بسم الله الرحمن الرحيم ...
اللهم صلِ على محمد وآلِ محمد وعجل فرجهم ياكريم ....
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
مثل هذه القصص لاتقاس بطولها بل مضمونها الرائع ...
وهابي: هكــذا تجعفــرت .. قصة أحد الأخوة المستبصرين
(1)
حمامة المسجد!
وُلدتُ لعائلةٍ نجديّةٍ متديّنة ، يلتزم أفرادها بصلاة الجماعة خمس مراتٍ
في اليوم ، وبحضور دروس مسجد الحيّ ، وبحفظ القرآن الكريم ،
ويُربّي الآباء أبناءهم على كل ذلك ..
ككلّ ابنٍ بكرٍ في مجتمعي الملتزم .. علّق عليّ والدي (آمالاً دينيّة) عريضة
منذ طفولتي ، فما أن بدأت فيّ بوادر إدراك ، حتى سارع بإلحاقي بحلقة
تحفيظ القرآن الكريم في المسجد المجاور ، وكنتُ في الخامسة حينها ،
أصغر أفراد الحلقة . رفعتُ بكل فخرٍ رأس والدي عند الشيخ ، فقد كنتُ
بشهادته: حافظاً جيداً ، ومحباً للمسجد ، ومتعاوناً لخدمة الإخوة الكبار
معي في الدروس . ولا زلتُ أذكر طربي الشديد بكلمات شيخي: سيكون
لابنك هذا مستقبل كبير .. ولعلّه يصير شيخاً يخلفني في هذا المسجد !
أعانتني قوّة حافظتي وسرعة بديهتي - وبذا إعجاب شيخي بي - على دوام ذلك
الإطراء اليوميّ أمام والدي .. ولا تسألوني عن تلك الفرحة ! بدأتُ بحقٍّ أحبّ
دروس المسجد ، وأداوم على حضورها بعد صلاة الجماعة ، وأسرح بعقلي في
ذلك الجمال الذي يحفّ دروس "التوبة" و "أجر الجهاد" و "نعيم المؤمنين
في الجنة" ... (وكما أذكر ، كانت تلك هي الفترة التي شاع فيها حديث المشايخ
عن الجهاد فكوّنت لنا كماً ضخماً من العقول المتحمّسة للفكر الجهادي)
التقيتُ - دون غيري من الأصدقاء - باثنين من المفتين السابقين لبلادي ،
ذلك أن أحد مقرئي القرآن الكريم الكبار هو من أبناء عمومتي ، وكنتُ ألازمه -
بالإضافة إلى دراستي على يده - في بعض زياراته لمجالس كبار العلماء ..
شرفٌ طالما حُسدتُ عليه من قبل أترابي .. وكذا كنتُ أغبط نفسي على
وجودي في هذه العائلة (الرفيعة الشأن دينياً) كي أنال ذلك الحظ الوافر
من لقاء الشخصيات المهمة.. وحضور مجالس الكبار .
كان كل شيء يسير على أكمل وجه ، فـ سلفيّتي مثاليةٌ لا غبار عليها ..
وفي الثامنة من عمري ، كنت قد قطعتُ شوطاً كبيراً في حفظ القرآن الكريم ،
بما يقارب نصفه . وما زلتُ فخر والدي وسبب تباهيه في المجالس ..
فابنه شيخ المستقبل .. وحمامة المسجد !
(2)
نقطة التحوّل..
في الثامنة ، وفي أوج ذلك العشق اللانهائي لكلّ ما هو ديني ، وذلك
الشغف بالمسجد ودروسه ، وبحلقات الذكر ، وبمديح أستاذي الشيخ ..
حدث ما غيّر كل ذلك ..
أصاب والدتي - في ذلك الحين - مرض عضال . ناضلت كثيراً لتبقى لي
ولشقيقي الصغير ، لكني رأيتها رغم إبدائها القوّة أمامنا ، تضعف في كلّ
يوم . ولم تصمد طويلاً ، حتى انتقلت إلى رحمته تعالى حيث لا تعب ولا نصب .
كنتُ متعلقاً بوالدتي - رحمة الله عليها - لحدّ الجنون ، وخاصةً في أيامها
الأخيرة ، وما زلتُ أذكرها أجمل وأفضل وأروع أمٍّ على الإطلاق .
كان موتها أمام عينيّ موقفاً في غاية الصعوبة ، سماعها توصيني بنفس
ي وأخي ، رؤيتها تحتضر ، وطلب والدي لي أن أخرج من غرفتها فهي
تنازع الموت ... الأصعب من ذلك كان رؤيتها جسداً بلا روح ، ونقلها
في ذلك التابوت بالطائرة إلى مثواها الأخير ، لبنان ، حيث عائلتها
بانتظارها لأداء مراسم الجنازة والدفن ..
في تلك الأثناء ، وبينما كنتُ أودّع ذلك التابوت ، ذكرتُ بأنها لن تعود مجدداً ،
وبأن شقيقي الصغير ما زال ينتظر إجابةً مني عن مكان والدتي ...
لم أملك نفسي ودموعي .. وبينما أنا أسند رأسي على التابوت باكياً ،
إذا بـ يدٍ تجرّني ، وعيون غاضبة تنظر لي ، وبصوتٍ عالٍ:
" لا تبكِ عليها!! ذلك (يعذّبها في قبرها)!! قلتُ لك اخرس!! لا تبكِ!!
(المسلم) لا يبكي هكذا على ميت!! " ..... كان ذلك أحد أعمامي ..
لا زلتُ أذكر حتى الآن مدى رعبي من ذلك الزجر المفاجئ .. صراخ عمّي في
وجهي لم يزد الطين إلا بلّة ، وزاد بكائي بشكل هستيري . لم يدر بذهني حينها
إلا أنّ (ذا اللحية) هذا يزجرني لأنني أبكي على والدتي الحبيبة التي رحلت
عنّي .. وبأنني محرومٌ من الحزن على أمي للأبد .. لأنني (مسلم) !!
أفلتُّ يده من ملابسي وتوجّهتُ إلى مكانٍ بعيدٍ ، لأبكي مرةً ، وأحاول إسكات
نفسي بالقوّة مرّات .. كي لا أكون سبباً لتعذيب والدتي المسكينة !!
فـ لما فشلتُ في بعث شيء من الهدوء على نفسي.. أطلقتُ العنان لدموعي ..
ساخطاً على (المتديّنين) ، (ذوي اللحى) ، (المسجد) ، و (القرآن الكريم) ،
وعلى الساعة التي وُلدتُ فيها (مسلماً) !!
وانقلبت جميع موازيني في ذلك اليوم ..
(3)
سؤال في الدرس..
كان والدي - حفظه الله - يحاول تعويضي وشقيقي قدر الإمكان ، عالماً كم
خلّف فقد والدتي في حياتنا من فراغٍ كبير . ولأنه أقلّ أعمامي سلفيّةً وتعصّباً ،
وبطبيعة الحال لأنه مصابٌ كما نحن .. كان يحسّ بآلامنا ، ويفهم مدى توجّعنا ،
فيمسح دموعنا بعطفه ، ويشفي جراحنا بـ لطيف مواساته .
كنتُ قد تركتُ زياراتي اليوميّة للمسجد متعللاً برعاية أخي الأصغر ، ولا أدري
في الحقيقة أَكان ذلك السبب الحقيقي ، أم أنه نفورٌ من تلك الجماعة الإسلامية
تركتهُ فيّ تلك الحادثة التي بقيت غصّةً في حلقي .. كان ذلك الأمر يشغل عقلي
الصغير دائماً ، فمن جهةٍ ، لا أنكر خوفي الشديد من كلام عمّي - حينئذٍ - ،
ومحاولتي الجادّة لنسيان والدتي ، فقط كي لا أذكرها فأحزن وأبكي ..
ومن جهةٍ أخرى ، كنتُ أتساءل عن تلك الحكمة التي جعلت الربّ يحرّم حزني ،
ويعذّب به أمي التي لم تُذنب .. فأشكك في صحّة قول عمّي ، أو في عدالة الله ..!
بعد شهورٍ من ذلك ، توسّل لي والدي أن أعود إلى المسجد مجدداً ،
وكان اعتقاده أن ذلك يشغلني عن تذكّر والدتي ، الذي أثّر سلباً على صحّتي ،
ونفسيّتي ، ومستواي الدراسي .. كنتُ أحبّ والدي ، وأحبّ رؤيته لي بإكبار ،
وأحبّ اصطحابي معه لمجالس الرجال ليفتخر بي ، مجرّد نظراته وابتسامته المشجّعة
لي كانت حافزاً كبيراً ، ولمّا ذكّرني بكل ذلك ، وبأنّ عودتي للمسجد تُرضيه ،
وتُرضي والدتي ، وبأنها - رحمها الله - أوصتني أن أكمل حفظ القرآن الكريم ..
قبلتُ أن أعود .. متأملاً منهما الرضا ،، ومن والدي عودة تلك الابتسامة..
وعدتُ إلى المسجد ، لكن ليس بذلك الحماس القديم ،
فسبب عودتي هو إرضاء والدي فحسب ..
وقد نلتُ ذلك ..
ومرّت السنوات ببطء .. عشتُ فيها هادئاً بين دروس الحفظ والتجويد ،
وبين التحديق في شيخي بصمتٍ ، وتلقّي مواعظه الدينية بصمتٍ ...
