حوار مع آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر (ره)
قد اعتمدنا فيهذا الحوار المفترض علی مقاطع من نصوصه وكتاباته دونما تصرف،
وقداستقيناها من كتاب (ومضات) الصادر مؤخّراً عن مركز الأبحاث والدراسات التخصصيّة للشهيد الصدر (ره) ..
إطلالة تاريخية
تعتبرالحوزة العلميّة مؤسّسة عريقة لها امتدادها في مجتمع المسلمين..
من وجهة نظركم سماحة السيّد، ما هي المكانة التي تمثّلها الحوزة العلميّة، وما هي المسؤوليّات الملقاة علی عاتقها تجاه الأمّة؟
الشهيد الصدر (ره): الحوزة هي واجهة الإسلام في نظر الأمّة وهي المعبّر الشرعي عن هذا الإسلاموأحكامه ومفاهيمه وحلوله لمشاكل الحياة، وهذه النظرة من الأمّة إلی الحوزة ليست أمراً تلقائيّاً أو مدسوساً أو مصطنعاً، وإنّما هي جزء من التخطيط الواعي الذي وضعه سيّدنا صاحب العصر (عج) حينما أنهی عهد النيابة الخاصّة واستبدل ذلك بالنيابة العامّة وكان معنی الاستبدال بالنيابة العامّة جعل الطليعة الواعية المتفاعلة مع الإسلام فكريّاً وروحيّاً وعاطفيّاً جعل هذه الطليعة الواعية العاملة العادلة هي المسؤولة عن حماية الرسالة، وهي المؤتمنة علی هذه الأمانة الغالية التي اضطرّ سيّدنا القائم (ع) أن يغادرهاإلی غيبة قد تطول.
تنشئة الطلبة
بناءعلی الرؤية التي قدّمتموها، نريد أن نثير معكم موضوعاً يتعلّق بالأسلوب المتّبع في تنشئة الطلّاب في الحوزة،
هل ترون أنّ تحصين الطالب علی المستوی الفردي كافٍ لأن يضمن للحوزة قيامها بوظيفتها الرساليّة التي تحدّثتم عنها؟
الشهيد الصدر (ره): تارةً ينظر إلی الحوزة باعتبارها الذاتي، باعتبارها مجموعة من الأشخاصوالأفراد، واُخری يُنظر إلی الحوزة باعتبارها الوظيفي، باعتبار دورها ووظيفتها التي تمارسها في الأمّة الإسلاميّة.
إنّأيّة عمليّة إصلاح جادّة يجب أن لا تقصر نظرها علی الجانب الذاتي، يغني: أن تنظر إلی الحوزة كأفراد، بل يجب أن تنظر إلی الحوزة كأفراد، وفي نفس الوقت تنظر إلی الحوزة باعتبار جانبها الوظيفي، باعتبار وظيفتها الدينيّة ومسؤوليّاتها أمام الله تعالی. وتخيّل أنّ إصلاح الجانب الوظيفي؛ يعني: دعوی لزوم التضامن ومعلوليّة وعليّة بين هذين الجانبين، وأنّه إذا صلح ذاتاً صلح وظيفةً، هذه الدعوی غير صحيحة في الواقع.
لكن ألا ترون أنّ الإصلاح الذاتي شرطُ لما أسميتموه الإصلاح الوظيفي؟
الشهيد الصدر (ره): نعم، لا شكّ في أنّ الإصلاح الذاتي هو أحد شروط الإصلاح الوظيفي؛ لأنّالإنسان إذا لم يكن في نفسه طيّب النفس منفتحاً علی الخير وعلی الطاعة،حينئذ من العسير أن يكون أداة طاعة بالنسبة إلی الأخير. هذا صحيح، ولكنّهذا لا يكفي لإصلاح الوجود الوظيفي؛ فإنّّ الوجود الوظيفي بحاجة إلی نوع من الثقافة والتوعية الفكريّة أوّلاً. إذاً فلا بدّ إلی جانب بناء الإنسان الصالح ذاتيّاً، أن يبنی فيه الصلاح وظيفياً أيضاً؛ بأن يوعّی ويثقّف علی دوره الوظيفي وعلاقاته مع الأمّة الإسلاميّة.
إذن نفهم من كلامكم أنّ إصلاح الجانب الذاتي لا يكفي لإصلاح الجانب الوظيفي..
