أنّ هذا الحديث رواه أمير المؤمنين الاِمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وابن عبّاس، وجابر بن عبدالله الاَنصاري رضي الله عنهما.
«علي باب دار الحكمة»
فأمّا حديث عليٍّ عليه السلام فقد ورد عنه من طريق الصنابحيّ، وعبيد الله ابن أبي رافعٍ، والشعبيّ.
حديث علي عليه السلام من طريق الصنابحي
طريق الصنابحـيّ، فقد أخرجـه الترمـذيّ فـي سننـه وابن جرير في تهذيب الآثار عن إسماعيل بن موسى، قال: حدّثنا محمّـد بن عمر الروميّ، حدّثنا شريك، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحيّ، عن عليٍّ عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا دار الحكمه وعليٌّ بابها
قال ابن جرير: هذا خبر صحيح سنده. ولكن ايها الاعزاء ...
والحقّ كما قال، فإنّ هذا الحديث بمفرده على شرط الصحيح، ورجاله كلّهم ثقات.
* أمّا إسماعيل بن موسى الفزاري، فقد روى عنه البخاريّ في خلق أفعال العباد وأبو داود والترمذيّ وابن ماجة وجماعة.
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: صدوق.
وقال مطيّن: كان صدوقاً.
وقال النسائي: ليس به بأس.
وذكره ابن حبّان في الثقات.
وقال أبو داود: صدوق في الحديث، وكان يتشيّع.
وقال ابن عديّ: إنّما أنكروا عليه الغلوّ في التشيّع....
على أنّـه لـم ينفرد بهذا الحديث عـن ابن الرومـيّ بـل تابعـه عليـه أبو مسلم إبراهيم بن عبـد الله البصريّ.
وقد أخرج متابعته هذه ابن بطّـة في الاِبانـة(2)، قال: حدّثنا أبو عليّ محمّـد بن أحمد الصوّاف، حدّثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبـد الله البصريّ، حدّثنا محمّـد بن عمر الروميّ، حدّثنا شريك به.
وأخرجهـا العاصميّ أيضاً في زيـن الفتـى، قال: أخبرنا محمّـد بن أبي زكريّا، قال: أخبرنا أبو إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم بن محمّـد بن أحمد الواعظ ـ قراءةً عليه بنيسابور ـ، قال: أخبرنا أبو بكر هلال بن محمّـد بالبصرة، قال: حدّثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبـد الله البصريّ، قال: حدّثنا محمّـد بن عمر بن عبـد الله، قال: حدّثنا شريك، عن سلمة، عن الصنابحيّ، عن عليٍّ عليه السلام ـ وذكر الحديث ـ.
وأخرجهـا الاَنماطـيّ في تاريخ الصحابـة(4)، قال: حدّثنا أبو بكر بن خلاّد وفاروق الخطّابي، قالا: أخبرنا أبو مسلم الكجّي عن محمّـد بن عمر الروميّ به.
وقال الحافظ صلاح الدين العلائيّ: تابعه ـ يعني الفزاريّ ـ أبو مسلم الكجّي وغيره على روايته عن محمّـد بن عمر الروميّ(1).
* وأمّا محمّـد بن عمر بن عبـد الله الروميّ، فقد روى عنه البخاريّ في غير الجامع، وذكره ابن حبّان في الثقات(2)، وقال أبو حاتم: صدوق قديم، روى عن شريك حديثاً منكراً. لذا ايها الاعزاء ..
يعني حديث الباب، وإنّما أنكره ـ كما أنكره البخاريّ ـ جرياً على قاعدة النواصب في إنكار فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.
ثـمّ إنّ تصحيح ابن جرير لهذا الحديث دالّ على توثيقـه لابن الروميّ ـ كما لا يخفى ـ.
فقول أبي زرعة فيه: شيخ فيه لين، وقول أبي داود: محمّـد بن الروميّ ضعيف(3)، وقول ابن حبّان ـ على ما حكاه عنه ابن الجوزيّ(4) ـ: كان يأتي عن الثقات بما ليس من أحاديثهم، لا يجوز الاحتجاج به بحالٍ؛ ليس بشيء.
لاَنّ ابن حبّان قد ذكره في الثقات كما مرّ، مضافاً إلى أنّه من المتعنّتين المتشدّدين فـي الجـرح، كمـا بيّـنّا ذلك فـي الاِبـادة، وغايـة
مـا يمكن للخصم أن يدّعيه أنّه لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد، فأمّا إذا توبع، فإنّ حديثه يكون ثابتاً محفوظاً، وسيأتي إن شاء الله بيان من تابعه على هذا الحديث.
