|
عضو برونزي
|
رقم العضوية : 82198
|
الإنتساب : Aug 2015
|
المشاركات : 1,478
|
بمعدل : 0.42 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
صدى المهدي
المنتدى :
منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
بتاريخ : 10-08-2022 الساعة : 09:19 AM
ـالشيخ حسن موسى الصفّار
أمّا الشيخ الصفّار، فيشير إلى أنّ السيّدة زينب(عليها السلام) على رغم ما مرّت به من المصائب والمآسي وظروف السبي والأسر، وطبيعتها الأُنثوية من الخفارة والخدر، وما كابدته السيّدة زينب(عليها السلام) من أجواء الشماتة، والأعداء المحيطين بها في الكوفة والشام، إلّا أنّها تميّزت بنظرتها الإيجابية، واعتبرت ذلك امتحاناً إلهياً لا بدّ من نجاحها فيه، فتسامت على كلّ هموها، وامتلكت زمام المبادرة، مسيطرة على كلّ ما حولها من ظروف وأوضاع، وفي أشدّ المواقف وأفظعها، شاكرة حامدة آلاء الله ونعمه، معلنة تقبلها لقضاء الله، واستعدادها لتحمّل الأكثر من ذلك في سبيله، فنجدها مثلاً في خروجها بعد انتهاء المعركة إلى ساحة المعركة تبحث عن جسد أبي عبد الله(عليه السلام)، فلما وقفت على جثمانه الشريف، جعلت تطيل النظر إليه، ثمّ رفعت بصرها نحو السماء، وهي تدعو بحرارة ولهفة: (اللهم تقّبل منّا هذا القربان)[85].
واعتبر الشيخ الصفّار أنّ ذروة المأساة وقمّة المصيبة في الوقت نفسه مورد تقرّب إلى الله تعالى عند السيّدة زينب(عليها السلام)، وذلك قمّة الوعي وأعلى مستويات الإرادة والاختيار، فحين يسألها عبيد الله بن زياد في مجلسه سؤال الشامت المغرور بالنصر الزائف قائلاً: كيف رأيت فعل الله بأخيك؟ فإنّها تجيبه بجرأة وصمود: ما رأيت إلّا جميلاً، وتختم خطابها في مجلس يزيد بتأكيد رؤيتها الإيجابية لما حصل لها ولأهل بيتها من مصائب وآلام، قائلة: (والحمد الله ربّ العالمين، الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة)[86]. فالسيّدة لم تكن مستدرجة، ولم تجد نفسها متورّطة في معركة فُرضت عليها، بل اقتحمت ساحة الثورة بملء إرادتها وكامل اختيارها، وهنا تتجلّى عظمة السيّدة زينب(عليها السلام)[87]. ونورد فيما يأتي ملاحظات أُخرى:
1ـ يُشير الشيخ الصفّار إلى أنّ من أمضى أسلحة جبهة الحقّ التي تجلّت في ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) هو سلاح المظلومية، بإبراز عدوانية الطرف الآخر، وبشاعة جرائمه، وإظهار عمق المأساة وشدّة الآلام والمصائب التي تحمّلها معسكر الإمام، وأكثر مَن برع في إظهار ظلم بني أُمية هي السيّدة زينب(عليها السلام)؛ إذ كانت تسلّط الأضواء وتلفت الأنظار إلى مواقع الظلامة، كما أنّها كرّست باقي حياتها للقيام بهذا الدور العظيم، ومن تلك المواقف العاطفية التي قامت بها السيّدة زينب(عليها السلام) بكاؤها وتألّمها ونعيها واستغاثتها التي لم تكن بمجموعها مجرّد أفعال عاطفية، بل كانت تلك المواقف فوق ذلك سلاحاً مشرعاً تُصوّبه نحو الظلم والعدوان، وتُدافع به عن معسكر الحقّ والرسالة.
