هو مالك بن الحارث بن عبد يَغوث بن سَلِمة بن ربيعة .. بن يَعرُب بن قحطان .
ولُقِّب بـ ( الأشتر ) لأن إحدى عينيه شُتِرَت – أي شُقّت – في معركة اليرموك .
ولادته :
لم تذكر لنا المصادر التاريخية تاريخاً محدِّداً لولادته ، ولكن توجد قرائن تاريخية نستطيع من خلالها معرفة ولادته على وجهٍ تقريبيٍّ تخمينيٍّ .
فقد قُدِّرت ولادته بين سنة ( 25-30 ) قبل الهجرة النبوية الشريفة .
مواقفه :
عاصر مالك الأشتر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولكنه لم يره ولم يسمع حديثه ، وذكر عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال فيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إنه المؤمن حقاً ، وهذه شهادة تعدل شهادة الدنيا بأسرها .
كما عُدَّ مالك من بين المجاهدين الذين أبلَوا بلاءً حسناً في حروب الردَّة .
كما أنه ذُكر في جملة المحاربين الشُّجعان الذين خاضوا معركة اليرموك ، وهي المعركة التي دارت بين المسلمين والروم سنة ( 13 هـ ) .
وثمَّة إشارات تدل على أن مالكاً كان قبل اليرموك يشارك في فتوح الشام ، ويدافع عن مبادئ الإسلام وقيمه السامية ، ويدفع عن كيان الإسلام وثغور المسلمين شرور الكفار .
وحين دَبَّ الخلاف والاختلاف بين المسلمين في زمن عثمان ، بسبب مخالفة البعض لتعاليم القرآن الكريم وسنة النبي الأمين ( صلى الله عليه وآله ) لم يَسَع الأشترَ السكوتُ .
فجاهد في سبيل الله بلسانه عندما رأى عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل قد كُسر ضلعه ، وأُخرج بالضرب من المسجد النبوي .
ونال عمّارُ بن ياسر من العنف والضرب ما ناله ، وهو الصحابي الشهم المخلص المضحي .
ولقي أبو ذرّ ما لقي من النفي والتشريد ، وقطع عطائه والتوهين بكرامته ، وهو الذي مُدح مدحاً جليلاً على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
ولاؤه لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
وفي خلافة الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وحكومته ، كانت مواقف الأشتر واضحةً جَليَّة المعالم .
فهذا العملاق الشجاع أصبح جُندياً مخلصاً لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فلم يفارق الإمام ( عليه السلام ) قطٌّ ، كما كان من قَبلِ تَسَلُّمِ الإمامِ لخلافَتِهِ الظاهرية .
فلم يَرِد ولم يصدُر إلا عن أمر الإمام علي ( عليه السلام ) حتى جاء المدح الجليل على لسان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فكان أن كتب ( عليه السلام ) في عهده له إلى أهل مصر ، حين جعله والياً على هذا الإقليم :
أما بعد ، فقد بَعثتُ إليكم عبداً من عباد الله ، لا ينام أيّامَ الخوف ، ولا يَنكُل عن الأعداء ساعاتِ الرَّوع ، أشدُّ على الفُجار من حريق النار ، وهو مالك بن الحارث أخو مَذْحِج .
ولهذا القول الشريف مصاديق مشرقة ، فقد كان لمالك الأشتر هذه المواقف والأدوار الفريدة : أولاً : قيل : أنه أول مَن بايَعَ الإمامَ علياً ( عليه السلام ) على خلافته الحقة ، وطالب المُحجِمين عن البيعة بأن يقدموا ضمانة على أن لا يُحدِثوا فِتَناً ، لكن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أمره بتركهم ورأيَهُم .
ثانياً : زَوَّد أميرَ المؤمنين ( عليه السلام ) بالمقاتلين والإمدادات من المحاربين في معركة الجمل الحاسمة ، مستثمراً زعامته على قبيلة مِذحج خاصة ، والنَّخَع عامة ، فحشَّد منهم قواتٍ مهمة .
فيما وقف على ميمنة الإمام ( عليه السلام ) في تلك المعركة يفديه ويُجندِل الصَّناديد ، ويكثر القتل في أصحاب الفتنة ، والخارجين على طاعة إمام زمانهم .
ثالثاً : وفي مقدمات معركة صفين عمل مالك الأشتر على إنشاء جسر على نهر الفرات ليعبر عليه جيش الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فيقاتل جيش الشِّقاق والانشقاق بقيادة معاوية بن أبي سفيان .
