49)بالخزي والخذلان التفت إلى زين العابدين، فقال: « من هذا؟! |
|
|
|
الشبكة: أحد مواقع المجموعة الشيعية للإعلام الساعة الآن: 04:58 PM. بحسب توقيت النجف الأشرف |
Powered by vBulletin 3.8.14 by DRC © 2000 - 2025