كان هارون الرشيد أكثر الحكّام العباسيين قوةً واقتداراً، وشرع منذ بداية حكمه بالتضييق على العلويين وسجنهم وتعذيبهم، وحتى قتلهم. مما دعا الإمام إلى توصية أصحابه بالتخفّي، كي لا يقعوا في أيدي السفّاكين من أعوان الرشيد. وساعدهم هذا التخفي على نشر تعاليم الإسلام في جميع أنحاء العالم الإسلامي الواسع، كما استطاعوا العمل خفيةً في دوائر الدولة، وفي قصر الرشيد بالذات، الأمر الذي مكنهم من مساعدة المظلومين والمضطهدين. ومن أولئك رجل يعرف باسم «يقطين».
كان يقطين في البداية من خصوم بني أمية، وكان يدعو الناس للثورة، وتعرّف من خلال ذلك على السفاح والمنصور العباسيين، ونشأت بينهم صداقة قوية. وبعد انتصار العباسيين تولّى يقطين مناصب مهمّةً في الدولة، وكان رجلاً مؤمناً صالحاً ، ينفق أمواله في وجوه البرّ والإحسان، كما كان عوناً للمؤمنين. وقد عيّنه المنصور أخيراً قائماً بأعمال ديوانه.
كان ليقطين ابن اسمه علي، وكان علي كأبيه من خيرة أصحاب الإمام الكاظم (ع)، يتردّد عليه في الخفاء، وبعد موت أبيه يقطين حلّ مكانه، ثم توصّل إلى الوزراة في قصر هارون الرشيد، والرشيد لا يدري شيئاً عن ميوله.
كان عليّ بن يقطين يؤدي خمس وزكاة أمواله إلى الإمام بصورةٍ سريةٍ، وفكّر مرة بترك عمله في قصر الرشيد، لكنّ الإمام أوصاه بالبقاء، ليكون عوناً للمؤمنين.
ويروى أن الرّشيد أهداه يوماً ثوبا فاخراً منسوجاً بالذهب يلبسه الملوك، ويسمّى «الدّارعة»، فلما تسلّمها أهداها من فوره إلى الإمام مع مبلغ من المال بمثابة سهمه من الخمس والزكاة. فقبل الإمام المال وردّ الدارعة مع الرّسول وكتب إليه: احتفظ بها ولا تخرجها عنك، فسيكون لك بها شأن تحتاج معه إليها. تأثّر عليّ لردّ الإمام هديّته، لكنّه احتفظ بها، وجعلها في سفطٍ (وهو وعاء يعبّأ فيه الطيب وما يماثله)، مع بعض العطور، وختم عليها.
بعد مدة، غضب علي على غلامه، وكان الغلام يعرف ميوله إلى الإمام الكاظم (ع)، فسعى من فوره إلى الرّشيد وقال له: إنّ علي بن يقطين يقول بإمامة موسى الكاظم، وإنّه يحمل إليه زكاة وخمس أمواله، وقد حمل إليه الدّارعة التي أكرمتها بها.
اشتعل الرشيد غضباً حين سمع بذلك وقال: لأكشفنّ هذا الأمر، فإن صحّ عليه أزهقت روحه. ثمّ أرسل يستدعيه في الحال، ولما مثل بين يديه قال له: ماذا فعلت بالدّارعة التي كسوتك بها؟ فقال: هي عندي يا أميرالمؤمنين، في سفط مختومٍ فيه طيب، فقال له الرّشيد: أحضرها الساعة.
استدعى ابن يقطينٍ أحد الخدم وأمره بإحضار السفط بعد أن عين له مكانه، فلم يلبث الغلام أن عاد مسرعاً، ومعه السفط مختوماً، فوضعه بين يدي الرشيد، الذي فتحه ووجد الدّارعة فيه على حالها، فسكن غضبه وقال: ردّها إلى مكانها وانصرف راشداً، ولم أصدّق عليك بعد اليوم ساعياً (أي واشياً). ثم أمر بضرب الساعي ألف سوطٍ، فمات تحت السياط.
وعرف علي بن يقطينٍ بعد هذه الحادثة لماذا ردّ له الإمام الدّارعة.
