بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
ظاهرة (داعش): الأسباب والحلول
في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة غريبة، فاجأت الجميع فيما يبدو، وقد برزت من تحت السطح فجأة، تسمى ظاهرة (داعش) بما أثارته من رعب وقلق وإرباك وتدمير وصعود مفاجئ غريب، فما هو السبب الكامن وراء هذا الظهور المفاجئ الشاذ والغريب؟!
التدبر الواعي في الآية الشريفة: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، يعطينا جملة من الأسباب التي تكمن وراء أية ظاهرة شاذة وهمجية كهذه الظاهرة.
ولكن قبل ذلك، لا بد أن نشير إلى ملاحظة أنه في السابق كان الاستعمار والاستكبار العالمي وأيادي الشياطين تختلق مخلوقاً غريباً همجياً وهجيناً يثير في الأرض الفساد في كل (100) سنة أو أقل أو أكثر كالوهابية أو البهائية أو غيرهما، وكانت مهمة هذا المخلوق الفساد والإفساد، وتشويه الإسلام، عبر إنتهاج منهج القساوة أو الإنحلال والجمود الغريب أو الانفتاح اللامنضبط الفوضوي([2])، لكنهم في السنين الأخيرة، وفي القرن الأخير تحديداً، نجدهم بدل أن يخترعوا كل (100) سنة موجوداً عجيباً في الهمجية والوحشية، أخذوا يقلصون الفاصل الزمني، حتى تسارعت الانتاجات للتنظيمات المشوهة، فأصبح في كل عقد من الزمان، يبرز وحشاً جديداً يلتهم البلاد ويدمّر العباد، لكن وفي كل مرة بشكل مختلف وباسم مختلف أيضاً، فتارة يسمونه "القاعدة"، وأخرى يسموه "داعش"، وثالثة "جبهة النصرة" أو "بوكو حرام"، ولعله غداً، يخرج لنا دينصوراً غريباً باسم آخر.. من يدري؟!
أفلا تستحق منا هذه الظاهرة أن نبحثها وندرس جذورها ونتائجها وكيفية علاجها؟ خاصة وإنها آخذة بعناقنا، بل بعناق الجميع، كما يبدو من التحالفات التي بدأت تظهر بين دول العالم ضدها بحسب الظاهر؟
إن خروج جماعة مجهولة تقفز من المجاهيل، ليس لها إسم ولا تاريخ ولا علم ولا حضارة، وتسيطر في فترة وجيزة على 35% من أرض العراق، شيء يستحق التوقف والتأمل، خصوصاً وإننا لم نسمع بمثل هذا الأمر على مر التاريخ؛ إذ إن السيطرة على الأرض تتطلب جهداً ووقتاً استثنائيين، في حين إنهم سيطروا على (9) مليون نسمة في العراق وسوريا في وقت قصير جداً، مع أن الجميع لم يقبل بهم: لا الشيعة ولا السنة، لا العراق ولا دول الجوار ولا غيرهم، بل حتى الدول العظمى فيما يبدو.
وما هو الحل لمواجهة هذه المخلوقات الأرضية الغريبة([3]) التي خرجت قياداتها من السجون الأمريكية والسعودية([4])، ومن بطون كتب الفكر التكفيري الوهابي، والتي تفتك بالناس بلا موازين عقلية ولا شرعية ولا عرفية ولا غير ذلك، فيلوثون الإسلام باسم الإسلام، حتى إن جماعة "بوكو حرام" في نجيريا تخطف الفتيات الشابات، وتهتك الحرمات، وتعتبر ذلك من صميم الجهاد والدعوة الى الله تعالى!!
إن علينا البحث والتنقيب عن أسباب هذه الظواهر الغريبة الشاذة والمتوحشة؛ إذ العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس، والأسباب والعوامل كثيرة منها ماهو دولي ومنها ماهو إقليمي وغير ذلك، ولكلٍ شطر وافر من الحديث، إلا إننا الآن نعرض عنها صفحاً، ونتحدث فقط عن العوامل الداخلية.
