|
شيعي حسيني
|
رقم العضوية : 44141
|
الإنتساب : Oct 2009
|
المشاركات : 7,088
|
بمعدل : 1.25 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
ghada
المنتدى :
منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
بتاريخ : 27-06-2010 الساعة : 10:56 PM
يتبع مع أبيها علي عليه السلام
طبيعي أن تنشد البنت لأبيها وتتعلق به ، وخاصة اذا ما فقدت البنت أمها فسيصبح أبوها حينئذٍ هو المنبع الوحيد للعاطفة والحنان والرعاية تجاهها .
وفي علاقة السيدة زينب بأبيها علي بن أبي طالب هناك عامل اضافي يتمثل في الصفات والسمات النفسية والأخلاقية التي يتمتع بها الإمام علي والتي تفرض حبّه وعشقه واكباره على كل من التقى به أو عاشره أو سمع عنه .
بل إن أي واحدة من سوابقه ومناقبه لحرية باخضاع النفوس والقلوب لمكانته وجلالته كما يقول أبو الطفيل :
قال بعض أصحاب النبي : لقد كان لعلي من السوابق مالو أن سابقه منها بين الخلائق لو سعتهم خيراً (1) .
ومن عرف علياً أو تعرف عليه فلم يهيمن حب علي على قلبه فذلك دلالة على انحراف في طبعه وخلل في ذاته .
____________
(1) ( أسد الغابة في معرفة الصحابة ) ابن الاثير ج 3 ، ص 598 .
وهل يكره الخير عاقل ؟ ! أو هل يبغض النور سويّ ؟ لذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للإمام علي : « لا يحبّك الا مؤمن ولا يبغضك الا منافق » (2) .
وقال أبو سعيد الخدري : كنا نعرف المنافقين ـ نحن معاشر الأنصار ـ ببغضهم علي بن أبي طالب (3) .
وحتى ألدّ خصومه وأعدائه معاوية بن أبي سفيان لم يستطع كتمان اعجابه بشخصيته ( عليه السلام ) حيث قال لما بلغه قتله :
ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب .
فقال له اخوه عتبة : لا يسمع هذا منك أهل الشام ؟ .
فقال له : دعني عنك (4) .
وحينما وصف ضرار بن ضمرة شخصية الإمام علي بمحضر معاوية بعد وفاة الإمام بكى معاوية ووكفت دموعه على لحيته ما يملكها ، وجعل ينشفها بكمّه ، وقد اختنق القوم بالبكاء ، وقال معاوية :
رحم الله أبا الحسن والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال : حزن من ذبح ولدها بحجرها فهي لا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها (5) .
واذا كانت شخصية علي تأسر حتى قلوب أعدائه فضلاً عن أصحابه وأتباعه فما هو مدى تأثير شخصيته على ابنته القريبة منه والمتعلقة به ؟ .
____________
(2) المصدر السابق ص 602 .
(3) المصدر السابق ص 607 .
(4) ( أئمتنا ) علي دخيّل ج 1 ، ص 91 .
(5) المصدر السابق ص 92 .
نحاول في السطور التالية أن نقتطف من ذاكرة التاريخ ما سجلته من صور ولقطات عن تلك العلاقة الإيمانية الانسانية الحميمة بين السيدة زينب وابيها الإمام ( عليهما السلام ) ، لنرى كيف عاشت السيدة زينب في ظل أبيها :
الحفاظ على مهابة زينب وصونها :
حدّث يحيى المازني قال : كنت في جوار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في المدينة مدة مديدة وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته ، فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتاً ، وكانت اذا أرادت الخروج لزيارة جدها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تخرج ليلاً ، والحسن عن يمينها ، والحسين عن شمالها ، وأمير المؤمنين أمامها ، فاذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأخمد ضوء القناديل .
فسأله الحسن مرة عن ذلك ؟ .
فقال : أخشى أن ينظر أحد الى شخص أختك زينب (6) .
سيدة بيت أبيها تزوج الإمام علي ( عليه السلام ) بعد فقد الزهراء ( عليها السلام ) أكثر من زوجه ، لكن أياً من زوجاته لم تكن لتأخذ مكان السيدة زينب وموقعها في بيت أبيها فهي سيّدة البيت بما تمثله من امتداد لأمها الزهراء وبما تمتلكه من صفات ومؤهلات ، وبما تتمتع به من محبة واحترام متبادل مع أبيها وأخويها الحسنين .
____________
(6) ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 22 .
