|
عضو برونزي
|
رقم العضوية : 77639
|
الإنتساب : Mar 2013
|
المشاركات : 741
|
بمعدل : 0.17 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
alyatem
المنتدى :
منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
بتاريخ : 15-03-2013 الساعة : 02:07 PM
وقف الحسين وأنصاره ظهيرة عاشوراء وهم على خيولهم الجياد، وفي أيمانهم البيض الحداد(61)، وعلى متونهم السمر الصِّعاد(62)، قد رفلوا بأبراد العزّ، وتكلّلوا بتيجان الشرف، لا يُقتل منهم واحد حتّى يَقتلوا ألفاً من عدوّهم(63)، وهم ضاحكون مستبشرون، ثقة بما يصيرون إليه بَعدُ من منازل الفردوس الأعلى في دار النعيم.
كان هذا موقف الحسين وأنصاره يوم الطفّ.
ووقفت زينب بنت عليّ(ع) والخفيرات من أهل بيتها في مجلس ابن زياد وهم في قيد الإسار، وذلّ الصغار، لا ترى أمام عينها إلاّ عدوّاً شاتماً، أو كاشحاً(64) شامتاً، أو قاتلا لحُماتها وسُراتها، واليتامى والأيامى حولها، كلّ هذه الشؤون والشجون ممّا تذيب القلب، وتذهل اللبّ، وتطيش عندها الأحلام، وتخرس الألسنة، وتموت الفطنة، ولا يستطيع أجلد إنسان أن ينبس بكلمة في مثل تلك الكوارث.
أفهل تخشى ـ لو تصوّرت مزايا تلك الرزايا لزينب ـ أن تقول: إنّ موقفها عند ابن زياد كان أعظم من موقف أنصار الحسين يوم الطفّ عند جند ابن سعد؟!
قل ولا تخف، وعلَيَّ الإثبات.
هل أحسستَ في تلك الساعة الرهيبة من زينب أمام عدوّها القاسي الظالم الشامت الشاتم أن تلجلج لسانها؟! أو اضطرب جَنانها؟! أو ظهر عليها ذرّة من الذلّ والاستكانة؟! أو خضعت فانقطعت؟! أو عجزت عن ارتجال الخطب البليغة التي لو جاء بها الوادع الساكن والمطمئنّ الآمن بعد ليال وأيّام لكانت آية من آيات الإبداع، ورمزاً من رموز البراعة؟!
فكيف وقد اندفعت بها في حشد الرجال على سبيل الارتجال، وهي على ما عرفتَ من الوضع ; عنه يقال في الشدّة: « بين ذارعي وجبهة الأسد »(65)، تتقاذفها لهوات الكُرب، وتلوكها وتمضغها أنياب النوب، حتّى إنّ ابن زياد أعجَمَ عُودَها(66)، فرآها صلباً مرّاً، لا يلين لغامز، ولا يلذّ لماضِغ، وأنّها لا تنقطع ولا تكلّ، ولا تعرف للرهبة وللخوف معنىً، وخشي أن لا تُبقي من هتكه وفضيحته باقية، وأن تقلب عليه الرأي العامّ، وتُحْدِث في جماعته فتقاً لا يرتق، غيَّرَ من خطّته، وتنازل عن غُلوائه(67) وشدّته، فكان آخر كلامه معها بعد أن شفت غليلها منه: لعمري إنّها لسجّاعة، ولقد كان أبوها أسجع منها(68)؟!
لا يا بن مرجانة! ما هي بسجّاعة، هي أُمثولة الصبر والثبات، ورمز غلبة الحقّ على الباطل، واحتقار الحكم الزائف والملك الزائل، وسلطنة الخداع والمكر.
لا يا بن مرجانة! هذه زينب بنت عليّ الذي عَلَّمَ الناس الفصاحة، والبراعة، والشجاعة، والسجاعة.
هذه زينب بنت الزهراء البتول، لا كمرجانة وسميّة ذوات الأعلام في الجاهلية والإسلام(69).