بصائر هامة في آية ابتلاء إبراهيم
وإذا تدبرنا في الآية الشريفة، نكتشف أهم العوامل الداخلية لذلك، ففي الآية بصائر كثيرة لها الموضوعية، كما أن لها الطريقة في حل عُقَدِ أمثال هذه الظواهر الشاذة، قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)([5])، ومن أهم هذه البصائر:
1- أفعال الله تعالى معلَّلة بالغايات
هناك نقاش كلامي، معروف بيننا وبين بعض الأشاعرة، وهو: "هل إن أفعال الله سبحانه وتعالى معللة بالأغراض أم لا؟".
نحن ـ وكل منصف ـ نذهب الى الأول، أما أولئك فيذهبون الى الثاني، علماً بأننا نقول بذلك لا لحاجة الله الى تعليل أفعاله بالأغراض، بل إن حكمته تقتضي ذلك، وإن هذه الآية الشريفة تصلح كدليل على مانذهب إليه.
بيان ذلك: إن الله تعالى أراد أن يستخلف خليفة في الأرض، وإن ذلك يتحقق في جعله إبراهيم (عليه السلام) إماماً ـ وكذلك سائر الأنبياء والأوصياء ـ لكنه تعالى لم يستخلفه حتى ابتلى إبراهيم بكلمات، كان لا بد عليه من إتمامهن ليكون خليقاً بالخلافة الإلهية المرجوة، فحيث نجح إبراهيم (عليه السلام) في ذلك الامتحان والاختبار، (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، ومعنى ذلك إن أفعال الله معللة بالغايات كما نذهب إليه.
كما أن قوله تعالى: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، يؤكد أن أفعاله معللة بالأغراض، ولذا لا ينال عهده إلا المحل القابل، وهو العادل بقول مطلق، غير الظالم بأي وجه من الوجوه.
2- ماهي الكلمات التي أتمها إبراهيم (عليه السلام)؟ ماهي هذه الكلمات التي وردت في قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)؟.
وأهمية هذه الكلمات تنبع من أن إتمامها من قبل إبراهيم (عليه السلام) كان مقياساً للاستخلاف الإلهي في الأرض.
إضافة إلى أننا إذا عرفنا تلك الكلمات، فسوف نعرف السبب الأساس والجوهري وراء ظهور داعش وغيرها من المخلوقات المشوهة التي ابتليت بها الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً.
أ- الكلمات هي أنواع الطهارة العشرة
والجواب: هناك عدة تفاسير لهذه الكلمات نتعرض لأبرزها:
1) ماذهب إليه قتادة([6]): إنها عشر كلمات، خمسة منها في الرأس، وخمسة أخرى في البدن: فأما التي في الرأس: فقص الشارب، وفرق الشعر، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك. وأما التي في البدن: فالاستنجاء، وحلق العانة، والختان، وقص الأظافر، ونتف الإبطين. وفي ذلك مناقشة:
1) لا سنخية بين هذه الأفعال ولا تجانس ولا مناسبة بينها وبين الاستخلاف الإلهي لإبراهيم (عليه السلام) لخلص أوليائه على الأرض، فأية سنخية بين قص الأظافر أو المضمضة وبين الاستخلاف وتوكيل إدارة وسياسة البلاد والعباد واقتصادهم وحقوقهم إلى هؤلاء؟!.
2) إن هذه الأفعال أو أكثرها، مما يقوم بها أغلب الناس حتى من غير الموحّدين، ولا شك إنها أفعال طيبة، خاصة إذا صدرت عن إخلاص واتباع للدين الحنيف، لكنها لو كانت ملاك الاستخلاف الإلهي لصَلُح الكثير جداً من الناس ليكون في مقام إبراهيم خليل الرحمن!.
ب – الكلمات هي: الولاية واليقين والمعرفة والشجاعة و...