وحتى بعد زواجها بابن عمها عبدالله بن جعفر فإنها لم تنقطع عن بيت أبيها ، ولم تشغلها التزاماتها الزوجية والعائلية عن أداء دورها المميز في بيت علي .
يقول السيد بحر العلوم : ورغم أن زينب عاشت في بيت الزوجية ، لكن الزواج لم يشغلها عن تحمل مسؤليات بيت أبيها علي ، فهي بنت الزهراء ، وحفيدة خديجة ، وتحمّل المسؤلية من خصال ربّات هذا البيت . وزينب عقيلة بني هاشم ، وسيدة البيت العلوي ، وزعميت القوم ، رغم أنها تزوجت ، وانتقلت الى بيت ابن جعفر الا أنها لم تتخل عن المسؤولية ، لتدير بيت أبيها ، وتهتم بشؤون أخويها ، وتصبح المسؤولة عنهم أولاً وآخراً (7) .
وتقول بنت الشاطيء : ولم يفرق الزواج بين زينب وأبيها واخوتها ، فقد بلغ من تعلق الإمام علي بابنته وابن أخيه أن أبقاها معه ، حتى إذا ولي أمر المسلمين وانتقل الى الكوفة ، انتقلا معه ، فعاشا في مقر الخلافة ، موضع رعاية أمير المؤمنين واعزازه ، ووقف عبدالله بجانب عمه في نضاله الحربي ، فكان أميراً بين أمراء جيشه في صفين .
وعرف الناس مكانة عبدالله من بيت النبوة ، فكانوا يلتمسون لديه الوسيلة الى أمير المؤمنين ، والى ولديه الحسن والحسين ، فلا يردّ له طلب ولا يخيب رجاء .
جاء في ( الأصابة ) ( ج 4 ص 48 ) نقلاً عن محمد بن سيرين : أن دهقاناً من أهل السواد كلّم ابن جعفر في أن يكلم علياً في حاجة ، فكلّمه ، فقضاها ، فبعث اليه الدهقان أربعين ألفاً فردّها قائلاً : إنا لا نبيع معروفاً (8) .
____________
(7) ( في رحاب السيدة زينب ) بحر العلوم ص 37 .
(8) ( السيدة زينب ) عائشة عبد الرحمن بنت الشاطيء ص 50 .
في موكب أبيها الى الكوفة :
بعد أن اختارته جماهير الأمة حاكماً وخليفة ، وبايعه الناس برغبتهم واختيارهم ، وبشكل لا شبيه له في تاريخ المسلمين ، وذلك في شهر ذي الحجة سنة ( 35 هـ ) في أعقاب مقتل الخليفة عثمان بن عفان .
قرر الإمام علي الأنتقال الى الكوفة لمواجهة التطورات السياسية حيث نكث بعض مبايعيه بيعته كطلحة والزبير واستقطبوا معهم السيدة عائشة زوج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واتخذوا البصرة بؤرة لتمردهم عليه ، كما كان معاوية يعبّيء أهل الشام ضدّ خلافة الإمام .
وكان الإمام مدركاً لما ينتظره من أوضاع خطيرة في عاصمة خلافته الجديدة « الكوفة » ولكنه قرّر أن يصطحب معه ابنته زينب ، فهو يريدها الى جانبه في الظروف الحساسة والحرجة ، وهي تصعب عليها مفارفة أبيها والابتعاد عنه .
وهكذا ودعت السيدة زينب مسقط رأسها ومرتع طفولتها ومثوى جدّها وأمها المدينة المنورة ورافقت اباها في رحلته الى الكوفة بمعية زوجها عبدالله بن جعفر .
ويصف الشيخ النقدي ظروف سفر السيدة زينب في موكب أبيها بقوله : سافرت زينب هذه السفرة وهي في غاية العز ، ونهاية الجلالة والأحتشام يسير بها موكب فخم رهيب من مواكب المعالي والمجد ، محفوف بأبّهة الخلافة ، محاط بهيبة النبوة ، مشتمل على السكينة والوقار ، فيه أبوها الكرار أمير المؤمنين ، واخوتها الحسنان سيدا شباب أهل الجنة ، وحامل الراية العظمى محمد بن الحنفية ، وقمر بني هاشم العباس بن علي ، وزوجها الجواد عبدالله بن جعفر ، وأبناء عمومتها عبدالله بن عباس ، وعبيد الله وأخوتهما ، وبقيّة أبناء جعفر الطيار ، وعقيل بن أبي طالب ، وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وأتباعهم من رؤساء القبائل ، وسادات العرب مدجّجين بالسلاح ، غاصّين في الحديد ، والرايات ترفرف على رؤوسهم ، وتخفق على هاماتهم ، وهي في غبطة وفرح وسرور (9) .