2ـ رأت في الإمام الحسين(عليه السلام) الإمام القائد المفترض الطاعة، وفوق ذلك يجسّد شخصية الرسول الأعظم وأبيها الإمام علي وأُمّها فاطمة الزهراء وأخيها الإمام الحسن(عليهم السلام)، إنّه البقيّة والامتداد للبيت النبوي، وليس مجرّد أخٍ عزيز، وأنّ ما أقدم عليه بنو أُمية يُعدّ أعظم جريمة في التاريخ؛ لأنّها استهدفت النبي وأهل بيته(عليهم السلام) عبر قتل مَن يُمثّلهم ويجسّدهم جميعاً آنذاك[88].
وعند وصولها المدينة أصبح برنامجها اليومي والدائم في المدينة، تذكير جماهير الأُمّة بمظلومية الإمام وأهل بيته(عليهم السلام)؛ لتؤجج بذلك العواطف، وتُلهب المشاعر، وتُحرّض الناس على الحكم الفاسد، فكتب والي المدينة عمرو بن سعيد الأشدق إلى يزيد، فأمره الأخير بالتفريق بينها وبين الناس، وأمرها بالخروج من المدينة، وبالفعل قامت ثورة في المدينة ضدّ الحكم الأُموي وأُخمدت (بواقعة الحرة)[89].
يُشير الشيخ الصفّار إلى دور السيّدة(عليها السلام) في رعاية القافلة؛ إذ إنّ الإمام الحسين(عليه السلام) كان مدركاً هذا الأمر وأراد منهم أن يواصلوا دورهم الجهادي في خدمة نهضته المقدّسة، وكانت السيّدة هي المرشّح الوحيد والكفوء، وعلى الرغم من وجود الإمام زين العابدين الذي حال به المرض عن هذا الأمر كما هو معروف، فقد تربّص بنو أُمية واجتهدوا في طلبهم أدنى مبرر للقضاء عليه؛ لذلك أوصاها الإمام برعاية القافلة، فنهضت بهذه المسؤولية على أكمل وجه، وكانت مرجع النساء والأطفال، يلوذون بها في حوائجهم وشؤونهم، وتتحمّل هي(عليها السلام) مسؤولية رعايتهم والدفاع عنهم، ومن الصور التي رسمها الشيخ الصفّار لرعاية السيّدة زينب(عليها السلام) للقافلة[90] ما يلي:
1ـ بدأت بحراسة القافلة بعد انتهاء المعركة، وأخذت تجمع الأطفال الذين هاموا في الصحراء، وتُصبّرهم وتسهر على حراستهم.
2ـ تُصبّر الإمام زين العابدين(عليه السلام) حين غادرت القافلة كربلاء، ومرّوا بأرض المعركة، فتقول له: (ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟)[91].
3ـ تمنع الأطفال من أخذ الصدقة.
4ـ ترفض استقبال الشامتات من نساء أهل الكوفة، والمتفرّجات على مصابهم، فأمرت بعدم دخول النساء إلّا مملوكة أو أُم ولد، فإنهنَّ سُبين كما سُبيت(عليها السلام).
5ـ كانت(عليها السلام) ملاذاً للعيال، فحين يواجه أحد من عيال الإمام الحسين(عليه السلام) أي مشكلة، فإنّ الملجأ والملاذ هي السيّدة زينب(عليها السلام)، ومن ذلك إشارة الشيخ الصفّار إلى ما تعرّضت له السيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين(عليه السلام)، لما سمعت الرجل الشامي يطلبها من يزيد عليه اللعنة، فبرزت السيّدة(عليها السلام) وتصدّت له، متحدّية سلطان يزيد وبطشه.
