|
شاعر
|
رقم العضوية : 39574
|
الإنتساب : Aug 2009
|
المشاركات : 1,995
|
بمعدل : 0.35 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
زكي الياسري
المنتدى :
المنتدى الثقافي
بتاريخ : 04-06-2012 الساعة : 10:05 PM
( الجزء الثاني )
يورد المؤلفون أمثلة من أبيات الإبوذية وغيرها للاستشهاد بها في موضوع معين مثل أغراض الشعر الشعبي او تأييدا لبلاغة شاعر معين او توضيحا لأحد أوزان الشعر وما إلى ذلك من أمور. ويعتمد ذلك على حنكة الكاتب وتمكنه من أبواب النقد وفهمه للجناسات وكذلك لعلم العروض وغيره مما يشكل ثوابتا يقيس بها الكاتب مدى انطباق مثله على ما أراد إيضاحه للقراء. وقد يحدث ان يتوهم الكاتب شيئا او يحلل موضوعا وفق ما يراه بعيدا عن أدوات قياسه وربما نتيجة سهو او التباس او خطأ غير مقصود. وسوف استعرض بعضا من ذلك في هذا الباب لغرض التوضيح وإبداء الرأي معززا ذلك بأمثلة توضيحية.
وكمثال على ذلك نجد السيد جاسم محمد الشواي في كتابه أنماط تراثية شعبية فلكلورية يقول ما يلي:
(ومن منا لا يعرف مكانة الإبوذية في نفوس شعبنا العربي فقد زامنت كافة أجياله من العشرينات وحتى وقتنا الحاضر الذي نرى المطرب يبدأ حفله بالإبوذية فاستولت على أغلب أنواع الأغاني تقريبا لذا نجد شاعرنا المقاتل يتحمس ليقول:
هِضِيَمَه الْرَجِل لُو يِطْلُب وَشَالات
إلدّنْيَا اليِمْنِتِي گَصَّت وَشَالات
الْعِيْس إتْمُوْت عَطْشَانَه وَشَالات
إبْظَهَرْهَا الْمَاي وِالْخُبْزَه سِوِيَّه
بهذا الاتجاه وبهذه الانحدارة الشعبية نحو ما كان يردده أجدادنا القدامى من رجال ثورةِ العشرين وثورات الشعوب الأخرى كان اتجاه شبابنا يغترف هذا المعين الرقراق فيخلد به تراثا عراقيا خالصا التصق به منذ ان كان وما زال الذائد عن حياض الرافدين).
ونلاحظ هنا ان استقراء المؤلف للنص الشعري الذي ساقه بين المقدمة التي يعتبرها مسوغة لعرضه أمام القراء والخاتمة التي حلَّل بها أسباب اختياره لهذا البيت وإبداع شاعره كما يراه، قد جاء غير موفق. فماذا قال هذا الشاعر المقاتل في بيته الذي أورده المؤلف؟
إن الشطر الأول يتحدث عن حكمة تقول ان الرجل يُعاب إذا طلب (وِشَالاتْ) وهي جمع وِشَالَة أي ما بقي في الإناء او غيره من سائل او طعام وهو ما يتصدق به الأغنياء على الفقراء او يُرمى كفضلات. ورغم ما يعانيه الشاعر من مصائب الحياة التي وضعته في حال لا يحسده عليها أحد كما جاء في شطره الثاني، وهو ان الدنيا قد قطعت يمينَه مجازا فتركتْه عاجزا ان يعمل بكلتي يديه، وهو يصف ضيق ذات يده وقلة حيلته في كسب الرزق او ربما حتى الضعف في الدفاع عن الحقوق وغيرها مما يستوجب العمل والقتال.
والشاعر يرفض (الوشالات) رغم وضعه هذا. ويقصد انه ذو نفس أبية ترفض ان تقبل عطف الآخرين عليه وهو يصف إبائه وعزة نفسه. ثم يعرج الشاعر على مثل آخر يأخذه من الشعر الفصيح وهو من قول الشاعر أديب إسحاق:
كَالعيِسِ في الصَّحْراءِ يَقْتُلُهَا الظَمَا
وَالماءُ فَوْقَ ظُهُوِرَها مَحْمُوْلُ
فيقول (العيس اتْمُوْت عَطْشَانة وَشَالات) وهو يُشَبِّه وضعه بوضع العيس في الصحراء التي تحمل الماء ولا تشرب منه. فرغم انه بيد جَذّاء لكنه يرفض الوشالات، ويعطي ما يملك لغيره ويحرم نفسه منه كما تفعل العيس التي يقتلها الظمأ في الصحراء وهي تحمل الماء لغيرها.