وأمّا قول أبي زرعة؛ فتليين مبهم، ولا ينزل حديثه عن درجة الصحيح، وتضعيف أبي داود إيّاه جرح غير مفسَّر، فيُردّ عليه ولا كرامة.
بل قد دلّ قول الذهبيّ في ميزان الاعتدال(1) ـ بعد إيراده الحديث من طريقه ـ: ما أدري مَنْ وَضَعَه؟ على عدم اعتداده بتضعيف أبي داود له ـ مع ذكره آنفاً ـ إذ لو كان في ابن الروميّ أدنى غمزٍ لما تقاعد عن إلصاق الحديث به.
ثمّ يقال للذهبيّ: أليس من خبث السريرة وعمى البصيرة الطعن في هذا الحديث، وأنت تذعن لجودة سنده ونقاوته؟!
بـل مـا لك تحتـار فلا تـدري مَـن وضعـه، لا دريتَ ولا ائتَلَيْتَ، ومـا أحقّ أن يُنشد فيك قول أبي الطيّب:
سمّيت بالذهبيّ اليوم تسميةً * مشتقّةً من ذهاب العقل لا الذهبِ
ولعمر الله إنّ أحداً لم يضع هذا الحديث، بل قد نطق به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحيٌ يوحى) بَيد أنّ معشر الناصبة ـ قبّحهم الله وأخزاهم ـ لا يطيقون صبراً على سماع هذه المنقبة الشريفة وأضرابها، فيقدمون على ردّها دفعاً بالصدر (ومن أضلّ ممّن اتّبع هواه بغير هدىً من الله إنّ الله لا يهدي القوم
الظالمين).
هـذا، ومـن الفضول اعتراض بعضهـم(2) علـى قول أبـي حاتـم في ابن الرومي: (صدوق)، بقوله: لعلّه حكم عليه بما ظهر له من حاله ولم يتبيّن ضعفه بما وقع له من مرويّاته.
فيُقال له: يا هذا! إنّ أبا حاتم من أئمّة الجرح والتعديل، وبينك وبينه من البون ألف ألف ميل، فكيف تبيّن لك ما لم يتبيَّن له؟!
وهو الذي يقول الذهبيّ في شأن توثيقاته: إذا وثّق أبو حاتم رجلاً فتمسّك بقوله، فإنّه لا يوثّق إلاّ رجلاً صحيح الحديث...
هذا كلّه مضافاً إلى عدم تفرّد ابن الروميّ بحديث الباب، بل قد تابعه عليه محمّـد بن عبـد الله الرقاشي، وهو ثقة ثبت احتجّ به الشيخان والنسائي وابن ماجة، وقد أخرج متابعته عبـد الله بن أحمد بن حنبل في زياداته على كتاب الفضائل لاَبيه، قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد الله الكجّي، عن محمّـد بن عبـد الله الرقاشي، قال: حدّثنا شريك بن عبـد الله، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحيّ عن عليٍّ عليه السلام، مرفوعاً: أنا دار الحكمة وعليٌّ بابها...
وهذا إسناد متّصل لا مطعن فيه لاَحد ولا مغمز؛ لصحّته وثقة نقلته.
وتابعه أيضاً محمّـد بن محمّـد بن سليمان الباغنديّ، وكان ثقةً
صدوقاً، أخرج متابعته ابن المغازلي في المناقب، قال: أخبرنا محمّـد بن أحمد بن عثمان بن الفرج، قال: أخبرنا محمّـد بن المظفّر بن موسى بن عيسى الحافظ ـ إجـازةً ـ، حدّثنـا الباغنديّ محمّـد بن محمّـد بن سليمان، حدّثنـا شريك، عـن سلمة بن كهيل، عـن سويد، عـن الصنابحيّ، عـن عليّ عليه السلام، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: أنا دار الحكمة وعليٌّ بابها، فمن أراد الحكمة فليأتها. لاحظوا ...
فقول الترمذيّ فى العلل الكبير: إنّ هذا الحديث لم يُرْوَ عن أحدٍ من الثقات من أصحاب شريك؛ ناشٍ عن قِصَر في الباع، وقصورٍ في الاطّلاع.