6ـ حماية الإمام زين العابدين(عليه السلام) عند استغاثة الإمام الحسين(عليه السلام)، بعد أن قُتل أتباعه من أصحابه وأهل بيته(عليهم السلام)، ورفع الإمام صوته يطلب النصرة، وكان لنداء الاستغاثة وقع كبير على قلب الإمام زين العابدين(عليه السلام)، فوثب من فراشه على الرغم مما ألمّ به من مرض، فرمقه الإمام(عليه السلام)، فأمر أُخته بإرجاعه إلى الخيمة حتّى لا تخلو الأرض من نسل آل محمد(عليهم السلام). كذلك عند هجوم معسكر بني أُمية على الخيام بعد انتهاء المعركة، ومحاولة الملعون شمر بن ذي الجوشن قتل الإمام زين العابدين(عليه السلام)؛ حيث تعلّقت به السيّدة زينب(عليها السلام)، ومنعتهم عن قتله، أو حتّى تقتل دونه، وكذلك إنقاذ الإمام(عليه السلام) من بطش ابن زياد؛ إذ لم يتحمّل الأخير ردّ الإمام(عليه السلام) عليه ردّاً منطقياً، فاضحاً إيّاه وأسياده بني أُمية، فأصدر أمره بقتل الإمام، إلّا أنّ السيّدة تمسّكت بالإمام واعتنقته، موجّهة كلامها إلى ابن زياد، قائلة: (يابن زياد، حسبك من دمائنا...)[92].
ونلحظ كيف أفشل الإمام الحسين(عليه السلام) مخطّطات بني أُمية الإعلامية، وأجهض محاولاتهم في تشويه صورة الثائرين؛ إذ كانت مبادرة الإمام الحسين(عليه السلام) في ردّه على هذه التساؤلات، إجابة حكيمة قوية، وهي استعانته بأخته زينب(عليها السلام) لتقوم بذلك الدور العظيم، فالحسين(عليه السلام) بنفسه كان يوضّح للأُمة أسباب ثورته، وأهداف حركته، وكان يكشف انحرافات الحكم الأُموي وفساده، ويؤكّد المسؤولية الملقاة على كاهل المسلمين، للتصدي لهذا الجور والظلم.
لقد تصدّى الإمام بنفسه للقيام بالمهمّة الإعلامية يوم كان في المدينة المنورة، وحين انتقل إلى مكّة المكرمة، والتقى بجموع الحجيج، وأثناء سيره إلى العراق، وفي أرض كربلاء، وقُبيل استشهاده بلحظات، وكان يخاطب الجيش الأُموي محرّضاً وموجّهاً، لكنّ حاجة الثورة إلى الإعلام بعد استشهاده، تكون أشدّ وأكبر؛ لأنّ الأُمويين ستأخذهم نشوة الانتصار الظاهري، فالإعلام بعد استشهاده أكبر أهمية[93].
وقد مثّل خطاب السيّدة زينب(عليها السلام) في الكوفة أوّل تصريح وتعليق يصدر من أهل البيت(عليهم السلام) على واقعه كربلاء بعد حدوثها، وتكمن أهمّية الخطاب في أنّه موجّه للمجتمع المسؤول عمّا حدث بصورة مباشرة، وهو المجتمع الكوفي. والخطاب أيضاً يعتبر الجولة الأُولى في معارك السيّدة زينب(عليها السلام) ضدّ الإجرام والظلم الأُموي. وقد سلّط الشيخ الصفّار الأضواء على بعض آفاق ذلك الخطاب المهمّ، منها[94]:
1ـ تحميل المجتمع الكوفي المسؤولية المباشرة، عمّا حدث للإمام الحسين وأهل بيته(عليهم السلام)، وعن مصير الثورة المقدّسة، فالكوفيون هم الذين كاتبوا الإمام الحسين(عليه السلام) والحّوا عليه بالقدوم إليهم، ثمّ إنّ الجيش الذي زحف لقتل الإمام، وصنع تلك الجريمة الكبرى، كان في أغلب قياداته وجنوده من أبناء المجتمع الكوفي.
2ـ التركيز على نقاط ضعف المجتمع الكوفي ومساوئ أخلاقه، فالجريمة لم تنطلق من فراغ، وإنّما هي نتيجة طبيعية لتلك الأخلاقيات المنحرفة؛ ولذلك نبهتهم(عليها السلام) على أبرز مساوئ أخلاقهم، بقولها: (وهل فيكم إلّا الصلف والنطف، ومَلَق الإماء، وغَمز الأعداء؟!)[95].
3ـ توضيح أبعاد الفاجعة، فما حدث في كربلاء لم يكن أمراً سهلاً، وليس شيئاً عادياً بسيطاً، إنّه كارثة مروعة، وفجيعة عظمى، وجريمة نكراء.
