بين القرآن الكريم انه لمّا اراد نبي الله موسى ع التوجه الى لقاء الله وموعده جعل اخيه ووزيره النبي هارون خليفته على قومه : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) .
وهذا يعني ان القائد الإلهي او حجة الله ضرور في وجوده للهداية بالاساس وضمان استقرار وبقاء النظام الحياتي ، فأذا غاب عن قومه او أمّته وجب استخلاف من ينوب عنه في وضيفته بكلا شقيّها الهداية والحكم لان صيانة الدين تقتضي وجود الهادي ، وصيانة النظام وحياة الناس تقتضي وجود الحاكم والرئيس المدبر لشؤنهم ، فتأمل .
والخليفة هو من يَخلف غيره ويكون حاكيا عنه في خصائصه وشؤنه ، ولذلك كان هارون فيه اعلى مواصفات الخليفة فهو نبي مصطفى ووزيرا لرسول الله وشريكا له في أمره ،
ولقد اخبر القرآن عن وضيفتين مهمتين امر بهما موسى ع اخيه وخليفته في قومه النبي هارون وهما : ( وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) ، وحيث ان هارون ع نبي معصوم فلا تصدر منه المعصية ولا يتبع المفسدين ويعلم ذلك منه اخيه موسى ع فيكون المقصد ان يتولى ويدير امور قومه بما يضمن استمرار صلاحهم ولا يستمع لدعوات وطلبات بعض اهل الاهواء والاغواء والجهل الموجودون في قوم موسى .
إلا انه وفي غيبة موسى ع وقع المحذور : ( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ )
فتصدى النبي هارون خليفة موسى ع في قومه ووفق شرائط وضيفته كخليفة وما اوصاه به النبي موسى من الاصلاح ألا يتبع سبيل المفسدين فكان : ( وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَن فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) .
اقول : يظهر ان خليفة موسى في قومه ( هارون ع ) وعلى اثر ما ظهر من انحرافهم بعبادة العجل انْ أمرهم بأطاعته لانه الخليفة الشرعي لرسول الله وهو بذاته نبي اصطفاه الله فله الولاية الشرعية على القوم كحاكم ورئيس يجب طاعته وكهادي الى الصراط المستقيم الذي يستطيع تمييز الهدى من الضلال والحق من الشبهة فهو احق باتباعه وهذا مصداق قوله ( وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي ) .
هذا الواجب وهذا الارشاد الذي استعمله نبي الله هارون من خلال دوره كخليفة لموسى ع في قومه لم يكن ذا اثر مهم ولم يمنعهم بسبب وجود قوة ضلال واغواء قوية في القوم ووجود جهل وضعاف ايمان من الاتباع .
كذلك لم يستعمل هارون ع صلاحياته كخليفة لرسول الله ورئيس على القوم وذلك لخوف هو : ( إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) وكذلك ايضا لم يستطع لضعف مقابل جبهة عبادة العجل : ( إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ) .
هذين العلتين التي بينهما القران تحتاج الى وقفة تأمل فخليفة الله ورسوله في ارضه حتى يتسنى له أداء دوره يحتاج الى حيثية العلم والهداية " السلطة الدينية " ، ويحتاج الى حيثية القوة التنفيذية وهي ما توفرها " السلطة السياسية " .
ولذلك فإنّ الخلل او الضعف فضلا عن عدم توفر احد هذين الشرطين يخل بنظام الهداية ونفوذه ، ويفسح المجال لطغيان وغلبة خط الشيطان وجنوده ، خاصة في مجتمع او امة تتوفر فيها خط وقوة انحراف وذات اتباع .