وكان له بَلاء حَسَن يوم السابع من صفر عام ( 37 هـ ) حين أوقع الهزيمة في جيش معاوية .
ولمّا رفع أهل الشام المصاحف ، يخدعون بذلك أهل العراق ، ويستدركون انكسارهم وهلاكهم المحتوم ، انخدع الكثير ، بَيْد أن مالكاً لم ينخدع ولم يتراجع حتى اضطَرَّهُ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الرجوع .
كما اضطُرَّ إلى قبول صحيفة التحكيم – وكان لها رافضاً – خضوعاً إلى رضى إمامه ( عليه السلام ) .
شعره وأدبه :
لما كان مالك الأشتر صاحب تلك المواقف الشامخة حاول بعضهم أن يهملوا شعره ويطمسوه ، لكنهم لم يفلحوا في إطفاء الشمس .
ومن خصائص شعر مالك أن الغالب عليه غرضُ الحماسة والبطولة ، وهو انعكاس للصراع الخطير والمرحلة التاريخية الحساسة التي كان يمر بها الإسلام .
وقد جادت به قريحته النابضة الحَيَّة فيه ، ولعل الشعر البُطُولِيِّ هو الغالب العام في قصائده ، بما يمتاز به من سلاسة وروعة . نذكر هذين البيتين كنموذج قالهما لعمرو بن العاص في صفين : يا ليت شعري كيف لي بعمرو
ذاك الذي أجبت فيه نذري
ذاك الذي أطلبه بوتري
ذلك الذي فيه شفاء صدري
وإلى موهبته الشاعرية الهادفة كان الأشتر ذا قوة خطابيّة فائقة ، مشفوعة بحُجَّةٍ واضحة ، وقدرة نادرة على تقديم البراهين المقنعة والأجوبة المُفحِمة .
وكان من خطبه في أحد أيام صفين قوله : ( الحمد لله الذي جعلَ فينا ابنَ عمِّ نبيِّه ، أقدَمُهُم هجرة ، وأوّلُهم إسلاما ، سيفٌ من سيوف الله صَبَّه على أعدائه ، فانظروا إذا حمِيَ الوَطيسُ ، وثار القَتام ، وتكسَّر المُرَّان ، وجالَت الخيلُ بالأبطال ، فلا أسمع إلا غَمغمةً أو همهمة ، فاتَّبِعوني وكوني في أثري ) .
شهادته :
وبعد حياة حافلة بالعز والجهاد ، وتاريخ مشرق في نصرة الإسلام والنبوة والإمامة ، يكتب الله تعالى لهذا المؤمن الكبير خاتمةً مشرِّفة ، هي الشهادة على يد أرذل الخَلْق .
فكان لأعداء الله طمع في مصر ، لقربها من الشام ولكثرة خراجها ، ولتمايل أهلها إلى أهل البيت ( عليهم السلام ) وكراهتهم لأعدائهم .
فبادر معاوية بإرسال الجيوش إليها ، وعلى رأسها عمرو بن العاص ، ومعاوية بن حديج ليحتلَّها .
فكان من الخليفة الشرعي الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أن أرسل مالكَ الأشتر ( رضوان الله عليه ) والياً له على مصر .
فاحتال معاوية في قتله ( رضوان الله عليه ) داسّاً إليه سُمّاً بواسطة الجايستار – وهو رجل من أهل الخراج – .
وقيل : كان دهقان القُلْزُم ، وكان معاوية قد وعد هذا ألا يأخذ منه الخراج طيلة حياته إن نفذ مهمته الخبيثة تلك .
فسقاه السم وهو في الطريق إلى مصر ، فقضى مالك الأشتر ( رضوان الله عليه ) شهيداً عام ( 38 هـ ) .
النسب، واللقب، والحسب
هو مالك بن الحارث بن عبد يَغوث بن سَلِمة بن ربيعة... بن يَعرُب بن قحطان.
لُقّب بـ « الأشتر » لأن إحدى عينيه شُتِرَت ـ أي شُقّت ـ في معركة اليرموك، حين كان يشارك في حروب المسلمين ضدّ الروم والفرس.
• قال ابن حَجَر: ذكره ابن حِبّان في (الثِّقات) قائلاً: شَهِد اليرموك فذهبت عينه يومئذ، وكان رئيس قومه.
• وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: ولَعمري لقد كان الأشتر.. شديد البأس، جواداً رئيساً حليماً، فصيحاً شاعراً، وكان يجمع بين اللين والعنف؛ فيسطو في موضع السطوة، ويرفق في موضع الرفق.
• أمّا الزِركْليّ فقد قال: شهد (مالك) اليرموك، وذهبت عينه فيها. على هذا اتّفقت المصادر جميعها.
المولد السعيد
لا تذكر المصادر التاريخية تاريخاً محدّداً لولادة مالك الأشتر رحمه الله، ولكن توجد قرائن تاريخيّة نستطيع من خلالها معرفة ولادته على وجهٍ تقريبيّ تخمينيّ.. إذ تُقدّر بين سنة 25 ـ 30 قبل الهجرة النبويّة الشريفة، بعد أن ذكره ابن حجر في (الإصابة) في عداد المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ووصفه معاوية مع جماعة بأنّهم ذوو أسنان وألسنة، أي متقدّمون في السنّ والخطابة ـ كما في (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد.
**
وقائع مهمّة في حياة الأشتر
ذُكر مالك الأشتر في جملة المحاربين الشُّجعان الذين خاضوا معركة اليرموك، وهي المعركة التي دارت بين المسلمين والروم. وثمّة اشارات تدلّ على أنّ مالكاً رضوان الله عليه كان قبل اليرموك يشارك في فتوح الشام ويدافع عن مبادئ الإسلام وقيمه السامية، ويدفع عن كيان الإسلام وثغور المسلمين شرور الكفّار.
وحينما كان المسلمون في الشام يقاتلون الروم، كان إخوانهم يقاتلون الفرس في جهة العراق، لذا احتاجوا إلى المَدد لمجابهة كسرى، فكان المدد الذي توجّه إلى الشام ألفَ فارس.. فيهم هاشم بن عُتبة بن أبي وقّاص، وقيس بن هُبيرة المُراديّ، ومالك الأشتر، فالتحقوا بجيش اليرموك الذي خفّ عبؤه بعد فتح دمشق، فتوجه إلى العراق ليحسم معركة القادسيّة هناك.
قال ابن الأثير: سَيَّر أبو عبيدة بن الجرّاح جيشاً مع مَيسَرة بن مَسروق العَبْسيّ، فسلكوا درب (بغراس) من أعمال أنطاكية إلى بلاد الروم... فلقي جمعاً للروم معهم عربٌ من قبائل غسّان وتَنُوخ وإياد يريدون اللَّحاق بهرقل، فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثمّ لحق به مالك الأشتر النَّخَعيّ؛ مدداً من قِبل أبي عبيدة وهو بأنطاكية.
فيما نقل ابن أعثَم في (الفتوح) أنّ الأشتر تزعّم جيشاً قوامُه ألف فارس ليفتح (آمُد) و (مِيافارقين)، فلمّا رأى مالك حصانةَ حصنِ آمُد أمر جيشَه بالتكبير وتعالت أصواتهم بالتكبير، فظنّ العدوّ أنّهم عشرة آلاف، فأرسلوا إلى الأشتر في طلب الصلح، وكذلك فعل أهل ميافارقين حيث صالحوه وانتهى الأمر بنصر المسلمين.
وحين دبّ الخلاف والاختلاف بين المسلمين، بسبب مخالفة البعض لتعاليم القرآن الكريم وسنة النبيّ الأمين.. لم يَسَع الأشترَ السكوتُ وقد كُسِر ضلع عبدالله بن مسعود الصحابيّ الجليل، وأُخرج بالضرب من المسجد النبويّ، ونال عمّارُ بن ياسر من العنف والضرب ما ناله وهو الصحابيّ الشهم المخلص المضحّي، ولقي أبو ذرّ ما لقي من النفي والتشريد وقطع عطائه والتوهين بكرامته وهو الذي مُدح مدحاً جليلاً على لسان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فسار مالك الأشتر ـ وهو المسلم الغيور ـ في مائتي رجل، وفيهم كثير من الصحابة الأتقياء والتابعين بإحسان، فعرضوا مطاليبهم ومعارضتهم لهذه الانتهاكات الواضحة، إلاّ أنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السّلام أرجعهم؛ توقّياً من الفتنة، وحفظاً لدماء المسلمين من أن تُراق، بل حفاظاً على الإسلام من ارتداد الناس عنه. فلمّا رجع المعترضون أمسكوا في الطريق بغلام معه كتاب من عثمان يأمر فيه عامله بالتنكيل ببعض المعترضين وحبس بعضهم وقتل البعض الآخر، فغضبوا ورجعوا إلى المدينة وحاصروا دار الحكومة، ومِن هناك سَرَت نيران الثورة، فكان ما كان.