***
أتممتُ حفظ ثلثي القرآن الكريم في الحادية عشر من عمري .
وكانت جائزة ذلك التفوّق منّي على أقراني ، هي نقلي إلى حلقةِ ذكرٍ ،
أكبر من تلك التي كنت ملتحقاً بها ..
و كما دائماً ، كنتُ أصغر "طلّاب العلم" هناك ..
كان درس اليوم الأول لي هناك .. ولأول مرةٍ بعد سنوات ..
درساً أثار اهتمامي : البكاء على الميت !
أنصتُّ للدرس جيداً ،
وبعد فراغ الشيخ من حديثه ، رفعتُ يدي ، ثم وقفتُ لأسأله ..
التفتت لي أنظار الطلبة ، و نظر لي الشيخ بدهشة:
- هل أنت معنا في الحلقة يا ولد؟
- نعم أنا جديد ، هذا هو يومي الأول هنا .
- حيّاك الله .. ماذا تريد؟
- لديّ سؤال حول الدرس يا شيخ ..
- تفضّل ..
- هل صحيح أن البكاء على الميّت يعذّبه في قبره؟
- نعم ، أخبرتكم بهذا قبل قليل ألم تسمع؟
- لكن .. لو كان ذلك ذنباً ، فلمَ يعذّب به الميت وهو لم يفعله ؟
قطّب الشيخ حاجبيه .. ثم نظر لي ..
- اجلس يا ولد .. لسنا متفرّغين للإجابة على أسئلة الأطفال.
ضايقني هذا التصرّف كثيراً ، ولم أكن بحاجةٍ لمزيد من التصرّفات الجافّة
لأولئك (المتديّنين) كي أزيد منهم ومن أسلوبهم نفوراً . و ربّما من باب العناد
لذلك الشيخ الذي استصغرني ، توقّف هدوئي المعهود في حلقات الذكر ،
وصرتُ أقف لأسأل الشيخ وأناقشه في درسه يومياً .. حتى اشتكى لوالدي
مني ، قائلاً بأنني كثير الجدال ، كثير الأسئلة الطفولية ، ودائم تعطيل
مسير الدرس .. (رغم أنني لم أكن أسأل إلا بعد انتهاء حديثه !)
و امتدّ ذلك حتى إلى أساتذة الدين في مدرستي ،
وإلى الشيخ الذي يحفظني القرآن الكريم ..
وصرتُ بأسئلتي الكثيرة مصدر إزعاج الجميع .
(4)
الخطاب الديني السلفي ..
شهادة سلفيٍّ سابق.
كان الخطاب الديني في بلدي وما يزال متأثراً بالموقف السياسي للدولة ،
وإن من أصدق الشواهد على ذلك أمران أذكرهما هنا:
أولهما (الخطاب الجهاديّ) في الثمانينات والتسعينات والذي جاء ملازماً
للموقف الحكومي القديم الداعي لإسقاط الاتحاد السوفيتي ، حيث كان الدعم
الضخم "للمجاهدين" في ذلك الوقت مادياً ومعنوياً . ولا يخفى دور الجمعيات
الخيرية السلفيّة ، التي كانت أكبر مصدر دخلٍ لأولئك في "جهادهم" ،
والتي يتمّ إغلاقها الآن ، لانقضاء الغرض منها ، ولتغيّر المطالب العليا .
وقد عشنا ذلك التغيّر الجذري في الخطاب .. فـ تاريخ شيوخ مسجدنا حافلٌ
بالدعوة إلى تلبية نداء الجهاد في سبيل الله ، والدعوة إلى التبرّع لصالح
مجاهدي أفغانستان والشيشان ، وإنّ أضعف إيمانهم كان الدعاء لـ "الشهيد"
(خطّاب) وأصحابه بـ جنّة أعدّت للمتّقين ، وبـ حورٍ عينٍ ،
ونظرةٍ من الله يوم يستظلّون بظلّه .
ولا يمكن الحديث عن الخطاب الجهاديّ دون الإشارة إلى أشرطة
(كاسيتات) الأناشيد الحماسيّة والكتيّبات الصغيرة التي امتلأت بها
خزانتي ، وكانت توزّع بالمجّان غالباً ، لإشاعة ذلك الفكر المطلوب ..
وكما كان ذلك الخطاب حماسياً وقتها ، صار الخطاب - فجأةً - حماسياً
بالنّقيض من ذلك تماماً ، وباتت الدعوة إلى جهاد النفس (الجهاد الأكبر) ..
هي الموضة السائدة !
ثاني تلك الشواهد هو (خطاب التعايش مع المخالفين) ، والذي جاء بعد سنواتٍ
طويلةٍ من الدعوة لقتال الآخر ، واستباحة دمه وماله وعرضه ، فما دام ليس
على نهجنا فهو في النار! وإنني ومدى عيشي أربعة عشر عاماً بين أحضان
الخطابات السلفيّة ، أشهدُ أنني لم أسمع كلمةً طيّبةً واحدةً في حقّ مخالف ،
بل إنني شهدتُ بعض المباريات بين المشايخ في اصطياد "شركيات" المخالفين
و "بدعهم" و تطبيق الأدلّة الشرعيّة على حالاتهم و البحث فيها عمّا يؤمّن
لهم عقاباً دنيوياً أو أخروياً! أمّا حول الشيعة فحدّث ولا حرج ، حيث كان
التفنّن السخيف في تحوير أسماء كبار علمائهم ، وفي تخيّل أطوال وألوان
"ذيولهم" .. وكانت إقامة المحاضرات وطباعة الكتب وتوزيعها بلا مقابل
"قربةً لله تعالى" شائعةً كثيراً بخصوص الشيعة ، فعداوتنا لهم أشدّ من
عداوة اليهود والنصارى ، لأنّهم أشدّ علينا خطراً ، لأنّهم "متّقون" منافقون ،
و لأنّهم يسحرون الناس بحديثهم وبما يضعونه لمخالفيهم في الطعام والشراب ..
هكذا كان قولهم .
بدأت الدعوة إلى التعايش مع المخالفين مؤخراً ، دعوةٌ لا نرى فيها إلا
استخفافاً بتلك العقول التي شايعت التمزيق وبايعت التفريق دهراً! ومن
الملاحظ أنها دعوةٌ لا تليق بمنهجهم المعروف ، وتدفع بعلمائهم لمزيد من
التخبّط .. بين محاضرات الوحدة الإسلامية ، وبين فتاوى التكفير والاستباحة ..
صرنا نلمس لهاتين النقلتين النوعيّتين في الخطاب الديني السلفيّ أثراً في
غاية السلبيّة على الأفراد التابعين لذلك التيار ، والذين باتوا واعين لمدى
تزعزع مبادئ كبارهم ، وتوافقها مع مصالح لا علاقة لها بـ"الله ورسوله" ،
وأن بطولة "لا نخاف في الله لومة لائم" ليست إلا استعراض عضلات مزيّفة!
هذه شهادتي في أمر الخطاب الديني السلفيّ .. و على أساسه نكمل الحديث ..
(5)
انبهاري بالمسيحية..
بحكم عيشي في ذلك المجتمع المغلق ، ولأن غالب أفراد مجتمعي هم من
ذات التيّار ، وخطابهم هو ذات الخطاب (المذكور في الجزء السابق)
والذي لم أكن أسمع غيره .. كنتُ أحسبُ مُكرهاً - كما كان يُقال لنا -
أن الناس صنفان ، قومٌ معنا وهم في الجنة ، و قومٌ مخالفون لنا وهم
في النار ، وأن اثنتين وسبعين فرقةً - تم تعدادها لنا - هي ولا شك من
حطب جهنم ما لم تهتدِ إلى طريقنا - طريق الفرقة الناجية - .
بل كان ذلك السؤال مطروحاً علينا من قبل شيخنا كل يوم :
" هل تختار صلاة الجماعة وحفظ القرآن ، أم تختار (الصياعة) في
الشوارع ثم (الصياعة) في النار؟! "
وكأنّي بذلك الحُكمِ السّهل بالنار يطال جميع أهل سنّته وجماعته ممن لا
يداومون على صلاة الجماعة ولا يحفظون القرآن الكريم ، وما أكثرهم ..
هكذا كان اعتقادي الذي كنتُ أقبله بغاية المرارة : فالمسلمون الملتزمون
هم هؤلاء الذين أنتمي لهم فقط ، المسلمون الذين يقولون بأن الله تعالى
وعدهم دون غيرهم بالجنة ونعيمها ، وآمنهم دون غيرهم من النار وعذابها ،
المسلمون الذين يقولون بأن رؤية الله تعالى لن تكون إلا لهم (جل الله) ،
المسلمون الذين يقولون بأن الله اختارهم خير أمّة أخرجت للناس .
لم يبدُ لي ذلك أمراً مُفرحاً ، ولم أكن أعتقد بأن الله سبحانه وتعالى أنعم عليّ
بأن اختارني مُسلماً ، بل إنني ، وبكل صدقٍ أقول ، لم أكن أعتقد بأن ما أنا
عليه هو الطريق الصحيح بالضرورة ، وكنتُ أفكّر دائماً : ما المانع في أن
يكون غيري على صواب إن كان كلّ قوم يدّعون اجتباء الله لهم وتخصيصهم
برضاه المطلق ؟ اليهود يقولون بأنّهم شعب الله المختار أيضاً ، أليس كذلك ؟!