وهو ما تذهب إليه مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)
فقد وردت روايات متعددة في هذا الشأن، إلا إننا نذكر رواية واحدة، وهي رواية معتبرة سنداً، ومتوافقة مع أصول المذهب والمعتقد، وهي تصرح بان الكلمات هي: اليقين والمعرفة والشجاعة والنزاهة والحلم، وغير ذلك كما سيأتي.
وهذه هي الكلمات التي ينبغي أن يتحلى بها – على حسب درجاتها - النبي أو الخليفة أو أي قائد أو مرجع تقليد أو أي مدرس ومعلم ومربي، لكننا – ويا للأسف - أعرضنا عن هذه الكلمات فحل بنا ماحل، ولازلنا بعيدين كل البعد عن ذلك، فقد ورد في تفسير البرهان عن الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام):
(الكلمات) هي: (الولاية العظمى لمحمد المصطفى إلى المهدي من آل محمد (عجل الله تعالى فرجه الشريف)).
قال (الراوي): قال: سألته عن قول الله عز وجل: (وإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) ما هذه الكلمات؟.
قال: «هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، وهو أنه قال: يا رب، أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم».
فقلت له: يا بن رسول الله ، فما يعني عز وجل بقوله: (فَأَتَمَّهُنَّ)؟
قال: «يعني فأتمهن إلى القائم (عليه السلام) إثني عشر إماماً، تسعة من ولد الحسين (عليه السلام)».([7])
فهذه هي الكلمة الأولى، وهي (الولاية العظمى)، والإذعان إلى القيادة الربانية العليا للرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (سلام الله عليهم) على جميع العوالم، فإن الله تعالى هو مَنْ يعيّن القيادة والإمامة العامة والمرحلية على الناس، فإن اتبع الناس إمامهم الذي انتخبه الله، سعدوا ورشدوا واهتدوا ونالوا فوق المنى دنياً وديناً وأخرى. قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)([8])، وإلا فإنهم من الضالين.
ب- اليقين
ثم يقول الإمام (عليه السلام) (.... فأما الكلمات - فمنها ما ذكرنا([9]) - ومنها اليقين، وذلك قول الله عز وجل: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ)([10]).
وهذه الصفة (اليقين) صفة أساسية في النجاح والفلاح في الدنيا قبل الآخرة، سواء أفي القائد أم في الجندي أم في المدير والمعلم أم غيرهم، لذا ترى مثلاً الجيش الذي يتحلى أفراده باليقين بالآخرة والجنة، فإنه يقاتل بكل حماسة وقوة وفدائية وعزة وثبات، فيَقتل ويُقتل، فيكون من الشهداء وحسن أولئك رفيقاً، وما ذلك إلا ليقينه بواجبه وبيوم القيامة، وما يترتب عليه من النعيم المقيم، أما الجندي الذي لا يقين له، فإنه يهرب لدى أدنى مخاطرة فيلحقه العار الى يوم الدين..
والحاصل: إن اليقين بالله وعدله وثوابه وعقابه وبالمثل الأخلاقية العليا، في أي مكان حل، فإنه يحوّله الى روضة غناء، ويحوّل صاحبه إلى انموذج، فكيف إذا كان يقيناً مثل يقين إبراهيم (عليه السلام)؟.
ج- المعرفة
(ومنها المعرفة بقدم بارئه، وتوحيده، وتنزيهه عن التشبيه، حين نظر إلى الكوكب والقمر والشمس، واستدل بأفول كل واحد منها على حدوثه، وبحدوثه على محدثه، ثم علمه (عليه السلام) بأن الحكم بالنجوم خطأ في قوله عز وجل: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ)([11])، وإنما قيّده الله سبحانه بالنظرة الواحدة، لأن النظرة الواحدة لا توجب الخطأ إلا بعد النظرة الثانية، بدلالة قول النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): "يا علي أول النظرة لك، والثانية عليك لا لك".
د- الشجاعة
ومنها: الشجاعة وقد كشفت الأصنام عنه، بدلالة قوله عزوجل: (إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنْ اللاَّعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ)([12])، ومقاومة الرجل الواحد ألوفاً من أعداء الله عز وجل تمام الشجاعة.