إنّ الصلاح الذاتي لا يكفي لخلق عصمة ومناعة لعدم الإنحراف في خطّ العمل الوظيفي.. ما أكثر الناس الأبرار الأخيار المتهجّدين في الأسحار، الذين علی خطّ وجودهم الوظيفي لا ينعكس تهجّدهم في الأسحار، ولا تنعكس هذه الدرجةالموجودة في وجودهم الذاتي من الخير، وذلك باعتبار أنّ هذا الوجود الوظيفي بنفسه بحاجة إلی نوع من التمرين والتكميل، التوعية والتكميل بالنسبة إلی هذا الوجود الوظيفي لا ينشآن آليّاً وتلقائيّاً من التكميل والتوعية والتثقيف بالنسبة إلی الوجود الذاتي، قد يكون الإنسان عادلا بالنسبة إلیسلوكه الذاتي الشخصي، ولكنّه لا يكون عادلا بالنسبة إلی سلوكه الوظيفي بتلك الدرجة، ولذلك يحتاج لدرجة من التوعية وتنمية هذا الجانب الوظيفي، ولذلكلو لم يوعّ ويثقّف ويمرّن هذا الوجود الوظيفي فسوف يحصل [اختلال] في مستوی التديّن.
ولكنّ الحاصل في واقع الحوزة هو خلاف ذلك؟!
الشهيد الصدر (ره): إنّ مقصودي من هذا البيان مناقشة الأمر الواقع. وهو أنّ هنا اتّجاها قائلاً بأنّ تربية الأفراد بالوجود الذاتي يكفي، ولذلك يكفي، ولذلك النظرعن الوجود الوظيفي. أقول: هذا لا يكفي وإن كان أمراً مهمّاً؛ لأنّ هذاالكمال لا يؤدّي إلی إصلاح اُمور المسلمين.
وكأنّكم تعتقدون بوجود خلل في الجانب الوظيفي لدی الحوزة اليوم؟
الشهيد الصدر (ره): لماذا تعيش الحوزة في هذا البلد مئات السنين، ثمّ بعد هذا يظهر إفلاسها فينفس هذا البلد الذي تعيش فيه؟!
وإذا بأبناء هذا البلد أو ببعض أبناء هذاالبلد يظهرون بمظهر الأعداء والحاقدين والحاسدين والمتربّصين بهذه الحوزة!
ألا تفكّرون في أنّ هذه هي جريمتنا قبل أن تكون جريمتهم؟ في أنّ هذه هي مسؤوليّتهم؟
هل تصدّقون أنّه في النجف الأشرف نفسه، في مركز الحوزة العلميّة في النجف الذي من المفروض فيه أن يموّن بإشعاعه الفكري والعلمي والروحي والديني، أن يموّن كلّ العالم، أو علی الأقلّ كلّ العالم الإسلامي، أو علی الأقلّ كلّ العالمالشيعي، هذا النجف يوجد فيه آلاف من الناس لا يعرفون أحكام رسالتهم، غيرمنفتحين علی رسالة مكّة، ولا علی مبادئ مكّة، منجرفون مع تيّارات أخری، أوجاهلون، أو مقصّرون، من الذي يُسأل عن هؤلاء أمام الله، نحن نُسأل أمامالله عن منحرف في آخر نقاط العالم الإسلامي، في وجود إمكانيّات، فكيف لانُسأل عن منحرف انحرف في أو طاننا، في أهلنا، في بلدنا. كيف ندّعي أنّنا من الدعاة إلی الله ويوجد في بلدنا من لا يعرف من الإسلام شيئاً ونحن لا نفكّر فيه.
الأسباب
ما هو سبب هذا الخلل بنظركم، وما الذي دفع بالأمّة إلی الابتعاد عن الحوزة وعدم ارتباطها بها بالشكل المناسب؟
الشهيد الصدر (ره): لأنّنا لم تتعامل معهم، نحن تعاملنا مع أجدادهم ولم تتعامل معهم. الأجيالالتي تحقد علينا اليوم، التي تتربّص بنا اليوم، تشعر بأنّنا تتعامل معالموتی لا تتعامل مع الأحياء، ولهذا يحقدون علينا ولهذا يتربّصون بنا؛لأنّنا لم نقدّم لهم شيئاً، لأنّنا لم تفاعل معهم.
وهل هناك آليّة معيّنة لتحقيق هذه التفاعل؟
الشهيد الصدر (ره): أنّا منذ أكثر من سنة أتحدّث مع الإخوان، ومع الأعزّاء في أنّ كلّ واحد منأهل العلم_ كلّ واحد يكون عنده قدرة_ لو كان يكوّن له مجلساً، مجلساً تبليغيّاً في النجف الأشرف يضمّ خمسة فقط لا أكثر من خمسة، يضمّ هذاالبقّال الذي يشتري منه السكّر، هذا الجيران الذي يسلّم عليه عندما يخرج من بيته، يضمّ خمسة..