وكذا دعوى المعلِّمي، حيث زعم أنّ هذا الخبر غير ثابتٍ عن شريك وأنّ قول الترمذيّ في سننه(4): روى بعضهم هذا الحديث عن شريك.. إلى آخره، لا ينفي تفرّد ابن الروميّ ـ خلافاً لما ظنّه العلائي ـ لاَنّ كلمة (بعضهم) تصدق بمن لا يعتدّ بمتابعته، إذ قد عرفت أنّ الحديث ثابت عـن شريك بلا نزاع، وأنّ (بعضهـم) ممّن يعتدّ بمتابعته، بل ممّن يحتجّ به بانفراده على رغم أنف المعلِّمي ومن تبعه.
وممّن تابع ابن الروميّ أيضاً على حديثه هذا عن شريك: عبد الحميد
ابن بحـر البصريّ، وقـد أخرج متابعتـه أبو نعيـم فـي الحليـة(1)، قال: حدّثنا أبو أحمد محمّـد بن أحمد الجرجاني، حدّثنا الحسن بن سفيان، حدّثنا عبـد الحميد بن بحر، حدّثنا شريك، عن سلمة بن كهيل، عن الصنابحيّ، عن عليّ عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا دار الحكمة وعليّ بابها.
قال الحافظ الكنجي ـ بعد إخراجه الحديث من هذا الطريق ـ: هذا حديث حسن عال.
وقد تبيّن بهذا بطلان دعوى بعض المتكلّفين للحديث انحصار رواية شريك برواية محمّـد بن عمر الروميّ وعبد الحميد بن بحر البصريّ عنه(3)، إذ قد عرفت أنّ الرقاشي والباغنديّ أيضاً قد رويا هذا الحديث عنه.
* وأمّا شريك بن عبـد الله النخعيّ الكوفيّ، فقد وثّقه ابن معين وأبو داود وإبراهيم الحربيّ، وقال العجليّ: كوفيّ ثقة، وكان حسن الحديث، وقـال يعقوب بن شيبـة: شريك صدوق ثقـة، وقال ابن سعد: كان ثقـةً مأموناً، كثير الحديث(4).
وقال الحافظ العلائيّ(5): شريك احتجّ به مسلم وعلّق له البخاريّ، ووثّقه يحيى بن معين والعجليّ، وزاد: حسن الحديث، وقال عيسى بن يونس: ما رأيت أحداً قطّ أورع في علمه من شريك، قال العلائي: فعلى هذا يكون تفرّده حسناً. انتهى.
وقد تشبّث بعض الاَغمار للطعن في حديث شريك هذا بأُمورٍ:
الاَوّل: اختلاط شريك وسوء حفظه.
وجوابه: أنّ ذلك إنّما عرض له في آخر أمره، فسماع المتقدّمين منه ليس فيه تخليط كما قال ابن حبّان في الثقات، وقال العجليّ: من سمع منه قديماً فحديثه صحيح. انتهى.
ولا نعلم أحداً ادّعى أنّ ابن الروميّ سمع من شريكٍ بعد اختلاطه، فالاَصل عدمه، والله أعلم.
علـى أنّ الغالب علـى حديث شريك الصحّـة والاستواء ـ كمـا قال ابن عديّ ـ والاختلاط إنّما وقع في بعض حديثه، بل لو كان قد انفرد بحديث الباب لَمـا كان ذلك بضارّنـا شيئاً، إذ ليس انفـراد الراوي وشذوذه ـ إذا كان ثقةً ـ من أسباب ضعفه ولا ضعف ما يرويه ـ كما تقرّر في محلّه ـ بل قد قرّر الحافظ العلائيّ أنّ تفرّد شريكٍ، حَسَنٌ ـ كما مرّ آنفاً ـ.
وربّما صحّح الترمذيّ حديثه أو حسّنه إذا انفرد، فكيف إذا توبع في حديثه عن سلمة بن كهيل، وقد تابعه على هذا الحديث يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحيّ(4).
فإن قيل:
إنّ يحيى بن سلمة بن كهيل ضعيف.
هو من رجال الترمذيّ، وتضعيفه في الحديث لا يضرّه، لاَنّه إن ثبت ذلك في حقّه كان ضعفه محتملاً، غير موجب لترك حديثه، فيجوز إيراد حديثه في المتابعات، على أنّ ذلك معارض بتوثيقه، فقد ذكره ابن حبّان في الثقات(1) وقوّاه الحاكم ـ كما في الميزان...ـ.
وقال في المستدرك: هؤلاء الّذين ذكرتهم في هذا الكتاب ثَبَتَ عندي حديثهم، لاَنّي لا أستحلّ الجرح إلاّ مبيّناً، ولا أُجيزه تقليداً.
