المناقشة الجادّة لقصّة حضور الأسد في كربلاء الشهادة
روي عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: (لا تنظر إلى من قال وأنظر إلى ما قال).
عيون الحكم والمواعظ للشيخ عليّ الواسطي:241/ب6/ف2، شرح مئة كلمة للأمير المؤمنين عليه السلام للشيخ ميثم البحراني:68، كشف الخفاء للشيخ إسماعيل العجلوني:2/361/3055، كنز العمّال للشيخ عليّ المتّقي الهندي:16/197/44218.
لا نبالغ إذا قلنا أنّ الحديث عن مصيبة كربلاء يكتسب زخماً جماهيريّاً ويمتلك حضوراً عالميّاً ويزداد هذا مع مرور الأيّام والأعوام، وذلك ملموس ومحسوس، بل هو وعد مغروس، نوّهت به سيّدتنا المعظّمة زينب الكبرى عليهما السلام كما جاء ذلك في المرويّ عنها: (وينصبون بهذا الطفّ عَلَماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لا يُدرسُ أثرُه ولا يعفو رسمُه على كرورِ الليالي والأيّام، وليجتهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلّا ظهوراً، وأمره إلّا علواً).
أجل، في كلّ عام من عاشوراء شهر محرّم نستحضر- ومعنا الكثير من المسلمين وأهل الكتاب والأحرار – مجزرة الدّهر ومأساة العصر وملحمة الإباء (فاجعة كربلاء)، فترى (أيّها المُتابع والقارئ) الصغير والكبير المرأة والرجل ينطلق بحمل حقائب الحزن والعبرات وأجربة (أوعية) الّلوعة والزفرات، ليبدأ رحلة الانتقال إلى مهرجان الذكرى الخالدة إلى تلك الأجواء الحزينة ومعايشة وقاعها الأليمة، ومن هناك تنطلق تعابير الأطياف وتبرز تفاعل الأصناف،فتسمع الندب والآهات، وتتلمّس الأنين والحسرات، وتشاهد تراتيل الأشداق وجزع الأحداق، عشقاً لرجل العدالة والإصلاح (إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي)، والمبادئ الجليلة والقيم الجسيمة (وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة)، وتأسياً بالثمرة الطيبة الثمينة ومواساة للنبيّ وعترته العظيمة.
هذا العزاء والإقبال سيبقى إنّ شاء الله تعالى ما دامت هناك حرارة في قلوب المحبّين للإمام لا تبرد وعزيمة لا تخمد وبصيرة لا تفسد، وعلى نسق ما ذكرناه جاء في تقرير أحد السيّاح الأوروبييّن وهو (بيتر ودلاواله) الذي زار إيران عام 1618م - 1207هـ، ما يلي: "تبدأ العشرة الأولى من محرّم، والتي تسمّى عاشوراء...ويقيم الإيرانيّون طوال هذه الفترة المآتم ومجالس العزاء، ويُحيون ذكرى الحسين بن عليّ وفاطمة...وهو المقدّس لدى جميع المسلمين، لكنّه الإمام الحقّ لدى الشيعة، وينحدر الملك الفعلي من سلالته، وتقاليد العزاء تكون على النحو التالي: يظهر الجميع بمظهر الحزن والألم، مرتدين زيّ الحداد باللون الأسود،( اللون الذي لم يستعمل في المناسبات الأخرى). ولا يحلق أحدٌ رأسه أو ذقنه، ولا يستحمّ، ويجتنبون المعاصي والمنكرات، وحتّى الملذات".
مجلة نصوص معاصرة: السنة الثالثة/العدد التاسع/لعام 2007م – 1428هـ/إعداد: الدكتور محمّد صالح الجويني/ترجمة: الأستاذ فرقد الجزائري.
وغني عن البيان أنّ هؤلاء المُعزّين- حيثما كانوا في أصقاع العالم- يعتقدون أنّ هذا الفعل تجسيد للحبّ والانتماء لآل الرسول وتعبير للمودّة والولاء لأبناء البتول.
في نطاق هذه الأجواء من كلّ عام وأثناء فترة إقامة مراسم شهر مُحرّم وقدوم أيّام العزاء بتفاعلاتها الممزوجة بالحزن والأسى والمرارة لإحياء الذكرى العاشورائيّة يعتلي الخطباء والوعّاظ المنابر والمقاعد والمنصّات ويتجمّع المُحبّون والمُوالون للاستماع إليهم، ووسط هذا التجمهر الكبير والحشد الواسع يحدث أحياناً أن يتحدّث بعضهم- من دون عمد- بحكايات عشوائيّة دخيلة، ويسرد- من دون قصد- قُصصاً مشوّشة غريبة. فيقع في مطبّ وخيم، ويغترّ به سامعه والمُقتدي به وينطلي عليهما هجينه وخليطه، ويجرّهما معه إلى مُنزلق ذميم.
علماً أنّ هذه المُشكلة المُؤرّقة والظاهرة المُقلقة تتعاظم عند من يهوى تطويل الكلام ويرغب في الراحة والاستسلام ولا ينظر إلى الناتج باهتمام، فيحشي مجلسه بالنقليّات الواهية ويُدندن فيه بالحكايات السقيمة، ويشبعه- بعدما تشبّع هو به- بالتحليل الفاقع والركام اللانافع، وما علم هذا المُقصّر أنّ المجالس القصيرة العامرة بقضايا هادفة وجديرة وأحاديث مُعتبرة خير من المجالس الطويلة الهابطة والمشوبة بغثّ وثرثرة والمعجونة بمادة مُترهّلة بائرة.
ومن دون تهويل ومبالغة وتضخيم، فإنّ مقصودنا من ذلك، أنّ الثابت من الموروث الحسيني المُتوّفر في المصادر الحاكي مجزرة عاشوراء، هو بحمد الله ولطفه غير قليل، والحديث في أرجائه الواسعة وأطرافه اللامعة يكفي مجالسنا، فإنّه يُفجع أفئدة الموالين، ويُثير شُجون المُحبّين، ويُوقظ وجدان المُدّكرين، ويُهطل دُموع الإنسانيّين.
وهذا واضح ومعترف به من قبل المُحصّلين والباحثين، وعن ذلك قال الشيخ أل سيف: "لقد كان آية الله الشوشتري- يقصد جعفر الشوشتري- رحمه الله يصعد المنبر ويصرّح بأنّه لا يحتاج المرء إلّا إلى التأمل في بعض الروايات التاريخيّة الثابتة ويستنطقها ليرى عظم المصيبة التي حلّت بأهل البيت عليهم السلام، فلماذا يأتي البعض بروايات غير صحيحة، أو يبالغون في قسم من القضايا. وهذا ما يظهر لكلّ قارئ لكتابة المواعظ، أو الأيّام الحسينيّة.
فليس معنى التحقيق في الروايات التاريخيّة تجريدها من الجانب المأساوي، أو حذف مواضع المصيبة، وإنّما يعني أن تذكر المصائب الحقيقيّة، وهي كثيرة جداً".
من قضايا النهضة الحسينيّة:24.
وأعلن الشيخ مرتضى مطهّري ما يتدرج ضمن هذا الإطار بقوله: "واقعة كربلاء من أغنى الوقائع التاريخيّة المُدعّمة بالوثائق والأسانيد المعتبرة...إنّ من يقرأ تاريخ عاشوراء يراه من أكثر التواريخ المليئة بالمصادر الصحيحة، والوثائق المعتبرة والحيّة".
الملحمة الحسينيّة:1/22 و44-45.
ونحو ذلك تجده في موسوعة الإمام الحسين عليه السلام في الكتاب والسنّة والتاريخ للشيخ محمّد الريشهري:6/119. وأشار إلى ما يقرب من هذا المعنى السيّد جعفر العاملي في كتابه كربلاء فوق الشبهات:28 و49.
نعم، هو كذلك ونحن نتطلّع إلى الأفاضل والمُحقّقين والخطباء باعتماد آليّات علميّة رصينة لتداول هذا الكمّ المعتمد في المجالس الوعظيّة وقراءته من فوق المنابر المسجديّة والبيتيّة والفضائيّة.
هذا، ولا بدّ من الاعتراف أنّ شريحة كبيرة ممّن ذكرنا (اعني: من يمتهن الخطابة والوعّظ والإرشاد) لو يعلم اختلال مدركه وآفاته لما قام بنقل هذا العوار المُستهجن وقبول دلالته قطعاً وتوظيفه في محاضرته جزماً، وإنّما وقع فيما وقع فيه- كما يرى بعض الباحثين- لعدّة عوامل متبوتقة: كقلّة باعه في هذا المضمار التثقيفي وفقدان أهليتّه لمزاولة هذا المسلك التربويّ، وافتقاره إلى المعرفة الناضجة والإلمام بأدوات علم الدراية وطرق تحمّل وأداءالرواية، وحسن ظنّه- مع عدم التفاته إلى الخلل- بمن أخذ عنه المعلومة وتقلّيده فيها، والبقاء في أسر ما يطرحه الآخرون والاسترخاء ضمن أُطرهم والإصغاء إلى تلقينهم، أيّ: إنّ السبب الفعلي في عدم تلافيه الخطأ والغفوة وتجافيه الهفوة واجتنابه الكبوة، كان منه لعدم تثبّته. فلا ينبغي لمفكّر أو محاضر أو منظّر يريد نفع البشريّة والنجاح في مهنته والثواب وعدم المؤاخذة والعقاب أن يتهاون في الإجراءات الاحترازية المانعة من العثرات والثغرات، ولا يحقّ لمن طرح نفسه رقماً علميّاً في ساحة الحياة أن يتساهل بتتّبع المطالب (المرجوّة وما له دخل في موضوعه) وتحليل متنها واستجلاء دلالتها، وكذلك يتسامح في عدم تحقّقه منها بنفسه واستقصاء منابعها. بل لا عذرلهكذا مدّع على الإطلاق.
وفي هذا الصدد كتب الشيخ حسين النوري- بحسب ما فهم من النصوص- ما يلي: "وحاصل كلّ الأخبار المعتبرة في هذا الباب: أنّ المكلّف إذا أراد أن ينقل أمراً دينياً أو دنيوياً لإفادة الآخرين ممّا لا بدّ في نقله من الوسائط، يجب عليه أن ينقله عن شخص يطمئن بنقله، وإن لم يمتثل لذلك بأن نقل ما لم يسمعه أو لم يره في كتاب موثوق، فإنّه سيكون عرضة لمؤاخذة المولى وتوبيخ العقلاء...أمّا لو وقعت منه مسامحة في مقام النقل، بأن أخذ يروي عن الثقة وغير الثقة، أو ينقل عن كلّ كتاب وقع في يده، فإنّه علاوة على المفاسد التي يمكن أن تترتّب على فعله هذا سيؤاخذ، ولن يكون معذوراً أمام المولى عزّ وجلّ ولا أمام العقلاء...لقد أعلمناكم أن لا تنقلوا كلّ ما تسمعونه ومن أيّ شخص كان، ولا ترووا كلّ ما ترونه وفي أيّ كتاب كان. وقلنا لكم لا تسلكوا هذا الطريق".
اللؤلؤ والمرجان في آداب المنبر:170.
وعلى هذا المنوال سار الشيخ عبّاس القمّي فأدلى بتوصيات مهمّة ونافعة لخطباء المنبر وفضلائه، قال: "فينبغي حين أدائه أن لا يُنظر إلى غرض أو مقصد سوى رضى الله وسرور رسول الله وأئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين، وأن يحذروا من المفاسد التي طرأت وسرت في هذا العمل العظيم، لئلّا يكون في إقدامهم على هذه العبادة العظيمة رغبتهم بكسب مال أو جاه، أو يُبتلوا- والعياذ بالله- بقول الكذب، والافتراء على الله تعالى، وعلى الحجج الطاهرة، والعلماء الأعلام...والتقليل في الأنظار من شأن المعاصي، وخلط حديث بحديث آخر على نحو التدليس، وتفسير الآيات الشريفة بآراء كاسدة، ونقل الأخبار بمعاني باطلة فاسدة، والإفتاء مع فقدان الأهليّة له، أكان بحقّ أم بخلافه، والحطّ من شان الأنبياء العظام والأوصياء الكرام (عليهم السلام) بسبب تعظيم وإعلاء مقامات الأئمّة (عليهم السلام)".
منتهى الآمال في تواريخ النبيّ والآل:1/669.
ويُحدّثنا الشيخ فوزي آل سيف عن هذا المضمار قائلاً: "في الواقع ينبغي الإلتفات إلى توجّهين خاطئين: الإصرار على أنّ كلّ ما في السيرة المنقولة في الكتب من غير تحقيق هو شيء مقدّس لا تطاله يد التحقيق والمناقشة. وهذا خطأ لا سيّما عندما نرى وجود قصص في بعض الكتب التي لا مصدر لها أصلاً، أو أنّ مصدرها غير معتمد، ولكن يتمّ التركيز عليها مثلاً من باب أنّها مشجية أكثر، وادعى لجلب الدّمعة والحزن.
والتوجّه الآخر: معاكس لهذا بالتمام، فهو يفترض أنّ الشكّ هو الأساس، وانّ كلّ ما لا يقبله عقله، أو لم يصل إليه علمه، فهو غير صحيح ويجب حذفه، ولو كانت أسانيده تامّة".
من قضايا النهضة الحسينيّة:21.
وممّا يؤسف له أصبحنا في السنين الأخيرة من عصرنا بمراحله المتفاوتة نلحظ في أُفق التشيّع التوعوي شرخاً واضحاً ونتحسّس خطره العائم وتمدّده القادم، فقد ابتعد بعضهم عن منهج التدبّر والفحص في متن الخبر واكتفى بطريقة استهلاكيّة جاهزة، همّه منها إثارة العواطف واستدرار الدّمعة بغضّ النظر عن حقيقتها، ولذا أخذنا نسمع بعضاً من تلك القصص المدانة والحكايات المُستهجنة التي برّزت للمستمع على أنّها من العجائب والكرامات في نهضة عاشوراء، وتلقفّها المستمع على أنّها من الحقائق والثوابت من غير أن يتوقف عندها للحظات ويتأمّل مضمونها عدّة مرّات، وما دري هذا المُحبّ المسكين مضارّ هذا التسليم الساذج ودرجاته المُتسافلة وآفاته المقيتة.
في هذه الصفحات سنتناول خبرين يتعلّقان بقصّة حضور الأسد في يوم عاشوراء، ومن أجل الخضوع لمنهجيّة التحقيق أيّها الأعزّة ينبغي أن نقوم بخطوتين مهمّتين:
باء: إبداء النقد والتعليق عند مراجعتهما، كأن نقوم ببيان نقاط الضعف وإبراز المآخذ عليهما إن وجدت فيهما.
وبإكمال الخطوتين في السير وراء الحقيقة يُسفر النصّ حينئذٍ عن وجهه ونعلم حقيقة جذره وهويّته.
ومن المعلوم لديكم أخي الفاضل وأختي الفاضلة نحن إذ نُخضع النصوص لهاتين الخطوتين إنّما نقوم بذلك كي لا نخرج عن الموضوعيّة في الوصول إلى الاطمئنان بسلامة النصّ، وما يستتبع ذلك من تداول نقله أو الاعتماد عليه وترتيب الأثر على دلالته.
ولعلّ ضرورة القيام بهذه الخطوات تأتي في نطاق التهدئة من روع جهة تريد اتّهام الباحثين بثلم الشعائر والطقوس والانتقاص من مقامات أهل العصمة وفضائلهم. ولا يخفى على ذي لبّ فوائد إيقاف الردود المتسرّعة والانفعالات غير المُنضبطة، وإلجام الأفكار المندفعة والخطوات المتهوّرة.
وقد يعترض بعض الفضلاء ويعيب على مناقشة أسانيد الروايات والآثار بزعم أنّ علم الرجال (علم رجال الحديث) مخترع لا واقع له ولا توجد أرضيّة صالحة لقبوله، فهو بنظرهم مأخوذ من غير مدرسة أهل البيت ورواة حديثهم.
والحقيقة أيّها الأخوة والأخوات لو قُمتم بملاحقة سيرة هؤلاء الأفاضل المُعترضين ستجدون أنّهم يُمارسون في حياتهم اليوميّة ومُحاضراتهم ومُؤلّفاتهم تقييمات رجاليّة شخصيّة- قاسية في بعض الأحيان- ضدّ فلان وعلان، فيرضون لأنفسهم ما لا يرضون لغيرهم مع أنّ قضيّة التقييم هناك أعظم وعواقبها أخطر من تقييم واقعهم المُعاش!
على أيّ حال بمراجعة متأنيّة لمؤلّفات أصحاب الأئمّة ومعاصريهم من فقهاء الطائفة ينكشف لنا عدم دقّة هذا الزعم وفقدان موضوعيتّه، وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا أنّه يُسفر عن مُغالطة كبيرة للواقع. وذلك لأنّ نثر بذر التقييمات الرجاليّة ونماء ساقه- وإن كان بصورة أضيّق وذلك بالابتعاد ممّا لا ضرورة له- وجد في عصر الحضور وبرز في زمن البدور، وبالتالي فإنّ ذلك يعني أنّ الضجّة المفتعلة ضدّه لا اعتبار لها ولا ينبغي الالتفات إليها.
وهذا ليس زعماً منّا وادّعاءً فلو قام الباحث بإجراء جولة بسيطة في كتب الفهارس لمشايخ الشيعة الإماميّة سيرى أنّ من أصحاب الأئمّة ومواليهم ومعاصريهم وكبار فقهاء فترة بداية الغيبة المُعتمدين المُحدّثين من ألّف في علم الرجال (أسماء وأحوال رجال الحديث) سواء كانت كتباً مُستقلّة أو مُستلّة من مُصنّفاتهم التي احتوتها.
نعم، ربّما بعض هذه الكتب لا يتعرّض إلى توثيق الرجال أو تضعيفهم أو جهالتهم إلّا نادراً، ولكن هذا يكفي في المطلب ويُضعف رأي المُشنّع المُعيب ويُقصي زعمه الغريب.
