هي : أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد لتدفع الضرر عن نفسك أو مالك ، أو لحفظ كرامتك ، كما لو كنت بين قوم لا يدينون بما تدين ، وقد بلغوا الغاية في التَعَصُّب ، بحيث إذا لم تجارهم في القول والفعل تعمدوا إلى إضرارك والإساءة إليك ، فتماشيهم بقدر ما تصون به نفسك وتدفع الأذى عنك ، لأن الضرورة تقدر بقدرها .
وقد مثل فقهاء الشيعة لذلك بأن يصلي الشيعي مُتَكَتِّفاً ، أو يغسل رجليه في الوضوء بدلاً من مسحهما في بيئة سُنِّية متعصِّبة ، بحيث إذا لم يفعل لَحِقَه الأذى والضرر ، هذي هي التقية في حقيقتها وواقعها عند الشيعة وما هي بالشيء الجديد ، ولا من البدع التي يأباها العقل والشرع .
فقد تكلم عنها الفلاسفة وعلماء الأخلاق قبل الإسلام وبعده ، وأطالوا في الكلام عنها ، ولكن لا بعنوان التقية ، بل بعنوان : هل الغاية تبرر الواسطة ؟ ، وما إلى ذاك .
وتكلم عنها الفقهاء ، وأهل التشريع في الشرق والغرب بعنوان : هل يجوز التوصل إلى غاية مشروعة من طريق غير مشروع ؟ ، وبعنوان : المقاصد والوسائل .
وتكلم عنها علماء الأصول من السنة والشيعة بعنوان : تزاحم المهم والأهم ، واتفقوا بكلمة واحدة على أن الأهم مقدم على المهم ، ارتكاباً لأقل الضررين ، ودفعاً لأشد المحذورين ، وتقديماً للراجح على المرجوح ، وغيرها من العناوين .
وهذه العناوين وما إليها تحكي التقية كما هي عند الإمامية ، ولا تختلف عنها إلا في الأسلوب والتعبير ، وكانت التقية وما زالت ديناً يدين به كل سياسي في الشرق والغرب ، حتى المخلص الأمين .
وإذا سأل سائل : ما دام الأمر كذلك فلماذا عَبَّر الشيعة بلفظ التقية ؟! ، ولم يُعبِّروا بلفظ المقاصد والوسائل ، أو الغاية تبرر الواسطة ؟! فنقول : إن العِبرة بالمعنى لا باللفظ ، وقديماً قال العارفون : النقاش في الاصطلاحات اللفظية ليس من دَأبِ المحصلين .
التقية في القرآن :
إن علماء الشيعة يأخذون – دائماً أو غالباً – ألفاظهم ومصطلحاتهم الشرعية من نصوص الكتاب والسُّنة .
فقد عبَّر القرآن الكريم عن هذا المعنى بمادة الاتقاء ، كما في قوله الله تعالى : ( لا يَتَّخِذُ المُؤمِنُونَ الكَافِرِينَ أَولِيَاءَ مِن دُونِ المُؤمِنِينَ وَمَن يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَيسَ مِنَ اللهِ فِي شيءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُم تُقَاةً ) آل عمران : 28 ، فالآية صريحة في النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء ، إلا في حال الخوف واتقاء الضرر والأذى .
فقال المفسرون فيها : إن المشركين آذوا عمار بن ياسر ، وأكرهوه على قول السوء في رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأعطاهم ما أرادوا .
فقال بعض الأصحاب : كَفَر عَمَّار ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( كلا ، إن عماراً يغمره الإيمان من قِرنِه إلى قَدمِهِ ) .
وجاء عمار وهو يبكي نادماً آسفاً ، فمسح النبي ( صلى الله عليه وآله ) عينيه ، وقال له : ( لا تبكِ ، إن عادوا لك فَعُدْ لهم بما قلتَ ) .