قال: والذي أختاره لطالب العلم أن يكتب حديث هؤلاء أصلاً. انتهى.
فالذي يظهر من كلام الحاكم أنّه لم يعوّل على ما قيل في يحيى بن سلمـة، فيكون حديثـه ثابتاً عنده، بل قد صحّح حديثه في المستدرك(4)، وقال: ترك حديث يحيى بن سلمة، عن أبيه من المحالات التي يردّها العقل، فإنه لاخلاف أنّه من أهل الصنعة، فلا ينكر لاَبيه أن يخصّه بأحاديث يتفرّد بها عنه. انتهى.
وقد صحّح حديثه الذهبي أيضاً في تلخيص المستدرك(1)، وقال: ترك حديث يحيى بن سلمة من المحالات التي يردّها العقل. اتنهى.
وفي هذا الكلام شهادة بثقته وصحّة حديثه إذا انفرد عن أبيه، فكيف إذا توبع على حديثه من طريق صحيح ـ كما هنا ـ؟! فتنبّه.
وقـد بان لك ـ بمـا ذكرنا ـ مـا في قول الترمذيّ فـي العلل الكبير: لا نعرف هذا من حديث سلمة بن كهيل من غير حديث شريك؛ من الغفلة والذهول.
هذا، مضافاً إلى ما قرّروه في علم الحديث من تصحيح حديث الراوي ـ الذي ليس له متابعون ـ بالشواهد المعنويّة، وجَرَوا على ذلك في تصحيح أحاديث في الصحيحين والموطّأ ومسند أحمد وغيرها، وقد صحّح ابن عبـد البرّ وابن سيّد الناس حديث عبـد الكريم بن أبي المخارق المجمع على ضعفه لوجود الشواهد المعنويّة لحديثه.
وكذلك حديث الباب، فإنّ له شواهد كثيرة يجزم الواقف عليها بصحّته، ودونك حديث ابن مسعود قال: كنت عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فسُئل عن عليّ عليه السلام، فقال: قُسّمت الحكمة عشرة أجزاء فأُعطي عليٌّ تسعة أجزاء، والناس جزءاً واحداً. رواه أبو نعيم في الحليـة
الثاني: تدليس شريك.
والطعن في سند الحديث من هذا الوجه جهد العاجز، فلو اعتُبر هذا وأُخذ به لوجب طرح حديث الاَعمش وسفيان الثوري وهشيم وغيرهم من أئمّة أهل الحديث وحفاظه، بل قد قال شعبة: ما رأيت أحداً من أصحاب الحديث إلاّ يدلّس، إلاّ ابن عون وعمرو بن مرّة(1).
الثالث: تشيّع شريك.
وجواب هذه الشبهة: أنّها تهمةٌ لا يعمل بها النقّاد من أهل الحديث، وإنّما هي نفثة مصدورٍ ناصبيّ ضاق ذرعاً بما ورد في عليّ عليه السلام، فلم يجد طريقـاً لردّهـا إلاّ بهذه الخرافـة ـ كمـا قال شيخنـا أبو اليسر جمال الدين عبـد العزيز بن الصدّيق فسح الله تعالى في عمره ـ.
على أنّ هذه النسبة لم تثبت في حقّ شريك، بل قال معاوية بن صالح: سألت أحمد بن حنبل عنه؟
فقال: كان عاقلاً صدوقاً محدّثاً شديداً على أهل الريب والبدع.
وقال الساجي: كان ينسب إلى التشيّع المفرط، وقد حُكي عنه خلاف ذلك.
وقال يحيى بن معين: قال شريك: ليس يقدّم عليّاً على أبي بكرٍ وعمر أحدٌ فيه خير(2).
وأين هذا من التشيّع، فضلاً عن الغلوّ والاِفراط؟!
وللنواصب في هذا الباب قاعدة بائدة وشبهة فاسدة، وهي ردّ رواية المبتدعة ـ بزعمهم ـ إذا رووا ما يؤيّد مذهبهم، وقد بيّنّا زيفها في الاِبادة
فمن شاء فليقف عليها، والله المستعان.
* وأمّا سلمة بن كهيل بن حصين الحضرميّ الكوفيّ، فمتّفق على توثيقه، وقد أخرج له الجماعة.
* وأمّا سويد بن غَفَلة الجعفيّ الكوفيّ، فقد احتجّ به الستّة، وقال ابن معين والعجليّ: ثقة(1).