ولتعميم الفائدة نقتنص لكم من مصادرنا المُهمّ ونُشير إلى بعض المطالب بعجالة، ونختصر الموضوع بنقطتين.
أوّلاُ: لقد ألّفت كتب في الرجال عديدة:
نذكر لكم منها: كتاب الرجال للحسن بن فضال (المتوفّى سنة 224 هـ)، وكتاب المشيخة وكتاب معرفة رواة الحديث (الأخبار) للحسن بن محبوب السرّاد المتوفّى سنة 224 هـ، كُتب الفضل بن شاذان القمّي المتوفّى سنة 254 أو 260 هـ، التي تضمنّت تقييماته لرواة الأحاديث من حيث الكذب والصلاح والغلو، وقد أكثر الأعلام الفقهاء من الاعتماد على تقييماته الرجاليّة،
كتاب الرجال لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي المتوفّى سنة 274 هـ أو 280 هـ، ويُقال أنّه لأبيه، كتاب المشيخة لجعفر بن بشير البجلي الوشّاء المتوفى سنة 280 هـ. وهو مثل كتاب المشيخة لابن محبوب إلّا أنّه أصغر منه، كتاب تاريخ الرجال لأحمد بن علي العلوي العقيقي المتوفى سنة 280 هـ. أدرجنا هذا الكتاب هنا لأنّ البعض يرى أنّ له مساساً بعلم الرجال، كتاب الرجال للشيخ محمّد بن يعقوب الكليني المتوفّى سنة 329 هـ. وقد ذكر كتابه هذا عند الكلام عن مؤلّفاته، فراجع مقدّمة الكافي، رجال الكشّي والمعنون بـ(معرفة الناقلين) للشيخ محمّد بن عمر الكشّي المتوفّى بحسب الظاهر سنة 350 هـ.
وهذه القائمة يمكن أن نُضيف إليها كتابين لفقيه الطائفة ووجهها الشيخ سعد بن عبد الله الأشعري القمّي المتوفّى سنة 301 هـ،والكتابان هما: مناقب رواة الحديث، ومثالب رواة الحديث، وكتاب الممدوحين والمذمومين لأحمد بن محمّد بن عمّار الكوفي المتوفّى سنة 346 ه.
وهناك كتاب مماثل للكتاب الأخير لمؤلّف آخر ويحمل نفس العنوان (الممدوحين والمذمومين)للفقيه محمد بن أحمد بن داوود بن عليّ القمّي المتوفّى سنة 368 هـ.
ولا يخفى عليكم أيّها الأحبّة أنّه إذا حاول أحد المُماحكة والمُشاغبة في صدر ما ذكرناه أعلاه، فإنّه لا يُمكنه المُماطلة والمُراوغة في ذيل ما سطّرناه، لأنّ مُقتضى البحث في مناقب الرواة ومثالبهم وذكر الممدوحين والمذمومين هو بيان أفعالهم ونشر خفاياهم والتعرّض لحالاتهم وإظهار مستوى تديّنهم وخُلقهم.
وربّما لا نجافي الحقيقةإذا ضمّمنا إلى هؤلاء أساطين فقهاء مدينة قمّ المباركة في الغيبة الصغرى الذين عرفوا بأساليبهم المتشدّدة في قبول الحديث وعدم التساهل في الرواية عن غير المعتمدين، ومن هؤلاء أستاذ الشيخ ابن بابويه الصدوق المُسمّى (محمّد بن الحسن) المُكنّى بابن الوليد حيث أنّ طريقته كانت طريقة رجاليّة، وقد اقتدى به الشيخ الصدوق (محمّد بن بابويه القمّي) وقلّده فيها وصرّح في كتابه الفقيه بأنّ: "كلّ ما لم يُصحّحه ذلك الشيخ (قدّس الله روحه) ولم يحكم بصحّته من الأخبار، فهو عندنا متروك غير صحيح".
من لا يحضره الفقيه:2/90-91.
ولعلّنا لا نبتعد كثيراً إذا ما اعتبرنا أنّ منه ( أقصد المنهج الرجالي التقييمي) تلك النصوص الوفيرة الحاثّة على الأخذ بخبر الثقة والرجوع إليه. وقد كان السفراء الأربعة (رضي الله عنهم) من هذا الصنف المُتحلّي بالوثائقيّة المطلوبة، وقد صدرت تواقيع الناحية حاملة بيان ذلك التوثيق في حقّهم.
النقطة الثانية: لمْ تكتف مدرسة أهل البيت بالنقطة الأولى، وإنّما مارست مستوى آخر له ارتباط بالنقطة الأولى، وهو ذلك المُسمّى بـ: (علم الحديث) أو ما يُسمّى بـ: (علم الدراية)، وتناول بعض الأصحاب والأكابر الأحاديث المختلفة وعلاجها، وعلل الأحاديث وبيان الخلل فيها، والقسم الأوّل منها (اختلاف الأحاديث) لا يهمّنا هنا كثيراً وإن ألّف فيه ابن أبي عمير ويونس والبرقي وغيرهم رضي الله عنهم، والذي يهمّنا حقّاً القسم الثاني (علل الأحاديث) لأنّه قد يمسّ النقطة الأولى، حيث أنّ العلة قد تشمل غير المتن، فتأمّل.
عموماً فإنّ ممّن ألّف في هذا الفنّ تحديداً كوكبة خيّرة، نذكر لكم أسماء الكتب ومؤلّفيها:
كتاب علل الحديث ليونس بن عبد الرحمن، وكتاب علل الحديث لأحمد بن خالد البرقي. ولعلّ منها: كتاب العلل للفضل بن شاذان، والردّ على الحشويّة للفضل ابن شاذان، والعلل لأحمد بن محمّد بن عمّار الكوفي.
ويمكن لنا أن نعدّ من هذا القبيل المرتبط بالنقطتين ما قام به أصحاب الكتب الأربعة (الكليني، الصدوق، الطوسي وأُستاذه)، ، فهم رحمهم الله بالإضافة إلى خزينهم المعرفي بعلم الرجال كانت لهم طرقهم الدرائيّة وأساليبهم المعرفيّة للنظر في الأصول الأربعمائة وانتقاء بعض الأحاديث منها وإعراضهم عن بعضها وطرح البعض الآخر الفاقد لشروط الاعتبار والإتّقان.
هذا، ويدلّ على ما سطّرناه ما ذكره الشيخ الطوسي في العدّة، قال: "أنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرّجال الناقلة لهذه الأخبار، ووثّقت الثقات منهم، وضعّفت الضعفاء، وفرّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته، ومن لا يعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم وذمّوا المذموم، وقالوا فلان مُتّهم في حديثه، وفلان كذّاب، وفلان مُخلّط، وفلان مُخالف في المذهب والاعتقاد، وفلان واقفي، وفلان فطحي، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها، وصنّفوا في ذلك الكتب، واستثنوا الرّجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم، حتّى إنّ واحدا منهم إذا أنكر حديثا نظر في إسناده وضعّفه برواته. هذه عادتهم على قديم الوقت وحديثه لا تنخرم".
العدّة في أُصول الفقه:1/141-142.
وهذا يوحي بأنّ علم الرجال في مجال التطبيق والممارسة انوجد قبل وضع هيكليّته الكاملة وتدوينه في كُتب.
كما أنّ الباحث يمكنه أن يقتنص من فهرس النجاشي وفهرست الطوسي بعض العبائر الدّالّة على أنّ تقييماتهما الرجاليّة (التوثيقات والتضعيفات) إنّما هي نقول عمّن قبلهما.
راجع: أصول علم الرجال للدّكتور عبد الهادي الفضلي:105 و134-135.
ويرى بعض الفقهاء أنّه قد بلغ عدد الكتب الرجاليّة من زمان الشيخ الحسن بن محبوب إلى زمان الشيخ الطوسي نيفاً ومائة كتاب على ما يظهر من النجاشي والشيخ وغيرهما. وقد جمع ذلك الشيخ محمّد محسن الرازي المعروف بآغا بزرك الطهراني في كتابه مصفى المقال في مُصنّفي علم الرّجال.
راجع: معجم رجال الحديث للمُحقّق الخوئي:1/41.
وقبل تجاوز هذه النقطة ينبغي الإلفات إلى أنّ خبراء فنّ علم الرجال لا يجرون في هذا الفنّ على نظم واحد ومسلك واحد، وإنّما نراهم أحياناً يختلفون فيما بينهم في توثيق أو تضعيف أحد الرواة بسبب بعض المعلومات والمبنى والفهم.
وعليه فإنّ هذا لا يُشجّعنّا بتقليد أحدهم والذهاب مع هذا أو ذاك استسهالاً وهروباً من تحمّل مسؤوليّة البحث، وإنّما يتطلّب منّا- كلّ بحسبه ومقدرته المُبرئة- سعياً في فحص الأدلّة، وبذل الجهد في فهم البيانات والوثائق، كي نقوم بعدها بموازنة لاختيار البحث الأقوى حجّة والأقرب التصاقاً لمدلول المُعطى الذي يكون أمام نظرنا.
الآن هلمّوا معنا نتناول القصّة ونتجوّل في أروقتها ونتصفّح لوحاتها ومن ثمّ نقوم بإعادة النظر فيها لتقشيرها وتقويمها.
والحقيقة أنّ هذه القصّة عبارة عن خبرين بإسنادين ومضمونين متفاوتين.
الخبر الأوّل: قصّة كتاب منتخب الطريحي
حُكي عن رجل أسدي قال: "كنت زارعاً على نهر العلقمي بعد ارتحال عسكر بني أميّة، فرأيت عجائب لا أقدر [أن] أحكي إلّا بعضها، منها: أنّه إذا هبت الرياح، تمرّ عليّ نفحات كنفحات المسك والعنبر، وإذا سكنت أرى نجوماً تنزل من السماء إلى الأرض ويرقى من الأرض إلى السماء مثلها، وأنا متفرّد مع عيالي ولا أرى أحداً أسأله عن ذلك، وعند غروب الشّمس يقدم أسد من القبلة فأولّي عنه إلى منزلي، فإذا أصبح الصباح وطلعت الشّمس وذهبت من منزلي أراه مستقبل القبلة ذاهباً. فقلت في نفسي: إنّ هؤلاء خوارج، قد خرجوا على عبيد الله بن زياد فأمر بقتلهم وأرى منهم ما لم أر من سائر القتلى، فوالله هذه الليلة لا بدّ من المساهرة، لأنظر هذا الأسد أيأكل من هذه الجثث أم لا؟
فلما صار غروب الشّمس وإذا به قد أقبل فحقّقته، وإذا هو هائل المنظر، فارتعدت منه، وخطر ببالي إن كان مراده لحوم بني آدم فهو يقصدني، وأنا أحاكي نفسي بهذا، فمثلته وهو يتخطّى القتلى، حتّى وقف على جسدٍ كأنّه الشّمس إذا طلعت، فبرك عليه. فقلت: يأكل منه؟
فإذا به يُمرّغ وجهه عليه، وهو يهمهم ويدمدم، فقلت: الله أكبر ما هذه إلّا أعجوبة، فجعلت أحرسه حتّى اعتكر الظلام وإذا بشموع معلّقة ملأت الأرض، وإذا ببكاء ونحيب ولطم مفجع، فقصدت تلك الأصوات فإذا هي تحت الأرض، ففهمت من ناع منهم يقول: وا حسيناه وا إماماه، فاقشعرّ جلدي، فقربت من الباكي وأقسمت عليه بالله وبرسوله من تكون؟ فقال: إنّا نساء من الجنّ. فقلت: وما شأنكن؟
فقلن: في كلّ يوم وليلة، هذا عزاؤنا على الحسين الذبيح العطشان.
فقلت: هذا الحسين الذي يجلس عنده الأسد؟
قلن: نعم، أتعرف هذا الأسد؟
قلن: هذا أبوه عليّ بن أبي طالب، فرجعت ودموعي تجري على خدّي".
المنتخب في جمع المراثي والخطب للشيخ فخر الدّين الطريحي:2/302-303/المجلس الخامس، بحار الأنوار للشيخ محمّد باقر المجلسي:45/193-194، الأنوار النعمانيّة للسيّد نعمة الله الجزائري:3/249-250، العوالم- الإمام الحسين للشيخ عبد الله البحراني:512-513،مدينة المعاجز للسيّد هاشم البحراني:3/77-79/السادس والخمسمائة/742 و:4/70-71/السابع والعشرون ومائة/1091/144،الدّمعة الساكبة في أحوال النبيّ والعترة الطّهارة للشيخ محمّد باقر البهبهاني:5/5-6، إكسير العبادات في أسرار الشهادات للشيخ آغا بن عابد الدربندي:3/148/مجلس:17، معالي السبطين في أحوال الحسن والحسين عليهما السلام للشيخ محمّد مهدي الحائري المازندراني:480-481/المجلس:1/ف11. وبعضه فيمقتل الحسين عليه السلام للسيّد عبد الرزّاق المقرّم:318-319.
هذه القصّة لم ترو عن معصوم، وإنّما هي حكاية عن شخص عادي، فهي إذن خبر تاريخي، والخبر التاريخي- بل وغيره- لا يمكن قبوله كيف ما كان، وإنّما يلزم توفّر عدّة نقاط وحجج شرعيّة وأمور تحقيقيّة لشرط قبوله ومن ثمّ الإخبار بمحتواه بطريقة يفهم السامع من الناقل الجازم به تحقّقه منه، كما يقول فضلاء الحوزة.
ولكي لا نطيل عليكم ننقل لكم المفيد ممّا كتبه قلم السيّد محمّد الصدر عن ذلك في موسوعته المهدويّة، قال: "طرق تذليل المشاكل التاريخية :يقتضي التحقيق التاريخي تذليل هذه المُشكلات بأحد الأساليب الآتية :
الأسلوب الأول :الحصول على التواتر في النقل التاريخي.
الأسلوب الثاني :إنّنا إذا لم نستطع أن نحصل على التواتر المنتج للعلم، فبالإمكانالحصول على الاطمئنان والظنّ الراجح بحصول الحادثة ناشئاً من جماعةيُطمأنّ بعدم اتّفاقهم على الكذب، وهو معنى الاستفاضة في النقل؛فيما إذا اتّفق أكثر المؤرّخين أو جملة منهم على شيء معيّن، مع سكوتالباقين عن التعرّض إليه أو نفيه .
الأسلوب الثالث :إنّنا بعد اليأس عن حصول العلم أو الاطمئنان، من النقل التاريخي فينفسه، نستطيع الحصول على الوثوق بقول الناقل، وإن كان منفرداً،بحيث لا يبقى للشبهات السابقة أثر ملتفت إليه .
وهذا يتمّ بأحد نحوين:
أوّلهما :الاطمئنان، بعد البحث في ترجمة هذا المُؤرّخ والاطّلاع على خصوصيّاتهالشخصيّة، بأنّه ثقة مأمون عن الكذب والدسّ والخداع، فيُطمأنّ بأنّه لميتعمّد الكذب في نقله التاريخي .
ثانيهما :الاطمئنان بوجود الروح العلميّة الموضوعيّة في نفس هذا المؤرّخ...جهد الإمكان، أو على الأقلّ، لا يضع خبراً مكذوباًنتيجة لمذهبه أو مصلحته، أو بأيّ دافع شخصيّ آخر.
الأسلوب الرابع :الحصول على الاطمئنان بوقوع الحادثة نفسها، بقرائن خارجية أواعتبارات عقليّة، توجب الظنّ بأنّه من المناسب وقوع هذه الحادثة أوعدم وقوعها.
ثم قال منهجنا في التمحيص :
نستطيع الخروج، من مأزق جهالة حال الرواة، بعدّة أمور :
أولاً: الأخذ بالروايات الموثوقة سنداً، أن فُرض كون رواتهامذكورين ومنصوص عليهم بالوثاقة .
ثانياً: الأخذ بالروايات المشهورة في طبقة أعلامنا المؤلّفين، أوفي الطبقات المُتقدّمة عليهم، إذ لعلّ كثرة روايتها منهم، دالّ علىاطمئنانهم بوثاقة راويها أو الظنّ بمطابقتها للواقع. ولعلّ الشهرةتصل إلى حدّ تكون بنفسها موجبة للاطمئنان الشخصيّ بصحّة السند وصدقالمضمون، فتكون بذلك إثباتاً تاريخيّاً كافياً .
ثالثاً: الأخذ بالروايات التي قام شاهد على صدقها من داخل مضمونهاأو بضمّ قرائن خارجية إليها. كتلك الروايات التي وردت في تاريخناالخاصّ...ممّا نجده صادقاً عند مراجعة التاريخالعامّ، فيكون ذلك دليلاً على صدقها وصحّتها لا محالة.
رابعاً: الأخذ بالروايات المجرّدة عن كلّ ذلك، إذا كانت خالية عنالمعارض، ولم تقم قرينة على كذبها وعدم مُطابقتها للواقع. وكانتإلى جانب ذلك ممّا يُساعدنا في تذليل بعض المُشكلات أو الإجابة علىبعض الأسئلة المطروحة على بساط التاريخ، فإنّنا نضطّر إلى الأخذ بهابصفتها المصدر الوحيد للجواب .
ولا يبقى بين أيدينا إلّا الروايات التي هناك شاهد على كذبها، وإلّاالروايات المُتعارضة التي نشير إليها في النقطة الآتية.
ولا يخفى أنّ كلّ ذلك، إنّما هو بالنسبة إلى الحوادث الجزئية التييحتاج إثباتها التاريخي إلى شاهد. وأمّا الأمور التي هي من ضرورياتمذهبنا، أو قام عليها التواتر في النقل، فإنّنا نعتبر ذلك إثباتاًتاريخيّاً كافياً. بالرغم من أنّ ضرورة المذهب لا تكون مُلزمة لمن لايلتزم بالمذهب".
تاريخ الغيبة الصغرى:28-29 و46.
