|
شيعي حسيني
|
رقم العضوية : 13143
|
الإنتساب : Nov 2007
|
المشاركات : 7,797
|
بمعدل : 1.23 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
أرجوان
المنتدى :
المنتدى الثقافي
بتاريخ : 20-07-2008 الساعة : 01:24 PM
4- فاجعة أُخرى
توافد رجال الثورة.. جاء الحسين ومعه إدريس(12) ويحيى.. الرجل الأسمر تتألّق عيناه ببريق هادئ، بَدَتا كنافذتين تطلاّن على عوالم مفعَمة بالسلام.. تشعّ نظراته ممزوجة بحزن سماويّ..
ليس هناك من طريق ثالث.. لقد اختار الحسين طريقه.. قال الذي يَكظِم ثورةً منذ عشرين سنة:
ـ يا حسين! إنك مقتول.. فأحِدَّ الضِّراب..
سكت قليلاً وأردف:
ـ إنّ القوم فسّاق يُظهرون إيماناً ويُضمرون نفاقاً وشركاً..
بدا الحسين مستغرقاً في تفكير عميق.. ربّما تذكّر كلماتٍ قيلت منذ قرن مضى.
كلمات قالها الحسين على شاطئ الفرات: ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد..
نهض الحسين وفي عينيه تصميم على أن يقتفي خُطى الحسين.. من المدينة إلى مكّة.
الجيوش العباسية تغادر بغداد.. كرياح خريفيّة تطارد الربيع..
الحسين ومعه عُدّة أهل بدر في طريقه إلى مكّة وقد أطلّ موسم الحج الأكبر..
قافلة الحسين تطوي الصحراء وتهوي في بطون الأودية.. لم يبق بينها وبين مكّة سوى ستة أميال.. أرهَفَت النُّوق إلى أصواتٍ قادمة من بعيد.. سنابك خيل مجنونة تدكّ الأرض..
بدت السماء في ظلمة الوادي مرصعة بآلاف النجوم.. أحدقت الجيوش بالقافلة.. آلاف الذئاب فوق ذرى التلال تريد الانقضاض على الفجر الوليد..
تساءل ( العباسي ):
ـ هل لهذا الوادي اسم ؟
ـ نعم اسمه فَخّ(13).
ردّد القائل ( العباسي ) بشيء من الدهشة:
ـ فَخّ ؟!
ـ أجل.. فَخّ..
هيمن صمت مدهش على الوادي تخلّله رُغاء نُوق أضناها السفر في الصحارى.
كذئاب مجنونة كانت الجيوش تنتظر مولد الفجر لتنهشه.. النجوم تشتد سطوعاً.. وقد أطلّت لحظة الفَلَق.. انبثق عمود الفجر كشلال من نور فضيّ.. فاندلعت آلاف السيوف كأفاعٍ منتفخة بالسم..
اليوم هو يوم التروية.. الحسين يقاتل.. يدفع غائلة العدوان، وأمواج الذئاب تتجه إلى عمق الوادي حيث حطّت القافلة رحلها.. في بقعة بكى فيها آخر الأنبياء..
لم يكن أمام الحسين سوى طريقين: الموت، أو الذل. ولم يتردد في الاختيار..
لم تكن الشمس لتشرق حتّى كانت أرض الوادي تهتزّ لهول معركة رهيبة.
ها هو الحسين يقاتل ليقول: من الممكن تحطيم المؤمن ولكن من المستحيل هزيمته..
أشرقت الشمس حمراء كعين تنتحب، وإذا الأرض مضمّخة بالدماء.
عشرات السيوف المغروسة في التراب، آلاف السهام المحطمة.. وعشرات الشهداء.. وعشرات الذئاب تعوي.. تحتفل بنصر ( الخليفة )..
عشرات الرؤوس ترتفع فوق ذرى الرماح.. وعشرات الرؤوس تلتف حول رقابها حبال قاسية كأفاعٍ خرافية، ورأس الحسين فوق رمح طويل يتقدّم القافلة.. كربلاء تتألق من جديد.
والوادي يضجّ بصوت رهيب.. عشرات الأجساد المضمخة بالدماء بلا رؤوس.. ما خلا ريحاً خفيفة تدور في جنبات الوادي.. تُوَلْول كأمرأة ثكلى.
وهناك في ذرى التلال وقف يحيى وإدريس وراشد يتطلعون إلى ساحة المعركة.. غضب يتفجر في القلوب.. وعيون تتطلّع نحو الأفق البعيد..