في الحقيقة ، لم أكن أرى ذلك المستوى الذي أعيشه ، في مسجدي
وعند شيخي ، هو المستوى الأرقى الذي يمكن الوصول إليه ..
فـ هذا الدين لا يملك إجاباتٍ على أسئلتي ، ويعتبر كل ما ورد في النّصوص
القرآنية والروائية والتاريخية بل وحتى اجتهادات بعض العلماء هي أمور
من المسلّمات يحرم السؤال عنها!مع كون هذه النّصوص -المفترضة الطاعة -
غير مُطاعة في كثير من الموارد ! فـ شيخي "فظّ غليظ القلب" دائماً ،
ولا يحتاج بالضرورة إلى حسناتٍ لينالها بتطبيق حديث
"الابتسامة في وجه أخيه المسلم" !
هو دين يطبّق الجمود العقليّ والعاطفيّ بجميع أشكاله ، فـ الفكر هو الكفر ،
و رقّة الروح هي نفيٌ للصلابة التي يحتاجها المؤمن ، وكأنّ مصداق ما
يروى عن النبي الأعظم من أن المؤمن القوي خير عند الله تعالى من
المؤمن الضعيف ، هو صراخ شيخي في وجه الله (تعالى) حين دعائه
بأن ينصر المجاهدين في كلّ مكان ! هكذا كنت أفكّر ....
وبين كل تلك الأفكار المؤرقة ،
ظهر لي ذلك الفرات العذب الذي كنت أتوق إليه .. المسيحية ... !
كان مدرّس اللغة الانجليزية في مدرستي مسيحياً ، وكان مثالاً عظيماً
للأخلاق الرفيعة ، مبتسمٌ دائماً ، متعاونٌ مع الجميع ،
مستعدٌ لخدمة أي طالبٍ للمساعدة ..
وأذكره مؤدِّباً في غاية الحكمة والصبر ، كثيراً ما أصلح حال طلابٍ -
عجزت عن إصلاحهم إدارة المدرسة - بأسلوبه المميز .
وقع بصري على ذلك الكتيّب لأوّل مرة في زيارة لي لـ مكتبهِ في المدرسة ..
رأيته مفتوحاً على طاولته ، و لفت نظري وجود عبارةٍ جميلةٍ على صفحته .
سألته عن ماهية هذا الكتاب ؟ فأخبرني بأنه كتيّب يجمع بعض الحكم والقصص
الواردة في الكتاب المقدّس ، وأقوال بعض الحكماء والفلاسفة المسيحيين ..
وأنه يقرأ منه كلّ مرةٍ بعض الحكم ويتفكّر فيها ويحاول تطبيقها في حياته .
دفعني فضولي الشديد لطلب استعارته منه ، ولم يمانع أستاذي - الذي
كان يحب فيّ شغفي بالقراءة الأدبية - ، فأعارني ذلك الكتاب ..
وقد سَحَرَني بحقّ ..!
التعديل الأخير تم بواسطة خير الحرائر ; 26-07-2009 الساعة 02:18 PM.
(6)
قراءة في الكتاب المقدّس..
قد يكون من التناقض قول ذلك ، لكنني عندما كنتُ في الحادية عشر ناقشتُ
زميل دراسة مسيحي في بعض عقائده ، الأمر الذي كنا نردّده مع الشيخ في منهج
محفوظاته ، فـ فنّدتُ له عقيدة التثليث وعقيدة الصلب وبعض ما كان يكرّره شيخي ..
إلا أنني بعدها ببضع سنواتٍ ، ولمّا وقع ذلك الكتاب الساحر في يدي ،
نسيتُ كلّ ما حفظتُ ، أو ربما تناسيت ، فـ ليس كلام شيخي صحيحاً
بالضرورة - خاصةً أن له سوابق في عدم إقناعي ببعض العقائد - ..
نسيتُ قول مشايخي في كفر هؤلاء النصارى ، وطرقهم الملتوية للتبشير ،
وهدفهم في إلغاء الهويّة الإسلامية ، وسحرهم ، وسحر كتابهم ،
وأردتُ حقاً التعرّف على هذا الدين .
سألتُ أستاذي عن مزيدٍ من الكتب حول المسيحية ..
فسألني عن السبب .؟ أجبته بأنني أحببتُ هذا الدين الحكيم والعظيم
الذي صَنَعَ لنا مثلهُ ، وبأنني أريد التعرّف عليه أكثر .
خشي الأستاذ من توابع ذلك الانبهار ، خاصةً وأنه - بانضمامه لسلك
التدريس في بلدي - قد تعهّد بعدم الخوض في مسائل دينية أو مذهبية ،
ذلك خوفاً من إدارة التعليم العليا علينا - نحن الطلاب - من
اهتزاز عقائدنا ، و الانجرار وراء مخالفين ..
كانت تلك فرصةً كبيرةً لأستاذي بأن يزيّن لي دينه ويجذبني إليه ،
حسب فرضيّة مشايخي القائلة بأن كل نصراني هو حاقدٌ على الإسلام
يستغلّ أي فرصة للتبشير ، ومع أخذ موجة إعجابي وحداثة سنّي بعين الاعتبار ..
كنتُ فريسةً سهلة .! إلا أنه لم يفعل .. بل ذكّرني بأن هذا الأمر كبيرٌ على
من هم في سنّي ، وأنني أستطيع البحث في الأمر متى ما كبرتُ وصرتُ
أكثر إدراكاً ووعياً . ثم إنه صدمني بقوله : دينك عظيم أيضاً فلماذا تفكّر في تغييره ؟!
أخبرني بأن جماعةً من الطلّاب كانوا يحدّثونه عن الإسلام وتعاليمه ،
وبأنه أُعجب بالكثير منها ، وأنه كذلك يحب القراءة حول الإسلام ،
وحول النبي ، ويودّ اقتناء القرآن الكريم وضمّه إلى مكتبة الكتب
الكبيرة لديه ، لما رأى في بعض مقاطعه من إعجاز هائل ....
ومع الأسف ، لم أكن أنا المسلم أرى في ديني كلّ دواعي الإعجاب تلك ..
وانتهى حديثنا عند ذلك ، ولم يغب أمر ذلك الدين عن ذهني .
بعد فترة ، شهدنا نزاعاً كبيراً في المدرسة ، وكان سببه الحادثة التالية:
أعطت تلك الجماعة يوماً أستاذي المسيحي نسخةً من القرآن الكريم
بناءاً على طلبه ، رأيتهُ حاملاً إياه يُقلّبه ويتصفحه بسرور بالغ .
وما كادت تنقضي فرحته بالحصول على ذلك الكتاب القيّم ،
وحين وصوله إلى جوار مكتبه ، كان أستاذ الدين واقفاً مُضمراً شراً ..
همّ الإسلاميّ بـ جذب المصحف من بين يدي أستاذي ، صارخاً في وجهه:
من أين لك هذا؟!! هل سرقته من ممتلكات المدرسة؟!!
أجابه: لا ، طلبتُهُ من بعض الطلاب فـ جلبوه لي لأقرأ فيه ..
فعاد الآخر ليصرخ: ومن سمح لك أن تقرأ فيه أيها السارق الكاذب!!
أنت (نجس)!! أنت كافر (نجس)!! لا يصح أن تمسّ المصحف!!
ولأوّل مرّة أرى أستاذي الهادئ غاضباً ... احمرّ وجهه وصاح:
خذ مصحفك هذا !! ارتكبتُ خطأً فادحاً لما أحببتُ ديناً فيه أمثالك !!
ثم توجّه للإدارة لتقديم استقالته ..
وتضاعف بغضي لهؤلاء "الإسلاميين" آلاف المرّات بعد حضوري لهذا المشهد المقزز !
فقد خسرت مدرستي بسببهم هذا الأستاذ الكبير ، وكذلك خسره ديني ودينهم !!
**
بعد فترة قصيرةٍ من ذلك استطعتُ الحصول على الكتاب المقدّس ،
قرأتُ فيه بعض الشيء ، وأعجبني ما في بعض أسفاره من حكم ووصايا ،
ولا أزال أحبّ قراءتها ، ولا أزال أحبّ التعامل مع الإخوة المسيحيين لـ رفعة أخلاقهم ،
إلا أن إعجابي بذلك الدين ككلّ خبا ، لما قرأتُ ما ورد في كتابه المقدّس
من عقائد واضحة اللامنطقية ، وإساءات للأنبياء العظام ..
وكان ذلك مما لا يمكن الرضا به ..
(7)
الجنوب تحرر يا عصام !
لعلَّه من المناسب هنا ذكرُ مدى اختلاف الثقافات ، و الهوّة العميقة ،
بين أهل والدي وأهل والدتي .. فأعمامي هم - كما ذكرتُ - من أبناء نجد
ومن أشد متعصّبي الحنابلة . أما أخوالي ، فكانوا أحنافاً كما أعتقد ..
و كما هو غالب المجتمع اللبناني الذي عرفتهُ ، هم محافظون ،
لكنهم - وبعكس أعمامي - في غاية التسامح وخاصةً في التعامل مع الآخرين .