أرأيتم كيف تكون الآليات والسُبل في نقل الأخبار التاريخيّة وتحمّلها، فهل القصّة أعلاه (قصّة الأسد) متوفرّة على هذه الشروط والضوابط أم أنّها فاقدة لهما؟
أظن من نافلة القول أن نجيب أنّها فاقدة لهما، نعم، إنّها- كما يرى لفيف من الأفاضل- حكاية مرسلة لا سند لها وراويها مجهول الحال، ولم تثبت بنقل تاريخي معتبر، وهي بعد فاقدة للقرائن والشواهد التي تدعم اعتبارها، بل هي من الأقاصيص السرديّة والحكايات النثريّة التي لا حجيّة لها ولا يصحّ الاعتماد عليها وتوظيفها للاحتجاج بها في مقام الاستدلال والإثبات.
كما أنّها لم توجد في أيّ مصدر من المصادر قبل كتاب منتخب الطريحي، وفي الغالب- إن لم يكن الكلّ- أن من نقلها قد أخذها منه واستعارها من مؤلّفه المُنتخب.
ومهما يكن من حال فقد ضعّفّ سند هذه القصّة جمع من الفضلاء ووهّنه.
راجع: البحار:45/194هامش، الملحمة الحسينيّة للشيخ مرتضى مطهّري:3/238 هامش، إجابة للشيخ محمّد جميل حمّود تجدها في موقعه على النت، محاضرة للشيخ فوزي آل سيف على اليوتيوب وتحليل قيّم للقصّة. وألمح السيّد جعفر العاملي إلى ذلك في: سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:ج21/8.
تنبيه: لقد حاول بعض الفضلاء التشكيك في نسبة كتاب الملحمة للمطهّري باستنتاجات غير متينة. وقام بعض الفضلاء بنقد تلك الاستنتاجات ونقضها. ويمكنكم مراجعة نقد الأستاذأحمد عبد الله، والشيخ الصويلح.
ونريد التنويه إلى أكثر من ذلك وهو أنّ كتاب مُنتخب الطريحي عليه عدّة إشكالات ومُبتلاً بالأخطاء والهنات، وبالتسامح في النقل باعتماد الغرائب والأخبار الشاذة والمرسلة والسقيمة، وبالتالي فهو ليس من الكتب المعتبرة، ولا يصحّ الاعتماد على ما جاء فيه والجزم بمدلوله - وخاصّة ما ينفرد بنقله- والقطع بمضمونه من دون نظر بمطابقته للثوابت وتحقّق من موافقته للكليّات. راجع النقود التي عليه في المصادر الآتية:
اللؤلؤ والمرجان:228، وقصص العلماء للميرزا محمّد التنكابني:489، ومنتهى الآمال للشيخ عبّاس القمّي:1/569 و667، والملحمة الحسينيّة:3/254، وموسوعة الإمام الحسين عليه السلام في الكتاب والسنّة والتاريخ:ج1/96 و:ج5/310، وسيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:ج20/198، ومن قضايا النهضة الحسينيّة للشيخ فوزي آل سيف:359-380، ومقال بعنوان مصادر النهضة الحسينيّة/المقدّمة السابعة للسيّد محمّد حسن ترحيني العاملي.
سنردف لكم آراء وملاحظات الأفاضل الدائرة حول الخبر بعد إيراد ملاحظاتنا أو أثناءها.
يظهر من ناظم الخبر أنّ مكان عمل هذا الرجل المزارع قريب من ساحة المعركة لقربه من نهر العلقمي، ولأنّه كان يرى من شهداء الطّف سلام الله عليهم ما لا يرى من غيرهم.
فإذا ما غضضنا النظر عن حقيقة توفّر الزراعة في هذا المكان في تلك الفترة بالتحديد، فإنّه تواجهنا تساؤلاًت عديدة تخطر في البال، منها: من أين تلوثّ فكر هذا الأسدي بحيث كان يتصوّر أنّ الإمام وصحبه خوارج؟
وكيف سمح عسكر وعيون ابن زياد في تلك الفترة الخطرة بتواجد هذا الشخص في هذا المكان الحساس؟
وما السرّ في اختلاف حاله عن حال أهل الغاضريّة الذين قد ارتحلوا عن نواحي الفرات خوفاً من ابن سعد وجماعة ابن زياد ومن ظرف الحرب، أو الذين كانوا يقطنون على بُعدٍ من ساحة القتال، ثمّ رجعوا بعد رحيل العسكر لدفن الشهداء، على ما ذكره جمع من الفضلاء؟
راجع: منتّهى الآمال:1/565، ونهضة الحسين عليه السلام للسيّد هبة الدّين الشهرستاني:179، والإمام الحسين وأصحابه للشيخ فضل عليّ القزويني:1/375-376، وحياة الإمام الحسين للشيخ باقر القرشي:3/324، والصحيح من مقتل سيّد الشهداء وأصحابه عليهم السلام للريشهري:987، وموسوعة الإمام الحسين عليه السلام في الكتاب والسنّة والتاريخ:5/83، وسيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ للعاملي:15/89، وسلسلة القبائل العربيّة في العراق للشيخ عليّ الكوراني:5/33.
أليس الخبر يُعلمنا- كما يدّعي هو أو يٌدّعى عليه- أنّه من قبيلة بني أسد؟
فلم خصّ هو (القاطن أو المتوطّن بهذه المنطقة) بالبقاء وبهذا القرب من المعركة دون بقيّة أفراد بني أسد الذين لم يكونوا بذاك البُعد الشاسع عنها؟
وأمامنا هنا قضيّتان غريبتان:
القضيّة الأولى: إذا صحّ المدّعى أنّ هذا الرجل من قبيلة بني أسد- هذه القبيلة التي تعجّ بالمحبّين لأهل البيت- كيف لم يعلم بتلك المناوشات التي دارت بين بني أسد وكتيبة من جيش عمر بن سعد، كما يذكر بعض المؤرّخين؟
راجع: أنساب الأشراف للمؤرّخ أحمد البلاذري:3/180، الفتوح للمؤرّخ أحمد بن أعثم الكوفي:5/90-91، البحار للمجلسي:44/387، مقتل الحسين للشيخ الموفق بن أحمد الخوارزمي:1/345-346/ف11، تسلية المُجالس وزينة المَجالس للسيّد محمّد بن أبي طالب الحسيني:2/262-263، الدّمعة الساكبة:4/262، لواعج الأشجان في مقتل الحسين عليه السلام للسيّد محسن الأمين:82-83، مقتل الحسين للمقرّم:199، الخصائص الحسينيّة للشيخ جعفر التستري:236-237، أنصار الحسين للشيخ محمّد مهديّ شمس الدّين:67، موسوعة الإمام الحسين عليه السلام في الكتاب والسنّة والتاريخ:4/41-43، سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:15/152-155.
وأشار إليها الشيخ مرتضى مطهّري في الملحمة الحسينيّة:2/247، والشيخ باقر القرشي في حياة الإمام الحسين عليه السلام:3/142.
لقد قال السيّد العاملي عن تلك المناوشات موضّحاً: "يدلّ أولا: على قرب المسافة بين منازل بني أسد وبين كربلاء". سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:15/157.
القضيّة الثانية: يُفهم من ظاهر كلامه أنّ ما رآه من كرامات وقدوم الأسد بعد رحيل العسكر قد تكرّر، أي: كان أكثر من يوم واحد!
وربّما يؤيّد ذلك إجابة الجنّ عن سؤاله.
وأيّاً ما يكن فإنّ هذا يخالف ما ذكر في كتب التاريخ والمقاتل من أنّ بني أسد رجعوا إلى ساحة المعركة لدفن الشهداء بعد رحيل عسكر بني أميّة بيوم أو يومين.
كما أنّ هذه الحقيقة، أعني: رجوع بني أسد لدفن الأجساد المباركة، يضع على قصّته علامة استفهام كبيرة، وذلك لأنّ وجودهم (وجمعهم) سينقض مدّعاه بأنّه متفرّد مع عياله ولا يرى أحداً يسأله عمّا شاهده!
ثمّ كيف يصف الإمام الحسين وأصحابه عليهم السلام بالخوارج؟
ألم يعلم بقدوم الإمام عليه السلام، وأحداث الكوفة وقتل مسلم والخيّرين (رضي الله عنهم) واعتقال الوجهاء والأعيان؟
راجع أحوال الكوفة ذلك الوقت في المصادر التالية: أنساب الأشراف للبلاذري:3/178-179، والصحيح من مقتل سيّد الشهداء وأصحابه عليهم السلام للريشهري:339-340 و386 و430-431، وسيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ للعاملي:12/240-241.
ولو افترضنا عدم علمه بذلك، فأين كان عن التحرّزات التي اتّخذها قادة الملعون عبيد الله وانتشار مراصدهم ومسالحهم (سيطراتهم العسكريّة) على أفواه السكك والمنافذ. حفلت كتب التاريخ بذكر هذه الأوضاع المُتشنّجة، وقد روي أنّ يزيد بن معاوية كتب إلى عبيد الله بن زياد لعنهم الله ما يلي: "بلغني أن الحسين بن عليّ قد توجّه نحو العراق فضع المناظر والمسالح".
مقتل الحسين عليه السلام المنسوب للشيخ أبي مخنف لوط بن يحيى:60، تاريخ الطبري المُسمّى بتاريخ الأمم والملوك للشيخ محمّد بن جرير الطبري:4/286، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد للشيخ محمّد بن النعمان الملقّب بالمفيد:2/66،البداية والنهاية للشيخ إسماعيل بن كثير الدّمشقي:8/179، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم للشيخ عبد الرحمن بن الجوزي:4/329، الأعلام للشيخ خير الدّين الزركلي الدّمشقي:4/193، الصحيح من مقتل سيّد الشهداء:430.
ونحوه في مقتل الحسين للخوارزمي:1/327/ف11، والكامل في التاريخ للشيخ عليّ بن الأثير الجزري:4/36، والفتوح لابن الأعثم:5/63، وتاريخ مدينة دمشق للمؤرّخ عليّ الشافعي المعروف بابن عساكر:18/307.
وتعقّبه الشيخ باقر شريف القرشي قائلاً: "وحفلت هذه الرسالة بالتقدير البالغ لابن زياد...وأوصاه باتّخاذ التدابير التالية: 1- وضع المراصد والحرس على جميع الطرق والمواصلات...وبعدما أطاح الطاغية بثورة مسلم قبض على العراق بيدٍ من حديد، وأعلن الأحكام العرفيّة في جميع أنحاء العراق، واعتمد في تنفيذ خططه على القسوة البالغة فأشاع من الظلم والجور ما لا يوصف...وبهذه الأساليب الرهيبة ساق النّاس لحرب الحسين، فقد كان يحكم بالموت على كلّ من يتخّلف أو يرتدع عن الخوض في المعركة...وقام ابن زياد بحملة اعتقالات واسعة النطاق في صفوف الشيعة فاعتقل منهم- فيما يقول بعض المؤرّخين- اثني عشر ألفاً".
حياة الإمام الحسين عليه السلام:2/414-416.
ليس هذا فحسب فقد كتب يزيد رسالة إلى عبيد الله بن زياد لعنهم الله أكّد عليه فيها أن يتيقّظ في أمر الحسين بن عليّ ويكون على استعداد له.
راجع: أنساب الأشراف:2/78، والصحيح من مقتل سيّد الشهداء وأصحابه:326.
وقام ابن زياد بتنفيذ الأوامر بأنّ وطّد الخيل من القادسيّة إلى العذيب رصدأً للحسين، كما يذكر المؤرّخ احمد الدينوري في الأخبار الطوال:247. وقريب من ذلك في نهضة الحسين للشهرستاني:112.
إضافة إلى ذلك قامت السيطرات بتفعيل القرارات وذلك بالقبض على المتسلّلين، فعندما وصل بعض أصحاب الإمام إلى القادسيّة أو قرب الكوفة قبض عليهم اللعين الحصين بن نمير صاحب شرطة عبيد الله، لأنّه نشر خيله ما بين القادسيّة إلى القطقطانة (القطقطانة: موضع قرب الكوفة من جهة البرّيّة بالطّف، به كان سجن النعمان بن المنذر، كما يقول الشيخ ياقوت الحموي في معجم البلدان:4/374)، ثمّ قام بإرسال من قُبض عليهم إلى عبيد الله بن زياد وقُتلوا في الكوفة.
راجع: مقتل الحسين لأبي مخنف:71، وتاريخ الطبري:4/297 و300، والطبقات الكبرى للشيخمحمّد بن سعد الزهري:6/435، والأخبار الطوال:245، والإرشاد للمفيد:2/69، والكامل في التاريخ:4/41-42، والملهوف أو اللهوف على قتلى الطفوف للسيّد عليّ بن طاووس:46، ومثير الأحزان للشيخ ابن نما الحلّي:30-31، وأنساب الأشراف:3/166-168، وتجارب الأمم للشيخ أحمد بن مسكويه الرازي:2/60 و62، والبداية والنهاية:8/181-182، والفتوح:5/82، والفصول المهمّة في معرفة الأئمّة للشيخ ابن الصبّاغ عليّ المالكي:2/806، ومقتل الحسين للخوارزمي:1/327 و335/ف11، ونور العين في ذكر مشهد الحسين المنسوب للشيخ أبي إسحاق الإسفراييني:5، والإتحاف بحبّ الأشراف للشيخ عبد الله الشبراوي الشافعي:45/ب2، وتسلية المُجالس:2/242، ونفس المهموم في مصيبة سيّدنا المظلوم للشيخ عبّاس القمّي:158 و160و170، وأبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام للشيخ محمّد السماوي:93 و112-113.
ويُعرف هذا الإجراء أيضاً من محاصرة جيش الحرّ للإمام الحسين عليه السلام وأصحابه رضي الله عنهم.
راجع: تاريخ الطبري:4/308-309، والطبقات الكبرى:6/435، والأخبار الطوال:248-250، وأمالي الشيخ الصدوق:218/المجلس الثلاثون/218/1، والإرشاد للمفيد:2/78، ومناقب آل أبي طالب للشيخ محمّد بن عليّ بن شهرآشوب:3/246-247، والكامل في التاريخ:4/47-52، وأنساب الأشراف:3/170و176، والبداية والنهاية:8/186-189، والفتوح:5/78-79 و80، ومثير الأحزان:34، واللهوف:47، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ:2/809-816، تجارب الأمم:2/64 و67، الإتحاف بحبّ الأشراف:47/ب2، ونفس المهموم:169-170و184-185، ومقتل الحسين للخوارزمي:1/330-334/ف11، ومطالب السؤول في مناقب آل الرسول للشيخ محمّد بن طلحة الشافعي:400/ف12، ونور العين في ذكر مشهد الحسين:6-7، وتسلية المجالس:2/246، ومقتل الحسين للسيّد المقرّم:191-192، والصحيح من مقتل سيّد الشهداء وأصحابه:552-560، والإمام الحسين وأصحابه للقزويني:1/196-197.
كما أنّ أوائل خيل عبيد الله بن زياد لم تكن بعيدة عن كربلاء، كما يظهر من تاريخ الطبري:4/292.
وعليه كيف لم يلحظ هذا الأسدي هذه الإجراءات التي تلفت نظر الغافل وتقدح فكر الجاهل فضلاً عن العاقل ليتساءل عن حقيقة هذا الأمر الدائر والجو الفائر؟!
وكيف لم يخطر بباله – ما دام مكان الإمام ليس بعيداً عنه كما يستفاد من خبره- أن يسأل ويستفسر عن حقيقة هذا الشخص المُحاصر الظامئ مع أطفاله ونسائه وأصحابه منذ أيّام،ويستعلم عن حال النازل بقربه في أرض الطفوف قبل الواقعة والاحتدام، ذلك الذي مُنع هو عياله وصحبه من الماء، وجرت معه محادثات ومفاوضات، وبدأ الإعلان بالتهيّؤ لخوض المعركة ضدّه؟
لقد ذكر المؤرّخون أنّ الإمام الحسين وصحبه عليهم السلام وجيش اللعين عبيد الله بن زياد موجود في كربلاء قبل الواقعة بإسبوع تقريباً، وكانت الإمدادات تتوالى على معسكر ابن سعد وابن زياد. وقبل المجزرة بثلاثة أيّام كان هناك خمسمائة فارس من جيش عبيد الله ومؤازريهم قد نزلوا على الشريعة وحالوا بين الإمام وأصحابه وبين الماء أن يستقوا منه قطرة.
راجع: تاريخ الطبري:4/309-310 و312، والفتوح:5/83 و86 و90-91، واللهوف:49، والإتحاف بحبّ الأشراف:48/ب2، ومثير الأحزان:35، والإرشاد:2/84 و86، والكامل في التاريخ:4/52-53، وأنساب الأشراف:3/180، والبداية والنهاية:8/189، وتجارب الأمم:2/69-70، ومقتل الحسين للخوارزمي:1/345/ف11،
والفصول المهمّة لابن الصبّاغ:2/816، ونور العين في ذكر مشهد الحسين:7، ومعالي السبطين في:293/ف7، ونفس المهموم:189 و194، ومقتل الحسين للمقرّم:202، والإمام الحسين وأصحابه:1/218 و237، والملحمة الحسينيّة:2/120، وحياة الإمام الحسين للقرشي:3/135-136، وموسوعة الإمام الحسين عليه السلام في الكتاب والسنّة والتاريخ:4/44-46، وسيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:15/197-198.
عادة ما تكون الشخصيّات العظيمة معروفة فكيف يعرف هذا الأسدي الأمير الملعون عبيد الله وبني أُميّة ويجهل حقيقة شخصيّة مشهورة عظيمة مثل الإمام الحسين عليه السلام سيّد شباب أهل الجنّة وخامس أصحاب الكساء من أهل البيت المطهّرين وسبط النبيّ المصطفى ولا يعرفها، بينما هذا لم يكن خافياً حتّى على أعداء الإمام ومخالفيه وخاذليه في سوح الوغى وسكك الكوفة؟!
وكيف لم تدفعه تلك الأمور والتحرّكات القريبة من موقعه لاستنباء الوضع واستجلاء الحال؟!
ثمّ لو تخطّينا غفلته عن رؤية نور الجسد الطاهر قبل وقوف الأسد عليه، وكذلك اقترابه من موضع الأسد كما يصوره الخبر (فارتعدت منه، وخطر ببالي إن كان مراده لحوم بني آدم فهو يقصدني)، رغم عدم شجاعته!