هذه زينب بنت الطاهرة العذراء، لا كهند الخرقاء(70)، صاحبة القارعة(71) والفاكّة(72)، التي يقول فيها حسّان شاعر النبيّ(ص) :
لمنِ الصبيُّ بجانبِ البطحاءِ***..............البيتين(73)
وما كانت تلك الشجاعة منها سلام الله عليها في مرّة أو مرّتين، بل كانت كلّما ضاق الأمر، واشتدّت المحنة، وتجمهر المتفرّجون عليهم عند دخولهم الكوفة، وعند خروجهم منها، وفي قصر الإمارة، وفي مجلس ابن زياد ; في كلّ ذلك تتحدّى فتُدْهش، وتحتجّ فتُفْلج، وتخطب فتُعْجب، تخطب خطبة البليغِ المُدِرِّ(74)، والمِصْقَعِ(75) المُفَوَّهِ(76) الذي تهيّأت له كلّ أسباب الدِّعَة(77 ) والراحة والفراغ والطمأنينة.
دخل السبي إلى الكوفة بحال (يذوب الصفا منها ويشجي المحصبُ)(78)، فجعل أهل الكوفة ينوحون ويبكون، فقال عليّ بن الحسين(ع) وقد أنهكته العلّة: « تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم، فالحَكَمُ بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء »(79).
ثمّ تعاظمت الفجيعة فصار الرجال والنساء يبكون معاً، فقال(ع) : « أتبكون وتنوحون لنا؟! فمن قتلنا؟! »(80).
قال بشر بن خزيم الأسدي(81) : ونظرت إلى زينب بنت عليّ(ع)يومئذ فلم أرَ خفرة قطّ أنطق منها كأنّما تنطق عن لسان أمير المؤمنين (ع)، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الأجراس(82)، ثمّ قالت:
« الحمد لله، والصلاة على أبي محمّد وآله.
أمّا بعد.. يا أهل الكوفة! يا أهل الختل(83) والغدر! أتبكون؟!
فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنّما مثلكم كمثل التي {نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} (84).
واندفعت كالسيل المنحدر، إلى أن قالت:
أتبكون وتنتحبون؟!
إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها(85).
ويلكم! أتدرون أيَّ كبد لرسول الله فريتم؟! وأيَّ كريمة له أبرزتم؟! وأيَّ دم له سفكتم؟!
أفعجبتم أن قطرت السماء دماءً {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} (86) وأنتم لا تنصرون، فلا يستخفنّكم الجهل، فإنّه لا يحفزه البِدار(87)، ولا يخاف فوت الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد.
قال: فوالله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيت شيخاً يبكي حتّى اخضلّت لحيته وهو يقول: بأبي أنتم، كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل، لا يذلّ ولا يخزى »(88).
ثمّ خطبت أُمّ كلثوم بخطبة بليغة(88).
ثمّ خطبت فاطمة الصغرى بخطبتها التي تقول في أوّلها: «الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى...»(89) إلى آخر ما قالت.
هذا كلّه وهم سائرون يساقون في السبي على الهوادج والمحامل، وفي الكوفة، وعند ابن زياد.
ولكن هلمّ معي ندخل مع هذا السبي إلى الشام وننظر كيف دخوله على يزيد ووقوفهم بين يديه، ولنستبق إلى مجلس يزيد نتبوّأ لنا موقفاً منه قبل ازدحام المتفرّجين وتزاحم النظّارة..
ووقفنا في حاشية النادي الأُموي نتطلّع..
الهوامش
--------------
(61) البيض الحِداد: السيوف الحداد القاطعة التي شُحذت ومُسحت بحجر أو مبرد.
انظر: لسان العرب 1 / 555 مادّة « بيض » و ج 3 / 80 مادّة « حدد ».
(62) الصعدَةُ: القناة، وقيل: القناة المستوية تنبت كذلك لا تحتاج إلى التثقيف، والجمع: صِعاد، وقيل: هي نحوٌ من الألّةِ، والألَّةُ أصغَرُ من الحربة. انظر: لسان العرب 7 / 344 مادّة « صعد ».
(63) جهة الالتئام دقيقة مع ما سبق [ذكره]: « وقف سبعون رجلاً في مقابل سبعين ألفاً »، بالمبالغة هنا والحقيقة هناك. منه(ره).
(64) الكاشح: العدوّ المبغض الذي يضمر لك العداوة ويطوي عليها كشْحَهُ، أي: باطنه. انظر: لسان العرب 12 / 99 مادّة « كشح ».
