عرض مشاركة واحدة

الصورة الرمزية أرجوان
أرجوان
شيعي حسيني
رقم العضوية : 13143
الإنتساب : Nov 2007
المشاركات : 7,797
بمعدل : 1.23 يوميا

أرجوان غير متصل

 عرض البوم صور أرجوان

  مشاركة رقم : 4  
كاتب الموضوع : أرجوان المنتدى : المنتدى الثقافي
افتراضي
قديم بتاريخ : 20-07-2008 الساعة : 01:25 PM


الليل لحظات سُكْر وغناء.. وآنية ملأى بالخمر المعتّقة.. جاءت ( غادر )(14) بقدّها الممشوق.. بوجهها الذي يطفح سحراً وجمالاً.. لم يملك ( الخليفة ) الشاب إلاّ أن يهبّ مفتوناً.. وهبّ الندماء.. إجلالاً لموكب السحر والجمال.. اتّخذت ( غادر ) مجلسها قريباً من ( الخليفة ) المفتون.. وحولها وصائفها، استخرجت عوداً من خشب الأبنوس من بين طيات الحرير، وبرفق وضعته في حِجرها وانحنت عليه.. وانساب الصوت الإنساني الناعم مع أنغام العود ليطوّح بعقل ( الخليفة ) بعيداً.. وليقضي على ما استبقته الخمرة من قدر ضئيل من الإدراك..

( الخليفة ) الشاب يحلّق بعيداً في عوالم زاخرة باللذائذ..

استخوذت ( غادر ) بسحرها على الشاب، راحت يداه تتحركان مع أنغام الغناء.. حتّى رأسُه بدا يتمايل كرأس أفعى يرقّصها حاوٍ هندي..

لم يملك نفسه.. لم يستطع التحمّل أكثر من هذا. ( غادر ) تطوّح به بعيداً في وادٍ غارق باللذة.. فجأة برقت عيناه المنطفئتان بسبب السكر.. شق حلّته.. كفّت ( غادر ) عن الغناء.. توقّف العود عن بث الأنغام الساحرة.. اشتعلت في رأس الأفعى آلاف الأفكار.. تصوّر نفسه ميتاً.. وهارون يستولي على كل شيء.. حتّى محظيّته (غادر).. هارون يعبّ أقداح اللذة. أما هو فيتشرب الموت والفَناء، صرخ بقسوة:

ـ كلاّ!

ارتجف القصر.. وظهر رجال غلاظ..

صاح ( الخليفة ) من وراء الستائر:

ـ علَيّ به.. علَيّ بهارون.

أسرع الرجال الغلاظ إلى سجن خاص.. حيث يقضي هارون لياليه في ظلال قاتمة من خلافة أخيه..

جاء هارون وقد ذهبت به الظنون.. حياته ومصيره في كفّ عفريت من الإنس..

وقف هارون يتحاشى نظرات أخيه.. ويتلقّى كلماته الجارحة..

ووقف القاضي يسطّر عباراتِ أغرب عهد في التاريخ.. من أجل أن لا يحظى هارون بمَحظيّة أخيه..

أُعيد هارون إلى سجنه واستأنف ( الخليفة ) ليلته الحالمة المترعة باللذّة وقد شعر بأنه قد أزاح عبئاً ثقيلاً عن كاهله.. دجلة ما يزال يجري في الظلام، تتدافع مياهه المتألقة تحت ضوء القمر..

و ( الخليفة ) ما يزال سادراً في غيّه.. وشيئاً فشيئاً تبرق عيناه.. تضّج فيهما شهوات آثمة.




6- احتفال دمويّ

تنفّسَ الصبح.. وسيقَ الذين أُسروا زُمَراً، وشاهد بعضهم بغداد لأول مرّة وآخر مرّة.

سار موكب الأسرى يحفّه حرّاس غلاظ.. اجتازوا باتجاه اليسار السكك التي مرّوا بها ليلة أمس.. سكة ( النساء ) وسكة ( سرجيس ) وسكة ( عطية ).. سكة (غَزوان).. حتّى إذا وصل الموكب طاقات ( باب الكوفة ) انحرف باتجاه اليمين في طريق مرصوفة بالحجارة تؤدي إلى القبة الخضراء..