يبقى إشكال عويص واقف أمامنا صاغه الأستاذ إبراهيم البو شفيع على شكل تساؤل قال: "إنّ هذا الرجل كان عليه أن ينتظر إلى الليل ليتأكد أنّ هذا الأسد يأكل من الجثث أم لا، بينما كانت نظرة منه للأجساد التي تناثرت على الأرض تكفي للإجابة على هذا التساؤل بدلاً من الانتظار إلى حلول الظلام؟
وسجّل أيضاً ملاحظة ملفتة قال: أنّ هذا الأسد إن كانت مُهمّته حراسة الجثث، فمن المفترض أن يحرسها طوال الوقت، لا أن يحرسها ليلاً ويتركها نهاراً نهبة للسباع والطيور الجارحة والشّمس اللاهبة!
وأضاف: لا نعلم ممّن سيحرس هذا الأسد هذه الجثث، فالتفكير العقلاني السليم يقول: أنّ هذه المعجزة إن كانت ستحدث فمن الأولى أن يحرس هذا الأسد الإمام الحسين عليه السلام في حياته من بطش الجيش الأموي، أو على الأقل أن يحرسه من رضّ جسده بعد قتله، أو أن يحرس خيام النساء ليلة الحادي عشر، فلماذا تأخّر كلّ هذا الوقت ليصل متأخراً بعد أن حصل ما حصل؟". انتهى.
ونحن بدورنا نتساءل كيف لم يرتعب من منظر الشموع المعلّقة التي لا يعلم من أضاءها، ومن أين جاءت أو نزلت؟
وهل كانت تضيء له وحده أم يراها غيره؟
وكيف اطمأنّ وذهب في هذا الليل إلى مصدر الصوت المُرتفع والمُشتمل على النحيب والبُكاء واللطم- والذي يستشف منه أنّ الأعداد الباكية اللاطمة كانت كبيرة بحيث وصل صوتها إلى مسامعه- وكلّم أصحاب الصوت رغم عدم معرفته بهم ولم يصبه الذعر منهم؟
ثمّ هل من طبيعة الجنّ حين تُسئلتكلّم النّاس وتجيب عن تساؤلهم؟!
ويمكن أنّ يكون الإشكال أكبر لو فُهم غيرنا من الخبر- وإن لم يتّضح لنا بصورة كافية- أنّ اقترابه (فقربت من الباكي) يعني اقترابه من الشخص لا من مكان الصوت، أي: إنّه كلّمهم وأيضاً رآهم!
وإذا كان يجهل الحسين فمن أين علم أنّ النائح يؤمن بالله تبارك وتعالى وبرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم كي يٌقسم عليه بهما!
وقفة قصيرة: بعيداً عن تزويق الكلام وتنميقه
ألا تلاحظون معي أنّ هناك أمر غريب في هذه الحكاية وبعض النصوص- إن صحّت هذه النصوص- التي تتحدّث عن بكاء أو نوح الجنّ، نرى أنّ النوح يصدر من نساء الجنّ لا من رجالهم!
فهل لأنّ نساء الجنّ كنساء الأنس أكثر عاطفة وأرخص دمعة، أم أنّهنّ أكثر تأثراً وأيماناً من رجالهنّ؟
قال البو شفيع: "إنّ نساء الجنّ هنّ اللاتي أخبرنه بأن هذا الأسد هو الإمام عليّ عليه السلام، فما أدراهنّ بذلك؟
من الممكن أن يكون ذلك وهماً". انتهى قوله.
وذكر الشيخ فوزي أل سيف بعد أن رفض قبول الخبر ملاحظة مهمّة وهي بمضمون: لِمَ لَمْ يقم هذا الأسدي بدفن الأجساد المباركة بعدما رأى انبعاث الكرامات منها وحدوث العجائب حولها؟!
أخيراً هل يصحّ أن يتصوّر الإمام عليّ بن أبي طالب عليهما السلام بصورة أسد؟
نقول: بالإضافة إلى وهن السند كما أسلفنا فإنّ بعض الأفاضل قد عمّق رفضه لها لوجود هذا المحذور في متنها، فإنّه – وبحسب نظره- يرى أنّ تصوير المعصوم المكرّم سيّد الأوصياء بحيوان من الحيوانات المفترسة فيه توهين لهذا الإمام المعظّم، وفيه إهانة لا تُحتمل بالنسبة إلى الإمام عليّ عليه السلام.
ويقول: ما الدّاعي في أن يتلبّس الإمام في صورة حيوان؟ هذا لا معنى له أبداً.
راجع: محاضرة الشيخ فوزي أل سيف التي أشرنا إليها سابقاً، ومن قضايا النهضة الحسينيّة:378.
وتحدّث الأستاذ البو شفيع قائلاً: "هنا نسأل بكل عفوية، ما المصلحة أن يتشبه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بصورة أسد مادام سيُعرف بأنّه هو؟
لماذا لم يظهر كما هو «عليّ بن أبي طالب» الذي تخشاه الأسود قبل الفرسان؟! ".
وعبّر السيّد جعفر العاملي عن تساؤلاته بما يلي: "لا نريد أن نناقش هذه الرواية بالتفصيل، ونكتفي بطرح سؤال واحد عن سبب ظهور الإمام عليّ عليه السلام في صورة أسد هائل المنظر!
ألم يكن ظهوره بصورة رجل متنكر أو ملثم هو الأنسب بمقامه؟!
ولنا أن نسأل أيضاً عن سبب تمرّغه بدم الحسين عليه السلام؟!".
سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:ج21/7- 8.
ويحقّ لنا أن نضيف هذا التساؤل: لِمَ لمْ يظهر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بتلك الصورة؟ ولِمَ هذه الصورة وأمثالها تلصق بأمير المؤمنين دون غيره من المعصومين عليهم السلام؟!
كلّ هذا الذي قرأتموه أيّها الأعزّة وغيره جعل من أصل هذه القصّة (أو الحكاية) في خبر كان ولا محلّ لها، ولهذا نجد الشيخ فوزي آل سيف والشيخ مطهّري يعتبران هذه الحكاية من التحريفات التي أُدخلت في واقعة عاشوراء.
راجع: محاضرة على اليوتيوب للشيخ آل سيف، والملحمة الحسينيّة:3/283.
وفي تعليق للسيّد محمّد علي القاضي على الخبر قال: "هذا الكلام إفك عظيم وكلمة خاطئة يدلّ على أنّ هذه القصّة المنقولة لا تخلو من دسّ واختلاق، فإنّ ظهور أمير المؤمنين (ع) في صورة الأسد لا يمكن التفوّه به من رواد العلم وطلّاب الفضيلة...وهذه النقليّات من الأفائك والمفتريات، ومن موضوعات الغلاة والمفوّضة وبعض الصوفية ومن مختلقاتهم، ومن خرافات بعض جُهّال الشعراء...والاعتقاد بهذه الأكاذيب وإنشاد الشعر فيها لا يصدر عمّن كان من أهل الإسلام والإيمان".
الأنوار النعمانيّة:3/250 هامش.
وكتب الشيخ محمّد جميل حمّود في موقعه على صفحة الأنترنت التالي: "ما يعني أنّ القصّة مركّبة وملفّقة على أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فلا يصحّ الاحتجاج بها على صدور الكرامة منه...لأنّ دعوى كونها كرامة بالكيفية التي ترويها القصّة لا بدّ فيها من نقلٍ معتبر وهو مفقود في البَين، وعلى أقلّ تقدير نشكّ بنسبتها إليه سلام الله عليه، فالأصل حينئذٍ يقتضي عدم صحّة نسبتها إليه، ذلك لأنّ النسبة لا بدّ أن تكون برواية صادرة من المعصوم عليه السلام، وحيث إنّ القصّة غير مروية عن المعصوم عليه السلام فلا يمكننا - والحال هذه- نسبتها إليه، لا سيّما أنّها تتّفق مع معتقدات اليهود والمخالفين والتناسخيّين".
بهذا نكون قد وصلنا إلى نهاية الخبر الأوّل، ونواصل معكم تناول الخبر الثاني.
الخبر الثاني: قصّة كتاب الكافي
روي عن عبد اللَّه بن إدريس عن أبيه إدريس بن عبد اللَّه الأزدي [ الأودي ] قال: « لمّا قُتل الحسين بن عليّ عليه السّلام أراد القوم أن يوطئوه (يطئوه) الخيل، فقالت فضة لزينب: يا سيّدتي إن سفينة كسر به في البحر - فخرج إلى جزيرة فإذا هو بأسد، فقال: يا أبا الحارث أنا مولى رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهمهم بين يديه حتى وقفه على الطريق والأسد رابض في ناحية، فدعيني أمضى إليه فأعلمه ما هم صانعون غداً، قال: فمضت إليه فقالت: يا أبا الحارث!
فرفع رأسه، فقالت له: أتدري ما يريدون أن يعملوا غداً بأبي عبد اللَّه عليه السّلام؟!
يريدون أن يوطئوا الخيل ظهره.
قال: فمشى حتّى وضع يديه على جسد الحسين عليه السّلام، فأقبلت الخيل، فلمّا نظروا إليه قال لهم عمر بن سعد لعنه اللَّه: فتنة لا تثيروها انصرفوا، فانصرفوا».
الكافي للشيخ محمّد الكليني:1/465-466/باب مولد الحسين بن عليّ عليهما السلام/8.
وبتفاوت يسير في المنتخب، وجاء فيه: قال حُكيأنّه لما قتل الحسين...وأرى أسداً خلف مخيمنا فدعيني أذهب إليه واخبره بما هم صانعون غداُ بسيدي الحسين. فقالت: شأنك. فقالت فضّة: فمضيت إليه حتّى قربت منه وقلت: يا أسد أتدري...يريدون يوطئون الخيل ظهره؟
قال: نعم، فقام الأسد ولم يزل يمشي وأنا خلفه...وجعل يمرّغ وجهه بدم الحسين ويبكي إلى الصباح، الخ".
المنتخب في جمع المراثي والخطب للشيخ فخر الدّين الطريحي:2/302.
- المناقشة من ناحية السند:
القصّة مرويّة عن غير المعصوم ولم تثبت من طريقه، وسندها مطعون ولا يُعبأ به لأنّه يعاني من جهالة بعض الراوة، وهي بعد خبر تاريخي لم يثبت بنقل معتبر، وحالها السندي من هذه الناحية لا يختلف كثيراً عن حال أختها (سند الخبر الأوّل)، وقد تكلّمنا فيما سبق عن ضوابط الأخذ بالخبر التاريخي وقبوله، فلا نعيد.
وبناء على ذلك فإنّ سندها يُعدّ من قسم المجهول والغير المعتمد، وهذا ما أكّده جملة من الأفاضل.
راجع: مرآة العقول للشيخ المجلسي:5/368، ومستدرك الوسائل للمحدّث النوري:8/27 هامش المُحقّق، مدينة المعاجز للسيّد البحراني:3/470 هامش المُحقّق، وتكملة الرجال للشيخ عبد النبيّ الكاظمي:1/553 هامش المُحقّق، وسيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ للسيّد العاملي:ج19/31 وانظر:ج11/333، وإجابة للشيخ محمّد جميل حمّود العاملي في موقعه على صفحة الأنترنت، وإجابة للشيخ فوزي آل سيف احتفظ بها.
قال الشيخ فضل عليّ القزويني: "وهذه الرواية وإن رواها الشيخ الأجلّ ثقة الإسلام في الكافي، وهو أوثق كتب الشيعة، إلّا أنّها رواية تاريخيّة وليست بحديث مروي عن المعصوم، إذ لم يسنده إلى قول إمام، فهو من أخبار الآحاد ولا يفيد علماً ولا عملا.
ثمّ ذكر الشيخ القزويني مجهوليّة بعض رجال السند".
الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه:1/370.
ويعضد ما نقلناه ما ذكره الشيخ الغزّي في ملّف الكتاب الناطق/الحلقة الثالثة والعشرون. حيث نقل الشيخ كلام الشخص الذي راسله وأخبره بحكايته حين ذهب إلى كلّ مكاتب المراجع المعروفين في النجف وسألهم عن الخبر أعلاه (خبر الكافي)، فقالوا كلّهم له: بأنّ هذه القضيّة ليست صحيحة، وأنّ المراجع لا يؤمنون بها، ولا يُحبّذون إتيانها، ونصحه أعضاء المكاتب أن يترك هذه التفاهات ويهتمّ بغيرها.
ولكن الشيخ الغزّي اعترض على رأيهم فقال: "أني لا أعبأ بكلام المراجع ولا شأن له به، لأنّ غاية ما يعتمدون عليه هو علم الرجال في تضعيف الروايات".
وحاول بعضهم رفع الجهالة عن السند الذي تصوّر وقوع الوهم فيه بتبديل بعض أسماء رجال السند العاميّ، لكنّه لم يُفلح وبقي السند مُتضعضعاً غير تامّ.
- المناقشة من ناحية المتن:
سنردف لكم آراء وملاحظات الأفاضل الدائرة حول الخبر بعد إيراد ملاحظاتنا أو أثناءها.
إذا نحن أجلنا النظر في متن الخبر نجده منسوباُ لفضّة ومنقولاً عنها ولا توجد أيّ عبارة للسيدة زينب عليها السلام في الخبر تُوحي بصحّة نسبة الخبر إليها.
بل تقدّم عن الشيخ فضل القزويني أنّ القصّة غير مسندة إلى قول معصوم، كما جاء في كتابه الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه:1/370.
وعليه فلا يصحّ ما زعمه بعض الفضلاء أنّها مرويّة عن معصوم وهي ابنة مولاتنا فاطمة الزهراء السيّدة زينب عليهما السلام!
أضف إلى ذلك فإنّ بعض الآراء الذاهبة إلى عصمة السيّدة زينب عليها السلام غير مُتحّقق،
والخبر الحاكي أنّها عالمة غير معلّمة لا يمكن من ناحية التبصّر الدقيق والنظر الفاحص والبحث الموضوعي المُعمّق الاعتماد عليه في إثبات هذه المزية. وهذا لا يعني تجريدها سلام الله عليها من كلّ مزية وفضيلة، أبداً لا يصحّ الذهاب إلى هذا النوع من التفكير، ونعوذ بالله تبارك وتعالى ممّن يبتغي ذلك، أو أن نكون هكذا. إنّها السيّدة الرائعة والمرأة الراقيّة بمزاياها الجزيلة وفضائلها الجليلة.
والمراد بفضّة هنا خادمة مولاتنا السيّدة الزهراء عليها السلام كما عن دائرة المعارف الحسينيّة/معجم أنصار الحسين للشيخ محمّد الكرباسي/النساء/الجزء الثالث:83 و95.
وقد استظهر بعضهم أنّ فضّة (النوبيّة أو الهنديّة) رضي الله عنها ولدت قبل الهجرة بأكثر من خمس وعشرين سنة، وحين دخلت بيت السيّدة الزهراء كان عمرها أكثر من ثلاثين سنة.
راجع: دائرة المعارف الحسينيّة:3/80 -82.
وعليه فإنّ عمرها يوم الطّف يكون قد تجاوز الثمانين عاماً، على ما ورد في دائرة المعارف الحسينيّة:3/100.
وهناك أمر ملفت فمن الناحية التاريخيّة لم يتطرّق المؤرّخون القدامى وأصحاب المقاتل المُعتمدة إلى دور فضّة في يوم الشهادة وأثناء السبي والعودة منه.
فهل هذا الإغفال لذكر اسمها والتعتيم عليه مُتعمّد أم أنّ وجود فضّة في يوم الطّف كان محلّ نظر عندهم وريبة؟
وحتّى إذا ما نظرنا إلى ما ورد في الكتب غير المعتمدة تمام الاعتماد ككتاب الشيخ الدربندي في أسرار الشهادة من أنّ السيّد زينب عليها السلام لمّا أرادت الركوب على الناقة ولم تستطع جاءت إليها جارية مُسنّة سوداء أقبلت إليها فأركبتها، فسألت عنها، فقالوا: هذه فضّة جارية فاطمة الزهراء عليها السلام.
راجع: إكسير العبادات في أسرار الشهادات:2/630، عنه معالي السبطين للشيخ محمّد علي الحائري:510/ف12/المجلس:4.
فإنّ هذا الخبر لا يدخل في سلك الدعم والتشييد ونضم العضد والاعتماد، لأنّ فيه علامات الوضع واضحة، وينطوي على مفارقات غريبة وعديدة.
ولا ندري لمن وجّه الراوي الذي سار مع موكب الإمام سؤاله في تلك الأحوال العصيبة؟ ومن المجيب الذي عرف فضّة وجهلها الراوي؟
على العموم فإنّ بعض الفضلاء اعتبر هذا الخبر أيضاً مريب ومن القضايا المختلقة.
راجع: اللؤلؤ والمرجان:212، والملحمة الحسينيّة:1/17 و:3/249، وسيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:11/330-333، والنهضة الحسينيّة للسيّد محمّد حسن ترحيني العاملي:317.
تجدر الإشارة إلى أنّ كتاب إكسير العبادة تعرّض لنقود عديدة من قبل الأفاضل، ولم يحظ بالقبول التامّ لدى الكثير من الأماثل،
لكونه يشتمل على قضايا غير صحيحة، ومتساهل في أخذ الأخبار وتناول الآثار الواهيّة وهو كأخيه منتخب الطريحي.
راجع: اللؤلؤ والمرجان:201، الذريعة للشيخ آغا بزرك الطهراني:2/279، الملحمة الحسينيّة لمطهّري:1/84-85 و:3/248و283، موسوعة الإمام الحسين عليه السلام للريشهري:1/98-99 و:5/84 هامش و310، سيرة الإمام الحسين عليه السلام للعاملي:20/198، من قضايا النهضة الحسينيّة للشيخ فوزي آل سيف:97 هامش.
المراد بسفينة هو سفينة مولى رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، يُكنّى أبا ريحانة. انكُسرت به السفينة التي تقله في البحر.
