البكاء على الميت .. ومنشؤه ؟.
الــــــرد : قال السيد مرتضى العسكري :
كان البكاء على الميت وخاصة الشهيد من سنة الرسول (صلى الله عليه وآله) ..
1- بكاء الرسول على زيد وجعفر وابن رواحة .
فقد روى البخاري في صحيحه : ان النبي نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم وقال : " أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ، وعيناه تذرفان . . . " [1] .
وفي ترجمة جعفر من الاستيعاب واسد الغاية والاصابة وخبر غزوة مؤته من تاريخ الطبري وغيره ما ملخصه : لما اصيب جعفر واصحابه دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيته وطلب بني جعفر فشمهم ودمعت عيناه فقالت زوجته اسماء بابي وامي ما يبكيك ابلغك عن جعفر واصحابه بشئ ؟ قال نعم اصيبوا هذا اليوم ، قالت اسماء فقمت اصيح واجمع النساء ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول واعماه ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) على مثل جعفر فلتبك البواكي .
2- بكاء الرسول على ابنه ابراهيم .
وفي صحيح البخاري : قال انس : دخلنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) . . . وابراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف (رض) وانت يا رسول الله ! فقال يا ابن عوف انها رحمة ثم اتبعها باخرى فقال ان العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول الا ما يرضي ربنا وانا بفراقك يا ابراهيم لمحزونون . .. وفي سنن ابن ماجة : " فانكب عليه وبكى " [2]
3- بكاء الرسول (صلى الله عليه وآله)على حفيده له .
في صحيح البخاري ان ابنة النبي (صلى الله عليه وآله) ارسلت إليه : ان ابنا لي قبض فاتنا، فقام ومعه سعد بن عبادة ورجال من اصحابه فرفع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونفسه تتقعقع ففاضت عيناه، فقال سعد يا رسول الله ما هذا ؟ فقال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وانما يرحم الله من عباده الرحماء [3] .
4- بكاءه (صلى الله عليه وآله) على عمه حمزة .
ندب الرسول (صلى الله عليه وآله)إلى البكاء على عمه حمزة لما سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد غزوة أحد ، البكاء من دور الانصار على قتلاهم ذرفت عينا رسول الله وبكى، وقال : لكن حمزة لا بواكي له . فسمع ذلك سعد بن معاذ واسيد بن حضير فرجع إلى نساء بني عبد الاشهل فساقهن إلى باب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبكين على حمزة، فسمع ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله)فدعا لهن وردهن، فلم تبك امرأة من الانصار بعد ذلك إلى اليوم على ميت الا بدأت بالبكأ على حمزة ثم بكت على ميتها [4] .
5- بكى الرسول على قبر أمه وأبكى من حوله
- زار رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبر امه فبكى وابكى من حوله .. [5] .
منشأ الخلاف حول البكاء على الميت .
مر في ما سبق أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكى على المتوفي قبل أن يتوفى وبعده، خاصة الشهيد وانه امر بالبكاء على الشهيد وبكى على قبر امه وابكى من حوله ، وامر بصنع الطعام لاهل الميت ..اذن .. فما هو منشأ الخلاف والنهي عن البكاء على الميت ؟
نرجع ايضا إلى صحيحي البخاري ومسلم فنجد حديث المنع عن البكاء من الخليفة عمر ..
الخليفة عمر يروي ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن البكاء وأم المؤمنين عائشة تستدرك عليه .
في صحيح البخاري ومسلم ، عن ابن عباس : لما أن اصيب عمر دخل صهيب يبكي ويقول : وا أخاه ! وا صاحباه ! فقال عمر : يا صهيب اتبكي وقد قال رسول الله " ان الميت ليعذب ببكاء اهله عليه " فقال ابن عباس . فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة. فقالت رحم الله عمر والله ما حدث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان الله ليعذب المؤمن ببكاء اهله عليه ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال ان الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء اهله عليه وقالت حسبكم القرآن "ولا تزرر وازرة وزر اخرى" قال ابن عباس (رض) عند ذلك : " والله هو اضحك وابكى " [6] .
- وفي صحيح مسلم : ذكر عند عائشة ان ابن عمر يرفع إلى النبي "ان الميت يعذب في قبره ببكاء اهله عليه" فقالت : انما قال رسول الله "انه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وان اهله ليبكون عليه" .
- وفي رواية قبله في صحيح مسلم : ذكر عند عائشة قول ابن عمر : الميت يعذب ببكاء اهله عليه فقالت : رحم الله ابا عبد الرحمن سمع شيئا فلم يحفظه انما مرت جنازة يهودى على رسول الله وهم يبكون عليه فقال " انتم تبكون وانه ليعذب " [7] .