ونستدلُّ أيضاً بقوله تعالى : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكتُمُ إِيمَانُهُ ) غافر : 28 ، فَكَتْمُ الإيمان وإظهار خلافه ليس نفاقاً ورياء كما زعم من نعت التقية بالنفاق والرياء .
ونستدلُّ أيضاً بقوله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيدِيكُمْ إِلَى التَهْلُكَةِ ) البقرة : 195 .
التقية في أحاديث النَّبي ( صلى الله عليه وآله ) :
ونستدلُّ من السُّنة الشريفة بحديث : ( لا ضَرَرَ وَلا ضِرَار ) ، وأيضاً بحديث : ( رُفع عن أمتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان ، وما استكرِهُوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرُّوا إليه ، والطيرة ، والحسد ، والوَسوَسة في الخُلق ) ، والحديثان مرويَّان في كتب الصحاح عند السُّنة .
وقول الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) : ( وما اضطُرُّوا إليه ) ، صريح الدلالة على أن الضرورات تُبِيح المحذورات .
التقية في روايات أهل السنة :
قال الغزالي : إن عِصمة دَم المسلم واجبة ، فمهما كان القصد سَفكُ دمِ مسلمٍ قد اختفى من ظالمٍ فالكذب فيه واجب ( إحياء علوم الدين : ج3 / باب ما رُخِّص فيه من الكذب ) .
وبعد أن نقل الرازي الأقوال في التقية ، وهو يفسر قوله تعالى : ( إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنهُم تُقَاةً ) آل عمران : 28 ، قال : رُوي عن الحسن أنه قال : التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة ، وهذا القول أولى ، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان .
ونعى الشاطبي الخوارجَ لإنكارِهِم سورة يوسف من القرآن ، وقولهم بأن التقية لا تجوز في قول أو فعل على الإطلاق والعموم ( الموافقات 4 / 180 .
وقال السيوطي : يجوز أكل الميتة في المَخمَصة ، وإساغة اللقمة في الخمر ، والتلفظ بكلمة الكفر ولو عَمَّ الحرام قطراً ، بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادراً ، فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه ( الأشباه والنظائر : 76 .
وفسَّر أبو بكر الرازي الجصاص - من أئمة الحنفية – قوله تعالى : ( إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنهُم تُقَاةً ) آل عمران : 28 ، بقوله : يعني أن تخافوا تَلَفَ النفس ، أو بعض الأعضاء ، فَتَتَّقُوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها ، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ ، وعليه الجمهور من أهل العلم ، وقد حدثنا عبد الله ، بن محمد ، بن إسحاق المروزي ، عن الحسن ، بن أبي الربيع الجرجاني ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قُتادة ، في قوله تعالى : ( لا يَتَّخِذُ المُؤمِنُونَ الكَافِرِينَ أَولِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنِينَ ) آل عمران : 23 .
قال : لا يَحِلُّ لِمؤمنٍ أن يتخذ كافراً ولياً في دينه ، وقوله تعالى : ( إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنهُم تُقَاةً ) ، يقتضي جواز إظهار الكفر عند التقية ، وهو نظير قوله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) النحل : 106 .
وهذا القول يدل على جواز التقية عند أهل السنة : لما فتح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خيبر قال له حجاج بن علاط : يا رسول الله إن لي بمكة مالاً ، وإن لي بها أهلاً ، وأنا أريد أن آتيهم ، فأنا في حِلٍّ إن أنا نِلتُ مِنك وقلتُ شيئاً ؟ فَأذِنَ لَهُ رسول الله أن يقول ما يشاء ( السيرة الحلبية 3 / 61 ) .
وأخيراً :
إن الذي قاله صاحبُ ( السيرة الحلبية ) عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ونقله الجصاص إلى الجمهور من أهل العلم ، هو بعينه ما تقوله الإمامية .
إذن القول بالتقية لا يختص بالشيعة دون السنة ، ولا ندري كيف استجاز لنفسه من يدعي الإسلام أن ينعت التقية بالنفاق والرياء وهو يتلو من كتاب الله ، وسُنة نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ما ذكرنا من الآيات والأحاديث ، وأقوال أئمة السنة وهي غيض من فيض مما استدل به علماء الشيعة في كتبهم .