4ـ منزلة الحسين(عليه السلام) ومقامه، لا بدّ أنّ الإعلام الأُموي سيسعى جاهداً للتقليل من شأن الحسين(عليه السلام)، والافتراء على شخصيته، كما حصل لأبيه الإمام علي(عليه السلام)؛ لذلك ركّزت السيّدة زينب(عليها السلام) في خطابها على بيان منزلة الحسين(عليه السلام) ومقامه، فهو: (سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة)[96].
5ـ الإنذار بالانتقام، فعدالة الله تأبى أن تمرّ تلك الجريمة النكراء دون عقاب يتناسب مع خطورتها، لكنّ العقاب قد لا يأتي عاجلاً، (فلا يستخفنّكم المهل، فإنّه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثأر، وإنّ ربكم لبالمرصاد)[97]، وكان الانتقام الإلهي من قتلة الحسين(عليه السلام) ومن المجتمع المتواطئ معهم، شديداً وقوياً؛ حيث لم يعرف ذلك المجتمع بعدها أمناً ولا استقراراً.
وفي مجلس ابن زياد كان موقفها(عليها السلام) يتطلّب ممارسة دورها الرسالي في الدفاع عن ثورة أخيها الإمام الحسين(عليه السلام) وتأكيد موقعيّة أهل بيتها العظيمة في الأُمة، وتمزيق هالة السلطة والقوّة التي أحاط بها ابن زياد نفسه؛ لذلك بادرت بالردّ عليه قائلة: (الحمد الله الذي أكرمنا بنبيه محمد(صلى الله عليه واله)، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يُفتضح الفاسق، ويُكذّب الفاجر، وهو غيرنا يابن مرجانة)[98].
كان موقف السيّدة زينب(عليها السلام) في مجلس يزيد من أروع مواقف الدفاع عن الحقّ، وتحدّي جبروت الطغيان والظلم، فيزيد كان أمامها متربّعاً على كرسي ملكه، وتحفّ به قيادات جيشه، ورجالات حكمه، وتُشير الروايات التاريخية إلى حضور بعض الدبلوماسيين الأجانب كرسول قيصر الروم. كما أنّ السيّدة زينب(عليها السلام) كانت تعرف فظاظة يزيد وغلظته، وتهوره في القمع والظلم، وكان قد أعدّ مجلسه مهرجاناً للاحتفال بانتصار الحاكم على ثورة أهل البيت(عليهم السلام).
من ناحية أُخرى، كانت السيّدة زينب(عليها السلام) في ظروف بالغة القسوة والشدّة جسدياً ونفسياً، فهي ما تزال تعيش وطأة الفاجعة، ولأجواء الشماتة والإذلال التي استقبلتها في الشام وقع كبير على نفسها، ومجرّد حضورها سبية أسيرة في مجلس عدو ظالم، كان وحده كفيلاً بتحطيم المعنويات وهزيمة الروح، أضف إلى ذلك أنّها كانت متعبة من الناحية الجسدية؛ وذلك لأنّ السفر كان مرهقاً وشاقّاً، حيث كان السير حثيثاً؛ تنفيذاً لرغبة السلطة في الوصول بأسرع وقت إلى الشام، والمرافقون العسكريون لقافلة السبايا كانوا جُفاة صلفين قُساة في تعاملهم مع النساء والأطفال، كزجر بن القيس، وشمر بن ذي الجوشن، حيث كانوا يقذفون السبايا بالشتم، ويضربونهم بالسياط لأدنى مناسبة، وعامل الجوع والعطش كان له دور في إنهاك السيّدة وإرهاقها، حيث كان الجنود يقتّرون عليهم بالطعام والشراب؛ مما دفع السيّدة زينب(عليها السلام) للتنازل عن حصّتها؛ لسدّ جوع الأطفال وعطشهم، متحمّلة مضاضة الجوع والعطش، إضافة إلى ذلك، فقد أُحيط دخول السبايا إلى الشام وحضورهم مجلس يزيد بإجراءات بالغة الصعوبة، قُصد منها إيقاع أكبر قدر من الإذلال والهوان في نفوس السبايا، فقبل إدخالهم على الملعون أوقفوهم فترةً من الزمن على درج باب المسجد، حيث مكان إيقاف سبايا الكفار، ثمّ أتوا بحبل وثّقوهم به كتافاً، وكان بداية الحبل بالإمام زين العابدين(عليه السلام) ونهايته بالسيّدة زينب(عليها السلام)، وساقوهم بإذلال[99].