* وأمّا عبـد الرحمن بن عُسيلة الصنابحيّ، فهو ثقة من كبار التابعين احتجّ به الجماعة، ووثّقه ابن سعد والعجليّ وذكره ابن حبّان في الثقات.
وقد ثبت بما حقّقنا أنّ هذا الحديث بمفرده على شرط الصحيح كما حكم به ابن جرير، فإنّ رجاله كلّهم موثّقون ـ كما عرفت ـ بل لو فرض ضعفه أيضاً، فإنّه غير قادح لِما تقرّر عند أهل هذا الشأن: من أنّ الضعيف إذا تعدّدت طرقه وكثرت شواهده مع تباين مخارجها غلب الظنّ بصدق خبر المجموع وإن كان ذلك لا يحصل بخبر كلّ واحدٍ على انفراده.
هذا، ولكنّ الترمذيّ قال ـ عقب إخراجه حديث الباب ـ: هذا حديث غريب منكر، وروى بعضهم هذا الحديث عن شريك ولم يذكروا فيه عن الصنابحيّ، ولا نعرف هذا الحديث عن أحدٍ من الثقات غير شريك، وفي الباب عن ابن عبّـاس. انتهى.
هذا هو الذي وقفنا عليه من عبارة الترمذيّ في نسخ سننه المتداولة،
ولكن في كون جميع ذلك من كلامه نظر.
أمّا قوله: «غريب» فالظاهر ـ والله أعلم ـ أنّه من كلامه، إذ قد حكاه عنـه جماعة من المتقدّمين والمتأخّرين كالمحبّ الطبريّ فـي الرياض النضرة، والبغويّ في مصابيح السُنّة، والعلائي في النقد الصحيح، والخطيب التبريزيّ في مشكاة المصابيح، وابن الاَثير الجزري في أسنى المطالب، وابن كثير في النهاية، والمناوي في فيض القدير، وآخرون غيرهم. ...
. لكنّك خبير بأنّ الغريب يجامع الصحيح، كما هو الحال في أكثر الاَحاديث الصحيحة.
وأمّا قوله: «منكَر» فقد مرّ عن أبي حاتم أنّه رمى حديث الباب بالنكارة، وقال أبو عيسى في العلل الكبير: سألت محمّـداً ـ يعني البخاريّ ـ عنه فلم يعرفه، وأنكر هذا الحديث.
ما أنكر البخاريّ ولا غيره هذا الحديث إلاّ بناءً على أصلهم الفاسد الذي أسّسوه في إبطال كلّ ما ورد في فضل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، أو أكثره، بالحكم على من روى شيئاً منه بالتشيّع والضعف والنكارة، أو ردّه بما يعارضه ويناقضه من الاَحاديث الموضوعة، كما فعل الجوزجانيّ وغيره من ألدّاء النواصب ـ قبّحهم الله وأخزاهم ـ.
وقال الحافظ أبو سعيد العلائيّ في النقد الصحيح(1): ليس هذا الحديث من الاَلفاظ المنكَرة التي تأباها العقول، بل هو مثال قوله صلى الله عليه وآله وسلم: أرأف أُمّتي بأُمّتي أبو بكر، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل. وقد حسّنه الترمذيّ وصحّحه غيره.
وقال الحافظ الكنجي في الكفاية ـ عقب هذا الحديث ـ: قد فُسّرت الحكمة بالسُنّة، لقوله عزّ وجلّ (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة)(3) يدلّ على ذلك صحّة هذا التأويل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله تعالى أنزل عليَّ الكتاب ومثلـه معـه، أراد بالكتـاب القرآن، ومثلـه معه مـا علّمه الله تعالى من الحكمة، وبيّن له من الاَمر والنهي والحلال والحرام.
فالحكمة هي السُنّة، فلهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: أنا دار الحكمة وعليّ بابها. انتهى.
وقال المُنـاوي في فيض القديـر(4) فـي شرح حديث الترمذيّ: أي عليّ بن أبي طالب عليه السلام هو الباب الذي يُدخل منه إلى الحكمة، فناهيك بهذه المرتبة ما أسناها، وهذه المنقبة ما أعلاها. انتهى.
هذا، والذي يشهد لعدم كون هذه اللفظة من كلام أبي عيسى الترمذيّ وإنّما هي من زيادات بعض محرّفي الكلم عن مواضعه أنّ البغويّ أورد هذا الحديث في كتابه مصابيح السُنّة، وقد قال في أوّله: وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه، وأعرضت عن ذكر ما كان منكَراً أو موضوعاً.
انتهى.