مدرستها العلمية :
لم تكن دار علي في الكوفة مجرد مركز للسلطة والحكم ، ولا كان وجوده الشريف منحصراً في شخصيته ودوره كحاكم وقائد ، بل كانت داره مركز اشعاع للمعرفة والفكر ، وكان دوره في التوجيه الروحي الفكري لا يقل عن دوره في الزعامة السياسية الإجتماعية .
ولكي تنتشر المعرفة في جميع أوساط المجتمع ، وحتى لا يحرم أحد من حقه في الثقافة والوعي ، عهد الإمام علي الى ابنته العقيلة زينب أن تتصدى لتعليم النساء وأن تبث المعرفة والوعي في صفوفهن .
فكانت العقيلة زينب تفسر لهنّ القرآن الكريم ، وتروي لهنّ أحاديث جدها المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) وأخبار أمها الزهراء ( عليها السلام ) وتوجيهات أبيها المرتضى ( عليه السلام ) .
فقد ورد أنه كان لها مجلس في بيتها أيام اقامة أبيها ( عليه السلام ) في الكوفة ، وكانت تفسر القرآن للنساء ، وقد دخل عليها أبوها ذات يوم وهي تفسر بداية سورة الكهف وسورة مريم ( كهيعص ) (10) (11) .
____________
(9) ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 92 .
(10) سورة مريم ، الآية ( 1 ) .
(11) ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 36 .
من بيتها انطلق إلى الشهادة:
لقد واكبت السيدة زينب حوالي ثلثي عمر أبيها وحياته فحينما ولدت في السنة الخامسة للهجرة كان عمر أبيها ( 28 سنة ) ، وعاصرته وهو يتقلب بين المعارك والحروب في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم عايشت معه مصيبة فقد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والأحداث التي تلتها ، من مصادرة حقه في الخلافة ، ومن ثم انعزاله وانكفاؤه لفترة في منزله وخاصة عند فقد شريكة حياته الزهراء ( عليها السلام ) ، ورافقت أباها حينما تولى الخلافة والحكم وصحبته الى الكوفة وبالتالي عايشت الظروف الصعبة القاسية التي مرت بأبيها فترة السنوات الخمس ، من تمرد الناكثين والمارقين والقاسطين ، حيث اضطر الإمام علي لخوض ثلاث معارك مؤلمة :
1 ـ معركة الجمل :
حيث تحالفت السيدة عائشة بنت أبي بكر زوج رسول الله مع طلحة بن عبد الله التيمي ، والزبير بن العوام ابن عمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، تحالفت معهما للتمرد على سلطة الإمام علي وكانا قد بايعاه ، فسارت معهما الى البصرة تحرّض الناس ضد الإمام وتدعوهم لقتاله تحت شعار المطالبة بدم الخليفة عثمان ، واحتشد معها ثلاثون ألف مقاتل ، وقد سعى الإمام وحاول التفاوض والحوار معهم لاعادتهم الى جادة الحق والشرعية لكنهم أصرّوا على القتال والمواجهة ، فزحف اليهم الإمام علي في عشرين ألف مقاتل ، ودارت بين الطرفين معركة حامية الوطيس تكشفت عن سقوط حوالي ( 18 ألف قتيل ) ، ( 13 ألف من أصحاب الجمل ) ، و ( 5 آلاف من أصحاب علي ) ، وقتل طلحة والزبير في المعركة ، وعقر الجمل الذي كانت تمتطيه عائشة وسميت المعرك بإسمه .
وكان ذلك في يوم الخميس العاشر من جمادي الثانية سنة ( 36 هـ ) .
2 ـ معركة صفين :
من عهد الخليفة عمر بن الخطاب كان معاوية والياً على الشام ، وقد ازداد نفوذه وصلاحياته أيام ابن عمه الخليفة عثمان بن عفان ، وقد علم أن الإمام علياً لن يقره على منصبه ، ولن يفسح له المجال ليلعب كما يحلو له وكما كان في العهد السابق ، اضافة الى ما يعتمل في نفسه من حقد وعداء للإمام علي ، لذلك رفض بيعة الإمام وأعلن التمرد وشجعه على ذلك ما أقدمت عليه عائشة وطلحة والزبير ، فعبأ أهل الشام وما حولها وقاد منهم جيشاً لجباً يبلغ عدد مقاتليه ( 85 ألف جندي ) .