(65) عجز بيت للفرزدق، وتمامه:
يا مَن رأى عارضاً أسرَّ به بين ذراعي وجبهة الأسدِ
انظر: شرح ديوان الفرزدق: 215، كتاب سيبويه 1 / 180، إملاء ما مَنَّ به الرحمن: 480 تفسير الروم، خزانة الأدب 2 / 281 ـ 282. وأورده صاحب مغني اللبيب: 498 رقم 707 وفي ص 809 رقم 1047 دون أن ينسبه لأحد.
(66) العَجْمُ: عَضٌّ شديدٌ بالأضراس دون الثنايا، وعجم الشيء يعجمه عجماً وعجوماً: عضّه ليعلم صلابته مِن خَورِه ورَخاوَته. انظر مادّة « عجم » في: لسان العرب 9 / 70، تاج العروس 17 / 463. وأعجمَ عودَها: يعني اختبر قوّتها وصلابتها سلام الله عليها.
(67) الغُلْواء ; سرعةُ الشباب وشِرّته، وغُلَواءُ كلّ شيء أوّلُه وشِرَّته. انظر: لسان العرب 10 / 114 مادّة « غلا ».
(68) انظر: تاريخ الطبري 3 / 337، مقتل الحسين ـ لابن أعثم الكوفي ـ: 150، الكامل في التاريخ 3 / 435، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ـ 2 / 47 ـ 48.
(69) سميّة: هي جارية للحرث بن كلدة، الطبيب الثقفي، كانت من البغايا ذوات الرايات بالطائف، وتسكن حارة البغايا خارجاً عن الحضر، وتؤدّي الضريبة للحرث، وكان قد زوّجها من غلام رومي له اسمه: عبيد، وفي أحد أسفار أبي سفيان للطائف طلب من أبي مريم الخمّار بغيّاً، فقدّم له سميّة فعلقت بزياد ووضعته على فراش عبيد سنة إحدى من الهجرة، وكان يُنسب إليه، ألحقه معاوية بأبيه أبي سفيان فقيل له: زياد بن أبي سفيان.
ومرجانة: هي زوجة زياد بن أبي سفيان، وأُمّ عبيد الله بن زياد.
انظر: الاستيعاب 2 / 523 رقم 825، أُسد الغابة 2 / 119 رقم 1800، مروج الذهب 3 / 6.
(70) الخُرق: الجهل والحُمق ; خَرُقَ خُرقاً، فهو أخرق، والأُنثى خرقاء، وامرأة خرقاء: أي غير صَنَاع ولا لها رِفق، فإذا بنت بيتاً انهدم سريعاً.انظر: لسان العرب 4 / 74 مادّة « خرق ».
(71) قارعة الدارِ: ساحَتها، وقارعة الطريق: أعلاه، وقيل: وسطه، وقيل: هو نفس الطريق.
وصاحبة القارعة: كناية عن المرأة التي تكثر الجلوس على قارعة الطريق ولا يسلم من لسانها المارّة، ولا تبالي بما يقال فيها. انظر: لسان العرب 11 / 123 مادّة « قرع ».
(72) الفاكُّ: الهَرمُ من الإبل والناس، فَكَّ يَفُكُّ فكّاً وفكوكاً، وشيخ فاكٌّ إذا انفرج لحياه من الهَرم. انظر: لسان العرب 10 / 307 ـ 308 مادّة « فكك ».
(73) قال حسّان بن ثابت لهند ابنة عتبة بن ربيعة:
لمنِ الصبيُّ بجانبِ البطحاءِ ملقىً عليه غَيرَ ذي مَهْدِ
نَجَلَتْ بِهِ بيضاءُ آنِسَةٌ مِن عَبْدِ شَمْس صَلْتَةُ الخَدِّ
انظر: ديوان حسّان بن ثابت 1 / 396.
(74) المُدِرُّ: المكثِر السَّيّال، ودَرَّت السماء بالمطر دَرّاً، إذا كثر مطرها، وسماء مِدرارٌ أي: تدرّ المطر. وهي هنا كناية عن غزارة علم عقيلة بني هاشم السيّدة زينب سلام الله عليها وبلاغتها. انظر: لسان العرب 4 / 324 ـ 326 مادّة « درر ».
(75) المِصْقَعُ: البليغ الماهر في خُطبته، والجمع: مصاقِع. انظر: تاج العروس 11 / 275 مادّة « صقع ».
(76) المُفَوَّهُ: الرجل الذي يجيد القول. انظر: لسان العرب 10 / 356 مادّة « فوه ».