- قال الامام النووي (ت 177هـ) في شرح صحيح مسلم عن روايات النهى عن البكاء المروية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)" وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب ؟ وابنه عبد الله رضي الله عنهما وانكرت عائشة ونَسَبَتْها إلى النسيان والاشتباه عليهما وانكرت ان يكون النبي (صلى الله عليه وآله) قال ذلك [8] .
ويظهر من الحديث الاتي أن منشأ الخلاف كان اجتهاد الخليفة عمر في النهي عن البكاء في مقابل سنة الرسول بالبكاء ، فقد ورد في الحديث أنه : مات ميت من آل الرسول (صلى الله عليه وآله) فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر ينهاهن ويطردهن فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعهن يا عمر فان العين دامعة والقلب مصاب والعهد قريب [9] .
وفي صحيح البخاري : كان عمر يضرب فيه بالعصا ويرمي بالحجارة ويحثي بالتراب [10] .
هكذا كان منشأ الخلاف في شأن البكاء على الميت، الاحاديث المتعارضة الواردة بشأنه في كتب الصحاح ولعل اجتهاد الخليفة عمر في المنع كان منشأ للاحاديث المروية في منع البكاء على الميت .
فقد رووا غير ما ذكرنا بعض الحديث في تأييد اجتهاد الخليفة الصحابي عمر ، ولا مجال في هذه العجالة لبيان علل تلك الاحاديث وفي ما ذكرنا الكفاية في معرفة منشأ الخلاف في شأن البكاء والذى نحن بصدده .
المصدر : ينظر : معالم المدرستين / للسيد مرتضى العسكري / ج 1 / ص 55 – 60 .
_____________
1) صحيح البخاري ، كتاب فضائل اصحاب النبي باب مناقب خالد بن الوليد ج 4 / 204 .
2) صحيح البخاري كتاب الجنائز ، باب قول النبي (صلى الله عليه وآله): انا بك لمحزونون وصحيح مسلم ، كتاب الفضائل ، باب رحمته بالصبيان والعيال ، الحديث 62 . وسنن ابن ماجة ، كتاب الجنائز ، باب ما جاء في النظر إلى الميت ، الحديث 1475. ومسند احمد ج 3 / 194.
3) تتقعقع : أي تضطرب روحه لها صوت وحشرجة كصوت الماء إذا ارتقى في القربة الخالية. صحيح البخاري ، كتاب الجنائز ، باب قول النبي (صلى الله عليه وآله)" يعذب الميت ببعض بكاء اهله عليه واللفظ له ، وكتاب المرضى ، باب عيادة الصبيان ، ج 4 / 3.وصحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، الحديث 11 ، ص : 636 وسنن ابي داود، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، الحديث 3125 و 3126 . وسنن النسائي ، كتاب الجنائز، باب الامر بالاحتساب والصبر . ومسند احمد ، ج 2 / 306 وج 3 / 83 و 88 و 89 .
4) اوردناه من ترجمة حمزة في طبقات ابن سعد ط . دار صادر بيروت 1377 وج 3 / 11 ، واكثر تفصيلا منه في مغازي الواقدي ج 1 / 315 - 317 وبعده امتاع الاسماع 1 / 163 . ومسند احمد 2 / 40 وتاريخ الطبري . وأورده ابن عبد البر بايجاز بترجمة حمزة من الاستيعاب وباختصار ايضا ابن الاثير بترجمته من الاسد .
5) صحيح مسلم / باب استئزان النبي صلى الله عليه و سلم ربه عز و جل في زيارة قبر أمه ، وسنن ابن ماجة كتاب الجنائز باب ما جاء في زيارة قبور المشركين .
6) صحيح البخاري ، كتاب الجنائز ، باب قول النبي (صلى الله عليه وآله)يعذب الميت ببكاء اهله عليه ج 1 / 155 - 156 ، وصحيح مسلم ، كتاب الجنائز ، باب الميت يعذب ببكاء اهله عليه ، الحديث : 23 ، ص 642 .
7) صحيح مسلم ، كتاب الجنائز باب الميت يعذب ببكاء الله اهله عليه الحديث 25 والحديث 27 وقريب منه لفظ الترمذي في كتاب الجنائز ، باب ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت ، وسنن ابي داود ، كتاب الجنائز ، الحديث 3129 .
8) شرح النووي بهامش صحيح مسلم ط . المطبعة المصرية 1349 ه ج 6 / 228 باب الميت يعذب ببكاء اهله عليه .
9) سنن النسائي كتاب الجنائز باب الرخصة في البكاء على الميت .
ابن ماجه كتاب الجنائز باب ما جاء في البكاء على الميت الحديث 1587 ص : 505 .
مسند احمد 2 / 110 ، 273 ، 333 ، 408 ، 444 .
10) صحيح البخاري ، كتاب الجنائز ، باب البكاء عند المريض ، ج 1 / 158 ، وقوله " يضرب فيه " أي يضرب لاجل المنع من البكاء .