وزحف معاوية بجيشه الى منطقة يقال لها صفين قرب الرقة حيث استقبله الإمام بجيش قوامه تسعون ألفاً ، ولم تجد محاولات الإمام في الموعظة والارشاد والتفاوض والحوار شيئاً ، لذلك نشبت المعركة في أول يوم من ذي الحجة سنة ( 36 هـ ) أي بعد حوالي خمسة أشهر من معركة الجمل ، وانتهت في ( 13 شهر صفر ـ سنة 37 هـ ) عبر قضية التحكيم المشهورة ، وبعد أن تساقط من المسلمين ( 70 ألف قتيلاً ) ، و ( 45 ألف من جيش معاوية ) ، و ( 25 ألفاً من معسكر الإمام علي ) من بينهم خيار أصحاب الإمام وأحبته كعمار بن ياسر وهاشم المرقال .
3 ـ معركة النهروان :
لقد قبل الإمام علي بالتحكيم بعد رفع المصاحف من قبل أهل الشام مضطراً لرغبة أكثرية أتباعه في ذلك ، لكن طائفة من جيشه غيّروا رأيهم بعد ذلك ورأوا أن القبول بالتحكيم كان خطأ كما هو رأي الإمام علي في البداية ، وطالبوا الإمام بالتراجع ونقض نتيجة التحكيم والأعتراف بأنه كان مخطئاً في موقفه ، وشكلوا لهم تجمعاً مضاداً منشقاً على الإمام ، وبدأوا يثيرون الفتنة ويمارسون الإرهاب ، فبعث لهم الإمام الرسل والوسطاء المفاوضين حتى يرتدعوا عن غيهم ورد على اشكالاتهم وشبههم مراراً في خطبه وأحاديثه ، فلما أصروا على البغي وممارسة الأرهاب زحف عليهم الإمام بجيشه في منطقة النهروان بين بغداد وحلوان ، وكانوا أربعة آلاف رجل ، تراجع منهم ألف ومائتان بعد خطب الإمام ومحاولاته لهدايتهم ، أما الباقي فقد بادروا الى الحرب ورموا معسكر الإمام بالنبال ، فحمل عليهم الإمام بجيشه وأبادهم ولم يفلت منهم الا أقل من عشرة أشخاص .
وتُعرف هذه الواقعة بواقعة الخوارج ، وقد حصلت بعد شهور قلائل من انتهاء واقعة صفين وفي نفس سنة ( 37 هـ ).
لقد كانت هذه المعارك مؤلمة جداً لنفس الإمام وموجعة لقلبه ، انه كان يحمل للأمة منهج إنقاذ وخلاص ، ويخطط لتطبيق العدل والمساواة والحرية ، وأن يكمل مسيرة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) في بناء خير أمة أخرجت للناس ، لكن الأنتهازيين والمصلحين والحاقدين والجهلاء عرقلوا برنامجه الطموح ووضعوا العقبات الكأداء في طريقه اللاحب ، وأضاعوا على الأمة والبشرية جمعاء فرصة ذهبية تاريخية .
وأصبح علي يقلّب كفيه حسرة على واقع الأمة المؤسف ، ويجتّر آهاته وآلامه لفقده خيرة أصحابه في تلك المعارك المفروضة عليه ، ولما أصاب معسكره وجمهوره من تعب وتردد وتقاعس ، ولممارسات معاوية الأستفزازية التخريبية بغاراته على البلدان الخاضعة لحكم الإمام .
ولم تكن السيدة زينب بعيدة عن الآم أبيها ومعاناته ، فهي تسمعه أو يبلغها عنه ما كان يخطب به جمهوره على منبر الكوفة ، وهو يصرخ فيهم موبّخاً معاتباً يستثير همهم ويستنهض حميتهم قائلاً :
« يا أشباه الرجال ولا رجال ! .
حلوم الأطفال ، عقول ربّات الحجال ! .
لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرّت ندماً ، وأعقبت سدما ! .
قاتلكم الله ! .
لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً ، وجرّعتموني نُغَبَ التهمام أنفاساً ، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان . . » (29) .
ويأتيه خبر احدى غارات معاوية وعبثه وفساده في منطقة الأنبار ، فيمتلئ قلبه حزناً وألماً لما أصاب الناس الآمنين من بطش جيش معاوية ، ويتمنى الموت ولا يراه كثيراً أمام تحمل هذه الآلام والمأسي ، وتسمع زينب اباها وهو يبث همومه ومعاناته قائلاً :
« ولقد بلغني أن الرجل منهم ـ من جيش معاوية ـ كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة ، فينتزع حجلها وقلبها ، وقلائدها ورعثها ، ما تمتنع منه الا بالاسترجاع والاسترحام .