لم أكن أدرك سبب الاختلاف في صغري ، لكنني كنتُ بالتأكيد ألحظ الفوارق
بين المجتمعين .. ففي حين يكره أهلي هنا كلّ ما له علاقة بالمخالفين ،
ويجتنبونهم ، بل ويحرّمون التعامل معهم أحياناً ، وجدتُ أهلي هناك مع
علاقة متينة تربطهم بـ أصحاب وجيران شيعة و سنّة و دروز و مسيحيين ،
يجمعهم رباط الإنسانية والمواطنة الذي لا يعرف الفروق .. بدا لي الأمر جميلاً ،
وكنتُ أميل إلى ذلك النوع من العلاقات المحبّة والمُعامِلة للجميع بالحسنى ..
فما مبرر الإساءة أو الصدود لإنسان لمجرّد اختلافه معك في عقيدة ؟!
****
وإن كان هذا الجزء من القصة يبدو عرضياً في السياق ، ومتأخراً على
الأحداث ، إلا أنني أجلّته حفظاً لترابط ما سبق .
وأعود بضعَ مراحل إلى الوراء ، إلى أيامِ أحد أخوالي .. عصام
لطالما تمثّل لي عظيماً ذلك الشاب العشريني الثائر ..
وطالما علّمني عشقه العجيب لكل حرف من اسم لبنان ،
وكل حبة رمل من تراب لبنان .. حديثه الدائم عن أراضي وطنه
التي يجب أن تُحرّر كان يسحرني .. ومن بين جميع مبادئ شيوخي
وما ينادون به في مسجدي ، كان ( الجهاد ) هو الأمر الوحيد الذي
دام تعلّقي به ، لأنه مطابقٌ لرؤى خالي عصام ، ولأنه كان يأسرني
حين مشاركتي آماله العريضة في طرد المحتلّ وتطهير الأرض من آثاره ..
بعد عامٍ من وفاة والدتي - رحمها الله - ، وصلنا نبأ استشهاد عصام ،
وصديقه الشيعيّ ، على حدود الجنوب المحتلّ ..
وبعد بضعة أعوامٍ من ذلك ، سمعتُ جدَّتي تقول:
الجنوب تحرَّر يا عصام!! (الأبطال) حرروا الجنوب!!
فوقعتُ في حبّ أولئك (الأبطال) قبل أن أعرفهم ،
و خِلتـُهم مجموعةً من المجاهدين الثائرين كما عصام ..
وما ان رأيتُ صور قائدهم معلّقةً في أنحاء لبنان الصامد ،
وشهدتُ إطلالته الساحرة أينما وقع بصري ..
أغرمتُ بـ ذلك النور .. !!
وقلتُ في نفسي .. لابد أن هذا الرجل .. هو عظيم هذا الزمان !
( وكنتُ وما زلتُ أعتقد بأن لكلّ زمانٍ عظيماً .. )
كنتُ وقتها في الحادية عشر من عمري ، ولم أكن أعرف بأن هؤلاء
المجاهدين هم من الشيعة .. بل لم أكن أعرف بأنهم من تلك
الجماعات "الإسلامية" (التي أمقتها) .. لم أعرف عنهم الكثير
من المعلومات ، لكن تحريرهم للجنوب كان كافياً بالنسبة لي ،
لأعتبرهم هم الرجال ، في زمنٍ لا رجال فيه ...
(8)
في رحاب دعاء كميل ..
قد أسهبتُ في الذكرِ سابقاً عن مدى نفوري من الجماعات الإسلامية ،
إلى المدى الذي جعلني أفكر في اعتناق غير الإسلام ديناً ، وكان ذلك في
السنة الثالثة عشرة من عمري .. وفي تلك الفترات ، لم أترك عباداتي
المفروضة - ولله الحمد - ، لكنني كنتُ أقوم بها بلا استشعارٍ لشيءٍ من
أهميّتها ، و ربما مؤقتاً ، إلى أن أجد لي ديناً أو اتجاهاً جديداً .. كما أنني
تركتُ حفظ القرآن الكريم ، وتوقّفتُ عن التفكير في العقائد الإسلامية ،
حتى أوشكتُ على نسيانها .. وكان بديل قراءاتي الدينية في تلك الفترة
هو القراءة الأدبية ، والتي كانت ملجأً لي من ذلك الهمِّ الدينيِّ الثقيل ..
أعترف بأن حيرتي كانت عميقة ، فأنا لم أكن أدري ماذا أريد بالتحديد .؟!
كنتُ أريد فقط ، أن أجد لي مخرجاً من تلك الحياة ، إلى حياةٍ أفضل ..
اعتقدتُ أنني خُلقتُ لأكون متديّناً .. وقد اشتقتُ إلى سنوات طفولتي ،
حيث كان لي دين أحبّه ، وأتمسّك به ، وأدافع عنه ، وأعتقد بصحّته ..
لكنني كنتُ أفكر: ذلك الدين المنشود هو ليس ما أنا عليه بالتأكيد ..
و لا أدري ما هو .! فقد فشل الإسلام في تحقيق ما أريد ،
وكذلك المسيحية ، وبالطبع لا أريد أن أكون يهودياً .!
قد تكون طبيعتي ، أو طبيعة الشباب في ذلك السنّ عموماً ، هي البحث
عن أيّ ولاءٍ أو انتماءٍ إلى اتجاهٍ معيّن ، وقد تكون تلك الفترة هي فترة
تحديد الميول ، الدينية ، والسياسية ، وغيرها ، وبذلك هي فترة لاختبار
الكثير من التجارب .. الأمر الجيّد أن فطرتي السليمة كانت متيقّظةً
فسلّمتني من الانجراف مع أيّ تيارٍ كان ، فلم يصبني شيء من
الانحراف عن الطريق السويّ رغم توجّهي (اللاتوجّهي) ذاك .!
***
هدى لي الله - سبحانه وتعالى - تلك الجماعة "الإسلامية" في المنطقة ،
(والتي أخبرني عنها أستاذي المسيحيّ من قبل) ، وهي جماعة تضمُّ بعض
طلَّاب مدرستي ، وبعض من تخرَّجوا منها ، نفراً من الشباب الشيعة ،
وآخرين من أهل السنّة ، كان من ضمنهم أخي الشريف القرشي ، يقودها
سيِّدٌ موسويٌّ مثقَّف ، وتهدف إلى الرقيّ بمستوى الشباب علمياً ودينياً
وأخلاقياً واجتماعياً ، كي يكونوا أعضاء فاعلين في مجتمعٍ يحتاج إليهم ..
وقد كان لتلك الجماعة دور جيِّد في بثّ الوعي في أوساط الشباب حينئذٍ ..
كانت معرفتي بهم سطحيةً نوعاً ما ، حتى اليوم الذي رآني فيه ذلك السيِّد
جالساً لوحدي ، فـ قال لي : نحن نجتمع في مجلس أحدنا كلَّ ليلة جمعة
لمناقشة بعض الأفكار ، فهل تريد مشاركتنا هذا الأسبوع لترى هل نعجبك
أم لا .؟ لم يكن لديّ ارتباطات أو مشاغل ، فقبلتُ دعوته ، وجهَّزتُ نفسي
لحضور تلك الجلسة ، فأنا أعيش فراغاً على أية حال ..
ذهبتُ للمجلس في تلك الليلة ، خمسة شبابٍ كانوا حاضرين ، اثنان منهم من
أهل السنَّة ، وكنتُ أنا الضيف الجديد الذي يتلقى جميع الأسئلة .. في الحقيقة
، كنتُ مرتبكاً ومحرجاً ، لأن أسئلتهم لي كانت بلا أجوبة عندي ، فأنا لم أفكر
من قبل في أهدافي المستقبلية لخدمة مجتمعي عن طريق ديني .؟
ولا أدري لماذا حفظتُ القرآن وكيف سأستفيد منه في حياتي .؟
و كذلك لا أعرف لي وجهةً وانتماءاً دينياً .؟ ولما قال لي أحدهم : تقول أنك
في الرابعة عشر من عمرك الآن فماذا تنتظر كي تحدّد لك آراءاً وأهدافاً .؟!
شعرتُ بالقصور في فكري وخاصةً حين يأتي الأمر إلى ربط ديني بحياتي ..
فصارحتُ أصدقائي الجدد بأمري ، وأخبرتهم بأن مسائل الدين صارت آخر
ما أحب الخوض فيه ، وأنني غير مرتاحٍ لوضعي مذ تركتُ دروس شيخي
المملّة ، وأصدقائي المتديّنين الذين لا همَّ لهم سوى شتم الشيعة والصوفية ،
وهجرتُ القرآن الكريم الذي حفظتُ منه الكثير بلا فائدة ...
" بلا فائدة .؟! "
نظراتُ عتاب السيِّد لي أخجلتني ، لكنه لم يردّ على قولي بكلمةٍ ،
سوى قوله لي : لدينا طقسٌ ديني نؤديه في هذه الليلة ، وأرجو أن تحبه ..
***
على نور ضوءٍ خافت ، فتح السيِّد كتاباً ، واتخذَّ كل حاضرٍ زاويةً للجلوس .
حاولتُ جاهداً التنبؤ بما سيحدث ، لكنه كان شيئاً غريباً وجديداً عليَّ تماماً ..!