لو كان كلّ واحد من أهل العلم عنده مجلس تبليغي في يوم الجمعة بدلا عن أن يذهب إلی (الكوفة) ويسبح من الصبح إلی العصر، بدلا عن أن يبذّر الوقت بالمطاردة في الشعر، بدلا عن أن يبذّر الوقت في ألف لهو، ولهو.. بدلا عن كلّ ذلك لو أنّهيستثمر جزءاً من هذا الوقت الذي يهدره لا في غرض معقول، لو يستثمر جزءاًمن هذا الوقت في تكوين مجلس تبليغي لخمسة من أبناء النجف.. لو أنّ ألف طالب كلّ واحد منهم يكوّن مجلساً تبليغيّاً لخمسة، لكان لدينا قاعدة شعبيّة مكوّنة من خمسة آلاف، لأحسّ الناس من أبناء البلد بأنّنا تتعامل معهم،أنّنا نفكّر فيهم، أنّنا نعطيهم، أنّ وجودنا مرتبط بوجودهم، أنّ حياتنا مصدر خير لهم، مصدر عطاء لهم، لكنّنا، لكنّنا لم تتعامل معهم، ومن الطبيعي أن لا يتعاملوا معنا إذا كنّا لا تتعامل معهم.
إنّالأفكار التي طرحتموها في غاية الحساسيّة، هل يمكن أن نستوضح منكم عن أساليب العمل التي اتبعتها الحوزة والتي آلت بها إلی هذا المطاف؟
الشهيد الصدر (ره): هنا أنا لا أُريد أن أُناقش أساليب العمل التي أدّت إلی هذه المحنة، ولا أُريد أن أتحدّث عن الأساليب التي من طبيعتها أن تغيّر من الموقف، بل أُريدأن أتحدّث قبل ذلك عن الأرضيّة النفسية لهذه الأساليب، فإنّ منطلق المصيبة والمحنة هو تلك الأرضيّة النفسيّة التي عشناها طيلة الزمن الذي تقدّم وسبقهذه المحن. هذه الأرضيّة النفسيّة لم تكن أرضيّة نفسيّة صالحة لكي تنشأ ضمنها أساليب العمل الصالحة. ولكي تؤتي هذه الأساليب ثمارها.
الأرضية النفسية
لكن علی كل حال، ما الذي خلق هذه الأرضيّة؟
الشهيد الصدر (ره): هذه الأرضيّة النفسيّة التي عشناها والتي كانت ولا تزال تساهم في خلق المشاكل في طريقنا وفي تكوين المحن في وجوهنا، هذه الأرضيّة النفسيّة أستطيع أن أرجعها بالتحليل إلی عاملين نفسيّين، وهما - بالرغم من كونهماعاملين - مرتبطان كلّ الإرتباط فيما بينهما:
أحد العاملين: هو عدم الشعور التفصيلي بالارتباط بالله تعالی.
والعامل الآخر: هو أنّ الأخلاقيّة التي كنّا نعيشها ليست أخلاقيّة الإنسان العامل، بل هي أخلاقيّة إنسان آخر لا يصلح للعمل الحقيقي.
وإذاكنّا نريد أن نستفيد من هذه المحنة، وإذا كنّا جادّين في الحساب، فلا بدّأن نرجع إلی هذين العاملين الأساسيّين لكي نستطيع أن نتيح لأنفسنا فرصة التكفير عمّا سبق بالنسبة إلی كلّ من هذين العاملين عامل (عدم الشعوربالاتّصال بالله بالدرجة الكافية) وعامل (أخلاقية الإنسان اللاعامل).
ألاتعتقدون أنّ الوقوف عند الماضي وعند ما صنعناه وقدّمناه من شأنه أن يعزّز نفسيّة الإحباط، وأنّ من الأفضل قطع النظر عنه وصرفه إلی الحاضر؟
لا للإحباط
الشهيد الصدر (ره): نحن الآن في حالة لا بدّ أن لا يشغلنا الألم الشديد الذي يقطع نياط قلوبنا، الذي يقضي علی جلّ آمالنا، الذي يفتّت وجودنا، هذا الألم يجب أن لايشغلنا عن التفكير في أنّنا ماذا صنعنا، وكيف نمنا، وكيف لم نلتفت إلّابعد أن فاتنا الوقت.
ماذا كنّا نقول، ماذا كنّا نزرع في الطريق دائماً من صعوبات، من عقبات، كيف كنّالا نعمل، وكيف كنّا نزرع الصعاب والعقبات في وجه من يعمل.