فعُلم من هذا أنّ لفظة «منكَر» زيادة منكَرة ليست مـن كلام الترمذيّ، وإلاّ لَمـا كان هـذا الحديث مـن شرط كتـاب البغويّ، بـل حكى فيـه عن أبي عيسى أنّه قال: غريب، وزاد عليه هو قوله: إنّ إسناده مضطرب.
ويشهد لِما ذكرنا أيضاً أنّ الفيروزآبادي حكى عن الترمذي أنّه قد حسّن هذا الحديث...
وحكى المحبّ الطبريّ في ذخائر العقبى عن الترمذيّ أنّه قال: حديث حسن، وفي الرياض النضرة: حسن غريب.
ثمّ إنّك لو تأمّلت إسناد حديث الباب لوجدته على شرط الحسن عند الترمذيّ، فيترجّح بذلك أنّ صاحب الجامع الصحيح قد حكم بحسنه.
قال في العلل الصغير(4): كلّ حديث يُروى، لا يكون في إسناده مَنْ يُتّهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذّاً، ويُروى من غير وجهٍ نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن. انتهى.
فإن قال قائل:
إنّ الترمذيّ لا يُعتمد على تصحيحه وتحسينه.
قيل لـه:
هذا فيما إذا تفرّد بالتصحيح أو التحسين، أمّا إذا وافقه في ذلك غيره
من أئمّة الحديث فلا(1).
وستعرف إن شاء الله تعالى أنّ من الاَئمّة مَن حكم بصحّة هذا الحديث ومنهم من حسّنه، والله أعلم.
وأمّا قول الترمذي: «روى بعضهم هذا الحديث عن شريك، ولم يذكروا فيه عن الصنابحيّ».
فقد أجاب عنه الحافظ صلاح الدين العلائي في النقد الصحيح: بأنّ سويد بن غفلة تابعيّ مخضرم، وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وسـمع منهم، فيكون ذكر الصنابحيّ فيه من باب المزيد في متّصل الاَسانيد. انتهى.
ثمّ إنّ هذا التعليق من الترمذيّ لا يعارض حديثه المتّصل الاِسناد الذي أورده في أوّل الباب، لِما عُلم بأنّ من عادته ـ غالباً ـ من تعقيب الاَحاديث الصحيحة والحسنة بالاَحاديث التي وقع فيها وقف أو إرسال، والاَسانيد المعلّقة لا محلّ لها عند أهل الحديث.
بل قد قرّروا أنّ الحديث إذا رواه بعض الثقات الضابطين متّصلاً وبعضهم مرسَلاً، أو بعضهم موقوفاً وبعضهم مرفوعاً، أو وصله هو أو رفعه فـي وقتٍ، وأرسلـه أو وقفـه فـي وقت فالصحيح أنّ الحكـم لمـن وصلـه أو رفعه سواءً كان المخالف له مثله أو أكثر وأحفظ، لاَنّه زيادة ثقة وهي مقبولة، وهي طريقة الاَُصوليّين والفقهاء والبخاريّ ومسلم ومحقّقي المحدّثين، وصحّحه الخطيب البغدادي ـ كما قال النوويّ ـ.
ومن هنا ظهر بطلان تعلّق بعضهم(1) بإعلال الدارقطنيّ لحديث الباب حيث تكلّم عليه في العلل؛ فقال: هو حديث يرويه سلمة بن كهيل، واختلف عنه فرواه شريك عن سلمة، عن الصنابحيّ، عن عليّ عليه السلام، واختلف عن شريك فقيل: عنه، عن سلمة، عن رجلٍ، عن الصنابحيّ، ورواه يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحيّ ولم يسنده، قال: والحديث مضطرب غير ثابتٍ، وسلمة لم يسمع من الصنابحيّ(2). انتهى.
فإنّه لا مانع ـ من حيث الطبقة ـ أن يروي سلمة بن كهيل عن الصنابحيّ، فإن ثبت عدم سماعه منه ـ كما زعم الدارقطني ـ فإنّ المحذوف من سلسلة الاِسناد هو سويد بن غفلة، كما أنّه هو الذي ورد مبهماً في الطريق الآخـر الذي ساقـه الدارقطنيّ ـ كمـا عُلم مـن الاَسانيد المتقدّمـة ـ فلا يُعدّ ذلك اضطراباً في السند للعلم بالواسطة المحذوفة.