مواقفه الشامخة في حكومة إمامه
وفي خلافة الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه وحكومته، كانت مواقف الأشتر واضحةً جَليّة المعالم، فهذا العملاق الشجاع.. أصبح جُنديّاً مخلصاً لأمير المؤمنين لم يفارقه قطّ، كما كان من قبل تسلّم الإمام لخلافته الظاهريّة، فلم يَرِد ولم يصدُر إلاّ عن أمر الإمام عليّ سلام الله عليه.. حتّى جاء مدحه جليلاً على لسان أمير المؤمنين عليه السّلام، فكان أن كتب في عهده له إلى أهل مصر حين جعله والياً على هذا الإقليم:
أمّا بعد: فقد بَعثتُ إليكم عبداً من عباد الله، لا ينام أيّامَ الخوف، ولا يَنكُل عن الأعداء ساعاتِ الرَّوع، أشدُّ على الفُجّار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مَذْحِج، فاسمَعوا له وأطيعوا أمرَه فيما طابَق الحقّ، فإنّه سيفٌ من سيُوف الله، لا كليلُ الظُّبّة، ولا نابي الضَّريبة. فإن أمَرَكم أن تَنفِروا فانفِروا، وإن أمَرَكم أن تُقيموا فأقيموا؛ فإنّه لا يُقدِم ولا يُحجِم ولا يُؤخِّر ولا يُقدِّم إلاّ عن أمري.
وكتب عليه السّلام له يوماً: وأنت مِن آمَنِ أصحابي، وأوثقِهم في نفسي، وأنصحِهم وأرآهُم عندي.
ولهذا القول الشريف مصاديق مشرقة، إذ كان للأشتر رضوان الله تعالى عليه هذه المواقف والأدوار الفريدة:
1 ـ قيل: إنّه أوّل مَن بايَعَ الإمامَ عليّاً عليه السّلام على خلافته الحقّة، وطالب المُحجِمين عن البيعة بأن يقدّموا ضمانة على أن لا يُحدِثوا فِتَناً، لكنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أمره بتركهم ورأيَهُم.
2 ـ زَوَّد أميرَ المؤمنين عليّاً عليه السّلام بالمقاتلين والإمدادات من المحاربين في معركة الجمل الحاسمة، مستثمراً رئاسته زعامته على قبيلة مِذحج خاصّة والنَّخَع عامة، فحشّد منهم قوّاتٍ مهمّة. فيما وقف على ميمنة الإمام في تلك المعركة يفدّيه ويُجندِل الصَّناديد، ويكثر القتل في أصحاب الفتنة والخارجين على طاعة إمام زمانهم.
3 ـ وفي مقدّمات معركة صفّين.. عمل مالك الأشتر على إنشاء جسر على نهر الفرات؛ ليعبر عليه جيش الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فيقاتل جيش الشِّقاق والانشقاق بقيادة معاوية بن أبي سفيان. ثمّ كان مالك رحمه الله المحوَر الفعّال في إدارة المعركة، فأزال ـ هو والأشعث ـ أبا الأعور السُّلَميّ عن مشرعة الماء بعد أن استولى عليها. وقاد في صفّين أيضاً جيشاً من الفُرسان والمشاة تعداده أربعة آلاف مقاتل، وكان له بَلاء حَسَن يوم السابع من صفر عام 37 هـ حين أوقع الهزيمة في جيش معاوية.
ولمّا رفع أهل الشام المصاحف، يخدعون بذلك أهل العراق ويستدركون انكسارهم وهلاكهم المحتوم، انخدع الكثير، بَيْد أن مالكاً لم ينخدع ولم يتراجع حتّى اضطرّه الإمام عليّ عليه السّلام إلى الرجوع، كما اضطُرّ إلى قبول صحيفة التحكيم ـ وكان لها رافضاً ـ خضوعاً إلى رضى إمامه عليه السّلام.