فلو ان امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديرا ! .
فياعجباً ! عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم » (30) .
ويبلغها عن أبيها موقفه على مصارع خلّص أصحابه في صفين كعمار بن ياسر
____________
(29) ( نهج البلاغة ) الإمام علي ، الخطبة رقم : 27 .
(30) المصدر السابق .
وهاشم المرقال ، وهو يتضجر من الحياة ويتمنى الموت ، وينشد باكياً :
ألا أيها الموت الذي لست تاركي
*
ارحني فقد أفنيت كل خليل
أراك بـصيراً بالـذين أحـــــــــبهم
*
كأنك تنحو نحوهـم بدليل
لقد اشتدت محنة الإمام وأحاطت به الآلام ، فصار يستعجل الرحيل عن هذه الدنيا وأهلها ، ويتشوق الى لقاء الله لكن عبر أفضل سبيل وأسرع طريق وهو الشهادة ، فهو يكره مغادرة الحياة بموت بارد ساذج ، ويرغب العروج الى الله متوشّحاً برداء الشهادة مضمخاً بدمها الطاهر . . أو ليس هو القائل :
« أن أكرم الموت القتل ! » .
والذي نفس ابن أبي طالب بيده ، لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على الفراش في غير طاعة الله » (31) .
وهو الذي كان يدعو ربه قائلاً : « اللهم . . فارزقنا الشهادة » (32) .
بالطبع كان عشق علي وشوقه للشهادة عميقاً في نفسه منذ أيام شبابه ، ولم يكن شيئاً مستجداً طارئاً على نفسه بعد أن كبرت سنه واشتدت معاناته ، وهذا ما يؤكده الإمام حين ينقل احدى ذكرياته مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيقول :
« فقلت : يا رسول الله ، أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من أستشهد من المسلمين ، وحيزت عني الشهادة ، فشق ذلك عليّ ، فقلت لي : أبشر فإن الشهادة من ورائك ؟ .
فقال لي : إن ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذن ؟ .
فقلت : يا رسول الله ، ليس هذا من مواطن الصبر ولكن من مواطن البشرى والشكر
____________
(31) المصدر السابق ، الخطبة رقم : 123 .
(32) المصدر السابق ، الخطبة رقم : 171 .
وحانت ساعة اللقاء . . واقترب موعد الرحيل . ودنت لحظة الفوز بالشهادة التي طالما انتظرها الإمام . . كان ذلك في فجر ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك ( سنة 40 هـ ) .
وشاء القدر أن يكون علي تلك الليلة ضيف ابنته زينب ، وأن ينطلق للشهادة من بيتها . . وتسجل لنا روايات التاريخ بعض اللقطات عن تلك الليلة الخطيرة والساعات الحساسة في بيت العقيلة زينب .
فقد كان الإمام يفطر في شهر رمضان ليلة عند الحسن ، وليلة عند الحسين ، وليلة عند عبدالله بن جعفر زوج زينب ابنته لأجلها (34) .
وكانت ليلة التاسع عشر من رمضان حيث يتناول الإمام افطاره عند ابنته زينب كما تشير الى ذلك بعض روايات ( بحار الأنوار ) ، وإن كانت بعض الروايات تقول إنه كان عند ابنته أم كلثوم ، وحسب تحقيقات العلامة الشيخ جعفر النقدي فإنه غالباً ما يطلق على زينب الكبرى أم كلثوم في لسان الروايات (35) .
ولاحظت السيدة زينب أن أباها تلك الليلة كان في وضع استثنائي ، وحال لم تعهده منه ، تقول :
لم يزل أبي تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ، ثم يخرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء وينظر الكواكب وهو يقول : « والله ما كَذبت ولا كُذبت وانها الليلة التي وعدت بها . . هي والله الليلة التي وعدني بها حبيبي رسول الله » .
____________
(33) المصدر السابق ، الخطبة رقم : 156 .
(34) ( بحار الأنوار ) المجلسي ج 41 ، ص 300 .
(35) ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 17 ـ 18 ـ 25 ـ 38 .
ثم يعود الى مصلاه ويقول : « اللهم بارك لي في الموت ، اللهم بارك لي في لقائك » ويكثر من قول « انا لله وانا اليه راجعون ، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم . . ويستغفر الله كثيراً » .