وكيف تُنسب الشيعة إلى الرياء وهم يؤمنون بأنه – الرياء – الشِّرك الخفي ، ويحكمون ببطلان الصوم والصلاة ، والحج والزكاة ، إذا شَابَتْها أدنى شائِبة من رياء ؟!!
يا ليت لو الاخوان المخالفين يقرون هذا البحث جيدا ليعرفوا انهم ليسوا على طريق الاسلام الحق
فلك النجاة في الإمامة والصلاة - علي محمد فتح الدين الحنفي - ص 245
ـ ثم قال في ( الفتح ) : قد أخرج الطبري من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " ، قال أخبر الله أن من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله ، وأما من أكره بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه فلا حرج عليه ، لأن الله إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم .
ـ ثم قال : في ( الفتح ) قال الحسن البصري : التقية إلى يوم القيامة ، ( وصله عبد بن حميد ، وابن أبي شيبة من رواية عوف الأعرابي عن الحسن البصري ) ، قال : التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة .....
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سير اعلام النبلاء ـ الحافظ الذهبي ـ ج11 ـ ص87
قال سعيد بن عمرو البرذعي : سمعت الحافظ أبا زرعة الرازي : يقول : كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أبي نصر التمار ، ولا عن يحيى بن معين ، ولا عن أحد ممن امتحن فأجاب .
قلت : هذا أمر ضيق ولاحرج على من أجاب في المحنة ، بل ولا على من أكره على صريح الكفر عملا بالآية .
وهذا هو الحق . وكان يحيى رحمه الله من أئمة السنة ، فخاف من سطوة الدولة ، وأجاب تقية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تفسير الرازي - الرازي - ج 8 - ص 14
واعلم أن نظير هذه الآية قوله تعالى : * ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) * ( النحل : 106 ) .
المسألة الرابعة : اعلم أن للتقية أحكاما كثيرة ونحن نذكر بعضها .
ـ الحكم الأول : أن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار ، ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان ، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أيضا أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ، ولكن بشرط أن يضمر خلافه ، وأن يعرض في كل ما يقول ، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب .
ـ الحكم الرابع : ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس .
ـ الحكم الخامس : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " ولقوله صلى الله عليه وسلم : " من قتل دون ماله فهو شهيد " ولأن الحاجة إلى المال شديدة والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء ، وجاز الاقتصار على التيمم دفعا لذلك القدر من نقصان المال ، فكيف لا يجوز ههنا والله أعلم .
أحسنت استاذنا بحثك رائع ومتكامل وواضح ليت أخوتنا يقرأوا عقائد الشيعه من الشيعه أنفسهم
فالانسان بالفعل عدو مايجهل .. مشكلتنا أننا دائما نقرأ مايمليه علينا المتشددون وأعداء التشيع ومايرمون به الشيعه من كذب وافتراء ، ولانقرأ أدلة واقوال الشيعه أنفسهم بتجرد !!
قراءة بتجرد لمعنى التقيه توضح لنا مدى توافق هذا النعتقد مع القران والسنة والفطرة السليمة ..
نعم نعم أستاذنا
التقية هي : أن أقول أو أفعل غير ما أعتقده لأدفع الضرر عن نفسي ، أو لحفظ كرامتي ، كما لو كنت بين قوم لا يدينون بما أدين، وقد بلغوا الغاية في التَعَصُّب ، بحيث إذا لمأجاريهم في القول والفعل تعمدوا إلى إضراري والإساءة إليي ، فأماشيهم بقدر ما أصون به نفسي وأدفع الأذى عني ، لأن الضرورة تقدر بقدرها .
فتخيلوا لو لم يكن هناك منحه ورخصه من الله في التقية .. فما كان سيفعل المستبصرون مثلا؟؟