سمعتُه يسمِّي باسمه تعالى ، و يصلِّي على محمدٍ وآل محمدٍ عدة مرَّات ،
ثم يبدأ بقوله: " اللهم إني أسألكَ برحمتكَ التي وسعت كلَّ شيء ، وبقوتكَ
التي قهرتَ بها كلَّ شيء ، وخضع لها كلُّ شيء ، وذلَّ لها كلُّ شيء ... "
و هنا أوجستُ خيفةً .! وفكَّرتُ إن كانت هذه إحدى طقوس الصوفيَّة المحرَّمة .!
وحقاً لا أدري لمَ فكَّرتُ كذلكَ - عفا الله عنِّي - ، رغم أنني لم أكن معادياً
للصوفية كما رفاقي ..! ولم أكن كذلكَ مُقيماً وزناً مُعتبراً لآراء مشايخي في
التحريم .! لكن ذلك التفكير كان سريعاً بـ لحظاتٍ في غاية الغرابة ...!
" يا أول الأولين ، ويا آخر الآخرين " .. هنا عدتُ لأسمعه ..
شُغلتُ بالتفكير في مدى جمال هذا الصوتِ وعذوبته ، ثمَّ مدى صدقه
و خشوعه .. وعند " الذنوب التي تحبسُ الدعاء " ، لم يسعني إلا أن أتفكَّر
في هذه الكلمات المذهلة التي يقرؤها السيِّد ..حتى قال باكياً : " هبني ...
صبرتُ على عذابكَ ، فكيف أصبرُ على فراقكَ .!! ...
أقسم صادقاً لئن تركتني ناطقاً ، لأضجَّن إليكَ بين أهلها ضجيج الآملين ،
ولأصرخنَّ إليكَ صراخ المستصرخين ، ولأبكينَّ عليكَ بكاء الفاقدين ،
ولأنادينكَ أين كنتَ يا ولي المؤمنين ..؟! " وهنا - دون مبالغةٍ - اقشعرَّ بدني ..!!
وقلتُ في نفسي : يـا الله !! ما هذا .؟! وكيف لم أسمع به من قبل .؟!!
الجو كان في قمة الخشوع ، وكانت هناك دموعٌ كثيرة ، وكان بودِّي أن أبكي ،
فالبكاء يحقّ في هذا الموضع .!! لكن رأسي كان مزدحماً بالكثير من الأفكار
والأسئلة ، وكان أكبرها : من أين للسيِّد هذا .؟! هل هو من طقوس الشيعة
التي يحرِّمها مذهبي تحت بند البدع .؟! لكنه مجرَّد دعاءٍ خاشعٍ لله تعالى
وحده .!! وأشغلتني كل تلك الأفكار عن المتابعة ، لكنَّ بعضاً من العبارات
استوقفتني وكانت تخرجني قسراً من شرودي .!
فرغ السيِّد من الدعاء ، فالتفتُّ إلى الشاب السنِّي الذي بجانبي وسألته :
ما هذا .؟! فقال لي : هذا أحد أدعية الشيعة المستحبَّة في ليالي الجمعة ،
ونحن نستمع إليه كلَّ أسبوع في جلستنا .. فسألته : وهل مذهبنا يحرِّم
علينا هذا .؟ فـ ضحك من سؤالي ، وقال لي :
دعني أخبركَ بنصيحةٍ جيدةٍ بيني وبينكَ .. أعمل بها أنا كذلك ..
أنت لديكَ خلفية دينيَّة جيدة ، فلا تعتمد على المشايخ في كل شيء ..
بل يجب عليكَ أن تعرض الأمور على عقلكَ ، لترى هل هي مناسبة أم لا .؟
تسألني عن (دعاء) هل هو محرَّم أم لا .؟ يا أخي قال ربي "ادعوني أستجب لكم" .. !
أما العلماء فـ ربما .. يحرِّمونه ويقولون أنه من البدع والخرافات ..
ضحك مجدداً ، ثم غمز لي وقال: على هذا فـ امتلاككَ لسيَّارة أيضاً بدعة ،
فـ رسول الله - عليه الصلاة والسلام - لم يستخدمها ..
أستطيع القول بأنني اطمأننتُ شيئاً ما لقوله ، فـ هو سنِّي كما أنا ، وقوله منطقيِّ ..
إذن: ( هناك مسلمون من أهل السنَّة ، ملتزمون وعلى الطريق الصحيح ،
لكنهم مختلفون عمَّن أعرفهم ! )
التفتُّ من جديد لصاحبي ، فوجدتُه غير مُلتحٍ ..
وابتسمتُ ابتسامةً عريضةً لاكتشافي الجديد ..
قطع السيِّد الحديث ، وقال : كما عادتنا ، لديَّ بعض الفوائد أحبُّ قولها بعد هذا الدعاء ..
ثم قرأ قوله: " وكل سيئةٍ أمرت بإثباتها الكرام الكاتبين ، الذين وكَّلتهم بحفظ ما
يكون منِّي ، وجعلتهم شهوداً عليَّ مع جوارحي ، وكنتَ أنتَ الرقيب علي من
ورائهم ، والشاهد لما خفي عنهم " و بدأ يذكر بعض التفاسير وأقوال العلماء ..
كان الجميع يصغي باهتمام ، فيما انشغلتُ أنا بتفحّص وجوه
أصدقائي الجدد ، والتفكير في تجربتي الجديدة ، واستنتاجاتي الجديدة !
وبين الفينة والأخرى ، كانت بعض الضحكات تقطع حبل أفكاري ،
لأجد أن السيِّد كان يُخبر بـ آراء العلماء من الفريقين حول المسألة ،
ثم يرجِّح أحدها على الآخر ، ويشرح الأسباب ... ويُلقي الطُرَف .!
( ولو كان فظاً غليظ القلب لانفضُّوا من حوله ! )
(10)
مفاتيح الجنان..
بعد فراغ السيِّد من حديثه ، حول دور الكرام الكاتبين كما أظنّ ،
( لم أكن منتبهاً لحديثه جيداً )
قام بسؤال أحد الشباب : ما الجديد في مشروعنا .؟
وكان لديهم - كما فهمتُ من الحديث - مشروعاً لتدوير الورق
وإعادة استخدامه ، أو أمراً من هذا القبيل .
تم تداول الأفكار ، وكُتبت التوصيات ، و وزِّعت الأدوار على الشباب ..
ثم قاموا خارجين من المجلس ..
قرَّبني السيِّد إليه بعد خروج الجميع ، و سألني بابتسامته المعهودة :
ما رأيك في الدين والمتديِّنين الآن .؟
قلتُ له : والله لقد أبهرتموني ..!
كل ما رأيتُ وسمعتُ في هذه الجلسة أثار عجبي ..
بدءاً بـ طريقة تعاملكَ معي حين أعلنتُ سخطي على الدين وأهله ،
ولو كان المخاطَب شيخي لأقام عليَّ حداً .! وجود متديّنين يفكرون
بطريقةٍ عمليةٍ لإصلاح أنفسهم وإصلاح المجتمع ، وكان ما عرفتهُ
عن المتدينين هو كونهم أناساً غلاظاً شداداً ، لا يزيد دورهم في
الحياة على صلاة الجماعة و حلقات الذكر ..
وتكفير من لم يلتزم بهما ! ثم المعاملة الأخويَّة الراقية جداً بين متدينين
شيعة وآخرين من أهل السنَّة ، و هذا ما لم أره قط في مجتمعي ،
على الإطلاق .. حقاً لقد سعدتُ برؤية ذلك هنا ..
و فوق كل شيء ، ذلك الدعـاء الرائـع الذي قرأتـَه ...!
سألتُه بعد ذلك عن مصدر هذا الدعاء ، و فضله ،
( وسبب اختصاص الشيعة به دون غيرهم ؟؟ )
فأجابني عن ذلك ، وأخبرني بأن الدعاء منقولٌ عن كميل - رضي الله عنه - ،
عن أمير المؤمنين -ع - ، و قد التزم به شيعة علي منذ ذلك الحين ،
وكان خصوصيةً لهم دون غيرهم تبعاً لخصوصية محبة عليٍّ وتفضيله
وأهل بيته على غيرهم واختصاصهم باتّباع سنَّتهم ..
( و إذا يريد أحد يقرأ الدعاء ما نمنعه ، بس ماحد يريد ، يقولون بدعة ) ..
طلبتُ منه نسخةً من هذا الدعاء لأقرأه ،
فأحضر لي نسخة من كتاب ( مفاتيح الجنان ) ..
و لما رأيتُ عنوان الكتاب ضحكتُ لـ طرفةٍ اكتشفتُها لـ توِّي ..
فـ شيخي كان يقول لنا ، حين إخبارنا بمدى غباء الشيعة وجهلهم ،
واتِّباعهم الأعمى لعلمائهم ، بأن علماء الشيعة يعطونهم "مفاتيح" ،
يزعمون أنها لأبواب "الجنان" ، يدخلون من أيِّها شاؤوا ،
ويصدِّق الشيعة ذلك ..!
و اعتقدتُ أن ( مفاتيح الجنان ) المقصودة هي هذا الكتاب ،
فضحكتُ لمدى جهل شيخي ..
شكرتهُ واستأذنتُه في استعارة الكتاب ، ثم عدتُ إلى منزلي ،
وعكفتُ في تلك الليلة على تصفِّح ( مفاتيح الجنان ) ...