راجع: شرح أصول الكافي للشيخ محمّد صالح المازندراني:7/234، الوافي للشيخ الفيض الكاشاني:3/760.
ويظهر من كلام السيّد العاملي انّه غير مطمأن تماماً بحصول حكاية سفينة، قال: "
وهل حصل ذلك لسفينة؟ أم أنّه مجرّد ادّعاء لا تثبته النصوص المعتبرة؟".
سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:ج19/32.
وتستوقفنا هنا قضيّة مُحيّرة: روى المؤرّخون أنّ الأعداء فاقدي الغيرة والشهامة والمروءة أخزاهم الله عزّ وجلّ قاموا بنهب ما في الخيام وأضرموا النّار فيها، فبناء على وجود خيمة واحدة- كما يمكن أن يُستفاد من بعض الأخبار-، أو خيمتين متقاربتين تجمع النساء والأطفال ومن بقي من الرجال،
يقفز أمامنا هذا السؤال وهو: كيف خرجت فضّة من الخيمة المُحاطة بالحرس والعيون من غير إذن وعلم الأعداء؟!
وفي هذا السياق نلتقط لكم ما رواه الشيخ المفيد قال: "وجاء عمر بن سعد فصاح النساء في وجهه وبكين، فقال لأصحابه: لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء النسوة، ولا تعرضوا لهذا الغلام المريض.
وسألته النسوة ليسترجع ما أُخذ منهنّ ليتستّرن به، فقال: من أخذ من متاعهنّ شيئاً فليردّه عليهنّ؟
فوالله ما ردّ أحد منهم شيئاً.
فوكّل بالفسطاط وبيوت النّساء وعليّ بن الحسين جماعة ممّن كانوا معه، وقال: أحفظوهم لئلّا يخرج منهم أحد، ولا تسيئنّ إليهم".
الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد:2/113.
ومثله في إعلام الورى بأعلام الهدى للشيخ الطبرسي:1/469-470/ب2/ف4 وفيه إلى كلمة أحفظوهم.
وما كتبه الشيخ إسماعيل بن عمر بن كثير التالي: "وأمّا بقيّة أهله ونسائه فإنّ عمر بن سعد وكّل بهم من يحرسهم ويكلؤهم".
وقد أشار السيّد العاملي إلى هذا المعنى حيث ذكر أنّ الأعداء لعنهم الله المتعالي كانوا يحيطون بخيم النساء.
راجع: سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:ج19/32.
وكرّر نقله مع التعليق عليه فقال عن توكيل ابن سعد جماعة بحفظ السبايا: "إنّ هذا التوكيل لم يكن رغبة في دفع البلاء عنهنّ، بل لأنّ ابن سعد كان يعرف أنّه مُطالب من يزيد وابن زياد بان يُرسل إليه السبايا، لكي يُظهر للنّاس قوّته، وبطشه بأعدائه.
ولكي يرى النّاس ذلَّة بني هاشم، حتّى تنقطع آمال النّاس بهم، وينكفئوا عنهم. لأنّ ذلك هو الذي يجعل بني أُميّة يُشعرون بالأمان.
كما أنّهم يُريدون أن يُشفوا غليل صدورهم، وتنفيس حقدهم على النبيّ وأهل بيته.
وهذا كلّه يدلّ على أنّه لم يكن ابن سعد قادراً على التفريط بمن هم في يديه من نساء وأطفال وسواهم".
سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:ج19/102-103.
على أيّ حال فإنّ مع هذا القرب والتشابك المكاني لماذا لَمْ تذهب فضّة لأخذ الإذن من الإمام السجّاد عليه السلام؟
ولماذا لَمْ تستشره سيّدتنا المُعظّمة عقيلة الطالبيّين عليها السلام؟
وهناك تساؤلات أُخرى حول حوار فضّة مع مولاتنا زينب عليها السلام قام بتسجيلها السيّد العاملي على شكل نقاط ملاحظاتيّة، نأخذ بعضها:
""فأوّلاً: من الذي أخبر فضّة وسائر النساء: بأنّ الأعداء عازمون على رضّ الجسد الشريف بحوافر الخيل في اليوم التالي؟
ونتجاوز النقطة الثانية ونأخذ ما بعدها.
ثالثاً: من أين علمت فضّة بوجود الأسد في ذلك المكان المعيّن؟
رابعاً: كيف لم تعلم زينب عليها السلام عن الأسد ومكانه ما علمته فضّة؟
ثمّ تساءل: من أين علمت أنّ الأسد سوف لا يقدم على افتراسها؟".
سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:ج19/31.
أضف إلى ما تقدّم: المفترض أنّ معرفة فضّة بقّصّة سفينة مولى رسول الله المشهورة في أصلها المختلف في تفاصيلها ما كانت لتخفى على مولاتنا السيدّة زينب عليها السلام. لكنّنا لا نتلمّس في الخبر ما يُشعر بمرور الفكرة على خواطر السيّدة المُهتضمة واستحضارها؟
ولذا لم نجد المبادرة من عقيلة الطالبيّين صاحبة العلم والمعرفة!
لا بدّ أنّ هذا الطرح لا ينسجم مع تصوّر من يعتقد برواية العالمة غير المعلّمة.
فهل هذا السكوت من السيّدة الجليلة كان لأجل بيان فضل فضّة؟
طبعا لم يكن الأمر هكذا، والقول به وتبنّيه يُعد مُجازفة.
ثمّ كيف علمت فضّة أنّ الأسد نفسه حيّ يرزق؟
وكيف استطاعت تمييزه عن غيره؟
وجاء في الخبر أنّ فضّة ذهبت إلى الأسد فقالت: "يا أبا الحارث، فرفع رأسه!".
وههنا وقفة: لم يُحدّثنا الخبر أنّ فضّة أخبرت الأسد أنّها من مواليّ أهل البيت كي يهرع إلى مساعدتها مثلما ساعد سفينة!
ثمّ إنّ ما حصل لسفينة لا يدلّ على أنّ نظيره سوف يحصل لغيره، كما يقول العاملي.
راجع: سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:ج19/31-32.
وكيف عرف الأسد أنّ كنيتهأبو الحارث؟
وما معنى أنّ يرفع الأسد رأسه؟
أليس من عادة الأسد (ذلك الوحش الضاري) اليقظ المُزوّد بحواس مطوّرة أن يستشعر بالقريب القادم إلى ناحيته، فكيف يبقى فيما أشبه بالغفلة- كما يوحي الخبر- مخفضاً رأسه إلى أنّ يناديه المُقترب منه بكنيته فيرفع رأسه؟!
وقولها للأسد: "يريدون أن يوطئوا الخيل ظهره".
يُشعر بأنّ وضع جسد الإمام عليه السلام كان كوضع النائم على بطنه.
قال: "فمشى حتّى وضع يديه على جسد الحسين".
الخبر يستبطن أنّ مكان الأسد لم يكن بعيداً عن ساحة المعركة ويُستفاد هذا من كلمة (فدعيني أمضي إليه) و (فمشى)، ويُدعم ذلك نسخة خبر منتخب الطريحي، فقد جاء فيه: "وأرى أسداً خلف مُخيّمنا".
فإذا كان الأسد بهذا القرب ويحمل هذا الشعور الولائي فلِمَ لمْ يأت منذ يوم العاشر الذي رضّ فيه الجسد الشريف في المرّة الأولى؟!
أمّا الكلام عن مجيء الأسد لحماية الجسد الطاهر، فهو أمر شاذّ لا تدعمه الوثاق المُتكثرّة، بل إنّها تتقاطع معه وتثبت حصول الرضّ للجسد القدسيّ كما سيمرّ بنا.
لقد ورد في النصوص وكذلك روى الكثير من مؤرّخي الفريقين وأرباب المقاتل وأصحاب السير أنّ جسد مولانا الإمام الحسين عليه السلام قد رضّ بسنابك وحوافر الخيل في اليوم العاشر من محرّم، وأقرّوا وقوعه.
ومن هنا سوف نقوم بتطعيم البحث وتنويع الأدلّة التي تطرّقت إليها.
ألف: من ناحية النصوص جاءفي كتاب النوادر لعلي بن أسباط رواه عن بعض أصحابه، قال: (إنّ أبا جعفر عليه السلام قال: كان أبي مبطوناً يوم قتل أبوه صلوات الله عليهما، وكان في الخيمة وكنت أرى موالينا كيف يختلفون معه، يتبعونه بالماء. يشدّ على الميمنة مرّة وعلى الميسرة مرّة وعلى القلب مرّة. ولقد قتلوه قتلة نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يقتل بها الكلاب، لقد قتل بالسيف، والسنان، وبالحجارة، وبالخشب، وبالعصا، ولقد أوطؤه الخيل بعد ذلك).
الأصول الستة عشر لعدّة محدثين:122، البحار للمجلسي:45/91/ب37/30، نفس المهموم:334.
وربّما لهذا وغيره روي عن المعصوم أنّه قال عن استشهاده عليه السلام: (ما قُتل قتلته أحد كان قبله). كامل الزيارات للشيخ جعفر بن محمّد بن قولويه القمّي:145/ب22/170/2.
قال المؤرّخ والمجغرف البيروني عن يوم العاشر من محرّم (عاشوراء): "وكانوا يعظّمون هذا اليوم إلى أن اتّفق فيه قتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم وفُعل به وبهم ما لم يُفعل في جميع الأمم بأشرار الخلق من القتل بالعطش والسيف والإحراق وصلب الرؤوس وإجراء الخيول على الأجساد، فتشاءموا به، فأمّا بنو أميّة فقد لبسوا فيه ما تجدّد وتزينوا واكتحلوا وعيّدوا، وأقاموا الولائم والضيافات وطعموا الحلاوات والطيّبات...وأمّا الشيعة فإنّهم ينوحون ويبكون أسفاً لقتل سيّد الشهداء فيه، ويظهرون ذلك بمدينة السلام وأمثالها من المدن والبلاد، ويزرون فيه التربة المسعودة بكربلا".
وكتب الشيخ باقر شريف القرشي: "ولم تجر هذه العملية- فيما أحسب- على احد من أهل بيت الإمام وأصحابه، ويؤيّد ذلك أن الأوامر التي صدرت من ابن زياد إلى ابن سعد قد اقتصرت على التمثيل بجسد الحسين دون غيره...لقد داسوا جسد الإمام الذي تربّى في كنف الرسول (ص) ونبت لحمه من لحم علي وفاطمة، والذي قال فيه الرسول: (حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسيناً).
لقد داسوا ذلك الجسد الذي ثار في وجه المعتدين والظالمين، وأراد أن يزيل البغي، ويظهر العدل في الأرض حسب ما أمر الله به".
حياة الإمام الحسين عليه السلام:3/303-304.
وروي قولاً منسوباً إلى فاطمة بنت الإمام الحسين: "وانأ أنظر إلى أبي وأصحابه، مجزرين كالأضاحي على الرمال، والخيول على أجسادهم تجول".
البحار:45/60، وعوالم العلوم - حياة الإمام الحسين للشيخ البحراني:305 و360.
وفي حديث ضعيف مرسل ذكر فيه رضّ الجسد الشريف: (وأمّا الحسين فإنّه يُظلم ويُمنع حقّه وتُقتل عترته، وتطؤه الخيول، وينهب رحله، وتسبى نساؤه وذراريه، ويدفن مرملاً بدمه، ويدفنه الغرباء).
ومثله في الضعف والإرسال وعدم الاعتماد عليه جاء فيه أنّه رضّ بدنه وهشّمته الخيل بحوافرها.
راجع: منتخب الطريحي:1/100، العوالم- الإمام الحسين:494، والدّمعة السّاكبة في أحوال النبيّ والعترة الطّهارة للشيخ محمّد باقر البهبهاني:5/3.
وهناك أثر آخر مثلهما في القيمة يؤكّد هذه الحادثة كما في الدمعة السّاكبة:4/379.
وورد في زيارة الناحية المنسوبة إلى المعصوم:"حتّى نكّسوك عن جوادك، فهويت إلى الأرض طريحاً، ظمآن جريحاً، تطؤك الخيول بحوافرها وتعلوك الطغاة ببواترها".
وينبغي التذكير أنّنا وجدنا بعض النصوص قد تطرّقت لعمليّة الرضّ، ولكنّنا لم نجد ذكر لها في خطب السبايا التي ألقوها في الكوفة والشّام!
باء- ومن ناحية المصادر التاريخيّة والمقاتل والسير فقد ذُكر انَّه بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام وروحي له الفداء، نادى عمر بن سعد في أصحابه: "من ينتدب للحسين ويُوطئه فرسه، فانتدب عشرة: منهم إسحاق بن حياة الحضرمي وهو الذي سلب قميص الحسين فبرص بعدُ، وأحبش بن مرثد بن علقمة بن سلامة الحضرمي، فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتّى رضَّوا ظهره وصدره".
مقتل الحسين عليه السلام المنسوب إلى الشيخ لوط أبي مخنف:202، تاريخ الطبري:4/347، أنساب الأشراف:3/204، الكامل في التاريخ للشيخ ابن الأثير:4/80، مقتل الحسين للشيخالموفّق الخوارزمي:2/44/ف11، نفس المهموم للقمّي:347-348، معالم المدرستين للسيّد مرتضى العسكري:3/137، موسوعة الإمام الحسين عليه السلام في الكتاب والسنّة والتاريخ للريشهري:5/14-15.
وبتفاوت في مروج الذهب للشيخ عليّ المسعودي:3/57، والإرشاد للشيخ المفيد:2/113، وإعلام الورى بأعلام الهدى للشيخ الفضل الطبرسي:1/470/ب2/ف4، ونور العين في ذكر مشهد الحسين المنسوب للشيخ أبي إسحاق الإسفراييني:9-10، والمنتظم في تاريخ الأمم والملوك للشيخ عبد الرحمن بن الجوزي:5/341، ومثير الأحزان لشيخ ابن نما:59-60، وتسلية المجالس للسيّد محمّد الحسيني:2/327، والدّر النظيم للشيخ يوسف العاملي:558، وجواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب للشيخ محمّد الدمشقي الباعوني الشافعي:2/289/ب75، والإتحاف بحبّ الأشراف للشيخ عبد اللهالشبراوي الشافعي:53/ب2، ومنتهى الآمال للشيخ عبّاس القمّي:1/550-551،والدّمعة الساكبة:4/376، ولواعج الأشجان في مقتل الحسين للسيّد محسن الأمين:149، ومقتل الإمام الحسين للسيّد محمّد التقي بحر العلوم:497، ومقتل الحسين للسيّد عبد الرزّاق المقرّم:302، وسيرة الحسين في الحديث والتاريخ للسيّد جعفر العاملي:ج19/27، وكربلاء الثورة والمأساة للأستاذ أحمد حسين يعقوب:342، والرحمة الواسعة للشيخ محمّد تقي البهجة:92.
وينبغي الأخذ بنظر الاعتبار أن هذا الفعل جاء بناء على مرسوم صدر بذلك من اللعين والي الكوفة إلى اللعين ابن سعد، فقد كتب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد كتاباً جاء فيه: "فإنْ قتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره".
تاريخ الطبري ج4/314، الكامل في التاريخ:4/55، أنساب الأشراف للبلاذري:3/183، مقاتل الطاليين للشيخ أبي الفرج الأصفهاني:79، الإرشاد:2/88، مناقب آل أبي طالب للشيخ ابن شهرآشوب:3/247، المنتظم لابن الجوزي:5/337، الفتوح للشيخ ابن الأعثم:5/93، مقتل الحسين للخوارزمي:1/348/ف11، ونور العين في ذكر مشهد الحسين:8، الإتحاف بحبّ الأشراف:49/ب2، معالم المدرستين للعسكري:3/86، معالم السبطين:305/ف7،
نفس المهموم:201، منتهى الآمال:1/475، لواعج الأشجان:88، مقتل الحسين للمقرّم:208، الإمام الحسين وأصحابه للقزويني:1/243، الملحمة الحسينيّة:2/125، الرحمة الواسعة:102.
ويلزم التذكير بأنّ مؤلّفي هذه المصادر والتي قبلها لم يناقشوا ما نقلوه ولم يبدوا اعتراضاً عليه، ممّا يُشعر بالموافقة والرضا به.
قال الشيح فضل القزويني عن رضّ صدره وجسده الشريف: "الذي اتّفق عليه العامّة والخاصّة محدّثوهم ومؤرّخوهم، بل كلّ من تصدّي لوقعة الطّف ذكر ذلك من غير نكير".
الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه:1/366.
جيم- من ناحية الشعر فقد أنشد الشعراء أبياتاً تؤكّد وقوع حادثة رضّ الجسد المقدّس
يُقال أنّ السيّد إسماعيل الحميري الذي هو من شعراء القرن الثاني الهجري المولود سنة 105هـ أنشد الإمام الصادق عليه السلام بقصيدة مطلعها:
اُمرر على جدث الحسين ... و قل لأعظمه الزكية
يا عظاماً لا زلت من ... وطفاء ساكبة رويّة
ما لذ عيشٌ بعد رضّك ... بالجياد الأعوجية.
راجع: أعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين:3/429.
ونقل الشيخ محمّد بن عليّ بن شهرآشوب عن السيّد الرضي الأبيات التالية:
وخر للموت لا كفّ يُقلّبه إلّا بوطئ من الجرد المحاضير.
أترى تجيء فجيعة بأمضّ من تلك الفجيعة
حيث الحسين على الثرى خيل العدى طحنت ضلوعه.
واحتذى بهم الشاعر محمّد مهديّ الجواهري في قصيدته العصماء بحقّ الإمام الحسين (فداء لمثواك)، نأخذ موطن الحاجة منها، قال:
وحيثُ سنابِكُ خيلِ الطُّغَاةِ جالتْ عليـهِ ولم يَخْشَـعِ.