أقول: كل صفة من هذه الصفات هي فضيلة عظمى من الفضائل، وهي من المستقلات العقلية، وتكشف عن ملاكات الانتقاء والانتخاب الإلهي، فكلما تمتع الأفراد – قيادات وجماهير – بدرجة أعلى فأعلى فأعلى من هذه الصفات، كانوا أقرب لرضى الله، وأجدر بأن يتبوأوا المقامات والمناصب الأعلى.
هـ - و: الحلم والسخاء
ثم الحلم: مضمن معناه في قوله عز وجل: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)([13])
ثم السخاء: وبيانه في حديث ضيف إبراهيم المكرمين.
ز – العزلة عن الظالمين والمبطلين
ثم العزلة عن أهل البيت والعشيرة مضمن معناه في قوله: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)([14]) الآية .
ومن الواضح إن اعتزال الظَلَمَة والمبطلين والضلال والمنحرفين من أكثر الأمور صعوبة.. والاعتزال قد يكون بالجسم والجغرافيا، وقد يكون بالقول والعمل والسيرة والسلوك، وإنْ خالطهم وعاشرهم. وتشخيص الصغرى موكول إلى المكلف البصير.
ح- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وبيان ذلك في قوله عز وجل: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً)، ودفع السيئة بالحسنة، وذلك لما قال أبوه: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً)، فقال: في جواب أبيه: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً).
أقول: وللأمر بالمعروف أنواع ومراتب، فكلما تمسك الإنسان بالأمر والنهي أكثر، في مراحل حياته، وفي شتى ما يواجهه، فإنه يكون أجدر بحب الله، وأحرى بأن ينال المراتب العليا وأليق بأن تسند له المسؤوليات والمراتب الراقية.
ي – الانتماء إلى الصالحين
ثم الحكم والانتماء إلى الصالحين في قوله: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)([16])، ويعني بالصالحين الذين لا يحكمون إلا بحكم الله عزوجل، ولا يحكمون بالآراء والمقاييس، حتى يشهد له من يكون بعده من الحجج بالصدق، وبيان ذلك في قوله عز وجل: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ)([17])، وأراد به هذه الأمة الفاضلة، فأجابه الله، وجعل له ولغيره من أنبيائه، لسان صدق في الآخرين، وهو علي بن أبي طالب عليه السلام، وذلك قوله عز وجل: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً)([18])
أقول: إذا كان إبراهيم على عظمته يدعو الله تبارك وتعالى أن يلحقه بالصالحين، فما بالك بنا نحن؟! ثم هل يعقل أن يلتحق الإنسان بالصالحين، وهو معرض عن قيادتهم وعن التمسك بحبلهم؟ وهل يعقل أن يلتحق بالصالحين، وهو معرض عن منهجهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع والإدارة وغيرها؟.
ك – المحنة في النفس والولد والأهل والصبر
والمحنة في النفس حين جعل في المنجنيق وقذف به في النار.
ثم المحنة في الولد حين أمر بذبح ابنه إسماعيل.
ثم المحنة بالأهل، حين خلص الله عز وجل حرمته من عزازة القبطي، في الخبر المذكور في هذه القصة، ثم الصبر على سوء خلق سارة.
ل – م: استقصار النفس على الطاعة والنزاهة
ثم استقصار([19]) النفس في الطاعة في قوله: (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ)([20])
ثم النزاهة في قوله عز وجل: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)([21])
أقول: النزاهة لها مراتب، كما لها أنواع، فمنها نزاهة المعتقد، ومنها نزاهة القلب، ومنها التعلق بغير الله وبغير الحق، ومنها نزاهة الجوارح عن التلوث بالمعاصي من غش ورشوة وخداع وتدليس ونظر لما لا يحل بل حتى لما لا يجمل وعن سماع غيبة أو غير ذلك.