هذه الحادثة، وحوادث أخرى مشابهة كشفت لعين الرّشيد مدى ما يتمتّع به الإمام من قدرة ونفوذ، إضافةً إلى ما ينقله إليه الوشاة والمغرضون من أخباره، وقد استدعى الرشيد مرةً علي بن إسماعيل، ابن أخي الإمام الكاظم بناءً على نصيحة يحيى بن خالد البرمكيّ، عدوّ الإمام، والذي يعرف حسد ابن أخيه له، وبعد أن غمره الرشيد بالمال والهدايا سأله عن أحوال عمّه، فقال علي: خلّفت عمّي في المدينة وهو في أحسن حالٍ، ولديه المال والرجال، حتى كأنّ هناك خليفتين: أحدهما في العراق والآخر في الحجاز
فهم الرّشيد مغزى أقوال علي بن إسماعيل فصمّم على التخلّص من الإمام، ثمّ أمر بالقبض عليه خفيةً وإيداعه سجن البصرة، غير أنّ والي البصرة ويدعى عيسى بن جعفر، عامل الإمام معاملة حسنةً، لما رآه من صلاحه وتعبّده وتقواه، ولمّا علم الرشيد بذلك أمر بنقله إلى بغداد، حيث أودعه في سجن الفضل بن الربيع البرمكي.
قضى الإمام في سجنه الجديد مدّةً طويلةً، غير أنّ الفضل بن الربيع لمس هو الآخر ما يتمتّع به الإمام من عظمةٍ، فصار يعامله باحترامٍ شديدٍ، وأمر بنقله إلى منزلٍ جيّدٍ، كما أمر بتخصيصه بأجود أنواع الطعام، واستطاع الإمام أن يتّصل بلفيف من أنصاره ويجتمع بهم في هذا المكان، كما استطاع أن يغادر المنزل أحياناً، ويقوم بجولاتٍ في المدينة يعود بعدها إلى مكان إقامته.
خاف الرشيد من اتّساع شهرة الإمام ومن التفاف الناس حوله، فأمر بنقله إلى سجن السنديّ بن شاهك، بعد أن أوصاه بالقسوة عليه.
طرح الإمام عليه السلام في هذا السجن، بعد أن قيّدوا يديه ورجليه بالسّلاسل. وبعد مدّةٍ طويلةٍ قضاها في سجنه أرسل الرشيد وزيره يحيى البرمكي، ينقل إليه أنّ الرشيد قد أقسم على إطلاق سراحه شريطة أن يقدّم له اعتذاره، وكان الرشيد يرمي إلى إذلال الإمام، وإظهار ضعفه أمام الناس، كما يثبت من جانبٍ آخر أنّه هو خليفة المسلمين.
عرف الإمام كلّ هذا، وكان ردّه على يحيى البرمكي: سيقع الفراق بيني وبين هارون عاجلاً، وسيحقق هارون ما يريد.
ولم يطل الأمر بعد أن كان الإمام قد أمضى في سجون الرشيد ما يقارب عشرين عاماً - حتّى أصدر الرّشيد أوامره الى السنديّ بن شاهك، بأن يدسّ في طعام الإمام حبّات من التّمر مسمومةً. وهكذا كان، وقضى الإمام عليه السلام شهيداً بالسّم، وأصدر فقهاء القصر وأطبّاؤه شهادتهم بأنّ الإمام توفي بعد إصابته بمرضٍ طبيعيٍّ، وليس لموته أي سبب آخر.
لكنّ الناس كان لهم رأي آخر، فهم يعرفون حقّ المعرفة سبب سجنه واستشهاده، ويعرفون حقّ المعرفة من هو المسؤول. ولا يزال مقامه عليه السلام في الكاظمية حتى اليوم شاهداً على جريمة هارون وأمثالها. لكنّ الجريمة مهما عظمت لن تحجب أنوار الإسلام ولن تطفئ شعلته {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متمّ نوره ولوكره الكافرون}.
صدق الله العلي العظيم.
نسالكم الدعاء
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم
السلام على الامام المعذب في السجون موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
ورحم الله العبد الصالح علي بن يقطين
وشكرا اخي العزيز على الموضوع00تحياتي
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم
السلام على الامام المعذب في السجون موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
ورحم الله العبد الصالح علي بن يقطين
وشكرا اخي العزيز على الموضوع00تحياتي