وقد أقرّ جمع كثير من فقهاء الطائفة وفضلائهم على وقوعها، وتقدّم منّا ذكر بعضهم، ونجمل لكم هنا تصريح بعضهم، وما قاله أو نقله بعض آخر بذكر مصادرهم:
مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب:3/259، اللهوف:79-80 وطبعة:182، منتخب الطريحي:2/457/المجلس العاشر،الآثار الباقية عن القرون الخالية للشيخ أبي الريحان محمّد البيروني:329 وطبعة أخرى صفحة:420،الصواعق المحرقة للشيخ ابن حجر الهيتمي:271/ب11/ف2، معالي السبطين:477-478/ف10، مقتل الإمام الحسين للسيّد محمّد التقي بحر العلوم:501، مقتل الحسين للمقرّم:307، نهضة الحسين للسيّد هبة الدّين الشهرستاني:178، الغرر الحسينيّة والدّرر الدّينيّة للسيّد محمّد مهدي القزويني البصري:57 و68 و77-78 و84 و155-156، لواعج الأشجان للسيّد محسن الأمين:149، موسوعة الإمام الحسين عليه السلام في الكتاب والسنّة والتاريخ للريشهري:5/13-16، حياة الإمام الحسين للشيخ القرشي:3/303، ثورة الحسين ظروفها الاجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة للشيخ محمّد مهديّ شمس الدّين:201، أنصار الحسين الرجال والدلالات لشمس الدّين:230 و232، ونقله الشيخ نجاح الطائي في مقتل الحسين وأنصاره:373، فاجعة الطّف للسيّد محمّد سعيد الحكيم:76، الصحيح من مقتل سيّد الشهداء للريشهري:933، من قضايا النهضة الحسينيّة للشيخ فوزي آل سيف:67-68. وألمح السيّد جعفر العاملي إلى ما يدلّ على قبوله خبر رضّ الجسد الشريف سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:ج19/78.
وأشار إليها السيّد محمّد الصدر في أضواء على ثورة الحسين عليه السلام:241-242.
بهذا العرض يظهر أنّ الراوي لم يسبك الخبر بطريقة جيّدة ونسي أنّ الأسد جاء في ليلة الحادي عشر، وهذا يعني أنّ متن الرواية مضطرب فلا هو يستطيع نفي رضّ الجسد الطاهر بحسب الروايات التي أثبتت هذا الفعل الشنيع، ولا سياق ألفاظه يُقنع القارئ بدلالته على أنّه مجيء الأسد كان لغرض عدم تكرار الفعل بعد حدوثه.
فإذا صحّ أن الرضّ قد حصل بالضبط في يوم العاشر كما عرفنا، فلِمَ لَمْ يكن هناك اعتراض ومساعي لمنع وقوعه وخشية جادّة من تطبيق هذا الفعل الخسيس الصفيق؟
كما تلاحظون أحبّتي في الله فإنّ القصّة يعتريها الخلل من عدّة جهات، وسنقرأ في ذيل البحث بعض الآراء الطاعنة بها.
الأمر الأوّل: استبعد بعض الفضلاء وقوع حادثة الرضّ، وتشبّث بخيوط غير نافعة كما سنرى.
ويحسن بنا أن نتوغّل في الموضوع، وندخل في مناقشة المطروح، نقتبس لكم من ربوعه ألمع الأسماء.
فهاكم ما اقتطفناه لكم أيّها القرّاء.
نستهلّ العرض بما كتبه الشيخ المجلسي في تعليقه على الخبر قال: "قوله لعنه الله: (لا تثيروها) أي: لا تظهروها ولا تفشوها.
ويدلّ على أنّ للحيوانات شعوراً، وعلى أنّ بعضهم يُحبّون أهل البيت ويعرفونهم، ويمكن أن يكون الله تعالى ألهمه في هذا الوقت أن يفعل هذا الفعل أو أعطاه شعورا عرف كلام فضّة.
ويدلّ على أنّ ما ذكره الخاصّة والعامّة من وقوع هذا الأمر الفظيع لا أصل له.
حتّى أن السيّد ابن طاووس (قدس سره) قال في كتاب الملهوف: ثمّ نادى عمر ابن سعد في أصحابه: من ينتدب للحسين فيوطئ الخيل ظهره؟
فانتدب منهم عشرة وهم إسحاق بن حوية الذي سلب الحسين عليه السلام قميصه، وأخنس بن مرثد وحكيم ابن طفيل، وعمرو بن صبيح، ورجاء بن منقذ، وسالم بن خيثمة، وصالح بن وهب، وواخط بن ناعم، وهاني بن ثبيت، وأسيد بن مالك، فداسوا الحسين صلوات الله عليه بحوافر خيلهم حتى رضّوا ظهره وصدره.
قال: وجاء هؤلاء العشرة حتّى وقفوا على ابن زياد فقال أسيد بن مالك أحد العشرة: نحن رضضنا الظهر بعد الصدر بكلّ يعبوب شديد الأسر. فقال ابن زياد: من أنتم؟
فقالوا: نحن الذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين حتى طحنا جناجن صدره. فأمر لهم بجائزة يسيرة،
قال أبو عمر والزاهد: فنظرنا في هؤلاء العشرة فوجدناهم جميعا أولاد زناء، وهؤلاءأخذهم المختار فشدّ أيديهم وأرجلهم بسلك الحديد وأوطأ الخيل ظهورهم حتّى هلكوا، انتهى.
وأقول: المعتمد ما رواه الكليني (ره) ويمكن أن يكون ما رواه السيّد ادّعاء من الملاعين ذلك لإخفاء هذه المعجزة، وكأنّه لذلك قلل ولد الزنا جائزتهم لعلمه بكذبهم.
وما فعله المختار- يقصد بالجناة- لادّعائهم ذلك وإن كان باطلاً، وإن كان ما فعلوه به عليه السلام قبل ذلك أفحش وأفظع منه".
وقال المجلسي في كتابه بحار الأنوار: "أقول: المعتمد عندي ما سيأتي في رواية الكافي أنه لم يتيسّر لهم ذلك".
ونثنيّ بما ذكره الشيخ عبد الله البحراني قال: "أقول: المعتمد عندي ما سيأتي في رواية الكافي أنه لم يتيسر لهم ذلك، وهو المعتمد. ويحتمل أن يكون هذا مرّة وما في الكافي مرّة أخرى، ويؤيده ما سيأتي في الباب الآتي من كتاب النوادر لعلي بن أسباط نقلاً عن الباقر عليه السلام".
عوالم الإمام الحسين عليه السلام:304.
ويقصد برواية كتاب النوادر ما نقلناه لكم فيما سبق.
ويلوح لي أنّ الشيخ جعفر التستري أيضاً لم يجزم بتحقّق الرضّ للجسد المبارك، كما في كتابه الخصائص الحسينيّة:138.
وعن هذه الحكاية ذكر الشيخ محمّد مهديّ الحائري اختلاف أرباب المقاتل في هذه القضيّة التي جرت على جسد الإمام الحسين عليه.
ونثلث: برأي أحد مشايخ أهل الجمهور وهو الشيخ ابن كثير قال: "قال- يقصد أبا مخنف-: ثمّ أمر عمر بن سعد أن يوطأ الحسين بالخيل، ولا يصحّ ذلك والله أعلم".
ولكنّ يُستشم منه أنّه غير جازم بذلك، ويتأيّد ذلك بما نقله بعد صفحة قال: "ويقال إنّ عمر بن سعد أمر عشرة فرسان فداسوا الحسين بحوافر خيولهم حتّى ألصقوه بالأرض يوم المعركة".
تعقيب على كلام الشيخ المجلسي من خمسة جوانب:
الجانب الأوّل: الأنسب والأقرب في معنى (لا تثيروها) أي: لا تحرّكوها ولا تهيّجوها كما قال الفيض الكاشاني في الوافي:3/760، لا ما ذكره المجلسي وإن كانت تأتي بذاك المعنى الذي ذكره. لكون أنّ اللعين ابن سعد لا يجهل تفاوت مستويات أعوانه بحفظ الأسرار ونشر الأخبار، ولذا ظهرت هذه القصّة (المعجزة بحسب تصوّر المجلسي) إلى الوجود.
والذي يعضد المعنى المُستقرب الكتاب المجيد في وصف بقرة بني إسرائيل قال سبحانه وتعالى: «إنّها بقرة لا ذلول تثير الأرض » سورة البقرة:71.
وأيضاً يساعد عليه ما في المعاجم اللغوية فقد ذكروا: أنّ الريح الشديدة التي تثير الحصباء تسمّى الحاصب، والتي تثير الغبار تسمّى إعصار، والتي تثير التراب فتدفن الآثار تسمّى روامس.
راجع: الصحاح للشيخ إسماعيل الجوهري:1/112/باب الباء/فصل الحاء/مادة: حصب، و:2/750/باب الراء/فصل العين/مادة:عصر، و:3/936/باب السين/فصل السين/مادة: رمس.
وأثاره: أي: هيّجه، وثار ثائرة، أي: هاج غضبه.
ثور: ثارَ الشيءُ ثَوْراً وثُؤوراً وثَوَراناً وتَثَوَّرَ: هاج.
الثَّائر: الغضبان. ويقال للغضبان أَهْيَجَ ما يكونُ: قد ثار ثائِرُه وفارَ فائِرُه، إِذا غضب وهاج غضبه".
راجع: كتاب العين للشيخ الخليل بن أحمد الفراهيدي:8/234/أبواب الثلاثي المعتّل من الثاء/مادة: ثور، الصحاح:2/606/باب الراء/فصل الثاء/مادة: ثور، لسان العرب للشيخ محمّد بن مكرم بن منظور:4/108/حرف الراء/فصل الثاء المثلّثة/مادة: ثور.
الجانب الثاني: كيف يكون ما ذكره الخاصّة والعامّة مع عدم توفّر دواعي الكذب فيه لا أصل له؟
هذا الكلام مردود، والمُفترض في هكذا حالة تقديم ما اشتهر على غيره والأخذ به على قاعدة (خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر).
فإذا كان المقياس ذوقي لا تنقيبي فلم لا يكون خبر الكافي هو من لا أصل له لا المشهور؟!
3- لو لَمْ يكن للحدث أصل ومنشؤه صحيح لما قام الرواة بحفظ أسماء هؤلاء العشرة وفرزهم دون غيرهم، وتتّبع أصلهم الفاسد ونمط حياتهم وطريقة مجازاتهم، ومن ثمّ تدوين ما جُمع عنهم في سجّل التاريخ وملّف الحياة.
4- عن أيّ معجزة أو كرامة يحدّثنا عنها الشيخ المجلسي وأجواء القصة تُعطي انطباعاً بأنّها مُفبركةّ!
ألم يُفصل الإمام الرضا عليه السلام القول بشانّ روايات الفضائل وأوصى بالنهي عن أخذ الفضائل من أعدائهم، كما جاء في خبر ابن أبي محمود- المعتبر على بعض المباني- عنه عليه السلام قال: (إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على أقسام ثلاثة: أحدها: الغلو، وثانيها: التقصير في أمرنا، وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا، إلى آخر ما جاء في الرواية).
بشارة المصطفى لشيعة المرتضى للشيخ محمّد الطبري:340، البحار:26/239/ب4/1. ومثله في عيون أخبار الرضا عليه السلام للشيخ الصدوق:1/272.
لاحظ أيّها القارئ كيف أنّ بعض ما يُسمّى بالفضائل والكرامات هي من صنع أعدائهم!
أيّها المُحبّ لأهل البيت عليهم السلام ركّز في هذا البيان ففيه توصيّة مهمّة وهي إيّاك أن تنخدع ببعض الآثار المنقولة في بعض المجاميع الحديثيّة والمنسوبة إليهم فتظنّ أنّها من كرامات العترة الطاهرة ومناقبهم، وفي حقيقتها ما هي بذاك.
قال الشيخ محمّد تقيّ التستري في معرض نقده للتفسير المنسوب إلى الإمام العسكري: "ليس كلّ ما نُسب إليهم عليهم السلام صحيحاً، فقد وضع جمع من الغلاة أخباراً في مُعجزاتهم وفضائلهم وغير ذلك...كما انّه وضع جمع من النصّاب والمُعاندين أخباراً مُنكرة في فضائلهم ومُعجزاتهم بقصد تخريب الدين".
الأخبار الدّخيلة:1/215-216.
ومن المفيد أن نُذكّر أنّه ينبغي أن لا نكتفي بقراءة النصوص ونقلها فينطبق علينا أنّنا من همّه الرواية، بل يلزم التدبّر فيها والتوثّق من سلامتها وإجراء الموازنة والتعليق لينطبق علينا أنّنا ممّن همّه الدراية.
على العموم فإنّ من القضايا الملفتة في هذا الجانب الذي خضنا فيه هو ما ذكره الشيخ المامقاني في الفائدة الخامسة من مقباسه قال: "إنّ الدواعي لجعل الحديث في الأحكام قليلة جداً، وكثيراً ما يكون في أصول العقائد، وأكثر منه في الفضائل والمناقب والأذكار".
مستدركات مقباس الهداية في علم الدراية للشيخ محمّد رضا المامقاني:6/38.
5- ثمّ إذا كان ما فعله الأعداء بالإمام أبشع من رضّ الجسد وأفحش كما صرّح هو (المجلسي) بذلك، فلم الاستبعاد وما هو وجه المنع؟
ألم يُفعل بأولياء الله وأصفيائه نحو ذلك، وليس بعيداً عنكم ما فُعل بأسد الله وأسد رسوله حمزة ونبيّ الله زكريا ويحيى عليهم السلام من قبل المارقة والزنادقة.
وفي هذا المجال قال الشيخ آل سيف: "نعم، قد يستعظم ذلك من قبل المؤمن ولا يراه ممكنا لقداسة الحسين، وعظمة شأنه عند الله سبحانه وتعالى. ولكن هذا لا يمنع وقوع أشدّ أنواع البلاء على أهل الإيمان ، فإنّ من الأنبياء من نشروا بالمناشير ، ومنهم من مشط بأمشاط الحديد، وهكذا .
نعم، قد ذكر في البحار أنّ في الكافي رواية تدلّ على أنّ الخيول لم ترضّ صدر الحسين عليه السلام . ويرى بعضهم أنّ الخيل العربية لا تدوس على جسد القتيل في الحالات العادية بل تقفز فوقه، فإن صحّ ذلك وثبتت الرواية فيمكن أن يكون ذلك في أوّل الأمر، لكن فيما بعد كان من الثابت أنّهم قاموا بذلك العمل" .
من قضايا النهضة الحسينيّة:68.
لقد اتّضح لكم إن شاء الله أيّها الأعزّة من خلال مناقشة شيخنا المجلسي كيف أنّ التأويل المنفلت والترقيع الباهت لا يخدم الحقيقة ولا يُقدّمنا خطوة صحيحة، بل يُسقطنا من جادّة الاعتدال والرشاد ويُحرفنا عن صراط الإتّقان والسداد، ومن ثمّ يهوي بنا حيث يريد ويجعلنا بحقّ عرضة لمعول التحقيق ومطرقة النقد.
نحن لا نريد بذلك الإساءة لأحد من الفقهاء والفضلاء ولا التجريح بأحد من الباحثين والمُحدّثين، ولكن من يقع في هذا الفخّ فإنّه يستحقّ المُحاكمة بغير تشنّج والنقد بغير تهويل، مع الالتزام طبعاً بأُسس وضوابط فن النقض والإبرام وأصول منهج النقد الأكاديمي السليم.
ومن هنا فإنّنا لا نتّفق مع من تصوّر أنّقول الملعون ابن العاص (فتنة لا تثيروها) فيه نوعاً من الحنكة المعرفيّة؟
ولكنّنا نتصوّر أنّ السذاجة هي المفردة اللائقة والكلمة المناسبة لأن نطلقها على هذا العبارة (فتنة لا تُثيروها) وذلك الموقف المُتخاذل.
بضميركم هل قتل أسد واحد في ساحة المعركة أكثر فتنة من قتل ابن بنت رسول الله وسبطه وريحانته مع صحبه الكرام وقطع رؤوسهم وأسر الذريّة الطيبّة وإهانتها وصبّ العذاب عليها ونهب حاجاتها ومستلزماتها؟
ثمّ هل من الموضوعيّة أن يهاب الجيش الغاشم المُدجّج والعسكر الظالم الأهوج والضمائر الغليظة المُتحجّرة والقلوب القاسيّة المُتجبّرة أسداً واحداً؟
وهل المطلوب منّا أنّ نصدّق بكلّ حديث مغمور وأثر مبتور وإن كان يخالف منطق التدبّر والنصّ المشهور؟!
ما هكذا الظنّ بمن يدّعي المعرفة والعلم والثقافة والفهم!
لا ريب أنّ تشييد الرأي عن طريق الاستناد إلى معطيات الجواهر المعرفيّة والكنوز الأثريّة التي تأخذ بالأعناق أسلم والاتكاء على ما هو موثوق أضمن.
وبالتالي فإنّ ما بأيدينا من مستندات عن ذلك الحشد العرمرم (بعدّته وأعداده ووحشيّته وضراوته التي سجلّها المؤرّخون) تربأ بنا عن قبول الأفكار الهشّة والمنطلقات الذوقيّة والاستبعادات الرخوة والأدلّة التبرعيّة.
أخي الفاضل أُختي الفاضلة كي نبقيكم في الصورة ولا نذهب بكم بعيداً عن هذه المسألة يخطر بالبال هذا التساؤل: أليس من المُفترض أن يحدث العكس وهو أنّ يتهيّب الأسد الواحد من الإقدام على مثل تلك الساحة الملغومة بالجحافل المتدفقة؟
من وجهة نظرنا فنحن لا نشكّ أنّ الوضع الطبيعي في مثل تلك الحالات هو هروبه منها أو الابتعاد عنها لا إقدامه أو ثباته.
وهذه القناعة ليست فرضيّة جزافيّة نستهدف من ورائها تمرير متبّنياتنا وبسطها بطريقة عشوائيّة رغماً عن إرادة الآخرين واختياراتهم، وإنّما هي قناعة مبنيّة على ملّفات تحقيقيّة، ولتقديم صورة مُقرّبة إليك أيّها القارئ الباحث يمكنك مراجعة ما عرضته قناة (ناشيونال جيوغرافك) من أفلام وثائقيّة تبيّن أن الأسد لا يصمد كثيراً أمام الحشود والقوافل الآدميّة والمجموعات البشريّة، بل يهرب من مجموعة صغيرة من الأفارقة لا يتعدّى مجموعها العشرة أفراد تحمل معها أدواتها البدائيّة البسيطة كالرمح والعصا!
