المستشار أحمد الخازندار..
عندما صاح البنا «لو حد يخلصنا منه». 22 مارس 1948
حصلت في منتصف عقد الأربعينيات مِن القرن الماضي، سلسلة اغتيالات بمصر، طالت كبار رجال الدَّولة، أحمد ماهر 1945 رئيس الوزراء، الذي اغتيل في قاعة البرلمان، ثم المستشار والقاضي أحمد الخازندار 1948، وبعده بشهور لقي رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النُّقراشي مصرعه، عند ديوان وزارة الدَّاخلية. في كلِّ تلك الأعمال حضر اسم الإخوان المسلمين بقوة، فهم الطَّرف الأهم في العمل السِّري والعلني ضد السُّلطة آنذاك، ولديهم قضايا مع المغتالين، لكن ربُّما يبقى للظنون حصة في أمر ماهر والنُّقراشي، إلا أن أمر أحمد الخازندار، يصعب عده مِن الظُّنون، إنما يرقى إلى المؤكدات.
ترجع القصة حينما كانت هناك قضية كبرى ينظرها القاضي أحمد الخازندار تخص تورط جماعة الإخوان المسلمين في تفجير دار سينما مترو، وفى صباح ٢٢ مارس ١٩٤٨ اغتيل المستشار أحمد الخازندار أمام منزله في حلوان، فيما كان متجها إلى عمله، على أيدى شابين من الإخوان هما: محمود زينهم وحسن عبد الحافظ سكرتير حسن البنا، على خلفية مواقف الخازندار فى قضايا سابقة أدان فيها بعض شباب الإخوان لاعتدائهم على جنود بريطانيين في الإسكندرية بالأشغال الشاقة المؤبدة فى ٢٢ نوفمبر ١٩٤٧. وعلى أثر اغتيال الخازندار استدعى حسن البنا المرشد العام للإخوان للتحقيق معه بشأن الحادث ثم أفرج عنه لعدم كفاية الأدلة. ووفق ما ورد في مذكرات الدكتور عبد العزيز كامل، عضو النظام الخاص بالإخوان المسلمين ووزير الأوقاف الأسبق، فإنه خلال الجلسة التي عقدت في اليوم التالي لواقعة الاغتيال، بدا البنا متوتراً للغاية وقد عقدت هذه الجلسة لمناقشة ما حدث وما قد يسفر عنه من تداعيات، ورأس حسن البنا هذه الجلسة التي حضرها أعضاء النظام الخاص.
وبدا المرشد متوتراً وعصبياً وبجواره عبد الرحمن السندي رئيس التنظيم الخاص الذي كان لا يقل توتراً وتحفزاً عن البنا، وفى هذه الجلسة قال المرشد: كل ما صدر منى تعليقاً على أحكام الخازندار في قضايا الإخوان هو «لو ربنا يخلصنا منه» أو «لو نخلص منه» أو «لو حد يخلصنا منه»، بما يعنى أن كلماتي لا تزيد على الأمنيات ولم تصل إلى حد الأمر، ولم أكلف أحداً بتنفيذ ذلك، ففهم عبد الرحمن السندي هذه الأمنية على أنها أمر واتخذ إجراءاته التنفيذية وفوجئت بالتنفيذ. وكان البنا مساء يوم الحادث، ولهول ما حدث صلى العشاء ٣ ركعات وأكمل الركعة سهواً وهى المرة الوحيدة التي شاهد فيها أعضاء التنظيم المرشد يسهو في الصلاة.
واحتدم الخلاف بين البنا والسندي أمام قادة النظام الخاص، وكانت مجلة المصور قدمت متابعة لحادث الاغتيال عبر شهود عيان ومن أولئك العجلاتي «زغلول العمبورى» الذى لعبت الصدفة دورا لكي يكون شاهدا على الحادث يقول «العمبوري»: «صباح يوم الحادث كنت ذاهبا إلى دكاني فوجدته مغلقا فأدركت أن شقيقي الأصغر أهمل فتحه ووجدت دراجة أمام الباب فبدا لي أن أحدا قد استأجرها ليلا وتركها أمام الدكان فركبتها وانطلقت بحثا عن شقيقي وما إن وصلت إلى منتصف شارع زكى حتى سمعت صوت طلق ناري، وأسرعت إلى مصدر الصوت فإذا بالطلقات النارية تتوالى وعلى بعد ١٥ مترا منى وجدت الخازندار بك واقفا بين قاتليه وهما يمطرانه بالرصاص وهو يصرخ ثم سقط على الأرض وولى هاربين».