يمّم إدريس وراشد وجههما شطر المغرب.. ومضى يحيى إلى الأرض التي تشرق منها الشمس.. وشيئاً فشيئاً غابا في الآفاق.. حيث تُلامس زُرقةُ السماء سُمرَة الصحراء.. فيما ظلّت الريح تولول وحدها في الوادي المخضب بالدماء.. دماء الأبرياء..
عيون المدينة تترقب قافلة عجيبة.. رؤوس على ذرى الرماح.. يتقدمها رأس الحسين بن علي.. لكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد. تساءل رجل من بغداد:
ـ رأس من هذا ؟
ـ رأس الحسين.
ـ الحسين ؟! ابن من ؟!
ـ إبن عليّ.
ـ إبن عليّ ؟!
قال الذي عنده علم الكتاب:
ـ أجل.. إنّا لله وإنا إليه راجعون.. مضى واللهِ مسلماً صالحاً صوّاماً.. آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر.. ما كان في أهل بيته مثله.
نهض الرجل الأسمر وعيناه تفيضان من الدمع حزناً.
وفي تلك الليلة شَبّت الحرائق في منازل الثائرين.. ألسنة الحرائق المجنونة تلتهم البيوت.. المصاحف، والنخيل.. وغفت المدينة ودخان الحرائق يدور في الأزقة.. فتدمع العيون.. لم يعد هناك كرامة للإنسان..
غادرت القافلة مدينة الرسول في طريقها إلى بغداد.. عشرات الأسرى.. وعشرات الرؤوس تقطع الفيافي إلى بغداد..
( تمّوز ) يُلهب الصحراء.. يُحيلها إلى جمر متوقد.. الظمأ والحبال والسلاسل.. والصحراء تجعل من رحلة الأسرى إلى بغداد.. عذابات وآلاماً. أليس هناك في أعماق الكائن البشري بقايا للإنسان ؟! كيف استحال ( العباسي ) إلى وحش كاسر لا يرى شيئاً غير نفسه ؟!
5- ليلة حمراء
بغداد لاهية.. في سكرة.. غافلة عما يجري.. في منتصف الليل ولجت قافلة الأسرى.. تَقدمها عشرات الرؤوس فوق ذرى الرماح..
دخلت القافلة بغداد من باب الكوفة.. اجتازت ( الطاقات ) وقد اصطفّ عشرات الحراس وتوهجت عشرات المشاعل. ساقَ جنودٌ غلاظ الأسرى باتجاه اليمين تحت ضوء قمر شاحب.. بدت السكك المؤدّية إلى الدواوين والقصور كدهاليز مظلمة.. اجتاز الجنود سكّة النساء، وتوقفوا أمام جدار صخري قاس.. انفتحت بوابة حديدية كبيرة وظهر حرّاس غلاظ يحملون المشاعل.. أدرك الأسرى أنّهم قد وصلوا ( المِطْبَق ) ذلك السجن الرهيب الذي طالما سمعوا عنه الحكايات الرهيبة..
اقتِيد الأسرى إلى زاوية في باحة السجن.. تناهت إلى أسماعهم كلمات مقتضبة غير مفهومة، ومنّى بعضهم نفسه بالحرّية.. ونظر بعضهم إلى السماء المرصعة بالنجوم.. وتعالت همسات تضرّع وتمتمات مبهمة لا يُسمع منها سوى: الله.. يا ألله..
وشيئاً فشيئاً هيمن صمت ثقيل.. ملأ باحة ( المطبق ) حيث تتوهج المشاعل بالكآبة والحزن. ورغم حرارة الصيف فقد كانت تهب من ناحية دجلة نسائم طيبة تبعث في الروح قدراً من الأمل بغدٍ أفضل..
النجوم تشتد سطوعاً في السماء، وبدا القمر أكثر شحوباً.. لم تبق سوى سويعات ويطلع الفجر..
نام بعض الأسرى خاصة الشيوخ منهم، وظلّ بعض الشبّان يحدّثون في صفحة السماء.. وربّما تهامس بعضهم في شأن ما.. فيما فضّل آخرون الصمت، تطوف في رؤوسهم صور الأحبّة والديار وتشتعل في أذهانهم ذكريات قديمة.. وبين الفَينة والأخرى يأتي صوت لنباح كلاب بعيدة..
الليل في قصر ( الذهب ) أضواء حمراء.. وقناديل.. وشُرُف مفتوحة تلعب بستائرها نسائم ( دجلة )..
الليل في أروقة القصر المنيف.. فتياتٌ حِسان يرفلنَ بحُلل الحرير.. تتألق فيها اللآلئ ويبرق فيها الذهب..
الليل في البلاط ( خليفة ) في عنفوان الشباب.. تبرق عيناه بحمّى الشهوات..
|
|
|
|
|