لفتَ نظري وجود بعض السور القرآنية في مقدمة الكتاب ،
وهي ذات السور الموجودة في " قرآننا " ..
وكان شيخي يقول بأن للشيعة قرآناً مختلفاً ..
لأنني كنتُ مولعاً بالنصوص الأدبية وقتها ،
استرعى الكثير من الأدعية انتباهي ، كـ دعاء كميل ،
ودعاء الصباح ، لتلك القوة البلاغية ، وجمال ذلك السبك اللفظيّ ،
وبدت لي كـ قطعٍ أدبيةٍ فنيَّةٍ متقنة الصنع ..
ثم إن دعاءاً كـ دعاء أبي حمزة الثمالي ، و دعاء الجوشن ،
و مناجاةً كـ مناجاة الخائفين ، أو مناجاة المفتقرين ،
كانت غايةً في الذلّ والخضوع المفترض لله تعالى ،
وفيها منتهى الافتقار و التأدّب ..
روعةٌ عجيبةٌ فقط ، هذا ما أستطيع الوصف به .
استوقفني في دعاء الافتتاح المقطع الذي جاء فيه:
( ... فإن أبطأ عنِّي عتبتُ بجهلي عليكَ ،
ولعلَّ الذي أبطأ عنِّي هو خيرٌ لي لعلمكَ بعاقبةِ الأمور )
وفكرتُ فيه وفي عظمته طويلاً ..
و قد خطر ببالي هنا ، كيف أنني توجَّهتُ لقراءة كتاب المسيحيَّة
المقدَّس ، سعياً وراء ما يغذِّي روحي ..
و في ديني الإسلامي العظيم ما يغني مئات المرات عن ذلك ،
في القرآن الكريم ، وفي مثل هذه الأدعية .
كان لي بعض المآخذ حول اللعن والتوسّل في بعض الأدعية ،
إلا أنني - والحق يُقال - لم أشعر بحلاوةٍ للإيمان منذ سنواتٍ طويلةٍ ،
إلا عند قراءتي لأدعية ذلك الكتاب ،
وحتى قراءة السور الموجودة فيه كان لها حلاوةٌ جديدة ..
أحسستُ بـ روحي صافيةً مجدداً ، مُحبةً لله ، و لديني العظيم ،
و عدتُ إلى الله - تعالى - بـ مناجاة التائبين في تلك الليلة ..
(11)
من هم الشيعة ؟
ما خطر بذهني خلال قراءتي لأدعية مفاتيح الجنان ،
هو كم أن مؤلِّفي هذه الأدعية قريبـون من الله تعالى ،
حتى استطاعوا مناجاته بمثل هذا الكلام العجيب ،
والذي لم أسمعه وارداً عن غيرهم من قبل .
لم يكن السيد الموسوي يمتلك "ذيلاً" كما كان يقال لنا في حلقات الذكر ..
لم يسحرني ، ولم يصرّ على تقديم الطعام والشراب "المسمومين"
لي وأنا في مجلسه . لم ألتقِ بـ شيعيٍ قط قبل هذا السيد ، ولم أكن أعرف
الكثير حول الشيعة ، غير آخذٍ بمعظم ما كان يقال عنهم في مسجدنا المبارك ،
فالشيخ هناك يبالغ في كثيرٍ من المواضع .. و كذا لم يكن أمرهم يثير اهتمامي
حتى تلك الليالي ، حيث اهتممتُ بهؤلاء القوم ، وأردتُ التعرف على مذهبهم .
في موسوعة للأديان والمذاهب المعاصرة تنتجها إحدى المنظمات الإسلامية
في بلدي ، دلَّني الفهرس على صفحات متعلقة بـ( الشيعة الإمامية ) ..
الغريب في الأمر ، واللافت للنظر ، هو أن مراجع كل مبحثٍ هي موجودة
في آخره .. و حول الشيعة ، كان هناك اثنا عشر مرجعاً .. كلها لكُتابٍ من
غير الشيعة .. و أرى ذلك سمة سيئة سائدة في كتابات القوم - هداهم الله - ..
يقول الكاتب بأن في سورة الانشراح لدى الشيعة آية زائدة :
{ وجعلنا علياً صهرك } ،
ويقول ، يعتقد الشيعة برجعة الحسن العسكري في آخر الزمان فيقفون
في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب السرداب يدعونه للخروج حتى تشتبك
النجوم ، يقول أن التقية عند الشيعة بمنزلة الصلاة ومن تركها كمن ترك
الصلاة يخرج عن دين الله ، يقول أن المتعة عند الشيعة هي أعظم القربات
ولها ثواب عظيم ، وأن الشيعة يبدأون أعمالهم بسب أبي بكر و عمر بدل
التسمية .. ثم يقول بأن أصل أفكار التشيع يهودية وأنهم يؤمنون بالتناسخ
والحلول كذلك .. ذلك كله وغيره في كتاب (الموسوعة الميسرة في الأديان
والمذاهب المعاصرة ) لمنظمة الندوة العالمية للشباب الإسلامي .
كانت المراجع الوحيدة الموجودة .. هي أمثال هذه الكتب وأشباهها
من مؤلفات السلفي (إحسان إلهي ظهير) .. وعند قراءتي لكتابه
(الشيعة والسنة) رغبةً في زيادة معلوماتي ، أعترف بأن كلامه
كان داعياً للنفور من الشيعة بعض الشيء .. إلا أنه من الواضح
عدم إنصافه ، وكتابته بمنظار الحاقد على هذه الطائفة والمستميت
لتشويه صورتها .
من ناحية أهلي وأصحابي ، ومشايخي ، والكتب المتوفرة عندي ،
لم يكن لي مجال كي أتعرف على حقيقة الشيعة الغائبة ..
لذلك لجأت إلى صاحبي الشيعي ، السيد الموسوي ، لأفهم منه
كل ما كان يشكل علي ، وكان ذلك الأنسب والأكثر منطقية ،
أن أسمع الحقيقة من أهلها ..
أخذت موعداً مع السيد ليشرح لي .. أخبرني بالأساسيات ..
الشيعة هي فرقة تعتقد بأن مدرسة أهل البيت - ع - هي المدرسة الأعظم
والأولى بالاتباع ، في مقابل أهل السنة الذين يرون ذلك الحق لمدرسة
الصحابة .. يرون : التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد أصولاً لدينهم ،
وأما الفروع فهي : الصلاة والزكاة والصوم والحج والخمس والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر والولاء والبراءة ..
(ملاحظتي: هم يعملون بأركان الإسلام والإيمان على ذلك) ..
خلافاتهم بين أهل السنة عقائدية وفقهية قائمة على حوادث تاريخية
(مثال ابتداع حي على خير العمل و صلاة التراويح) ..
و يرون كل من شهد أن لا إله إلا الله هو مسلم لا ينفون ذلك لا عن
أهل السنة ولا عن غيرهم من الفرق الإسلامية المخالفة لهم .
أعطاني السيد كتابَي (عقائد الإمامية) للشيخ المظفر ، و (الفتاوى الواضحة)
للشهيد السيد الصدر ، لزيادة الاطلاع حول عقائد الشيعة ومنهجهم في الفقه
بشكل عام . وأبدى لي إلى جانب ذلك فكرة واضحة حول مبدأ الاجتهاد والتقليد
لدى الشيعة .. وقد كانت لي عليه بعض الإشكالات من قبل .. أخبرني السيد
بأن "هذه الكتب هي ما تستطيع الرجوع إليه لتزيد معلوماتك حول مذهب
الشيعة ، فإنها الكتب التي أهدانا إياها علماؤنا الكبار لنتعلم نحن عموم
الشيعة" ، ومعلوم أن الباحث الحقيقي عليه أن يبحث عن العلم في
عيون أصوله التي يتبعها العموم ..
(ملاحظتي: هنا اتضحت لي الأمور ، وهنا أستطيع أن أصدّق ما أقرأ ،
وأثق به وأطمئن له .. وجدتني أحترم هذا المذهب ( وأراه طبيعياً مثلنا ! )
وأتساءل عن سبب تلك الضجة التي كانت تحيط به .؟؟ وقد وجدتُ عند
قراءتي له عكس ما كنت أسمع ، أنه مذهب قوي وله ما يدعمه ..)
والحمد لله أن غيّب الغشاوة عن عيني وقلبي فلم أكابر
كما هي عادة أبناء مذهبي ..
المذهب الجعفري .. هو مذهب يجوز العمل به !
(12)
الصحابـة
عدت من جديد لأطلب من السيد المزيد ، و أحرجني في هذه المرة
لما جعل مكتبته تحت أمري ، وقال لي : هنا كل ما تحتاج لتتعرف
جيداً على مذهبنا شيعة أهل البيت .. اختر ما تريد من الكتب واقرأها
عسى أن تستفيد منها ..
لفت نظري كتاب اسمه (أبو هريرة) .. ربما كان للسيد شرف الدين ..
لم أكن أعرف عن موقف الشيعة من الصحابة وأمهات المؤمنين
في ذلك الوقت إلا ما سمعتهُ من مشايخي ، لذلك سألت السيد عندما رأيت
هذا الكتاب : هل هو كتاب تسبّون فيه الصحابة كما يقول شيخنا ؟
تبسم ضاحكاً وسحب الكتاب من على الرف ، وأعطاني إياه ... :
اسهر عليه في هذه الليلة ..