وقد تَحصّل من ذلك أنّ الحديث متّصل الاِسناد، وأنّ ما وقع فيه من الانقطاع والاضطراب الحادث فإنّما هو من وهم بعض الرواة، وأنّ حكم الدارقطني باضطراب الحديث وعدم ثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مبنيّ على مذهبه من أنّه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع، أو إرسال واتّصال حكم بالوقف والاِرسال، وهذه قاعدة ضعيفة ممنوعة عند المحقّقين(3)، وقد عرفت مذهبهم الصحيح في ذلك.
ولعلّ في قول الترمذيّ: «وفي الباب عن ابن عبّـاس»، إشارة إلى أنّ الحديث وإن كان في سنده مقال ـ عند بعضهم ـ إلاّ أنّ وروده من طريق آخر عن ابن عبّـاس يجبر ذلك، فتأمّل.
وبالجملة، فلم يأت أبو الفرج ابن الجوزيّ ولا غيره ممّن ردّ هذا الحديث وأبطله بعلّةٍ قادحةٍ في حديث شريك سوى دعوى الوضع دفعاً بالصدر ـ كما قال الحافظ أبو سعيد صلاح الدين العلائي ـ.
هذا كلّه في ما يتعلّق بحديث أمير المؤمنين عليه السلام من طريق الصنابحيّ.
حديث علي عليه السلام من طريق عبيد الله بن أبي رافع المدني
2 ـ وأمّا حديثه عليه السلام من طريق كاتبه عبيـد الله بن أبي رافع المدني مولى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أخرجه الاِمام الشريف محمّـد بن علي الحسني في كتاب مَن روى عن زيد بن علي الشهيد من التابعين(2) عن الحسن بن زيد، عن زيد بن الحسن السبط، عن زيد بن عليّ الشهيد، عن عليّ بن الحسين، عن عبيـد الله بن أبي رافع، عن عليّ عليه السلام.
والحسنيّ هذا أثنى عليه الذهبي في سير أعلام النبلا، وحكى عن شيرويه أنّه قال: ثقة صدوق.
والحسن بن زيد من رجال النسائي، وقد ذكره ابن حبّان في الثقات ووثّقه العجليّ وابن سعد(5).
وأبوه زيد بن الحسن ذكره ابن حبّان في الثقات(1) وكان من سادات بني هاشم، وقال ابن حجر في التقريب: ثقة جليل(2).
وزيد بن عليّ الشهيد أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي عليه السلام وابن ماجة، وذكره ابن حبّان في الثقات(3).
وعلي بن الحسين زين العابدين عليه السلام احتجّ به الجماعة، واتّفق الاَئمّة على توثيقه.
وعبيدالله بن أبي رافع أخرج له الستّة، وقال أبو حاتم والخطيب: ثقة.
وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، وذكره ابن حبّان في الثقات.
وقال ابن تيميّة في الفرقان: إنّه من الصادقين كالحسن والحسين ومحمّـد ابن الحنفية وعبيدة السلماني.
حديث علي عليه السلام من طريق الشعبي
3 ـ وأمّا حديث الشعبيّ عن عليّ عليه السلام، فقد أخرجه أبو بكر بن مردويه في المناقب من حديث الحسن بن محمّـد، عن جرير، عن محمّـد ابن قيس، عن الشعبيّ، عن عليّ عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا دار الحكمة وعليّ بابها.
قال ابن الجوزيّ: محمّـد بن قيس مجهول.
هذا جهل من ابن الجوزيّ وظلمة فوق ظلماته، فإنّ محمّـد بن قيس هذا، هو الاَسديّ الوالبيّ الذي روى عن سلمة بن كهيل وعامر الشعبيّ وجماعة، روى له البخاريّ في الاَدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائيّ.
قال أحمد بن حنبل: كان وكيع إذا حدّثنا عن محمّـد بن قيس الاَسديّ قال: وكان من الثقات.
وقال عبـد الله بن أحمد: سُئل أبي عن محمّـد بن قيس الاَسدي، فقال: ثقة لا يُشكّ فيه.
وقال ابن معين وابن المديني وأبو داود والنسائي وابن سعد ويعقوب ابن سفيان: ثقة، وذكره ابن حبّان في الثقات.. انتهى.
بل لـو كان ابن قيسٍ مجهولاً ـ كمـا زعم ابن الجوزيّ ـ لَما ساغ له إيراد حديثه في الموضوعات، لاَنّ جهالة حال الراوي لا تقتضي وضع حديثه، ولكنّ أبا الفرج حاطب ليلٍ لا يميّز بين الغثّ والسمين، ولا يدري ما يخرج من رأسه، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
فلم يبق في سند هذا الحديث مطعنٌ ولا مغمزٌ سوى دعوى الاِرسال، فإنّ الشعبيّ لم يسمع عليّاً عليه السلام ـ كما قيل(3) ـ. نهاية الكلام ...