كانت هذه شهادة العمبورى العجلاتي، التي لم تكن الوحيدة فلقد كان هناك ٩ شهود عيان منهم «علي عبد الرحمن» الذي قال لمجلة المصور إنه فتح دكانه في السادسة صباحا مع ابنيه إبراهيم ومحمد ثم جاء جاره «المكوجي» ليفتح دكانه وإذا بصوت طلقات رصاص مدوية في هدأة الصباح الباكر، وظننا أن بعض التلاميذ يلعبون بالبمب كالعادة لكن صوت الطلقات المتتابعة دفعنا لاستطلاع الأمر فجرينا حيث مصدر الصوت لنجد الخازندار بك ملقى على الأرض مضرجا في دمائه. قضية السيارة الجيب..
المستندات التي فضحت التنظيم السري 15 نوفمبر 1948
قضية السيارة الجيب في 15 نوفمبر 1948، قام عدد من أعضاء النظام الخاص بجماعة الإخوان المسلمين في مصر بنقل أوراق خاصة بالنظام وبعض الأسلحة والمتفجرات في سيارة جيب من إحدى الشقق بحي المحمدي إلى شقة أحد الإخوان بالعباسية إلا أنه تم الاشتباه في السيارة التي لم تكن تحمل أرقاماً وتم القبض على أعضاء التنظيم والسيارة لينكشف بذلك النظام الخاص السري لجماعة الإخوان المسلمين. وأدى هذا الحادث إلى إعلان محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء آنذاك أمرا عسكريا بحل جماعة الإخوان المسلمين واعتقال أعضائها وتأميم ممتلكاتها وفصل موظفي الدولة والطلبة المنتمين لها، وكان هذا القرار سببا جعل النظام الخاص يقوم بقتل النقراشي، وانتهت القضية فيما بعد ببراءة النظام الخاص من التهم المنسوبة إليه وإلغاء قرار النقراشي من حل الجماعة وتأميم ممتلكاتها.
محمود فهمي النقراشي…
قتلته علشان حل جماعة الإخوان المسلمين وهدم الدين!! 28 ديسمبر 1948
في العاشرة إلا الثلث من صباح ذلك اليوم دخل ضابط بوليس برتبة ملازم أول صالة وزارة الداخلية في الطابق الأول فأدي له حراس الوزارة التحية العسكرية وأخذ يقطع الوقت بالسير البطيء في صالة الوزارة كأنه ينتظر شيئا وعندما أحس بقرب وصوله النقراشي باشا اتجه نحو الأسانسير ووقف بجانبه الأيمن وفي تمام العاشرة وخمس دقائق حضر النقراشي باشا ونزل من سيارته محاطا بحرسه الخاص واتجه للأسانسير فأدي له هذا الضابط التحية العسكرية فرد عليه مبتسما وعندما أوشك النقراشي علي دخول الأسانسير أطلق عليه هذا الضابط ثلاث رصاصات في ظهره فسقط قتيلا ونقل جثمانه إلي داره بمصر الجديدة وأعلنت محطة الإذاعة الحداد لمدة يومين. أما القاتل فقد اتضح أنه ضابط مزيف كان يتردد علي قهوة بالقرب من وزارة الداخلية، كان النقراشي رئيسا للوزارة ووزيرا الداخلية في آن واحد.
وقال رواد المقهى أنهم عرفوا الضابط المزيف باسم حسني أفندي وأنه تلقي مكالمة تليفونية قبل الجريمة بعشرين دقيقة من شخص مجهول أخبره بأن النقراشي باشا في طريقه إلي مكتبه بوزارة الداخلية.. أما الاسم الحقيقي للقاتل فهو عبد الحميد أحمد حسن وكان طالبا بكلية الطب البيطري وينتمي لجماعة الإخوان المسلمين وعندما سأله المحقق عن مصدر البدلة العسكرية أجاب بتهكم: في «سوق الكانتو منها كتير» وقال القاتل في هدوء وثبات.. «أيوه قتلته واعترف بكده لأنه أصدر قرارا بحل جمعية الإخوان المسلمين وهي جمعية دينية ومن يحلها يهدم الدين.. قتلته لأني أتزعم شعبة الإخوان منذ كنت تلميذا في مدرسة فؤاد الأول الثانوية». والحقيقة أنه بعد وقوع عدة حوادث عنف واغتيال ارتبطت بعناصر من الإخوان المسلمين، قرر النقراشي حل الجماعة بعد عريضة اتهام طويلة، واعتقل كل رجال الحركة البارزين، وأغلق جميع الأماكن المخصصة لنشاطهم، وصادر جميع الأوراق والوثائق والمطبوعات والأموال المملوكة للجماعة.