من بعيد لاح تمثال الفارس فوق القبّة، ما يزال يحمل رمحه الطويل فيشير هذه المرّة صوب ( مدينة الرسول ).. الرمح العباسي يحدد جهة الخطر!

موكب الأسرى يقترب من القصر وعلى بعد عشرات الخطى توقّف ريثما يحصل على الإذن.. أدرك بعضهم من خلال حركة الحرّاس أن ( الخليفة ) غير موجود..

مرّت ساعة حسبها الأسرى عاماً.. فجأة ظهر العشرات من رجال الشرطة من طريق جانبية بدوا مثل زوبعة سوداء، بعضهم يشهرون السيوف، وآخرون بأيديهم أقواس موتورة.. وبدا ( الخليفة ) الشاب بشفته المشقوقة مُصعِّراً خدّه للسماء يكاد ينفجر غروراً.. يحسب أنّه سوف يخرق الأرض وأنّه يبلغ الجبال طولا..

توقف ( الخليفة ) الذي لم يكمل السادسة والعشرين من عمره بعد.. ألقى نظرة حارقة أودَعَها كلَّ عُقده النفسية الدنيئة، بَدَت عيناه جمرتين تتوقدان حقداً..

راح يتصفح وجوه الأسرى.. ويمسح بسكين في يده على أنوفهم! وغاظه أنّه لا يجد في عيونهم ذلة الانكسار.. الأُنوف ترتفع إباءً والجباه تتألق ثورة.. لم يكن هناك سوى شحوب السهر وعذابات الطريق..

استدار كزوبعة مجنونة واتجه صوب بوابة القصر.. تحرك موكب الأسرى بصمت إلى داخل القصر.. هيمن سكوت موحش وانبعثت من مكان ما رائحة دم.. كل شيء كان يوحي بوقوع مذبحة وشيكة..

تقدّم بعض الحرّاس وحلّوا عن الأسرى قيودهم والحبال.. ( الخليفة ) ما يزال يلهب أسراه بنظرات حاقدة.. وفي يده سكين تبعث بريقاً مخيفاً..

وقف جلاّد فارع الطول على مقربة من ( الخليفة ). بدا بحلّته السوداء شبحاً رهيباً.. بيده سيف برّاق.. وقف كتمثال. لا يَطرف له جفن.. كان ينظر إلى ( الخليفة ) وينتظر.. ينتظر لحظة الانقضاض.

دخل طابور يحمل رؤوس الشهداء على ذرى الرماح، وكان رأس الحسين فوق رمح طويل..

مرّت لحظات صمت رهيب.. لوّح ( الخليفة ) المفتون بالسكّين إيذاناً ببدء المذبحة.. تحرّك التمثال الرهيب.. برق سيفه القاسي.. تقدم اثنان من الشرطة ليقودا أوّلَ أسير إلى نهايته الدامية.. مدّ الأسير رقبته.. كان يتمتم بصوت خافت وقد علت وجهَه صفرة الموت..

مرّ الزمن كئيباً.. وسيف الجلاّد يرتفع ويهوي.. وتتساقط رؤوس الثوّار.. وفي كل مرّة ينبعث صوت مخيف.. صوت ارتطام السيف بالعنق صوت مخنوق.. يتألف من حرفين كأنه يحكي تمزّق اللحم وتهشم العظام الآدمية، وفي كل مرّة ينبعث ذات الصوت المخنوق قائلاً: رض...

تساقطت عشرات الرؤوس.. وكان بين الأسرى شيخ طاعن في السن انهكته الأيّام وعصفت به السنون.. كان يتحاشى الشرطة، وفي كلّ مرّة كان يتأخر.. وكان بعض الشبّان يساعدونه لعلّ ذاك القلب القاسي يكف عن مسلسل القتل.. لعلّ الإنسان يستيقظ في أعماقه المظلمة!!

خيّم سكون مدهش.. لم يبقَ سوى الشيخ.. لعلّه كان يتمنى أن يموت بين أحبّته.. في مرابع صباه.. لعلّه كان يحلم بلقاء الأحباب.. لعلّه يريد أن يوصي أبناءه.. لهذا هتف (بالخليفة) المفتون:

ـ لا تقتلني يا أمير المؤمنين! لا تقتلني أنا مولاك!