وليعلم القارئ الكريم إنّنا لا نقصد بهذه الصورة المُقرّبة الجزم بالموافقة تماماً.
ونضيف إلى ما تقدّم السؤال الآتي: إذا كان الأسد خارج نطاق ساحة المعركة كما هو مُفترض، فكيف دخل الأسد ساحة المعركة واقترب من الجسد، ومن أيّ منفذ تغلغل؟
وبتعبير أدّق ترجمه العاملي: "كيف لم ير الأسد حين جاء إلى جسد الحسين عليه السلام أحد من ذلك الجيش المنتشر في حنايا الصحراء؟!
وأين كان الحرس الذين يحيطون بالأجساد وبخيم النساء عن رؤية هذا المخلوق المخيف؟!".
سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:ج19/32.
على أنّه لا ينقضي بنا العجب حقاً، كيف يخاف الجيش والعتاة المردة أهل الطغيان من أسد واحد ولم يخف جمعهم الضال الجانح ممّا شاهدوه من استجابة دعاء الإمام الحسين عليه السلام بحقّ بعضهم، ومن تغيّر الكون حين قدموا على قتل السبط المعصوم والكوكبة المرضيّة من أهل الإيمان وما رافق ذلك من تبدل الأجواء؟!
راجع: مقتل الحسين لأبي محتف:125، تاريخ الطبري:4/328، المعجم الكبير للطبراني:3/117،أمالي الشيخ الصدوق:218/المجلس الثلاثون/221-222/1، الإرشاد للمفيد:2/102، الكامل في التاريخ:4/66، أنساب الأشراف:3/191 و209، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر:14/226-228، الفتوح:5/119، كامل الزيارات:183و188/ب28/253/13 و265/25، عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدق:1/268، اللهوف:75، مقتل الحسين للخوارزمي:2/42/ف11 و:2/102/ف12، ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى لمحب الدّين الطبري:144،
منتخب الطريحي:2/453/المجلس العاشر،الدّمعة الساكبة:4/359،نفس المهموم:337-338 و443، الصواعق المحرقة لابن حجر:271/ب11/ف2، المنح المكيّة:520-521، الإتحاف بحبّ الأشراف للشبراوي:42/ب2، تاريخ الخلفاء للسيوطي:165-166، معالي السبطين:467-468، منتهى الآمال:1/411/ب5/ف3 و:638/ف10، الغرر الحسينيّة والدّرر الدّينيّة للقزويني:54 و69-70، الخصائص الحسينيّة:173،مقتل الحسين للمقرّم:292، الإمام الحسين وأصحابه:1/344، حياة الإمام الحسين للقرشي:3/297-298، الصحيح من مقتل سيّد الشهداء949-950، موسوعة الإمام الحسين عليه السلام في الكتاب والسنّة والتاريخ:5/35-36، المقتل الحسيني المأثور للطبسي:183، سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:ج19/113-114 و119.
إلى هنا ننتهي من الأمر الأوّل، ونبدأ بتناول الأمر الآخر.
الأمر الثاني: عرفتم فيما سبق ضعف التوجيه الأوّل وعدم مشاطرتنا إيّاه، وهذا ما لاحظه بعض مشايخنا أيضاً، حيث أنّه لمّا شعر بنوع من التنافي بين الأخبار المُؤكّدة لحدوث الرضّ وخبر الكافي، حاول توجيهها بطريقة الجمع بينها، وتسويق فكرة افتراضيّة غير مقنعة، خلاصتها: أنّهم أرادوا رضّ جسد مولانا المظلوم مرّة أخرى.
ولكي لا نبخل عليكم بها ننقل إليكم أبرزها مع تعليقنا على الفكرة:
أولاً: حاول الآغا الدربندي الجمع بين الرضّ وخبر الأسد فقال: "فالجمع والتوفيق بين هذا وبين ما في الكافي والمنتخب: بأنّ ابن سعد (لع) لم يكتف بما في العشرة، بل أراد أنّ يأمر الجنود بأن يوطئوه الخيل، بحيث تنفصل الأعضاء الشريفة بعضها عن بعض، وتتفرّق الأجزاء، فصرف ابن سعد (لع) مجيء الأسد عن هذه الإرادة.
وذكر بعد ذلك كلاماً لأحد الفضلاء يشتمل على أفكار باطنيّة وعرفانيّة غير قويمة، وأيّده.
ثمّ قال: أنّ الأسد الذي جاء إلى المصرع بدعوة فضّة، غير الأسد الذي كان الجنّ يقولون أنّه أمير المؤمنين عليه السلام".
إكسير العبادات:3/153-155.
نحن نرى أنّ التخيّل المُفرط والتصوّر المُفتعل والتكلّف الفاضح، يكونا سبباُ في جعل المقاس غير مناسب.
وبكلمة واحدة: أنّ هذا التحليل لا تدعمه الوثائق. أضف إلى ذلك أنّه تواجهه الإشكالات المتقدّمة، بل تزيد عليها بما يكتنفه من غرابة التوجيه وعجب التخريج وقصور التصوّر الحاكي إرادة تفرّق الأعضاء، وذلك لأنّ ما روي في خطبة السيّدة زينب عليها السلام يوحي بحصول تفرّق الأعضاء الشريفة في المرّة الأولى حيث ورد فيها: (هذا حسين بالعراء مرمّل بالدماءمقطّع الأعضاء).
تاريخ الطبري:4/348، أنساب الأشراف للبلاذري:3/206، الكامل في التاريخ لابن الأثير:4/81، اللهوف لابن طاووس:78، ومثير الأحزان:59 و65، البداية والنهاية لابن كثير:8/210. ومثله بتفاوت بسيط في مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب:3/260.
وكذلك ما جاء على لسان الإمام الحسين عليه السلام: (كأني بأوصالي تقطعها (في نسخة تتقطّعها) عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء).
اللهوف:38، مثير الأحزان:29، كشف الغمة للأربلي:2/239.
وما روي عنه عليه السلام: (كأني أنظر إلى أوصالي تقطعها وحوش الفلوات غبرا وعفرا).
مقتل الحسين للخوارزمي:2/8/ف11، والصحيح من مقتل سيّد الشهداء للريشهري:504.
وما ذكر في الزيارة المنسوبة إلى الناحية المقدّسة: (السلام على الأعضاء المقطعات).
وفي هذا الصدد كتب الشيخ فضل القزويني ما يلي: "وبالجملة هذه الرواية- يقصد خبر الكافي- وإن تعدّ من الأخبار التاريخيّة، لا تعارض ما قدّمنا- يقصد أخبار الرضّ- من نقل الفحول من المحدّثين و المؤرّخين، بل دعوى الاتفاق على وقوع الحادثة.
مع أنّه ممّا يمكن الجمع، بل هو الظاهر من متن الرواية، أنّ ما وقع بأمر ابن سعد في عصر عاشورا فبادر عشرة من القوم ففعلوا ما يحرق القلوب، لا ينافي عزم القوم وجمع العسكر تقرّباً لابن زياد وأن يوطئوا جسده الشريف في غد يوم عاشورا كما هو صريح متن الرواية، فلا تعارض بينهما ولا منافاة".
الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه:1/370.
نقول: بل المنافاة مستقرّة، فبحسب ظاهر خبر الكافي أنّ رضّ الجسد لم يحدث قبل مجيء الأسد.
كما أنّه من حقّنا أن نتساءل: ما المانع من رضّه مرّة أخرى إن كان قد حصل قبل ذلك؟
علماً أنّه لم يُعرف من الخزائن المعرفيّة ولم يُذكر في سجلّات التاريخ أنّ جيش يزيد الملعون كان يريد رضّ الأجساد في اليوم التالي مرّة أُخرى بعد الانتهاء من معركة الطّف.
ثانياً: قال الشيخ محمّد بن حسن الحرّ العاملي: "أقول: قد روي أنّهم أوطأوا الخيل ظهره وصدره عليه السلام، فلعلّه في وقت آخر بعد انصراف الأسد".
إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات للحرّ العاملي:4/36/ب15.
وتكلّم السيّد نعمة الله الجزائري بعد إيراده خبر الكافي بما يلي: "قال مؤلّف هذا الكتاب عفى الله عنه: قد تقدّم أنّهم أوطؤوه الخيل، ولا منافاة بينهما، لجواز أن يكون في يوم مجيء الأسد لم يوطئوه الخيل، وأوطؤوه بعد ذلك".
الأنوار النعمانيّة:3/262.
وحكى الشيخ عبد الكريم البهبهاني عن الشيخ البرغاني أنّه قال موضّحاً لما ورد في خبر الكافي: "وكأنّ لعنهم الله أرادوا أن يوطئوه الخيل بحيث لا يبقى لجثته أثر، فمنعم الأسد، وإلّا فالعشرة المتقدّمة لعنهم الله قد رضّوا صدره وظهره.
ثمّ قال البهبهاني: أقول: قد تقدّم أنّهم لعنهم الله قد أوطؤوه الخيل، ولا منافاة بينها، لجواز أن يكون في يوم مجيء الأسد لم يطئوه الخيل،وأوطئوه بعد ذلك...بل المستفاد من بعض الأخبار أنّ الأخنس بن زيد لعنه الله أُمّر على الخيل وهشّموا بسنابك خيولهم أضلاعه صلوات الله عليه".
وتعليقنا على كلامهم: إنّ ضعف هذا التوجيه لا يخفى على المُنقّب المُتبصّر، وذلك لعدم ثبوت النصّ من جهة، ولعدم ثبوت أنّ المارقين الفجرة قاتلي العترة البررة حاولوا تكرار الفعل الشنيع في اليوم الحادي عشر قبل رحيلهم عن كربلاء من جهة ثانية، ولأنّ العلّة والغاية من مجيء الأسد كانت لحفظ الجثث الطاهرة من الرضّ من جهة ثالثة. فلا معنى للاستنجاد به ليوم العاشر فقط وبعدها كأنّ شيئاً لم يكن!
ولتوضيح وتقريب المطلب إليكم فإنّ أمامنا حالتين:
الحالة الأولى: إمّا أنّ نقبل أنّ الأعداء لعنهم الله لم يطئوا الإمام الخيل يوم مجيء الأسد في يوم الحادي عشر، وأوطؤوه في يوم آخر بعد رحيل الأسد، وبما أنّنا نجهل مدّة بقاء الأسد لحراسة الجسد الحسيني، فإنّ المُرجّح هو أنّ رحيله كان في ليلة الثاني عشر أو صباح اليوم الثاني عشر، وحينها تمّ تنفيذ مؤامرة الرضّ الشنيعة.
لكن في هذه الحالة يتطلّب العلم أو يقتضي الاطمئنان- وذلك بالرجوع إلى النصوص والقرائن- برحيل الأسد في تلك الفترة، وهذا مفقود جزماً. ومنه تعلم ضعف هذا الاحتمال.
كما أنّ لازمه يفرض علينا القبول ببقاء الجيش إلى ما بعد اليوم الثاني عشر. ونحن لا نؤمن بذلك وفي أحسن الأحوال نستبعد ذلك جداً لعدم قناعتنا بتوفّر دواعي البقاء هناك. بل إنّ ممّا يشيّد قناعتنا هو الأخبار التي ذكرت رجوع الزنيم عبيد الله بن زياد من منطقة النخيلة إلى الكوفة، وقيام اللئيم ابن سعد بعد القتل مباشرة ـ أي: بعد ظهر يوم العاشر- بإرسال رأس الإمام الحسين عليه السلام إلى اللعين ابن زياد وذلك على يد خولّى بن يزيد.
راجع: تاريخ الطبري:4/348، الإرشاد:2/113-114، اللهوف:84، أنساب الأشراف:3/205-206، البداية والنهاية:8/206، البحار:45/62، معالم المدرستين للسيّد مرتضى العسكري:3/141، أنصار الحسين للشيخ شمس الدّين:141.
ونخلص من ذلك إلى أنّ تبنّي الحالة (الأولى) بعيد المنال وقبولها غير مستساغ.
الحالة الثانية: أمّا أنّ نمشي مع الرأي المُختار والذي اعتمده الكثير وهو: أنّ اللعين ابن سعد سار بالأسرى (سبايا أهل البيت عليهم السلام) بعد زوال اليوم التالي من العاشر، أي: حين كان الأسد موجوداً بحسب ظاهر خبر الكافي،
وفي هذه الحالة يقع التصادم بين خبر الكافي والأخبار الكثيرة الدالّة على حدوث الرضّ!
ولا مجال للجمع بينها كما نظّن، لتناقضها ومخالفتها للغايات، وقد مرّ الكلام عن ذلك.
وعل ضوء هذا الرأي فإنّ حدوث الرضّ لا يمكن أن يكون بعد رحيل الأعداء، ويمتنع وقوعه أثناء وجود الأسد، ولم يتحقّق عندنا أنّ الأسد ذهب واختفى أو قُتل قبل رحيل أعداء آل محمّد من كربلاء.
ونخلص من ذلك إلى أنّ الحالة (الثانية) لا يمكن قبولها لبعدها عن الواقعيّة ومخالفتها لموازين المقارنة.
وعليه فإنّنا نرى أنّ تحليل القوم مُنكسر وتعليلهم مُندحر، وأنّ لبّ المُشكلة وأصلها هو الرضا بقبول القصّة.
هذا تمام الكلام عن الحالتين.
ثالثاً: لقد تساءل السيّد العاملي:
"ما الدليل على أنّ رضّ جسده الشريف لم يحصل في اليوم الأوّل؟!
وهل لانتظارهم إلى اليوم التالي سبب مبرّر؟
وهو يوجب برود المهمّة، وذهاب حالة التشنّج، وتضاؤل الرغبة بهذا الفعل إلى حدّ كبير.
ثمّ أضاف: مع التغاضي عمّا ذكرناه- فإن صحّت رواية الأسد- فلعلّ الجسد الشريف قد رضّ بعد الاستشهاد مباشرة، ثمّ كانوا يريدون إعادة الكرّة عليه في اليوم التالي، فمنعهم الأسد".
سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:ج19/31-32.
ونعقّب على إضافة العاملي نحو ما طرحه هو من إشكال على الرواية، فنقول: هل لإعادة الكرّة سبب مُبرّر؟
أليس التأخير يوجب برود الهمّة وتضاؤل الرغبة بالفعل؟
هذا، مع أنّ ظاهر بعض عبائر الخبر تُوحي بعدم عزم الأعداء على إعادة رضّ الجسد المقدّس مرّة أُخرى، كقول الراوي: "لمّا قُتل الحسين بن عليّ عليه السّلام أراد القوم أن يوطئوه".
وقول فضّة: "فأعلمه ما هم صانعون غداً".
وقولها: "أتدري ما يريدون أن يعملوا غداً بأبي عبد اللَّه عليه السّلام".
ولو تنزّلنا وتساهلنا بقبول افتراضهم- مع أنّنا واقعاً لا نعتقد صحّة افتراضهم كما بيّنا، لكن من باب فرض المُحال ليس بمحال- بأنّ الرضّ قد حصل بالضبط في يوم العاشر وحاولوا تكراره مرّة ثانية، فحينئذٍ يجابهنا السؤال المُتكرّر التالي:
أين كانت فضّة عن هذه الجريمة النكراء؟
ولِمَ لمْ تبادر في المرّة الأولى لتتّخذ موقفاً مماثلاً لما صنعته في المرّة الثانية؟!
في ذيل البحث نعرّج بكم إلى قضيّة بسيطة ومسألة قصيرة ترتبط به بصورة من الصور، كما أنّها تنطوي على اشتباه بعضهم في تحليلها.
لقد حاول بعض الفضلاء تصحيح حكاية حضور الأسد لحماية الجسد بالاستناد إلى الروايات الحاكية بكاء بعض الحيوانات لأجل المظلوميّة على قبر شهيد الغاضريّة.
راجع: كامل الزيارات للشيخ جعفر بن قولويه القمّي:165-166/ب26.
نقول: إنّ الاستدلال على صحّة قصّة الأسد بروايات بكاء الوحوش على قبر الإمام الحسين عليه السلام وشهادته لا علاقة لها بأصل القصّة من قريب أو بعيد، فالبكاء لا يرتبط بموضوع حماية الأسد للجسد الطاهر.
وبتعبير آخر: البكاء شيء وحماية الجسد وحراسته شيء آخر، ونعتقد إنّ أيّ محاولة للتوفيق بينهما هي نوع من خلط الأوراق، فلاحظ.
نظنّ أنّه بعد هذا العرض انكشف للقارئ الواعي- ولو بصورة مجملة- نقاط الضعف في قصّة حضور الأسد في الطّف.
وعلم أنّ القصّة تتخلّلها الثغرات والهفوات من عدّة جهات،ولاحظ القارئ معنا بعض الخطوات المُتعثّرة والتوجيهات غير المُبرّرة التي أوقعت أصحابها في شَرَك تعسّر الإفلات منه والخروج من قبضته.
كما أنّ تلك الإشكالات الظاهرة من متن الخبر والمؤشرّات المجافية للحقائق النابعة منه جعلت الشيخ مطهّري يتأسّف لوجود هذا الخبر الذي اعتبره من التحريفات التي أُدخلت في واقعة كربلاء.
راجع: الملحمة الحسينيّة:3/238.
وكذلك دفعت السيّد جعفر العاملي إلى أن ينتقده ويسجّل عليه ملاحظاته التي سبق أن ذكرنا بعضها، قال: "وأمّا حديث الأسد الذي جاء وحمى جثّة جسد الإمام الحسين عليه السلام من أن ترضّ بحوافر الخيل، فهو موضع شكّ وريبة".
سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:ج22/220.
فتحصّل ممّا تقدم هبوط القصّة من جهة الاعتبار وسقوطها من جهة الاعتماد.