وقبل حادثة الاغتيال بيوم أذاع راديو القاهرة أمر الحاكم العسكري العام رقم 63 لسنة 1948 بحل جماعة الإخوان المسلمين بكل فروعها في البلاد ومصادرة أموالها وممتلكاتها. وبعد أقل من عشر دقائق خرج الإخوان من المقر العام فوجدوا أن المكان قد تم حصاره من جميع الجهات وأنهم وقعوا في الفخ وألقي القبض عليهم جميعاً، ما عدا حسن البنا المرشد العام ومؤسس الجماعة. وتبع هذا الأمر العسكري صدور أوامر عسكرية أخرى بتصفية شركاتهم، والعمل على استخلاص أموال الجماعة لتخصيصها في الوجوه العامة التي يقررها وزير الشئون الاجتماعية.
اغتيال فايز حلاوة – 45 نوفمبر 1953 –
عندما ينقلب التنظيم علي المنظم
كان المهندس سيد فايز من كبار المسئولين في النظام الخاص ومن الناقمين علي تصرفات السندي، لذلك امتثل لأمر المرشد وسعى إلى ضم أفراد النظام الخاص الذي كان يشرف عليه السندي إلى قيادته الجديدة برئاسة يوسف طلعت، ووضع نفسه تحت إمرة المرشد العام لتحرير هذا النظام في القاهرة علي الأقل من سلطته، وأنه قطع في ذلك شوطاً باتصاله بأعضاء النظام بالقاهرة وإقناعهم بذلك ، نظرا لأنه كان مسئولا عنه في فترة من الفترات. ولم يحدث ما يعكر صفو الانتقال من النظام الخاص القديم إلى النظام الجديد تحت قيادة يوسف طلعت سوى حادث اغتيال سيد فايز.
وفي هذه الظروف المريبة قتل المهندس السيد فايز عبد المطلب عصر الثالثة بعد ظهر الخميس 20 من نوفمبر 1953م بواسطة صندوق من الديناميت وصل إلي منزله علي أنه هدية من الحلوى بمناسبة المولد النبوي، وقد قتل معه بسبب الحادث شقيقه الصغير البالغ من العمر تسع سنوات وطفلة صغيرة كانت تسير تحت الشرفة التي انهارت نتيجة الانفجار وشيعت جنازته في اليوم التالي .ونشرت الصحف نبأ استشهاد السيد فايز صباح يوم الجمعة 21 نوفمبر عام 1953م.
«تسييس الدين» لعبة الجبابرة لتصفية معارضيهم
إذا كان الإسلام قد أزال سلطة رجال الدين عن السياسة، وأزال وسطاء الناس بالسماء، فإن البعض مازال راغبا في استغلال الدين في السياسة وهو ما يعرف مصطلحا بـ«تسييس الدين»، الذي يختلف تماما. عن مصطلح «تديين السياسة» الذي قصده بعض علماء الإسلام القدامى والمحدثين عندما كتبوا عما يسمى بـ«السياسة الشرعية». إن «تسييس الدين» يعنى استخدامه كحصن لبعض القوى السياسية ضد المعارضة والنقد عن طريق اكساب الفعل البشرى «قداسة» زائفة. ولاشك أن ذلك كان دافعا للإمام محمد عبده أن يقول مقولته الشهيرة «أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة». والمدهش أن تلك الظاهرة لم تستخدم إلا من خلال حكام ظلمة مستبدين يعانون ضعف الشعبية وكراهية الشعب طمعاً في استجلاب تعاطف أو تأييد عن طريق التحصن بالدين. أما أصحاب الجماهيرية الشعبية فقد رفضوا رفضاً باتاً مبدأ «تسييس الدين» تقديراً لعظمته ورفعته وهو مثلا ما يجعل الدكتور محمد الجوادي، الباحث الشهير يقول في كتابه الأخير عن مصطفى النحاس انه «كان مع إبعاد السياسة عن الدين، وليس إبعاد الدين عن السياسة».
وقديما استغل الجبابرة الدين في صراعهم ضد قوى المعارضة. إن معاوية بن أبى سفيان مؤسس دولة بني أمية يقول في أول خطاب سياسي له: «إني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم، وإنما جالدتكم بسيفي هذا مجادلة».