**
الأشتر شاعراً
لمّا كان مالك الأشتر صاحب تلك المواقف الشامخة.. حاول بعضهم أن يهملوا شعره ويطمسوه، لكنهم لم يفلحوا في إطفاء الشمس
فالزركليّ في (الأعلام) يذكر: ولمالك شعر جيّد، وقد اختار له أبو تمّام في (ديوان الحماسة) شعراً. وذكره الآمديّ في (المؤتلِف والمختلِف) في عداد الشعراء، وذكر له البحتري في حماسته شعراً، وعدّه ابن حَجَر في (الإصابة) من فحول الشعراء.. أما ابن أبي الحديد المعتزليّ فقد قال في شرح النهج: كان مالك شديد البأس، جواداً حليماً، فصيحاً شاعراً.
هذا، إلى كثير من المصادر والموسوعات الأخرى، ما يجعلنا نطمئنّ إلى ما في شعره من متانة وسموّ مايستحقّ به الإعجاب والتقدير والدراسة، فضلاً عن الجمع والتبويب، والنشر. لا سيّما وأنّه مليء بمعاني الإسلام والسُنّة النبويّة، والقيم المستوحاة من القرآن والرسالة وروح الدين، وقد انعكس ذلك على ألفاظه وعباراته التي صاغها صياغة جميلة، وأعطاها بُعداً مُبتكَراً، ممّا يدلّ على ارتباطه الوثيق بكتاب الله.
هذا، ومن خصائص شعر مالك الأشتر أنّ الغالب عليه غرضُ الحماسة والبطولة، وهو انعكاس للصراع الخطير والمرحلة التاريخية الحسّاسة التي كان يمرّ بها الإسلام، وقد جادت به قريحته النابضة الحيّة فيه، ولعلّ الشعر البطوليّ هو الغالبَ العامّ في قصائده، بما يمتاز به من سلاسة وروعة.
ثمّ إنّه نحا في شعره منحى الوفاء لإخوانه في العقيدة، الذين شاركهم وشاركوه ذكريات الجهاد، فذكَرَهم ذِكراً جميلاً، وكان يشتاق إلى اللحاق بهم.. وذلك واضح في ذِكره لعمّار بن ياسر وهاشم المِرقال وعبدالله بن بُديل الخُزاعيّ.
ومن الجوانب البارزة في شعر الأشتر، والتي تحتلّ منه مكانة مرموقة، هو الفخر الأصيل الذي لا يصطدم بالمبادئ ولا يخرج على الالتزام الخُلُقيّ الدينيّ، ففخر في المعارك بنفسه وبقومه فهو زعيمهم ورأس حَربتهم، وهو لسانهم والحامل لهمّتهم ، وكانت له شخصيّة طموحة أبيّة عالية، فأنِفَ أن يمدح أحداً أو يفضّله، إلاّ عليّاً أمير المؤمنين عليه السّلام، فكان يتلذّذ بمدحه ونشر فضائله، فيقول:
هذا عليٌّ في الدُّجى مصباحُ***نحن بذا في فضلِه فِصاحُ
ويقول أيضاً:
مَـن رأى غُرّةَ الإمام عليٍّ***إنّه في دُجى الحَنادِسِ نُورُإنّـه والـذي يَحُجّ له النّا***سُ سِراجٌ لدى الظلام منيرُمَن رضاه إمامُه دخلَ الـ***ـجَنَّة عَفْواً، وذَنبُه مغفورُ
الأشتر خطيباً
وإلى موهبته الشاعريّة الهادفة.. كان الأشتر رضوان الله عليه ذا قوّه خطابيّة فائقة مشفوعة بحجّة واضحة، وقدرة نادرة على تقديم البراهين المقنعة والأجوبة المُفحِمة.
وقد كان له الأثر البالغ والتأثير العميق على قومه ـ وهو سيّدهم ـ بلباقة خطابته التي جذبت القلوب إلى الحقّ، وعرّفت العقول طريق الصواب والفلاح.
وحول قدرته الأدبيّة وبلاغته يقول الزركليّ: إنّه من العلماء الفصحاء. ويقول الذهبيّ: كان سيّد قومه وخطيبهم. ووصفه السيّد محسن الأمين فقال: هو خطيب مِنبر، وقائد عسكر، وشاعر ناثر، وقد استطاع أن يُخمد بذلاقة لسانه من الفتن العمياء ما أعيا السيفَ إطفاؤُه.