تقول السيدة زينب : فلما رايته في تلك الليلة قلقاً متململاً كثير الذكر والأستغفار أرقت معه ليلتي . . وقلت : يا أبتاه مالي اراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد ؟ يا أبا مالك تنعى نفسك ؟ .
قال : بنيّة قد قرب الأجل وانقطع الأمل .
قالت : فبكيت : فقال لي : يا بنيّة لا تبكي فإني لم أقل لك ذلك الا بما عهد اليّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
ثم انه نعس وطوى ساعة ثم استيقظ من نومه ، وقال : يا بنيّة اذا قرب الاذان فاعلميني . . ثم رجع الى ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع الى الله ( سبحانه وتعالى ) .
قالت : فجعلت أرقب الأذان فلما لاح الوقت أتيته ومعي اناء فيه ماء ، ثم أيقظته ، فأسبغ الوضوء ، وقام ولبس ثيابه ، وفتح بابه ثم نزل الى الدار وكان في الدار أوزٌ قد اُهدين الى أخي الحسين ( عليه السلام ) ، فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن ، وصحن في وجهه ، ولم يحدث ذلك من قبل ، فقال ( عليه السلام ) :
« لا اله الا الله صوارخ تتبعها نوايح وفي غداة غد يظهر القضاء .
فقلت : يا أبتاه هكذا تتطير ؟
قال : يا بنية ما منا أهل البيت من يتطير ولا يتطير به ، ولكن قول جرى على لساني ، ثم قال :
يا بنية بحقي عليك الا ما أطلقتيه ، وقد حبست ما ليس له لسان ، ولا يقدر على الكلام ، اذا جاع أو عطش ، فأطعميه واسقيه ، والا خلي سبيله يأكل من حشائش الأرض .
فلما وصل الى الباب فعالجه ليفتحه ، فتعلق الباب بمئزره فانحل ميزره حتى سقط ، فأخذه وشدّه وهو يقول :
أشدد حيازيمك للموت
*
فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت
*
اذا حــل بناديكا
كما أضحكك الدهر
*
كذاك الدهر يبكيكا
ثم قال : اللهم بارك لنا في الموت ، اللهم بارك لي في لقائك .
قالت: وكنت أمشي خلفه فلما سمعته يقول ذلك ، قلت: واغوثاه يا أبتاه أراك تنعى نفسك منذ الليلة ! ! .
قال : يا بنية ما هو بنعاء ولكنها دلالات وعلامات للموت يتبع بعضها بعضاً . . ثم فتح الباب وخرج (36) .
وما هي الا فترة بسيطة من الوقت واذا بالسيدة زينب تسمع نعي أبيها علي حيث ضربه عبد الرحمن بن ملجم من أتباع الخوارج بالسيف على هامته حين رفع رأسه من السجدة الأولى من الركعة الأولى لصلاة الصبح ، ووقع الإمام علي في محرابه صريعاً قائلاً : « فزت ورب الكعبة » .
ونقل الإمام الى داره حيث فارقت روحه الحياة بعد يومين من اصابته أي في الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك .
وقُبيل وفاته عرق جبينه فجعل يمسح العرق بيده ، فقالت السيدة زينب : يا ابه أراك تمسح جبينك ؟ .
قال : يا بنية سمعت جدك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : « إن المؤمن إذا نزل به الموت ، ودنت وفاته ، عرق جبينه ، كاللؤلؤ الرطب ، وسكن أنينه » .
____________
(36) ( علي من المهد إلى اللحد ) القزويني ص 559 .
فقامت زينب والقت بنفسها على صدر ابيها وقالت : يا أبه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء وقد أحببت أن أسمعه منك .
فقال : يا بنية ، الحديث كما حدثتك أم أيمن ، وكأني بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد ، خاشعين ، تخافون أن يتخطفكم الناس فصبراً صبراً.
وهكذا ودعت السيدة زينب أباها علياً ، ورزئت بفقده ، ولك أن تتصور مدى الحزن والألم الذي أحاط بها بعد أن فارقت أباها الذي كان ملئ حياتها ووجودها ، وكانت متعلقة به أشد التعلق كما كان يحبها أشد الحب .
ولكن كما قال أبوها علي عند فقده أمها الزهراء :
وكل الذي دون الفراق قليل
لكل اجتماع من خليلين فرقة
دليل على أن لا يدوم خليل
وان افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ
|
|
|
|
|