ونجد زياد بن أبيه واليه على العراق يخطب يوما في الناس فيقول: «أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم زادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوله لنا»، وفى سبيل ذلك قتل آل البيت وشيعة على بن أبى طالب في مختلف الأقطار.
ويقول الدكتور إمام عبد الفتاح في كتابه الشهير «الطاغية» متحدثا عن يزيد بن معاوية:
أصبحت البيعة مجرد إجراء شكلي أقرب ما يكون إلى الاستفتاءات العصرية التي يجريها الرؤساء في بلادنا، وتكون نتيجتها ٩٩٬٩% ولا أدل على ذلك من وقعة الحرة الشهيرة – تلك النقطة السوداء في تاريخ يزيد وما أكثر النقاط السوداء في تاريخه والتي باع فيها دينه وقتل فيها خلق من الصحابة وافتض فيها ألف عذراء. وكان قائد يزيد وقتها هو مسلم بن عقبة فكان يقتل من يقول «أبايعه على كتاب الله وسنة رسوله».
واستخدم عبد الملك بن مروان واحدا من أشهر وأسوأ محبي الدماء وسافكيها للقضاء على المعارضة السياسية وهو الحجاج بن يوسف الثقفي والذي سير الجيوش وقتل الشيوخ وأهدر الدماء وانتهك الحرمات ولم يخش ربا ولم يجد رادعاً حتى صح عن عمر بن عبد العزيز أنه قال «لو جاءت كل أمة بظالميها وجئنا بالحجاج لفاقهم ظلما».
ومما ينقله الدكتور إمام عبد الفتاح عن أبى جعفر المنصور قوله: «أيها الناس أنا سلطان الله في أرضه أسوسك وكان من العجيب أن تتواتر الأخبار أن هارون الرشيد كان يصلى كل يوم مائة ركعة سنة لله وكان يحج سنويا ثم نجده يقتل وزراءه غدرا ويسفك دماءهم دون أي وازع من ضمير أو أخلاق أو دين!! بتوفيقه وتسديده وإرادته وأنا حارسه على ماله.»وفى تاريخنا الحديث كم من الجرائم والمذابح ارتكبت تحت غطاء حماية الدولة للدين! وكم من المعارضين قمعوا بزعم رفضهم حكم الله!!
إن السلطان فؤاد سعى فور سقوط الخلافة العثمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924 إلى تنصيب نفسه خليفة للمسلمين على ما لديه من استبداد وفساد وسوء إدارة، وهو ما دفع الشيخ على عبد الرازق إلى التصدي له بإصدار كتاب «الإسلام وأصول الحكم» الذي استبعد فيه وجود شكل محدد للدولة في الإسلام. وحاول الملك فاروق اختطاف شعبية الجماهير عند تنصيبه ملكا عام 1936 عن طريق مراسم دينية يحلف فيها الملك اليمين في الأزهر، وهو ما وقف ضده حزب الوفد بقيادة مصطفى النحاس قائلا «انه ليس لحرص على الإسلام منه، لكن الإسلام لا يمنح الحاكم سلطة روحية».
وكان الرئيس السادات أكثر حرصاً على استغلال الدين لمواجهة خصومه ومعارضيه، وكان أول ذلك إطلاقه مصطلح دولة «العلم والإيمان» على دولته ، ثم إطلاق لفظ «الرئيس المؤمن» عليه في وسائل الإعلام الحكومية وتمادى بعض أنصاره لدرجة الدعوة لإطلاق لقب «خامس الخلفاء الراشدين» عليه، وتلقيب البعض له بـ«الإمام العادل» وهو ما كان موضع سخرية الداعية الإسلامي خفيف الظل المرحوم الشيخ عبد الحميد كشك والذي رد بأنه «ماحصلش عادل إمام».
والغريب أن الرئيس السادات استعان بالآية الكريمة «ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا» في خطابه الذي أعلن فيه عن التحفظ على 1500 سياسي وعزل البابا شنودة ونقل بعض الصحفيين وأساتذة الجامعات إلى أعمال إدارية!
والأغرب من ذلك أن «السادات» نفسه هو صاحب عبارة الفصل التام بين الدين والسياسة عندما قال «لا دين في السياسة ولا سياسة فى الدين».
……………………………
ملف من إعداد: مصطفي عبيد ـ عن جريدة الوفد المصرية