قرأتُ هذا الكتاب ، وفي الحقيقة صُدمت كثيراً ..
وكأنما هي أصنام تهاوت أمامي (صحابة رسول الله - ص -) ..
وتلاشت هذه الهالة القدسية التي تلوح فوقهم ..
"إن الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" ..
وقد كان أبو هريرة هو المحدث الأبرز والأشهر والأكثر كماً
في مجال الحديث لمذهب أهل السنة والجماعة .
فاجأتني صورة أبي هريرة في هذا الكتاب ، وهو يكذب ويؤلف الأحاديث
عن النبي - ص - ويدعي قربه منه وتخصيصه إياه بأحاديث لم يسمعها غيره ..
في تعليق على حديث (من أصبح جنباً فلا صيام عليه) قالوا "كان أبو هريرة يدلس" ..
وكان التعليق "تدليس الصحابة كثير ولا عيب فيه" عن الذهبي في سير أعلام نبلائه ..
كيف لا عيب فيه .؟؟ وكيف يكون كبير المحدثين مدلساً والحديث أساس الدينلا أدري ...؟؟
كونه واعظاً للسلاطين كدمية في أيدي الحكام الجائرين الذين رفعوا شأنه
وأعلوا مقامه "كنا عند أبي هريرة فتمخّط فمسح بردائه وقال :
الحمد لله الذي تمخط أبو هريرة في الكتان" ،
وهذا يوضح لنا نقطة أخرى ، مستواه غير الراقي والخالي من أساليب
الذوق العام في التصرف وفي الحديث ..
وفي هذا السياق حديث "غمس الذباب في الطعام" ،
وحديث "تفضيل عائشة على النساء كتفضيل الثريد على سائر الطعام" ،
مشكوك في أمر الاختلاق لضعف المستوى ،
فهل هذا حديث لائق بنبي أوتي جوامع الكلم ..؟؟
ادعاؤه لحضور وقائع لم يحضرها ، الأمر المضحك المبكي ..
والأبرز في ذلك وما أذكره هو حديث دخوله على رقية ابنة النبي - ص -
والذي كان في فضل زوجها عثمان بن عفان ..
فإن رقية ماتت قبل 4 سنوات تقريباً من إسلامه وقدومه إلى الحجاز ..
لماذا يكذب أبو هريرة بهذا القدر ليرفع من شأن الصحابة ..؟
هذا ما لم أكن أفهمه ، إلا إن كان أولئك الصحابة هم بحاجة إلى
أحاديث مختلقة ترفع كثيراً من شأنهم المنخفض ..
كثرة حديثه وغلبته على جميع الصحابة وأمهات المؤمنين وحتى مجموع
أحاديث الخلفاء الراشدين جميعاً على ما أذكر لم تصل لمقدار حديث أبي هريرة،
وكان يقول أن في كيسه المزيد ولا أدري كم كان مستعداً للاختلاق والكذب
على رسول الله - ص -؟؟ حتى ضربه عمر بن الخطاب بالدرّة في إحدى الروايات
وقال له : لقد أكثرت يا أبا هريرة! لماذا يقول عمر ذلك ولماذا يقول أبو هريرة
أنه لو قال كل ما بجعبته لقطع بلعومه؟؟؟ وكاتم العلم آثم كما نعرف
هل هو علم بالفعل أم أنه كذب وتدليس مفضوح ...؟؟
إهاناته الكثيرة للذات الإلهية والأنبياء -ع - والنبي الأعظم - ص -
والإكثار من الإسرائيليات في حديثه والروايات الواردة في الصحاح البخاري
ومسلم والتي لم أطلع عليها قبل ذلك رغم تديني ودراستي في تلك المجالات ..
في الحقيقة كما نقول في التعبير الشعبي بالفعل (طاح من عيني) أبو هريرة
و دكّ صنمه تماماً..
كنت أنظر في الهوامش وأرجو أن تكون تلك الروايات منقولة من كتب مهملة
أو خافتة الذكر ، لكنني كلما تطلعت إلى مصدر رواية وجدتها (صحيح البخاري)
(صحيح مسلم) (فتح الباري) (أسد الغابة) (طبقات ابن سعد) (أعلام النبلاء) ..
وكان الأمر يحبطني أن أجد هذه الأمور مذكورة في كتبنا نحن وتكون حجة
علينا ونعيّر بها .. (طبعاً هي الحقيقة المخزية لكنني كنت آسف كثيراً لأن
تذكر هذه الأمور في كتبنا شاكاً في مصداقيتها)
كانت هذه بداية تهاوي أصنام الصحابة بين يدي ..
أهداني السيد بعد ذلك بعضاً من كتب المتشيع التيجاني ..
(ثم اهتديت) (مع الصادقين) (فاسألوا أهل الذكر) (الشيعة هم أهل السنة)
(كل الحلول عند آل الرسول) .. أهداني كذلك كتاب (المراجعات) قيّم جداً ..
وأيضاً كتاب ( ليالي بيشاور ) ..
كذلك بعض الكتب للشيخ هشام آل قطيط ( المتحولون )
و ( من الحوار اكتشفت الحقيقة ) .. ،
و (هكذا شيعني الحسين) و (الخلافة المغتصبة) لإدريس الحسيني ..
كتب للمتشيعين : الأنطاكي ، وصالح الورداني (الخدعة) ،
والمحامي الأردني أحمد يعقوب .. وعدد من المتشيعين الآخرين ..
إلى جانب بعض الكتب الأخرى التي ليست في ذهني الآن .
لا أذكر تماماً كيف كانت قراءتي لكل كتاب منها ، ولا يسعني الوقت الآن
لأعود إلى كل كتاب منها لأطلع على أبرز نقاطه ..
إلا أنني أستطيع الإشارة إلى بضع محاور أساسية ..
أولاً : إثبات الوصية في الخلافة السياسية والدينية لعلي ابن أبي طالب - ع -
ثم اغتصابها من قبل الصحابة وخلاف علي وفاطمة - سلام الله عليهما -
مع الشيخين من أجل ذلك ، وهذا بحث كبير جداً ومتواتر الأجزاء في الكتب وفي
شبكة الانترنت.. هو موضوع ذو شجون في الحقيقة ويندى لأخباره الجبين ..
ثانياً : ما ورد من فضل عظيم لأهل البيت - ع - ومظلومية كبيرة لهم ولأبنائهم
ولذرياتهم لم تقع على غيرهم وسنتطرق لذلك إن شاء الله ..
وأخيراً عودة إلى أمر الصحابة وكيف أنهم صورة مخالفة تماماً
لما أعرفه وكأني بي مخدوعاً بهم لفترة طويلة .. :
أوقعني موقف أم المؤمنين عائشة في حيرة كبيرة ..
في حربها الضروس مع أمير المؤمنين -ع- باللسان وبالقتال وبكل ما
أوتيت غيرةً منه ومن تفضيل رسول الله -ص- له على أبيها حتى سجدت لله شكراً
عندما وردها خبر مقتله (لأي درجة بلغ بها الحقد والغضب ولأي سبب؟!) ..
وكيف كان - ع - يعاملها بالحسنى .. يرد في البخاري أنها لا تطيق ذكر اسمه
(وقد قال رسول الله - ص - يا علي.. لا يبغضك إلا منافق)
وفي أحاديث لها ولغيرها من الصحابة الحاقدين محو لفضائله أو إلصاق لها
بغيره كما في القول "فلان بن فلان ورجل آخر" أو "رجل نسيته أو لم أعرفه"
وهل علي - ع - رجل مجهول أو قليل الورود على المدينة حتى يجهله الناس .؟؟ ،
كيف أنها هي خلقت حادثة الإفك حول مارية القبطية زوجة رسول الله -ص- كما تقول
بعض الأخبار ، وصار الإفك مع الأيام تهمة عليها ملصقةً بالشيعة من حيث لم
يحتسبوا ولم يرووا ولم يقولوا .. وحول الحديث الوارد عند البخاري من أن
"الفتنة هنا" و"رأس الشيطان هنا" مع إشارة من النبي الأعظم - ص -
إلى حيث تسكن عائشة.. وكذلك حديث عمار الصحيح الذي يقول في سياقه ما معناه:
ابتلاكم الله بعائشة ليرى هل تطيعون الله أم تطيعونها؟ وهذا حديث استغربت منه كثيراً ..
إلى جانب أحاديث الغيرة الشديدة من أم المؤمنين خديجة - عليها السلام -
(لم غيرتك من الناس جميعاً يا أم المؤمنين .؟!)
هوت أصنام الخلفاء الثلاثة من بعد عند قراءتي لكتاب ( فدك ) للشهيد
السيد الصدر .. غصب هدية رسول الله -ص- لابنته فاطمة -عليها السلام-
كان عملاً إجرامياً غير مشروع.. وفي بعض الأخبار حرمانها من البكاء
وقلع الشجرة التي كانت تستظل بها وسؤالها أن تذهب للبكاء بعيداً لإزعاجها
أهل المدينة بصوت بكائها.. والله إن الدموع في عيني الآن وأنا أكتب هذه
الكلمات - ليتني لها فداء - إنها فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين
والآخرين لم يعرفوها حق قدرها ولم يعطفوا عليها ويرأفوا بها قربة إلى الله
تعالى وقد قال لهم بأنه لا يسألهم عليه أجراً إلا المودة في القربى ..