وقبل ان نكمل البيت نقول ماذا قدَّم لنا هذا (المقاتل البطل) في حربه التي يخوضُها ضد أعداء الوطن؟ هل هو الشكوى من الحياة، او وصف يده المقطوعة. كما انه لم يذكر كلمة واحدة تتعلق بالقتال او الذود عن الوطن في سوح الجهاد، وهل يرتجز الأبطال بمثل هذا في سوح القتال؟
لا بل يقولون كما قال الزعيم مبدر آل فرعون في ثورة العشرين:
مَا تِنْدَاس ثَايَتْنَا وَحَدنَا
المُبْرَد مَا أكَل بِيْنَا وَحَدْنَا
نِشِگ إشْگُوْگ وِنْخَيِّط وَحَدنَا
شَگ مَا يتْخَيَّط شَگَّيْنَا
او مثل ما قال الشاعر:
نُفوُس الْنَا عَلَى الْعَلْيَا تَجَدْنَا
إوْنَار الْحَرُب لُو شَبَّت تَجَدْنَا
يَضَيْف إجْبِل عَلَى حَيْنَا تَجَدْنَا
إلضِّيُوْف إحْنَا وِنِت رَبَّ الْحِنِيَّه
ثم يتطرق الشاعر إلى موضوع آخر حين يذكر كلمة (الخبز) في رباط البيت. فالإبل عندَه تحمل الخبز وهي يقتلها الظمأ. فيبدو ان الشاعر أسوأ حالا من الإبل فهو عطشان وجائع، في حين ان إبل شاعر الفصيح قبل قرون لم تكن تفكر إلا في الماء، ولا هَمَّ لها بغيرِه مما تحمله فوق ظهورها.
وأين جاسم الشواي من قول الشاعرة نازي بنت حاچم من عشيرة الظوالم وقد استقبلت شعلان أبا الچون ومعه سبعون بطلا اقتحموا المعركة في ثورة العشرين وأمطروا العدوَّ نارا وسيطروا على جسر السوير فقالت:
شَعْلان إجَاهَا إو صِحِت شُوْبَاش
خَلَّه الْرُّمَيْثَه إمْجَضِّعَه الْشَّاش
إلْعَج غِطَاهَا وِالْثَّرَى إفْرَاش
گَرْگَه إو سَيْل إو بَاجِي لاوْبَاش
لا هَاب مِن مَدْفَع إو رَشَّاش
فترك الكاتب كل هذه الأمثلة الرائعة وغيرها الكثير مما تعج به كتب الأدب الشعبي في الدفاع عن الوطن، واختار بيتا لا علاقة له بالموضوع من قريب او بعيد وجعله مثالا... (لما كان يردده أجدادنا القدامى من رجال ثورة العشرين وثوراتِ الشعوبِ الأخرى ... منذ ان كان وما زال الذائد عن حياض الرافدين)... كما قال في سبب ذكره.
والبيت الذي ساقه المؤلف هو في الشكوى من الحياة، او في عزة النفس ولم يقلْه الشاعر وهو يدخل معركة المصير. وهذا واضح من عباراته وأمثاله التي ساقها ضمن بيته. ولذلك قلت ان المؤلف لم يوفق باختياره لهذا البيت كما لم يوفق في تعليقه عليه قبله ولا بعده.
وحتى من ناحية اللفظ والمعنى فان البيت الذي اختاره لم يسلم من النقد، ففي الشطر الثاني يقول الشاعر: الْدِنْيَا الْيِمْنتي گَصَّت وَشَالاتْ
أي قطعت وشَلَّتْ، ولاحظ ان كلمة (شالت) ليس (شَلَّتْ) فلا تسمع أحدا يقول ان يده شَالْت وهو يريد (انْشَلَّتْ) العامية. وعلى افتراض قبولنا بها ، فإنها في آخر الشطر أتت بلا معنى بل شوَّشَت الشطر كلَّه. فكيف يمكن ان تكون يدُ الشاعر (مشلولة) وهي (مقطوعة) في نفس الوقت. ورغم أننا نعلم ان الدنيا لم تقطع ولم تُشَل يده على وجه الحقيقة، إلا ان الجمع بين هاتين الصفتين في الشطر لم يكن صحيحا.
وإذا وجدنا عذرا للشاعر في أنه لم يقل بيته هذا في الفخر والحماسة وانما حشره المؤلف في الموضوع، فاننا لن نجد له عذرا في الجمع بين اليد المقطوعة والمشلولة في نفس الوقت، إذ لا يمكن ان تجتمع الصفتان معا في شخص على قيد الحياة لان ذلك يخالف طبائع الأشياء عرفا وعلما.