ثم الجمع لإشراط الطاعات في قوله: (...إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)([22])، فقد جمع في قوله: ( وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) جميع أشراط الطاعات كلها حتى لا تعزب عنها عازبة، ولا تغيب عن معانيها منها غائبة...) إلى آخر الرواية، وما أعظمها من كلمة تختزل كل الكلمات، وتجمع بين ثناياها كل الخيرات وألوان الطاعات!!
المقارنة بين التفسيرين
لو لاحظنا الرواية السالفة لتبين لنا الفرق الشاسع بين ما يصدر عن أئمة الهدى (عليهم السلام) وبين ما يقوله (قتادة وأشباهه) من مفسري العامة الذين أخذوا من عين كدرة تفرغ من ماء آسن، ولم يأخذوا من العين الصافية التي تجري بأمر ربها بكل خير الى يوم يبعثون، أعني حجج الله تعالى وسادتنا وموالينا محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين.
ولذا تعتبر رواياتنا عن أهل البيت قمة في الحكمة والمعرفة والربط الصحيح بين الأشياء، وبين الأسباب والمسببات.
ثم إن ما ذكره (قتادة) يعتبر من الشريعة والحنيفية ولا شك في ذلك، لكنه خلط بين السبب والنتيجة، فإن هذه الأمور العشرة هي إحدى النتائج التي تفرعت عن الكلمات التي ذكرتها رواياتنا والتي أتمها إبراهيم (عليه السلام)، فصلح لأن تنزل عليه الشريعة من قبل الله تعالى، وفيها ومنها تلك العشرة، وذلك هو ما يشير إليه تفسير علي بن إبراهيم، حيث فكك بوضوح بين بعض الكلمات التي أتمهن – وهي السبب في جعله إماماً – وبين النتائج التي ترتبت على كونه إماماً، ومنها نزول الأحكام العشرة عليه، وهي من ضمن الشريعة، ولكن لأن (قتادة وأمثاله) لم يأخذوا من منابع الوحي، فإنهم خلطوا أسباب الاستخلاف الإلهي ببعض الأحكام التي نزلت بعد الاستخلاف الإلهي.
موقع ومعنى (إذ) في بداية الآيات
كثيراً ما ترد في القرآن الكريم آيات مصدرة بكلمة (وإذ)، ومن ذلك الآية الشريفة: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)، والسيد الوالد([23]) يفسر ذلك بقوله: أي: إذكر يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ ابتلى إبراهيم ربه ... فهذا هو وجه الربط.
ومعنى ذلك، إن الله يأمر نبيه (وأمته من بعده) أن يتذكروا ذلك، الأمر الذي يكشف عن عظمة هذا الأمر، لأن فيه العبرة والصلاح والفلاح والخير كل الخير، كما أن التذكر هو من بواعث الاقتداء والتأسي والعمل، فلاحظ مثلاً هذه الكلمات العظيمة (الولاية العظمى والإمامة، اليقين، المعرفة، الشجاعة، السخاء، التوكل....)
ولنفكر الآن قليلاً لو أن هذه الصفات تحلت بها كافة شرائح الأمة من تجار وكسبة إلى جامعيين وطلبة إلى عمال ومزارعين وغيرهم، ألم يكن الشر مما سينعدم من على وجه هذه المعمورة؟ وألم يكن العدل والإحسان والسلام والإيمان هو سيد الأمم؟ لكن المسلمين كانوا مِمَن أعرض عن ذلك، وكانت من نتائج ذلك، أن خرجت علينا هذه الوحوش المفترسة التي تتلذذ بسفك الدماء وقطع الرقاب وخطف النساء وتهجير العوائل، والغريب إنها تفعل ذلك كله باسم الإسلام!!.
وبكلمة: فإن هذه البلايا وهذه الرزايا سببها الإعراض عن اللجوء إلى خليفة الله في الأرض: الإعراض القولي، والإعراض العملي، والإعراض الفكري والنفسي، وغير ذلك.