عدّ الصفّار خطاب السيّدة زينب(عليها السلام) في مجلس يزيد وثيقة فكرية سياسية، سلّطت الضوء على خلفيات المعركة بين أهل البيت(عليهم السلام) والأُمويين، وقدّمت تصوّراً مستقبلياً لآثار المعركة ونتائجها، وأهمّ آفاق ذلك الخطاب هي[100]:
1ـ إنّ الأُمويين يتظاهرون بالإسلام ويحكمون باسمه، إلّا أنّهم ينظرون إلى الأُمور حسب المعادلات المادّية، بعيداً عن القيم والمبادئ، ويريدون أن تنظر الأُمّة إلى كربلاء من المنظار المادّي الجاهلي؛ حيث صرّح يزيد بأنّه أخذ بثارات بدر، ومعارك الإسلام الأُولى ضدّ المشركين، ويرى أنّ القوّة بأيديهم، والانتصارات التي أحرزوها تكفي دليلاً على أحقيّتهم وشرعيتهم كواقع يفرض نفسه، وفي مواجهة هذا المنطق كانت السيّدة زينب(عليها السلام) في خطابها تؤكّد على الرجوع إلى القيم والمبادئ الدينية، والاحتكام إليها في تقويم الواقع، وتفسير أحداثه في ضوء كتاب الله وأحكامه؛ لذلك فهي تذّكر يزيد بأن لا ينظر إلى نفسه من خلال ما يملك من قوّة وسلطة، وذلك قولها: (الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله كذلك يقول: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون)، أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى، أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟!)[101]، فذلك لا يدلّ على الأحقية والمشروعية والرضا الإلهي، فقد يُفسح المجال أمام الكافرين لتضاعف قوّتهم وإمكانيتهم، دون أن يعني ذلك أحقيتهم أو رضا الله عنهم، والحسين وأهل بيته(عليهم السلام) شهداء خالدون على وفق مقياس المبادئ الإلهية، وليسوا مهزومين؛ ولأنّهم يحملون رسالة الله، ويدافعون عن دينه. وحسب المبادئ والقيم، فهناك عدالة إلهية، وهناك دار آخرة تكون فيها النتائج الحاسمة؛ لذا تقول(عليها السلام): (حسبك بالله حاكماً، وبمحمد خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم مَن سوّى لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً)[102]، وبالتالي فإنّ الصراع بين الطرفين من وجهة نظر السيّدة(عليها السلام) صراع بين الخير والشرّ، وليس صراعاً قبلياً على الزعامة.
2ـ إدانتها للجرائم الأُموية، ففي مجلس يزيد، وبحضور أتباعه، أعلنت السيّدة(عليها السلام) الإدانة والاستنكار لما ارتكبه من جرائم بحقّ أهل البيت(عليهم السلام)، وأوضحت مظلوميتهم وعمق مأساتهم بقتل رجالاتهم، وسوق نسائهم سبايا، وترك جثثهم الشريفة دون مواراة، كما أنّها وبّخته بشدّة على أقواله التي تنضح كفراً وتشكيكاً في الدين.
3ـ تُذكّر في خطابها(عليها السلام) يزيد بجذوره العائلية الفاسدة، وخاصّة جدّته هند أُم معاوية وزوج أبي سفيان، التي قادت حملة التأليب والتحريض على قتال رسول الله(صلى الله عليه و اله) والمسلمين، وبخاصّة حمزة بن عبد المطلب عمّ النبي(صلى الله عليه واله)، ثمّ مثّلت بجسمه وانتزعت كبده، حيث قالت(عليها السلام): (وكيف يُرتجى مراقبة مَن لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟)[103].
