|
عضو جديد
|
رقم العضوية : 78260
|
الإنتساب : May 2013
|
المشاركات : 46
|
بمعدل : 0.01 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
عاشق أبا الأحرار
المنتدى :
المنتدى العقائدي
بتاريخ : 16-05-2013 الساعة : 03:00 PM
لم يرَ التاريخ نظيرا للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في عقليته الفذة، فهو أعظم العظماء بلا منازع. ومن أبرز عناصر عظمته؛ قدرته الفائقة على تشخيص المصلحة العليا، وترتيب الأولويات بحيث يُضحَّى بالمهم من أجلالأهم.
بعد أن نعرف هذا؛ فلا بد من الإيمان بأن قراره (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعطيل إقامة الحدّ على خالد بن الوليد (عليه اللعنة) إنما جاء متوافقا مع المصلحة الإسلامية العليا آنذاك، فمع أن إقامة حدّ القصاص عليه بسبب المجزرة التي ارتكبها في اليمن هو أمر (مهم) إلا أن هناك ما هو (أهم)، وسأشرحه لك مختصرا.
هذا (الأهم) هو تثبيت دعائم وأركان الإسلام والدولة النبوية، فقد حرص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن تبقى صورة مجتمع العاصمة متلاحمة ولو في الظاهر، فلا يُشاع في أوساط العرب والأعراب وسائر الأمم أن فيه انشقاقا أو تصدّعا أو أن الخلافات بدأت تدبّ بين صفوفه، فإن ذلك لو وقع لأحدث هزّة كبرى قد تنهي وجود الإسلام أصلا .
لقد أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبقى هذا المجتمع موحّدا بأي شكل من الأشكال، وأن لا يتخذ أية خطوات من شأنها استئصال أفراد أو فئات من هذا المجتمع – وإن كانوا مستحقين لذلك - لئلا تنعكس صورة سلبية عنه في عيون الآخرين، فيفقدون الثقة فيه أو يطمعون في إجهاضه. فمجتمع المدينة كان يمثل نواة مركز تأسيس الإسلام، بسقوطه يسقط الإسلام، وبصعوده يصعد الإسلام .
وكان من أعظم ما يثير غيظ الكفار هو تماسك هذا المجتمع الوليد خلف قائده النبي، وهو التماسك الذي لم يروا مثله أبدا في تاريخهم المليء بالصراعات والتحزّبات والانشقاقات والتصدّعات. هذا التماسك هو الذي جعلهم يفقدون الأمل شيئا فشيئا في تدمير المجتمع الإسلامي والقضاء على نبي الإسلام ودينه الجديد، وقد استطاع النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بحكمته الخارقة أن يوصل إليهم هذه الرسالة وإن كانت غير دقيقة في الواقع، حيث كان في المجتمع الإسلامي حينذاك تيار عريض من المنافقين الذين كانوا يعملون على هدم الإسلام من الداخل؛ لكن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بدلا من أن ينجرّ إلى الصراع معهم وما يجلبه ذلك من شق لوحدة الصف – ظاهريا – واستنزاف للطاقات والجهود؛ فإنه عمد إلى تطويقهم بسياسة ذكية لا مثيل لها في التاريخ، استطاع بها أن يفقدهم القدرة على إحباط مشروع تأسيس الإسلام بل وأن يستفيد منهم في خدمته وهم كارهون!
لهذا ترى أن النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) تغاضى عن كثير من الحوادث الإجرامية التي كان مرتكبوها يستحقون فيها حدّ القتل، فاستعمل ولايته الممنوحة له من الله سبحانه لإسقاطها أو تعطيلها وتجميدها، لأنه إنْ فعل وأجرى الحد عليهم كان ذلك بمثابة إعلان بدء العد التنازلي لنهاية الإسلام!
فمثلا: تآمر جمع من أصحابه المنافقين (صلى الله عليه وآله وسلم) على قتله والنفر بناقته ليلة العقبة، يتقدّمهم أبو بكر وعمر وعثمان (عليهم اللعنة) ومع أن هؤلاء جريرتهم أعظم من جريرة خالد يوم اليمن، إذ دبّروا لاغتيال سيد الأولين والآخرين وأعظم خلق الله تعالى، وهم بذلك يستحقون القتل أضعافا مضاعفة إن جاز التعبير، ومع أن إبقاءهم يعني إبقاء الباب مفتوحا أمام استمرارهم في مخططاتهم التآمرية لضرب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله.. مع كل هذا؛ نجد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) امتنع عن إجراء الحد عليهم بل وأمر بالتكتم على أمرهم خشية أن تصل رسالة إلى المشركين وبقية الأعراب مفادها: "إن محمدا بدأ ينقلب على أصحابه! وبدأ أصحابه ينقلبون عليه! وهاهم يتآمرون على بعضهم البعض! وهاهو يأمر بقتلهم! وهذه هي بداية النهاية! فعلى الإسلام السلام"!
وقد عبّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الحقيقة عندما طولب بإجراء الحد عليهم قائلا: "لا! أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمداً قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم"! (تفسير ابن كثير ج2 ص373 وغيره من المصادر).