كوننا لا نعمل، وكوننا نزرع العقبات والصعاب في وجه من يعمل، هذا هو الذي تحوّل إلی فتنة، هو الذي يتحوّل دائماً إلی محنة وإلی مصيبة.
اليوم أمام كلّ واحد منّا صار واضحاً أنّ أيّ انحراف عن خطّ الإسلام في سلوكنا،في وضعنا، في أخلاقنا، في عواطفنا.. هذا الانحراف، هذا التكاسل، هذه النزعة التحطيميّة التحريميّة لأيّ نوع من العمل الصالح في الحوزة، هذا الذي يؤدّي بنا إلی ما أدّي، وسوف يؤدّي إلی الدمار حتماً إذا لم يتغيّر الوضع الداخلي في الحوزة.
لا يكفي أن يتغيّر الوضع الخارجي، بل يحتاج الوضع الداخلي إلی التغيير، تحتاج ضمائرنا إلی تطهير، تحتاج نفوسنا إلی تطهير، نحتاج أن نشعر بمسؤوليّتنا اليوم.
تنظيم أمور الحوزة
إذا انتقلنا إلی موضوع آخر ركّزتم عليه كثيراً في كلماتكم وأحاديثكم، وهو يتعلّق بتنظيم الحوزة وإصلاح شؤونها الداخليّة، حتی أصبحتم رمزاً من رموزالإصلاح فيها ورقماً بارزاً، إلی أيّ درجة تعتقدون بضرورة هذا الموضوع؟
الشهيد الصدر (ره): أنا أری من فضول القول أن أتحدّث عن صحّة التنظيم وضرورته بالنسبة إلی الحوزة، لعلاقته بمستقبلها، فإنّ هذا أعتبره أمراً ضروريّاً لا ينبغي تركه،كما أنّي أعتبر أنّ المستوی الفكري الذي أعيشه معكم قد تعدّي مرحلة النزاع حول صحّة ذلك.
إذن أنتم توافقون دعاة التنظيم والإصلاح في الحوزة؟!
الشهيد الصدر (ره): [هنا أودّ أن] اُنبّه علی نقطة مهمّة، وهي أنّ دعاة التنظيم في الحوزة وأنصار هذه الفكرة لا ينبغي لهم الغلوّ في التحمّس لهذه الفكرة حتّی تصبح هذه الفكرة عندهم غاية ووسيلة تخرج الفكرة التنظيميّة عن حدودها الصالحة،وتعتبرها الحدّ النهائي، وهذا هو موضع الخطر.
ما هي بنظركم نقطة البداية التي علی الإصلاحيّين أن ينطلقوا منها في مسيرتهم؟
الشهيد الصدر (ره): لا بدّ لعلميّة الإصلاح أن تواجه الاُمّة، وأن تدرك ما هي الاُمّة، وما هووضع الاُمّة، وما هي أهدافها، وما هي التطوّرات المحتملة في الاُمّة، حتّی يمكن أن نضع علی ذلك الأساس إصلاحها وسياستها، نضع مفهومنا عن الدورالوظيفي. وهذا ما يجعل تشابكاً وثيقاً بين تصوّرات الإصلاح في حقل الاُمّة. وأيّة عمليّة إصلاح تريد أن تفصل ما بين هاتين الوظيفتين هذه العلميّة لايمكن أن تصل إلی نتيجة.
لابدّ لكلّ عمليّة إصلاح أن تتبنّی مفاهيم عامّة وتصوّرات عامّة _تتحدّد بالتدريج_ عن وضع الحوزة في الأمّة، وماذا يُراد من الحوزة للأمّة، وما هوالدور الذي يجب أن تؤدّيه للأمّة. يجب أن نبدأ من مفهوم يشخّص رسالة الحوزةفي الأمّة، ثمّ علی ضوء هذا المفهوم نضع مناهجها الدراسيّة. علی أساس هذاالمفهوم نبني هذه الحوزة، لا أنّه نبني الحوزة وبعد هذا نفكّر في جانبها الوظيفي.
هذا من ناحية البحث المفاهيمي، لكن ما هي آليّات تحقيق ذلك من الناحية العلميّة؟
الشهيد الصدر (ره): أنّ تنظيم روابط الحوزة ينبغي أن يكون بالشكل الذي يمكّنها من استيعاب معلومات أكثر في وقت أقصر، لكي تحصّل ألواناً من المعرفة الداخليّة في رسالتها التبليغيّة. إنّ هذا التنظيم هو في الواقع أداة من الأدوات التيتمكّن الحوزة من الوصول إلی أهدافها [بشكل] أحسن، وتجعلها في درجة أحسن [بالنسبة إلی التحقيق] أهدافها.