صرخ ( الخليفة ) المفتون:

ـ مولايَ يخرج علَيّ ؟!

هبّ من مكانه وراح يسدّد طعناته بقسوة.. كانت السكين تغوص في جسد الشيخ، مزّقت صدره.. غاصت في قلبه.. هوى الشيخ عند قدمَي ( الخليفة ).. تكوّم فوق أرضية البلاط.. وشيئاً فشيئاً خمدت الروح وانطفأت العينان.. وجثم حزن ثقيل فوق المكان كغراب في مساء خريفي..

انتهت الحفلة.. جاء رجال غلاظ يحملون الأجساد وآخرون يحملون الرؤوس.. وآخرون يغسلون أرضية البلاط المرصوفة بالصخور القاسية.. وهكذا عاد البلاط أنيقاً كما كان.. فيما ظلّت رائحة الدم تدور في أروقة القصر المنيف..




7- مناجاة موسويّة

المدينة خائفة تترقب، لقد هوى الفارس شهيداً في ( فخ ) وقد أسفر ( الخليفة ) عن وجهه.. كشّر عن أنيابه يريد أن ينقضّ دون رحمة، لم يعد هناك حياء.. فالعالم مستباح أمام خيول الغازي.. ريح السَّموم تعصف بالمدينة تشوي الوجوه..

لم تهدأ الريح إلاّ في المساء.. نسائم قادمة من البحر تحاول أن تخفف من حرارة الجوّ الخانقة..

وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال:

ـ يا موسى، إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إنّي لك من الناصحين..

أجاب الذي عنده علم الكتاب:

ـ إنّ معيَ ربّي سيهديني.

قال رجل خائف:

ـ غيّبْ وجهك يا ابن رسول الله مدّة... إن هذا الطاغية لن يتورع عن قتل الناس جميعاً بعد ما قُتل الحسين.

دمعت عينا ابن النبيّ صلّى الله عليه وآله وغمغم بحزن:

ـ كان واللهِ صوّاماً قوّاماً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر.

ونظر إلى السماء المرصّعة بالنجوم من خلال كوّة في الجدار.. وراح يتأمل الأغوار السحيقة.. والتفت.. التفت إلى الخائفين وقد ارتسمت ابتسامة أمل على مُحيّاه وقال:


زعم الفرزدقُ أنْ سيقُتلُ مِربَعاْ

أبشِرْ بطولِ سلامةٍ يا مربعُ
نهض ابن النبيّ، شمّر عن ساعدَيه... وطوى الأردان عن مرفقيه، وانثالت المياه تغمر الوجه الأسمر واليدين.. ووقف الرجل الأسمر في المحراب.. كما وقف موسى بن عمران يتأمل البحر الهائج.. وقد بدت في الأفق البعيد مركبة فرعون وجنوده.

الدعاء معراج الإنسان المؤمن.. سلاح الأنبياء.. واحة وارفة الظلال في صحراء الحياة.. مركبة فضائية يبحر فيها المقهورون إلى عوالم زاخرة بالنور والطمأنينة والسلام..

وفي عالم مترع بالخوف.. وفي فضاء مخنوق برائحة الدم جلس وارث محمد يتمتم بكلمات تقطر حبّاً لخالق السماوات والأرضين.. وأصغى الخائفون إلى صوتٍ فيه بَحّةُ حزن.. صوت يشبه صوت انهمار المطر.

تجمعت في سماء الروح غيوم وغيوم.. إدلَهَمّ الفضاء.. ودفء الكلمات يجعل الجوّ مشحوناً.. مخزوناً بالبرق وبالرعود.. الكلمات الدافئة المترعة بحزن سماوي تسافر في الفضاء.. تخترق جدران الزمن:

ـ ( إلهي..



توقيع : أرجوان
..اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين..
من مواضيع : أرجوان 0 سفن آب (تجميد اللقطة)
0 زخارف اسلامية للتصاميم
0 في حياتي زهــــــ ـــــرة
0 لا يفوتكم المناظر مصر .. أم الدنيا‎
0 اسم فاطمة الزهراء (ع) سبب شفاء أعمى
رد مع اقتباس