ولهذا تراه (صلى الله عليه وآله) امتنع عن إقامة الحد أيضا على عائشة (عليها اللعنة) عندما اتهمت أم ولده مارية (عليها رضوان الله) بالفاحشة - والعياذ بالله - في قضية الإفك، وكذا امتناعه عن إجراء الحد على حاطب بن أبي بلتعة الذي أفشى خططه العسكرية إلى المشركين بمكة، وكذا تجاوزه عن مؤامرات عبد الله بن أبي بن سلول (عليه اللعنة) حيث قال عندما سئل ذلك: "لا! لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه"! (تاريخ المدينة ج1 ص366 وغيره من المصادر).
فدقّق جيدا؛ إنه (صلى الله عليه وآله) لا يريد إيصال أي معلومة إلى الناس مفادها وقوع خلاف بينه وبين أصحابه وقد وصل إلى حد القتل، فذلك بحد ذاته كان كفيلا بهزّ الثقة في النظام الجديد الذي جاهد من أجل تأسيسه.
وعلى هذا يتبيّن بوضوح أن تعطيله (صلى الله عليه وآله) إجراء الحد على خالد مع استحقاقه له؛ إنما كان لأجل هذه المصلحة، مصلحة الإسلام الواقعية العليا، ومن أجل هذا الأهم، وهو حفظ الدولة النبوية وعدم تعريض الإسلام للخطر. فإنه لو كان قد أوقع الحد عليه؛ لتحدّث الناس عن أن هذه الجبهة الإسلامية بدأت بالتفكك، لأن النبي قتل أحد قوّاده العسكريين. ولتسبّب ذلك أيضا في إثارة غضب عصبة خالد وأوليائه وعشيرته، ونفورهم من الإسلام.
لاحظ جيدا أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحرص أشد الحرص على أن يؤسس مجتمعا إسلاميا يستأصل المجتمعات الجاهلية المتجذرة في تاريخ العرب، وهي مهمة صعبة جدا، وظروف المرحلة التأسيسية تختلف عن غيرها، فلا بد فيها من التغاضي عن بعض القضايا لتحقيق ولو أدنى قدر ممكن من الوجود والتماسك اللذين يؤهلان هذا المجتمع للبقاء وتكوين الأمة العالمية. لهذا مثلا شرّع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سهم المؤلفة قلوبهم، وعفى عن الطلقاء، وتزوّج من الأراذل، وداهن هذا وذاك، وتجاوز عن هذا وذاك.. كل ذلك لأجل تحقيق هذه الغاية التي نجح فيها بشكل مبهر وفريد من نوعه.
وبالنسبة إلى خالد بن الوليد عليه اللعنة، فإن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) عمد إلى تعطيل الحد عنه، مع التبرؤ منه بكل صرامة أمام المسلمين كافة، ليكون إعلانا بتجريمه واستحقاقه للعذاب الإلهي. كما أنه (صلى الله عليه وآله) أرسل أخاه أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) إلى اليمن لإصلاح ما أفسده هذا اللعين، بتعويض جميع من طالهم إجرامه ودفع الدية لهم، حتى أنه دفع لهم تعويضا عن كسر "ميلغة كلابهم" وهو الإناء الذي يشرب فيه الكلاب الماء! ولهذا الموقف النبيل، أعلن الثكالى رضاهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأيقنوا أن ما أجرمه خالد بحقهم لم يكن نابعا من التعاليم النبوية.
مضافا إلى هذا؛ لاحظ أن من الأسباب الحكيمة التي جعلت النبي (صلى الله عليه وآله) يتجاوز عن خالد عليه اللعنة؛ هو علمه (صلى الله عليه وآله) بأنه سيخرج من صلبه من يكون مؤمنا في المستقبل، فلو طبّق عليه القصاص وقتله؛ لنقض ذلك الحكمة والمشيئة الإلهية التي اقتضت أن يكون من ولد هذا الكافر، رجل مؤمن.
وبالفعل فقد حدّثنا التاريخ أن أحد أبناء خالد بن الوليد كان مؤمنا مواليا مناصرا لأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، واسمه (المهاجر بن خالد بن الوليد) وقد حارب مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في معركة الجمل ضد عائشة وطلحة والزبير عليهم اللعنة، ثم حارب في معركة صفين ضد معاوية عليه اللعنة، وقد استشهد في هذه المعركة رحمه الله.
وإلى هذا أشار الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) عندما سئل عن سبب عدم قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) لأعدائه الأوائل وهم مستحقون له حسب الأحكام الشرعية، حيث كان إقدامهم على قتل أخيه رسول الله وزوجته الزهراء (صلوات الله عليهما وآلهما) وكذا إقدامهم على تبديل دين الله واغتصاب الولاية موجبا لتحقق موضوع هذا الحكم عليهم.
وكان سؤال السائل للإمام: "ما بال أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقاتل مخالفيه في الأول"؟
فأجاب صلوات الله عليه: "لآية في كتاب الله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" (الفتح: 25).
فسئل (عليه السلام) ثانيا: "وما يعني بتزايلهم"؟
فقال صلوات الله عليه: "ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين". (كمال الدين وتمام النعمة للصدوق ص641).
والتزايل هو التمايز، هذا للعلم.
|
|
|
|
|