إنّ رواية الشعبيّ عن عليّ عليه السلام ثابتة عند القوم بلا ريب، كما في حديث رجم شُراحة الهمدانيّة الذي أخرجه البخاريّ في صحيحه(1)، وقد جزموا باتّصاله لثبوت اللقاء، وكونه على عهد عليّ عليه السلام قد ناهز العشرين سنة، فجاز أن يكون قد سمع حديث الباب أيضاً من عليّ عليه السلام فيُحمل على الاتّصال، ويبطل قول الدارقطني: إنّه لم يسمع من عليّ عليه السلام غير الحديث المذكور.
وممّا يعكّر على دعوى الدارقطنيّ، أنّ الشعبيّ روى عن خلائق من الصحابة ـ كما يُعلم ذلك من ترجمته في تهذيب الكمال ـ بل قد حكي عنه أنّه قال: أدركت خمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: عليّ وطلحة والزبير في الجنّة...
فيبعد حينئذٍ أن لا يكون قد سمع من عليٍّ عليه السلام سوى حديثه في الرجم، مع ثبوت لقائه وسماعه، وكونه في سنّ التحمّل، فتأمّل.
ولو تنزّلنـا، فإنّ المرسَل إذا أُسند مـن وجهٍ آخر دلّ ذلك على صحّته ـ كما هو مختار الشافعيّ(4) ـ وقد عرفت أنّ هذا الحديث مخرّج من وجهٍ آخر بإسنادٍ متّصلٍ صحيحٍ.
بل إنّ حديث الشعبيّ لو لم يُسند من وجهٍ آخر، لكان صحيحاً
مقبولاً أيضاً، فإنّ منهم من قبل مراسيل التابعين على اختلاف طبقاتهم، وهذا هو الذي يقول به مالك وجمهور أصحابه وأحمد وكلّ من يقبل المرسَل من أهل الحديث.
ومنهم: مَن خصّ القبول بمراسيل كبار التابعين دون صغارهم الّذين تقلّ روايتهم عن الصحابة ـ كما حكاه ابن عبـد البرّ ـ.
ومنهم: مَنْ فرّق بين من عُرف من عادته أنّه لا يروي إلاّ عن ثقةٍ فيقبل مرسَله، وبين مَن عُرف أنّه يُرسل عن كلّ أحدٍ سواء كان ثقةً أو ضعيفاً فلا يقبل مرسَله، وهذا اختيار جماعةٍ كثيرين من أئمّة الجرح والتعديل كيحيى بن سعيد القطّان وعليّ بن المدينيّ وغيرهما(3)، واختاره العلائيّ في جامع التحصيل.
فعلى كلّ واحدٍ من هذه الاَقوال يتعيّن الاَخذ بمراسيل الشعبيّ، بل إنّ مراسيله قد اتّصفت ـ عند العلماء ـ بالصحّة، وامتازت بالقبول مطلقاً.
قال العجليّ: مرسل الشعبيّ صحيح، لا يرسل إلاّ صحيحاً...
وأخـرج الشيخ الاِمام أبو جعفـر الطوسي رحمه الله حديث الباب في
أماليه من طريق أبي عبـد الله الحسين بن عليّ عليهما السلام، عن أبيه عليه السلام؛ قال أبو جعفر رحمه الله: أخبرنا أبو عبـد الله الحسين بن عبيد الله الغضائري، قال: أخبرنا محمّـد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، قال: أخبرني أبي، قال: حدّثنا محمّـد بن أحمد بن إبراهيم الليثي، قال: حدّثنا أحمد بن محمّـد الهمدانيّ، قال: حدّثنا يعقوب بن يوسف بن زياد، حدّثنا أحمد بن حمّاد، عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفرٍ الباقر عليه السلام، عـن علـيّ بـن الحسين عليه السلام، عـن الحسين بن عليّ عليه السلام، عـن علـيّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا مدينة الحكمة وأنت يا عليّ بابها.. الحديث.
وقد تبيّن ممّا ذكرنا أنّ حديث أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ثابت بلا ريب ولا شبهة، فالمنازع في ذلك مكابرٌ متعنّتٌ، لا ينبغي الاِصغاء إلى هذيانه، ولا إلقاء السمع إلى زخرف قوله وبيانه.