الإعراض عن ولي الله هو سبب التيه والخسران في الدنيا والآخرة
إن في قصة موسى (عليه السلام) عندما غاب عن قومه مدة معينة أكبر العِبَر، فإن قومه ما لبثوا أن عبدوا العجل، رغم إن نبي الله هارون كان موجوداً بين أظهرهم، وهو خليفة ومنصوب من قبل الله تعالى، لكن الشر والأشرار تغلبوا عليه، ولم يتمكن رغم مواجهته لهم من دحض شرورهم وجهلهم، فلم يكن بحوزته إلا إلقاء الحجة عليهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، لكنهم أبوا إلا طغياناً وعصياناً.
وهذا الأمر يشكل الإجابة عن اعتراض بعض على العلماء والمرجعيات الربانية تجاه بعض واجباتها ومسؤولياتها، وإنها لم تستطع أن تغير، فإن بعضاً يتوقع منها أن تفعل الأعاجيب كي تبسط العدل والأمان في البلاد، في حين إن ما يقوم به المراجع الربانيون هو المطابق لإمكانياتهم وقدرتهم فيما بينهم وبين الله تعالى.
إن العلماء الربانيين لم يقصروا في هداية المجتمع وتربيته، لكن ما فعلوه هو قصارى ما يخرج من أيديهم، كما أن هارون (عليه السلام) لم يستطع أن يقف بوجه انحراف قوم موسى (عليه السلام)، رغم أنه نبي عظيم، فما بالك بالعلماء والمراجع الأبرار، وذلك يعني أن البلسم الأعظم والحل الناجع والأساس هو في الاستغاثة بولي الله الأعظم عجل الله فرجه الشريف، والإلحاح على الله عز وجل في تعجيل فرجه المبارك، وعبر تزكية أنفسنا، والالتزام بتعاليم السماء، في كافة مناحي حياتنا، كي يلطف الله تعالى بنا، فيأذن لوليه الأعظم بالفرج.
والحاصل هو إن المشاكل والدواهي والرزايا والبلايا التي تحيق بالمسلمين، بل بالعالم كله، هي أعظم من أن يقتلعها العلماء من الجذور.. إن المشكلة أعظم بكثير، فإن الخلافة قد أخذت من أيدي الأنبياء والصالحين والأولياء، وأصبحت بيد أولياء الشياطين والحكومات الظالمة، ولذا كانت النتائج سيئة ومفزعة، حتى مُلئ الكأس بدم الأبرياء، وتخضبت الأرض بما فاض منه، وأخرج الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً: الله أكبر([24]).
نعم لو أن الجهود تضافرت، واشتغلت مراكز الدراسات الإسلامية، وتلاقحت أفكار العلماء والمفكرين فيما بينهم، لأمكننا أن نحجّم الأضرار، ونقلّص الأخطار إلى حد كبير جداً، ونجهض فيما نجهش خطر داعش وغيرها، قبل أن تستفحل أكثر فأكثر.
لكن الخمول والكسل، وعدم امتلاك مراكز دراسات بالمستوى المناسب، والجهل بمداخل الأمور ومخارجها، جعل الجميع يذهل لما وقع بالفعل في العراق وغيره، فلم يكن أحد يتوقع أن يقوم أذناب الغرب بما قاموا به بهذه الصورة المفجعة...
إن من الواضح أن الإنسان عندما يكون في السياسة كالأعمى فإن البلية سوف تنزل عليه من حيث لا يحتسب، في حين أن الشعب والحكومة ومؤسسات المجتمع المدني، لو كانت على مستوى عال من الوعي والاستعداد والتهيؤ، ولو كانت مراكز الدراسات تعمل ليل نهار، ولو كانت للحوزات العلمية والجامعات لجان مشتركة وتعاون مشترك، وكذلك بين الأحزاب الدينية، بل وكل الجهات (لأن البلية عامة)، لما وصلنا الى ما وصلنا إليه .
فإذا لم نقم بذلك كله، فستبقى الحالة كما هي، وإن بزيادة أو نقيصة، على حسب الجهد الذي يمكن لنا أن نقوم به.