(77) الدِّعَةُ: السكينة والوقار والتَّرَفُّه. انظر: لسان العرب 15 / 250 ـ 251 مادّة « ودع ».
(78) عجز بيت للشيخ هاشم الكعبي، من قصيدة طويلة يرثي بها الإمام الحسين(ع)في 99 بيتاً، مطلعها:
مُنى القلب أن تدنو منّي بعولة وللركب قصدٌ دون ذاك ومطلبُ
إلى أن يقول:
ورحن كما شاء العدوّ بعولة يذوب الصفا منها ويشجى المحصبُ
ويقول في آخر القصيدة:
ولي منك موعودٌ أرجى نجاحه وموعدك الحقّ الذي ليس يكذبُ
انظر: الديوان: 1 ـ 6، أدب الطفّ 6 / 218.
(79) الكلام لأُمّ كلثوم بنت الإمام أمير المؤمنين عليّ(ع) كما في: ينابيع المودّة 3 / 86، بحار الأنوار 45 / 115.
(80) انظر: مقتل الحسين ـ لابن أعثم الكوفي ـ: 147، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ـ 2 / 45، الملهوف على قتلى الطفوف: 192.
(81) كذا في الأصل، وقد اختلف أصحاب السير والتواريخ في ضبط اسمه، ففي بلاغات النساء: 74 ـ 77: حذام الأسدي، ومرّة أُخرى حذيم، وفي الأمالي ـ للشيخ المفيد ـ: 312: حذلم بن ستير، وفي نسخة بدل: حذلم بن بشير، وفي الاحتجاج 2 / 29 و 31: حذيم بن شريك الأسدي، وفي مقتل الحسين ـ للخوارزمي ـ 2 / 45: بشير بن حذيم الأسدي، وفي الملهوف على قتلى الطفوف: 192 ـ 194: بشير بن خزيم الأسدي، وفي الرجال ـ للشيخ الطوسي ـ: 88 باب الحاء: حذيم بن شريك، وقد عدّه من أصحاب الإمام عليّ ابن الحسين(ع).
(82) الجَرْسُ والجِرْسُ والجَرَسُ: الصوت الخفي، والحركة والصوت من كلّ ذي صوت، والجَرَسُ: الذي يُضرَب به، والجمع: أجراس. انظر: لسان العرب 2 / 248 مادّة « جرس ».
(83) الختل: تخادع عن غفلة، خَتَله يختُله ويختِله ختلا وختلاناً، وخاتلهُ: خدعه عن غفلة، والختل: الخديعة. انظر: لسان العرب 4 / 24 مادّة « ختل ».
(84) النحل: 92.
(85) الشِّنار: أقبح العيب والعار. انظر: لسان العرب 7 / 211 مادّة « شنر ».
(86) فصّلت: 16.
(87) بادَرَ الشيء مبادَرَةً وبِداراً وابتَدَرَهُ وبَدَرَ غيره إليه يَبْدُرُه: عاجَلهُ، ولا يحفزه البِدار ; أي لا تدفعه المعاجلة، والضمير عائد إلى الله سبحانه.انظر: لسان العرب 1 / 340 مادّة « بدر ».
(88) انظر: الأمالي ـ للشيخ المفيد ـ: 321 ـ 324، الأمالي ـ للطوسي ـ: 91 المجلس الثالث رقم 142، الاحتجاج 2 / 109 ـ 114، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ـ 2 / 45 ـ 47، الملهوف على قتلى الطفوف: 192 ـ 194. وقد أورد ابن طيفور الخطبة كاملة، إلاّ أنّه نسبها إلى أُمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، فقال: «...، عن حذام الأسدي ـ وقال مرّة أُخرى: حذيم ـ، قال: قَدمْت الكوفة... إلى أن قال: ورأيت أُمّ كلثوم ـ رضي الله عنها ـ ولم أرَ خفرة... إلى أن قال: ورأيت شيخاً كبيراً من بني جعفي، وقد اخضلّت لحيته من دموع عينه، وهو يقول: كهولكم خيرُ الكهول ونَسْلُهُمُ إذا عُدَّ نسلٌ لا يبورُ ولا يُخزى »
انظر: بلاغات النساء: 74 ـ 77.
(89) انظر: بلاغات النساء: 74، الملهوف على قتلى الطفوف: 198.
|
|
|
|
|