وهذا يدل على عدم دقة الشاعر في اختيار ألفاظه. فالشعر قبل كل شيء مضمون وحكمة وصور صحيحة او مبالغ فيها او مستعارة يُقرُّ المنطق بسلامتها وصحة وجودها في البيت الشعري. فالشاعر الشعبي يقول:
الدَّهَر گَصْ يِمْنَاْي شَلْ يِسْرِتِي البَيَنْ بِيْش ألْزَمْ الدّلال بِيْش أمْسَح العَيْن
ففرق بين يده اليمنى المقطوعة ويده اليسرى المشلولة.
وكما قلنا ان الشطر الثالث مجار لقول شاعر الفصيح آنف الذكر، وان الربَّاط الذي أنهى به شاعرنا بيته يقول: (ابْظَهَرْهَا الْمَاي وِالخُبْزَه سِوِيّه)، وحرف الباء في كلمة (إبظهرها) يدل على وجود شيء داخل شيء وليس فوقه، كما تقول فلان (بِالْبَيْت) تقصد في البيت وتقول (غَلَط بِالشَطْر الثاني) او (أحِطَّك ابْگَلبَيْ) ولا تقول (أحِطَّك عَلَى گَلْبِيْ) وكذلك لا نقول العصفور (بالشجرة) ونحن نريد أنه (عَالْشَجَرَة) في حديثنا اليومي بلهجتنا العامية. لكن الشاعر فعل ذلك اضطرارا لكي يستقيم وزن بيته ولو تمكن لقال (فوگ ظَهَرْهَا او على ظَهرْهَا) كما فعل شاعر الفصيح.
ومثل هذا الشاعر كثيرون يجنحون بأبياتهم عن الطريقة الصحيحة في اللهجة الدارجة دون الإلتفات إلى ذلك، ودون ان ينبههم أحد وربما يتغاضون عنهم باعتبار ان الشاعر حر في اختيار ألفاظه وعباراته.
وبذلك يشجعون غيرهم على السير في نفس المنهاج دون الإلتفات إلى قواعد وأصول اللهجة ومتطلباتها.
ولكن يمكن أن يقول الشاعر (إبْظَهَرْهَا) فيعدّي بحرف الباء، وهو يقصد معنى آخر غير المعنى الذي قصده الشاعر السابق:
مثل قول الشاعر عطية آل دخيل:
إبْظَهَر شَگرَه الْتِّشِيْلَه رِدِف وِالْحَد
وَنَا ابْسِدِّي يِنَام الْجَار وِالْحَد
تَرِم مِنِّي يِرِيْد الْطَّرَب وِالْحَد
وَنَا الْبَوَّاگ بَعْدَه إيْعَفِت بِيَّه
ففي الشطر الأول يبتدأ الشاعر قولَه (إبْظَهَر شَگرَهْ)، فما هو ذلك الشيء الذي يتحدث عنه الشاعر بظهر الشقراء؟
إنه الشاعر نفسُهُ، وهو يصف نفسَه بكونه فارسا لا يشق له غبار وقد تعوَّد ركوب الفرس الشقراء حتى كأنه (التصق بظهرها) لكثرة ممارسته القتال والغزوات. وقد حذفَ الشاعر الفعلَ والفاعلَ لدلالة السياق عليهما، فكأنه قال: أنا ملتصق بظهر الفرس الشقراء القوية التي يمكنها ان تحمل شخصا آخر عليها (التِّشِيْلَة رِدِف) أي يردفه خلفه، وهو فارس مجرَّب ينام ويأمن جارُه وحدود دياره او وطنه بحماه (وَنَا ابْسِدِّي يِنَام الْجَار وِالْحَادْ).
والشاعر كما رأينا عدّى الفعل المحذوف بحرف الباء، وهو صحيح لكونه يقصد أنه ثابت او متمسك بظهرها.
وله في الفصيح نظائر، ربما اطّلع عليها الشاعر او جاراها، من ذلك قول المتنبي وهو يمدح بني عمران:
أَقبَلتُها غُرَرَ الجِيادِ كَأَنَّما
أَيدي بَني عِمرانَ في جَبَهاتِها
الثابِتينَ فُروسَةً كَجُلودِها
بظُهورِها وَالطَعنُ في لُبّاتِها
والعارِفينَ بِها كَما عَرَفَتْهُم
وَالراكِبينَ جُدودُهُم أُمّاتِها
فقال بظهورِها لأنه يقصد أنهم فرسان ثابتون بظهور جيادهم.
و يليه الجزء الثالث و الاخير ان شاء الله
|
التعديل الأخير تم بواسطة زكي الياسري ; 04-06-2012 الساعة 10:18 PM.
|
|
|
|
|