ونقول للباحثين والموالين لا تبيعوا عقولكم لغير البراهين الناصعة والحجّج الجليّة التي لا شبهة فيها، ولا تتهيّبوا من الوقوف أمام الموروث المغلوط، ولا تُجمّدوا نشاط الحجّة الباطنة (الذهن أو العقل) فإنّها حجّة الله القدّوس على النّاس، ولا تخالفوا أوامر الحجّة الظاهرة (الأنبياء والأئمّة) ووصاياه، فهو السبيل إلى مرضاة الله.
عليكم أُخوتي وأخواتي باتّباع الحقّ واقتفاء الأثر المُتيقّن فإنّه أولى بالاتّباع وأحقّ بالاقتداء.
ونتمنّى أن تتّجه قضايانا نحو التحقيق والتأصيل لنفض الغبار، بدل التجهيل والتغفيل وإسدال الستار.
في نهاية البحث نذكر لكم خاتمة نراها نافعة لازمة:
لقد مرّ بنا في ثنايا البحث كيفيّة تُمرير الأفكار غير الصائبة وتسويقها، ومن ثمّ قيام الأتباع بتلقّفها.
وعرفنا إجمالاً لزوم الاحتراز منها والاحتياط في طريقة تناولها.
إنّ السبب الدّاعي إلى إضافة هذه الخاتمة والباعث إلى تحرير سطورها هو أنّنا وجدنا بعض الفضلاء يسعى إلى التقليل من مخاطر هذا الأمر وتمييع شانه.
والذي نريد قوله هنا هو: إنّ تبسيط المشكلة لا يُلغي فرض القيام بحلّها والتنبيه عليها، ولا يضع عن كاهل المُتخصّصين مسؤوليّة تقويمها وتهذيبها.
كما أنّ أساس المُشكلة لا تكمن في حجم الأخبار المُفتعلة واللقطات الكاذبة وكميّتها، وإنّما بنظرنا تكمن في تقبّل هذا القتام، واستنشاق هذا الغبار، والتسليم له بكلّ اطمئنان.
والحقّ أنّ واقعنا- المنبريّ والشعبي- يشهد أنّ بعض الأكاذيب تغلغلت في الوجدان ونفذت إلى العقول وتعُومل معها من قبل المُتعلّمين- فضلاً عن العوام والأميّين والبُسطاء - كأنّها ثوابت، وإلى الآن يجتّرونّ مادتها ويصدحون بها ويتداولون طرحها. والأدهى أنّهم لا يكتفون بذلك، بل يحثّون الآخرين بالرجوع إلى المنابع الهزيلة والمدارك المُلوّثّة، ولم يكتشف بعضهم زيفها الذي تطفح به إلّا من خلال الأصوات الإصلاحيّة والبحوث التحقيقيّة.
قال المُحدّث النوري في حملته التصحيحيّة وهو ينتقد بعض الأخبار: "إنّ وجود هكذا أخبار ضعيفة- لا أصل لها ولا مأخذ، مقرونة بكلّ هذه الأسباب المُضعفة- في أحد الكتب ممّا يراد منه تحقيق بعض الأغراض الفاسدة...وثمرته الواضحة إدخال الوهن العظيم على الدّين ومذهب الجعفريّة، وتقديم أسباب السخرية والاستهزاء".
وقال أيضاً: "فهذه المطالب الضعيفة الواهية والأخبار المختلقة، حينما يدرجها المُؤلّفون في كتبهم، يُسلّطون بذلك الأعداء على أنفسهم".
وبيّن الشيخ فضل عليّ القزويني الأتي: "وقد مرّ أنّ في كتب المقاتل سيّما في كتب المُتأخّرين وسيّما في الكتب الفارسيّة أموراً ووقائع ذكروها في يوم عاشوراء لم يكن لها مسند، ولم تُذكر في الكتب المُعتمدة، أعرضنا عنها لعدم الاعتداد بنقلها ولا الاعتماد بناقلها".
الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه:1/263. وانظر صفحة:255.
وعبّر الشيخ محمّد أصف محسني عن هذا المستوى بقوله: "لزوم الاحتراز عن العقائد والثقافات المجهولة، أو المجعولة، فإنّها أضرّ للإنسانيّة من أكل الأطعمة المسمومة المشتملة على الجراثيم المُضرّة بالصحّة، إذ صحّة الروح أهم من صحّة الجسم".
ونصح الشيخ البهجة ألموالين بهذه الجملة: "يجب التدقيق كثيراً في نقل حوادث الإمام الحسين عليه السلام، ربّما الكثير ممّا يُقال لا يكون صحيحاً...حين التبليغ يجب أن نسعى بأن ننقل يقينيّات القرآن والعترة، ولا نكتفي بمسموعاتنا دون مراجعة الدليل أو الكتاب، وان نستند على الأقلّ على نفس الكتاب الذي ننقل منه".
من المعلوم عندكم أيّها الكرام أنّ الكثير من النّاس- إن لم يكن الأغلب- لا يُحبّذ إتعاب عقله بالبحث والفحص، ولذا ترى ثقافته سمعيّة (تعتمد على التلقين والإملاء)، ومعارفه اتّكاليّة غير تدبّريّة، بمعنى أنّه يستسهل أخذها جاهزة ومعلبّة من أفواه الرجال والأوراق الصفراء، لا أنّها بحثيّة وتنقيبيّة.
ولا يخفى على المُتدّبر وأهل الدراية أنّ من أخذ دينه من أفواه الرجال- من دون رجوعه إلى الحقول المعرفيّة والآثار الشرعيّة- أزالته الرجال.
وبالتالي فإنّ من كان هذا حظّه ومنهجه يصعب عليه كشف نسبة الزبد وحجم الضرر، ولا يتأتى له معرفة كميّة الزيف ومقدار الثلم بسهولة ويُسر.
وقد لا نعدم الصواب إذا قلنا: أنّ أكثر الرعاع والدهماء وبالخصوص المُجتمعات الفقيرة المعرفة والحال، تنطلي عليهم ألاعيب القادة، وتفوتهم تمويهات الرموز، ولا يتنبّهون إلى أغراضهم الحقيقة ومقاصدهم، فتراه يُطبّل لهم ويُبرّر، ويُدافع عن هذيانهم وتهويلاتهم. ولذا تشاهد بأمّ عينك ابتعاد مسيرنا عن جادّة الصواب، والعواقب الوخيمة التي مُنينا بها.
إذن لا بدّ من معالجة الحالة المرضيّة المُستشرية وحضور المُعالج، وهنا تأتي وظيفة الراعي والمُصلح لرتق ما انفتق وسدّ ما انخرق، أو لا أقلّ محاولة منع تفشّي الجُرثوم المُهلك وسريان السموم بتخفيف المضارّ وتقليل الآلام.
والحقيقة أن هذه المطالب أو التوصيات ليست من نتاجنا، وإنّما هي قديمة بقدم انتشار الإسلام، فقد روى الفريقان في مجاميعهم حديث: (كُلكم راع وكُلكم مسؤول عن رعيّته).
صحيح البخاري للشيخ محمّد بن إسماعيل البخاري:1/215/كتاب الجمعة، عوالي اللئالي العزيزيّة للشيخ محمّد بن عليّ المعروف بابن أبي جمهور الأحسائي:1/129/ف8، البحار:27/38/ب35/36.
ويحدّثنا الشيخ البهجة ما هو المُستفاد من الحديث بحسب فهمه فيقول: "أنّ كلّ شخص من أهل الإيمان يجب أن يكون مُعلّماً للآخرين فيما يتعلّق بما يعلم، ولو كانت كلمة واحدة".
وذكر المحدّث النوري في كتابه اللؤلؤ والمرجان الكثير من القضايا المُخترعة والمغلوطة التي تُذكر في المحافل وتُبثّ في المجالس، ثمّ قال: "إلّا أنّها غُصّة كانت في القلب وستبقى، حسبما يوحي به الوضع العام لسيرة العوام، وعدم اعتناء العلماء العظام بتقويمه وتصحيحه، فكان ذلك منّي مُجرّد إظهار التأسّف للإخوان المؤمنين".
اللؤلؤ والمرجان في آداب المنبر:140.
وفي هذا الصدد كتب الشيخ مطهّري العبارة التالية: "إنّ الواجب الأوّل والمُهمّة الأولى للعلماء هي في مُحاربة نقاط الضعف لدى النّاس وليس استغلالها، ففي قضيّة مثل قضيّة عاشوراء...إنّ من واجب العلماء النضال ضدّ عوامل ظهور التحريفات...وإعلان الحرب ضدّ فكرة صناعة الأساطير والخرافات...يجب على العلماء أن يضعوا المتون الواقعيّة للحديث المسند بيد النّاس...ويكشفوا الكذب، ويصرّحوا عنه بكلّ وضوح".
الملحمة الحسينيّة:3/374-375.
وجاء في نهج البلاغة عن الإمام عليّ عليه السلام: (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلّموا، حتّى أخذ على أهل العلم أن يُعلّموا).
قال الشيخ ميثم البحراني موضحّاً: "لمّا كان التعلّم على الجاهل فريضة ولا يمكن إلَّا بمُعلَّم عالم، كان وجوب التعلَّم على الجاهل مُستلزماً لوجوب التعليم على العالم".
وروي عن عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: (قال رسول الله عليه السلام: طلب العلم فريضة على كلّ مسلم، ألا إنّ الله يُحب بغاة العلم).
الكافي للشيخ الكليني:1/30/كتاب فضل العلم/باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه/1.
تعقّبه الكاشاني بقوله: "بيان: العلم الذي طلبه فريضة على كلّ مسلم: هو العلم الذي يستكمل به الإنسان بحسب نشأته الأخروية، ويحتاج إليه في معرفة نفسه ومعرفة ربّه ومعرفة أنبيائه ورسله وحُججه وآياته واليوم الآخر، ومعرفة العمل بما يُسعده ويُقرّبه إلى اللَّه تعالى وبما يُشقيه ويُبعده عنه جلّ وعزّ.
ويختلف مراتب هذا العلم حسب اختلاف استعدادات أفراد النّاس واختلاف حالات شخص واحد بحسب استكمالاته يوماً فيوماً، فكلّما حصل الإنسان مرتبة من العلم وجب عليه تحصيل مرتبة أخرى فوقها إلى ما لا نهاية له بحسب طاقته وحوصلته. ولهذا قيل لأعلم الخلائق « قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً » سورة طه:114.
وقيل وقت الطلب من المهد إلى اللحد، هذا أقوم ما قيل فيه.
وبغاة العلم: طلّابه، جمع باغ كهداة جمع هاد، وباغ العلم عرفاً: من يكون اشتغاله به دائماً بحيث يُعرف به ويُعدّ ذلك من أحواله كما هو ظاهر".
إضافة إلى ما تقدّم بيانه عن أهل العلم والفضل، فقد ورد الترغيب لما يمكن أن يشمل غيرهم بمذاكرة العلم وتفهّمه، ففي المروي عن منصور الصيقل قال: (سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: تذاكر العلم دراسة، والدراسة صلاة حسنة).
الكافي:1/41/باب سؤال العلم وتذاكره/9.
قوّى سنده الشيخ محمّد تقي المجلسي في كتابه روضة المتقين:12/166.
وللإعلام فإنّ منهج الشيخ المجلسي الأوّل في التوثيق غير متشدّد.
قال الشيخ الفيض الكاشاني شارحاً له: "بيان: الدراسة القراءة مع تعهّد وتفهّم".
وأنت خبير بأنّنا لو تمكّنا من أخذ قسط وافر من هذا العلم وتفقّهه، وتحلينا بهذا المقدار من خزينه ومعارفه، لما استطاع المُقابل خداعنا بسهولة والتغرير بنا والأخذ بقيادنا.
وفي هذا السياق يقول الشيخ آل السيف: "من المهمّ جداً أن يُشعر الخطيب أنّ النّاس قد ائتمنوه على أفضل ما عندهم، وأعطوه عقولهم لينقش فيها على مدى ساعة من الزمان أو نصفها ما يريد، فليتّق الله في هذه الأمانة، ولا يصبّ في تلك العقول إلّا ما ينفعها في دنياها وأخراها".
من قضايا النهضة الحسينيّة:164.
وأضاف في صفحة أُخرى: "إنّ ما يُنقل في بعض الحالات من الكتب غير المعتبرة، أو على ألسن بعض الخطباء من غير تحقّق، ربّما أنتج آثاراً سلبيّة معاكسة على قوّة الولاء، وذلك أنّ جيل اليوم هو جيل ناقدٍ واعٍ، وقد توفّرت بين يديه الكثير من وسائل المعرفة، فإذا لم يتمّ التدقيق في هذه الروايات، واستبعاد غير الصحيح منها، مع وضوح شناعتها في بعض الحالات، يُخشى أن يسري الأمر إلى الثابت المُحقّق من السيرة، فيتمّ رفضه".
من قضايا النهضة الحسينيّة:201.
وبما أنّ الحكمة ضالّة المؤمن حيثما وجدت فهو أحقّ بها، ولا ضير عليه حين يلتقطها، فينبغي الاستفادة من هذا التقعيد والتأسيس المُشعر بتذليل بعض الصعاب وفتح بعض الأبواب.
بقي أن نقول أنّ العبرة العظمى والفائدة الكبرى لا تكمن في نقل الحديث وترتيل النصوص، وإنّما القيمة الحقيقيّة برعايتها ودرايتها، فعليك أيّها القارئ والمتابع بالدرايات لا بالروايات، وحديث تدريه خير من ألف حديث ترويه، وبالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان، كما جاء ذلك في كتاب معاني الأخبار للشيخ الصدوق:1-2/للباب الذي من أجله سمّينا هذا الكتاب معاني الأخبار، ومستطرفات السرائر للشيخ محمّد بن إدريس الحليّ:266.
وعليه فالأوفق بالمؤمن والباحث أن لا يجعل غايته نقل الأحاديث وهدفه تعميم الروايات والأخبار التي لا يعلم وثاقة مداركها واعتماد أسانيدها وطبيعة صدورها، ولا يُدرك مقدار معارضتها أو موافقتها للكتاب والسنّة النبويّة المعلومة والروايات المعصوميّة الثابتة، ولا يدري بقاءها ومنسوخيتّها وما إلى ذلك.
ويشهد بذلك ما جاء في كتاب الكافي في المرويّ عن أبي سعيد الزهري عن الإمام الباقر عليه السلام قال: (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وتركك حديثاً لم تروه خير من روايتك حديثاً لم تحصه).
المحاسن للشيخ أحمد البرقي:1/215/كتاب مصابيح الظُلم/ب8/102، والكافي:1/50/باب النوادر/9.
الرواية ضعفّ سندها الكثير وصحّحه المجلسي الأوّل في روضة المتّقين:12/169.
وقد تعرّض الأفاضل قديماً وحديثاً إلى شرح هذه الرواية نقتطف لكم باقة من بياناتهم.
قال الشيخ المازندراني: "فمعنى إحصاء الحديث: علمه بجميع أحواله وحفظه من جميع جهاته التي ذكرناها في محلّه.
والمعنى: أنّ ترك رواية حديث لم تحمله على الوجه المذكور خير من روايتك إيّاه، لأنّك إن رويته هلكت وأهلكت الناس بمتابعتهم لك فيما ليس لك به علم، وإن تركت روايته سلمت وسلم الناس من الوقوع في الضلال".
وقريب من هذا المعنى نجده في الحاشية على أصول الكافي للشيخ محمّد النائيني:175.
وكتب الفيض الكاشاني: "بيان: الاقتحام في الشيء رمي النفس فيه من غير رويّة.
والإحصاء: العدّ والحفظ والإحاطة بالشيء، والمعنى: أنّ تركك رواية حديث قد أحصيته فلم تروه، خير من روايتك حديثاً لم تحط به.
فإذا تردّد الأمر بين أن تترك حديثاً قد رويته ولم تحط به ولم تحفظه على وجهه ولم تكن على يقين ومعرفة بأنه كما هو عندك، وبين أن ترويه، فالأولى أن لا ترويه.
لأنّ في رواية الحديث منفعة، وفي رواية ما ليس بحديث على أنّه حديث مفسدة، ودفع المفسدة أهمّ وأولى من جلب المنفعة.
وفي نهج البلاغة: من وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسن عليه السّلام: (ودع القول فيما لا تعرف والخطاب فيما لا تكلف، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإنّ الكفّ عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال)".
ونُقل عن السيّد حسين البروجردي أنّه قال: "ومفادها أن نقل الحديث لا يجوز إلّا مع الإحاطة بحدوده وأطرافه، وإلّا فيدخل في عنوان الافتراء".
نهاية الأصول تقرير بحث البروجردي للشيخ حسين منتظري:ج1 و2/575.
وأعطى الشيخ موسى تبريزي بعض الوجوه المحتملة، منها: "قوله (لم تروه) من الرّوية، بمعنى: التفكر، بأن كان حرف المضارعة مضمومة والرّاء بعدها مفتوحة والواو بعدها مكسورة مشدّدة.
والمعنى حينئذٍ: تركك حديثا لم تتأمّل في سنده أو معارضه أو دلالته خير من روايتك أحاديث لم تحط بها كثرة".
أوثق الوسائل في شرح الرسائل:273.
جعلكم المولى سبحانه وإيّانا من المُتفقّهين والمُتبصّرين والمُتثبّتين.
ملحوظة: حول الشعار الذي يرفعه بعض المؤمنين وهو: (كلّ أرض كربلاء وكلّ يوم عاشوراء).
أحببنا أن ننبّه على أنّ حقيقة هذا الشعار مأخوذ من أصحاب الطريقة الصوفية، فراجع المنح المكيّة في شرح القصيدة الهمزيّة للشيخ أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي:529-530.
وكذلك نوّد التحذير من رواية مُختلقة نُسبت إلى الإمام الباقر عليه السلام جاء فيها: (لولا خوفنا على شيعتنا من الموت لروينا لهم ما جرى في كربلاء).
وآخر دعوانا أن الحمد لله تبارك وتعالى وصلّى الله على النبيّ الأمين والميامين من آل طه ويس وسلّم تسليما.