لذلك ( انتبه ) لمّا رجع موسى ع لقومه فانه ارتفع ولم يعد يظهر عنوان وحالة سابقة قد ظهرت في خلافة اخيه هارون وهي : إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي !!! ولك ان تفسر هذا بما يناسب من تعليل ولكن الثابت اولا لم يأتي موسى بجيش معه ! ولكن يمكن ايكاله الى طريقة التعامل مع المشكلة من حيث الحزم الصارم والتصدي بالقوة لخط الانحراف الذي لم يستعمله خليفته هارون ع فاستضعفه وأستغله الطرف الاخر، واصبح عنصر قوة لخط الانحراف وعنصر ضعف لخط الهداية والاصلاح ، فتأمل .
من هنا كان موسى ع محقا في غضبه وحكيما في عمله لما اوصى خليفته هارون ع وقال : ( وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ )
لان الاصلاح وإنْ يمكن تعدد وسائله ولكن لا يكون إلا بنجاح تحققه ،،، والامتناع عن اتباع سبيل المفسدين وإنْ كان بالامتناع عن قبوله او أمضائه ولكن غاية وسبيل المفسدين تتحقق اذا لم ينجح الاصلاح !
وعليه لم ينجح ارشاد ونصح هارون وفي نفس الوقت طغى المفسدون ، وكان الحل وحسب حكمة موسى كي يمنع حصول المحذور ان يتصدى هارون بكل وسيلة وصلاحية وقوة ممكنة لتحقيق الاصلاح ومنع وقوع فتنة العجل ، او يستعجل بابلاغ اخيه موسى ع ليتصدى بنفسه لذلك : ( قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري ) , نعــم ! انه امر مهم وخط احمر لا يمكن السكوت عنه لانه مرتبط بالهداية والضلال وعليه تقتضي الحكمة والصواب منع تحقق فتنة الدين ولو بالقوة اذا لم تنفع النصيحة والارشاد ( والفتنة اشد من القتل ، لان القتل فيه خسارة جزء من حياة محدودة وفتنة الدين خسارة كل الحياة الابدية ) , وهذا لعله مغزى قوله ( افعصيت أمري ) والله اعلم
الى هنا لعله اصبح واضحا بدرجة كبيرة تفاصيل هذه القصة والتأمل العميق في مضامينها وما يمكن الاستفادة منها كعبرة لنا في تحقيق الهداية والاصلاح ولكنها رسالة خاصة ونموذجية موجهة لخلفاء الله وخلفاء الرسل
وعليه خليفة الامام الحجة ع وهو النائب العام حتى يصدق كونه خليفة للامام ع ومرجع له في الدين يجب ان يكون حاكيا عنه في خصائصه ودوره كما كان هارون ع فهو المرجع الديني لقومه وهو الرئيس السياسي ايضا فالاولى مقتضى دور الهداية والثانية مقتضى دور القيادة وحفظ وادارة النظام واستقراره .
وعلى الخليفة او نائب الامام ضمان تحقيق الهداية ، ومنع الانحراف وغلبة خط الشيطان ، سواء بالارشاد والنصح والوعظ او حتى بالقوة واستخدام السلطة اذا كان متمكنا قادرا عليها لانه عدى ذلك سيتيح لخط الانحراف والشيطان من الغلبة والظهور ومن ثم سحب مزيد من الاتباع بالاغواء وكذلك اضعاف خط الهداية وخط الرحمان وهذا بمجموعه يعطل خط هداية البشرية جمعاء ويعطل تحقيق الغاية من خلقهم ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )
أما اذا خرجت السلطة والقيادة والرئاسة من مسؤلية خليفة الله او خليفة خليفته اصبح منصب كرسي رئاسة النظام غير مشغول وحيث سنة الله وسنة الحياة والمجتمعات مبنية على نوع نظام يقتضي وجود قائد على قمته يرأسه ويدبره ، مما يعني اصبح رأس النظام مؤهلا لملئ فراغه من قبل خط الشيطان الذي يستفاد منه لتعزيز وفرض دور الاغواء والانحراف الذي يدعوا له ، وهذه حقيقة اذا لم يوصلك اليها الدليل الشرعي فالدليل العقلي يؤيدها .