وهذا كله هو مقتضى جهدنا البشري الممكن، وهو واجب دون شك، بل من أوجب الواجبات، وبذلك نحول دون الكثير من الرزايا، كمّا أو من تجذرها كيفاً.. ولكن مع ذلك كله، يبقى أن البلسم الأعظم – كما سبق – هو في ظهور ولي الله الأعظم (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فإنه لا خلاص للعالم من مشكلاته، إلا بعودة خليفة الله في أرضه إليهم ظاهراً غير مستور... ولذا جاء في الدعاء: (أين معز الولياء)؟ فإن المعز الحقيقي للمؤمنين هو الإمام عجل الله فرجه (ومذل الأعداء، أين جامع الكلم على التقوى...)، فقد يكون المتقون كثرة، لكن كلمتهم قد لا تكون مجموعة. (أين باب الله الذي منه يؤتى)، فإن به تنزل السماء بركاتها، وتخرج الأرض خيراتها، ويسود العدل والإنصاف والسلم والإحسان.
كما ويكشف عن البعد الآخر للمعادلة ما ورد في الدعاء: (أين مبيد العتاة والمردة)، فإنه المبيد للمجرمين والسفاكين بأجمعهم، (أين مستأصل أهل العناد والتضليل والإلحاد)، وعندئذ (تشرق الأرض بنور ربها)، ويتحقق الوعد الإلهي الأكبر: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)([25]).
قبل أن يبعث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت هناك ملامح ومعالم هداية متناثرة هنا وهناك، ولم يكن الظلام مطبقا تماماً، ولكن وعلى حسب تعبير السيد الوالد، كان النور والهداية كالحباحب([26]) فقط لكن بعد مبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أصبح النور كشلال من الضياء والبهاء يعم الأرجاء والأنحاء، لكنه لم يقضِ على الظلام تماماً، ولكن قد قدر تعالى أن هذا النور سوف يملأ الكون كله، في زمن ظهور وليه الأعظم عجل الله فرجه الشريف. إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً بإذن الله ولطفه وكرمه
وآخر دعوانا، أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
.................................................. ..............
([1]) البقرة 124
([2]) الأول إشارة لمثل الوهابية والثاني إشارة لمثل البهائية.
([3]) في السابق كان الناس يتخوفون من قدوم مخلوقات فضائية غريبة اثر موجة افلام الخيال العلمي التي سادت في النصف الاخير من القرن الماضي. (المقرر)
([4]) وحصلوا هنالك على التدريب والتأهيل والإعداد، في ضمن صفقة مدروسة.
([5]) البقرة 124
([6]) كما نقل عنه ذلك الشيخ الطوسي في التبيان، ومن هوان الدنيا على الله ان ينقل مثل الشيخ الطوسي رأئ مثل هذا الرجل الذي لايعدو ان يكون سلفا لداعش واخواتها من الظواهر الشاذة والمنحرفة. (المقرر)
([7]) البرهان في تفسير القرآن ج3
([8]) الاعراف 96.
([9]) أي الرسول والائمة عليهم السلام
([10]) الأنعام 75.
([11]) الصافات 88 – 89.
([12]) الأنبياء 54 – 58.
([13]) هود 75.
([14]) مريم 48.
([15]) الشعراء 78 – 82.
([16]) الشعراء 83.
([17]) الشعراء 84.
([18]) مريم 50.
([19]) أي ان يقصرها على الطاعة فلا يصدر منه إلا الطاعة لله تعالى.
([20]) الشعراء 87.
([21]) آل عمران 67.
([22]) الانعام 162 – 163.
([23]) تبيين القرآن / الآية 124 من سورة البقرة.
([24]) عندما يذبح الدواعش بريئا يهتف احدهم: (الله اكبر) ايحاءا منه الى الذابح والمشاهد والمستمع ان الامر تم بمباركة الرب (المقرر)
([25]) النور 56.
([26]) الحباحب : جمع حبحب وهي حشرة صغيرة تضئ في الليل على الاشجار لو جود مادة فسفورية مطلية على اجنحتها.
.................................................. ..............
من دروس سماحة آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، في التفسير والتدبر، المحاضرة