حتى قضت صديقة شهيدة في بداية عمرها الشريف فلعن الله ظالميها ..
كانت هذه القضية مؤثرة بالنسبة لي وربما كوني من بيئة بدوية للعرض
والحريم فيها أهمية خاصة واستلزام لمعاملة خاصة لم أعهد هذه الأعمال
غير الإنسانية ولم أعتبرها من ضروب الرجولة في شيء بل إنها مناقض
كبير للشهامة الواجبة.. للنساء فضلاً عن كون المعنية بالأمر سيدة النساء
أجمعين.. كذا حديث غضب فاطمة على أبي بكر.. وأمر حربه للممتنعين
عن دفع الزكاة (و قصة قتل خالد بن الوليد لامرئ مسلم وارتكابه الزنا
بامرأته في ليلتها) ..
أما ما حدث في السقيفة ، ومن قبلها ما حصل في رزية الخميس حول عمر
بن الخطاب فالحديث حولها طويل ومحزن وهي أعظم المآسي بكى من أجلها
حبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنه حتى ابتلت لحيته من الدموع ...
وحول عثمان بن عفان يكفي فساده الإداري العظيم وتعيينه لبني أمية خلفاء
لرسول الله - ص - في دولته الإسلامية بلا وجه حق ..
ونفيه أبا ذر رضي الله عنه ليموت غريباً ...
"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟؟"
من هم هؤلاء الذين انقلبوا على أعقابهم؟؟
ومن هم المنافقون من أهل المدينة الذين يعلمهم الله تعالى وحده ؟؟
"بينما أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال
هلمّ فقلت إلى أين؟ فقال إلى النار والله قلت ما شأنهم؟ قال إنهم ارتدوا
بعدك على أدبارهم القهقرى فلا أرى يخلص منهم إلا مثل همل النعم"
(قولهم بأن الشيعة يقولون لم يبق من الصحابة إلا أربعة أو سبعة أو عشرة)
حديث في البخاري وهو وصمة عار كبيرة ...
إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ..
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(13)
ظلامة أهل البيت عليهم السلام
يقول الثائرون بأن المظلومين هم أصحاب الحق دائماً .. ولبعض الكتاب قرأنا أن الإنسان يستطيع تأليف الفضائل ونسبتها إلى الظالمين وغير المستحقين كما حصل كثيراً في أمر صحابة الرسول -ص- إلا أن أمر الظلامات هي مما لا يشك إنسان بحلوله على أهل البيت -ع - واختصاصهم المميز بذلك ، حتى ألف الأصفهاني في أمرهم مقاتل الطالبيين وحتى سمعنا في بعض العصور أن العلويين كانوا يقتلون بوسائل بشعة لا لشيء إلا لنسبهم الشريف .. يتجلى لنا بوضوح مقدار ذلك الحقد الأموي الدفين على بني هاشم ولدينا إلى الآن في شواهد عصرنا برهان كبير على ذلك ..
كتاب (سكينة بنت الحسين) للسيد عبد الرزاق المقرم كان من أوائل الكتب التي قرأتها في أمر مظلوميات أهل البيت -ع - والتي لا يختلف حولها اثنان كما يختلفون حول الفضائل .. وكم أوجعتني تلك الافتراءات الكاذبة والظلامات الكبيرة حول تلك السيدة الجليلة التي كانت نعم الابنة ونعم الحفيدة لتلك الشجرة النبوية الطاهرة والمباركة ، فقالوا بأنها تستقبل الشعراء وتجالسهم وتستمع إليهم ..وهل يستطيع فعل ذلك من رأى أباه مقتولاً بجسد على حر التراب ورأس فوق القنا مرفوع..؟؟ لعن الله الظالمين ..
مظلومية الحسين -ع - في الغدر به وبأصحابه والتخلي عنه في تلك الأوقات العصيبة ثم قتله بتلك الطريقة الوحشية وسبي نسائه وأطفاله وترويعهم وتهجيرهم .. إنه مما لا أستطيع الحديث عنه فتلك سيرة أمرّ من العلقم وأثقل من الجبال على قلبي .. وقبله الإمام الحسن -ع - الذي عاش مظلوماً ومات مظلوماً ونسجت حوله الأقاويل من قرابته قبل أعدائه وقد قتلته زوجته بسم فطر أحشاءه .. ولعنة الله على القوم الظالمين
لم أكن أعرف شيئاً عن الأئمة من أهل البيت -ع - وهذه بحد ذاتها أكبر ظلامة لهم حين تم إقصاؤهم عن جميع السجلات التاريخية المشرفة (المعروضة) عن سابق قصد وتعمد فلم أعرف وأنا الحنبلي مولانا الإمام الصادق -ع - ولم يعرفه صاحبي الشافعي ولا المالكي ولا الحنفي رغم أننا نرجع جميعاً إلى علماء كانوا تلاميذ صغار عنده - سلام الله عليه - ..
ولا أشد ظلامة من أننا لا ندري بما ورد حولهم من أحاديث وروايات شريفة في كونهم مدينة للعلم وسفينة للنجاة وباباً لرحمة الله ورضاه .. تحت ظل ذلك التعتيم الإعلامي الكبير والواسع وتلك الحملة البربرية للقضاء على كل ما هو شيعي لمحمد وآل محمد ..
ظلامة المهدي المغيّب - عجل الله فرجه الشريف - حين كان مثار السخرية الدائمة من أبناء مذهبي من جانب وطوبى له ولقلبه العظيم وما يتحمل كل يوم ، ومن تخاذل شيعته والتبطيء من عصر غيابه الطويل من جانب آخر .. اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه وحول به كل ظلم وجور وغمة على هذه الأمة إلى قسط وعدل بدولة إسلامية كريمة يا الله ..
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
(14)
تجعفرت باسم الله والله أكبر ..
جرت أحداث هذه القصة خلال سنة واحدة تقريباً بدأت بها بحثي وأنهيتها بتصديق كامل بوضوح منهج الحق القويم والصراط المستقيم منهج محمد وآل محمد الطيبين الأطهار وأصحابهم المنتجبين..
إنه مذهب ينجيني في الدنيا والآخرة ،
ويفتح لي باباً واسعاً في الحياة .. ويخلق لي أبعاداً جديدةً في هذه الدنيا .
هو المذهب الوحيد الذي استطاع الرد على جميع الإشكالات المطروحة ضده ، وهو المذهب الوحيد على وجه الأرض الذي لم تبق في ذهني نقاط عليه حين بدأت بالبحث حول ما يقارب العشرين مذهباً وديناً .. وهو فوق كل شيء المذهب الأوحد الذي أثق بقادته وسادته ، وأدري أنه باعتصامي بهم أنا متمسك بالعروة الوثقى .. كما تقول الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وآله -
كنت أقرأ وأنا على مذهبي السابق قول الشيعة :
( لو قطعوا أرجلنا واليدين .. نأتيك زحفاً سيدي يا حسين )
فأعجب له وأتساءل حوله ..
وأنا الآن فقط أفهم سر ذلك وسببه وأعلم كم هو الحسين عظيم وكم مذهبه عظيم ،
وكيف أنك تذوب فيه عشقاً متى ما عرفته وعرفت مذهبه الكبير المقدس ..
بطلي العظيم الذي حرر الجنوب هو شيعي !
وكم كان ذلك الاكتشاف رائعاً ومبهراً ومؤكداً لي أن الله ينصر القوم الذين ينصرونه ويحبونه حقاً ويوالون أولياءه إن الحق لا يعرف بالرجال وإن المحقّين لأتباع الدليل
لكنما في حالة أهل البيت عليهم السلام : علي مع الحق والحق مع علي .. وكذلك أبناؤه من بعده
فمتى ما عرفت علياً - عليه السلام - أو الحسين - عليه السلام - أو القائم المهدي - عجل الله له الفرج - أو بطل الجنوب المقاوم - حفظه الله وأدام ظله - عرفت الحق وأوقنت تماماً أنه هدي الله
تجعفرت بحمد الله قبل قرابة الخمس سنوات من الآن ..
أعلنت ذلك بين يدي السيد الموسوي العزيز الذي لم يقصر معي لحظة
إلى جانب اثنين من الرفاق السنة الذين أعلنوا تشيعهم في ذلك اليوم ..
وكانت أول أبيات لي بعد التشيع هي قصيدة في رثاء والدتي - رحمها الله - ..
قلت لها بأنني الآن أُذن لي بالرثاء ..
وختمتها بإخبارها أنني تشيعت لمحمد وآل محمد ..
عهداً عليَّ أيا أماهُ أُمسكهمْ * قبضاً على الجمرِ لا مخلوقَ يُثنينيْ
عقليْ وقلبيْ وروحيْ كلّها لهمُ * وعابسٌ شقَّ لي دربَ المجانينِ
أردت أن أكتب هذا في الجزء الرابع عشر ..
14 بعدد المعصومين - عليهم السلام - الذين كانوا لي خير عون في حياتي الدنيا ،
وفي أيام ذكرى استشهاد مولاي أمير المؤمنين - سلام الله عليه - ..
راجياً منهم قبولي موالياً .. بذل ما يستطيع ، ليكون أفضل ما يستطيع ..
زيناً لهم لا شيناً عليهم...