4ـ أشادت(عليها السلام) بأهل البيت(عليهم السلام)، وأنّهم القادة الحقيقيون لهذه الأُمة، وهم الأَوْلى بالسلطة والحكم، وتعتز السيّدة زينب(عليها السلام) بفضل أُسرتها وأمجادها العظيمة، قائلة: (فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يُكمل لهم الثواب، ويُوجب لهم المزيد، ويُحسن علينا الخلافة، إنّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل)[104].
5ـ تضمّن خطابها ليزيد الكشف عن أنّ نصره الذي حقّقه، هو في الواقع هزيمة، وأنّه سقط في حضيض الهوان، كما تحدّته في أن يتمكّن من تحقيق هدفه في طمس خط أهل البيت(عليهم السلام)، مهما جنّد من قواه، ورهان السيّدة ليس مقتصراً على أمر الدنيا فقط، بل تتطلّع إلى الآخرة، حيث عدالة الله تعالى، وأنّ العاقبة للمتقين، والنار والخزي للظالمين، فقد خاطبت(عليها السلام) يزيد قائلة: (فكد كيدك واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا تُدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد؟! يوم يناد المناد أَلا لعنة الله على الظالمين)[105].
6ـ مثّلت نموذجاً للبطولة، ورمزاً للعزّة الإيمانية؛ إذ تقف أمام حاكم جائر متغطرس، صارخة به: (يابن الطلقاء)، ومنذرةً له وداعية عليه: (اللهمّ خذْ بحقنا، وانتقم ممَّن ظالمنا، وأحلل غضبك بمَن سفك دماءنا، وقتل حماتنا)، وتتحدّاه قائلة: (فو الله، ما فريت إلّا جلدك، ولا جززت إلّا لحمك)[106]. كما أنّها تُبدي احتقارها له، وأنّها أكبر وأسمى من أن تخاطبه لولا ما فرضت عليها الظروف: (ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكبر توبيخك)[107].
يُشير الشيخ الصفّار إلى أنّ هدف يزيد من مجيء السبايا من أهل بيت النبوة إلى الشام، هو أن يخلق جوّاً مضادّاً لثورة الحسين(عليه السلام)، ويدعم عرش حكمه وسلطته، إلّا أنّ الذي حدث عكس ذلك تماماً، حيث انتشر الاستياء في مختلف أوساط العاصمة الأُموية، ومن مظاهر الاستنكار: مواقف ممثّل ملك الروم، والحبر اليهودي، وهند زوجة يزيد، وغيرهم[108].
ويرى الشيخ الصفّار أنّ يزيد صدرت عنه كلمات عديدة أبدى ندمه فيها لمِا فعله بالإمام وأهل بيته(عليهم السلام)[109].
وفي الحقيقة، هذا الرأي بعيد عن الصواب، ولا تُعزّزه الوقائع؛ لأنّ تصرفات يزيد وأفعاله وجرائمه اللاحقة، تثبت جزماً أنّه لا يُبدي ندماً لمِا فعل، بل يزداد كفراً وانتهاكاً للحرمات، وربّما انخدع المراقبون بتظاهره بالندم؛ لأنّ تعنيفه ولومه والثورة عليه جاءت حتّى من بيته الأُموي، بل من أُسرته نفسها، كزوجته وأبنائه وحاشيته.
كما يعتبر الصفّار أنّ مصائب السيّدة(عليها السلام) تربو أضعافاً مضاعفة على مصاب أخيها الحسين(عليه السلام)، فإنّها شاركته في جميع مصائبه، وانفردت عنه بالمصائب التي رأتها بعد قتله من السلب والنهب، وحرق الخيام والأسر، وشماتة الأعداء، فقد كانت في كلّ لحظة من لحظاتها تُقتل معنوياً، ومع ذلك، تصف كلّ ما جرى، وما رأته من مصائب، بقولها: (ما رأيت إلّا جميلاً)[110].
ويتّفق الشيخ الصفّار مع الرأي الذي يذهب إلى أنّ السيّدة(عليها السلام) ماتت ودفنت في الشام[111].
|
|
|
|
|