وكان من خطبه في أحد أيّام صفّين قوله:
الحمد لله الذي جعلَ فينا ابنَ عمّ نبيّه، أقدَمُهُم هجرة، وأوّلُهم إسلاما، سيفٌ من سيوف الله صَبَّه على أعدائه، فانظروا إذا حمِيَ الوَطيسُ، وثار القَتام، وتكسّر المُرّان، وجالَت الخيلُ بالأبطال، فلا أسمع إلاّ غَمغمةً أو همهمة، فاتّبِعوني وكوني في أثري.
وهكذا جمع الأشتر بين مختلف الكمالات، من: شجاعة مشهودة إلى سياسة نبيلة، ومن شعر مع خطابة، ومن حزم مع عقل وتدبير ولين، ودين وكرم، ورئاسة في تواضع.
بلوغ المراد
وبعد حياة حافلة بالعزّ والجهاد، وتاريخ مشرق في نصرة الإسلام والنبوّة والإمامة.. يكتب الله تعالى لهذا المؤمن الكبير خاتمةً مشرّفة، هي الشهادة على يد أرذل الخَلْق.
لقد أمضى مالك حياته يخدم الدين والمسلمين، فكان مدّةً في سُوح الجهاد في سبيل الحقّ، ومدّة والياً لأمير المؤمنين عليه السّلام على الموصل ونَصيبينَ ودارا وسِنجار وآمُد وهِيت وعانات، وغيرها من المدن والولايات.
وكان لأعداء الله طمع في مصر، لقربها من الشام ولكثرة خراجها، ولتمايل أهلها إلى أهل البيت وكراهتهم لأعدائهم، بادر معاوية بإرسال الجيوش إليها وعلى رأسها عمرو بن العاص ومعاوية بن حديج ليحتلّها. فكان من الخليفة الشرعيّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أن أرسل مالكَ الأشتر والياً له على مصر.. فاحتال معاوية في قتله، داسّاً إليه سُمّاً بواسطة الجايستار ـ وهو رجل من أهل الخراج، وقيل: كان دهقان القُلْزُم ـ وكان معاوية قد وعد هذا ألاّ يأخذ منه الخراج طيلة حياته إن نفّذ مهمّته الخبيثة تلك، فسقاه السمّ وهو في الطريق إلى مصر، فقضى رضوان الله عليه شهيداً، فقال عمرو بن العاص مُعرِباً عن شماتته: إنّ لله جنوداً من عسل!
وقال معاوية: إنّه لكان لعليّ بن أبي طالب يدان يمينان: قُطِعت إحداهما بصِفِّين ـ يعني عمّار بن ياسر ـ وقُطعت الأُخرى اليوم ـ يعني مالك الأشتر.
وكانت شهادته رحمه الله عام 38 هجريّة، بعد أن امتدّ العمر به فنال ما كان يتمنّاه أن يقضي مظلوماً على أيدي أعداء الله وقد حاربهم جهده، فاستجاب الله دعوته واُمنيّته، إذ كان يقول:
أمّا أمير المؤمنين سلام الله عليه.. فجعل يتلهّف ويتأسف على فقدان الأشتر ويقول: للهِ دَرُّ مالك! وما مالك ؟! لو كان جَبَلاً لكان فِنْدا، ولو كان حجَراً لكان صَلْدا، أمَا واللهِ ليَهُدّنّ موتُك عالَما، ولَيُفرِحَنّ عالَما، على مِثل مالكٍ فلْتَبكِ البواكي. وقال عليه السّلام: كان لي مالك كما كنت لرسول الله صلّى الله عليه وآله.
****
المصادر
1 ـ الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني ( ت 852 هـ ) ـ ط 1.
2 ـ أعيان الشيعة، للسيّد محسن الأمين العامليّ، تحقيق السيّد حسن الأمين ـ ط 5.
3 ـ الأمالي، لأبي عليّ القالي ( ت 356 هـ ) ـ ط 2 أوفسيت، بيروت.
4 ـ تاريخ الطبريّ ( ت 310 هـ ) ـ ط 1 مصر ـ المطبعة الحسينيّة 1326 هـ.
5 ـ الحماسة، للبحتريّ ( ت 284 هـ ) ـ ط بيروت.
6 ـ دائرة المعارف، لبطرس البستانيّ.
7 ـ شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الإصبهانيّ.
8 ـ شرح ديوان حماسة أبي تمام، للخطيب التبريزيّ ( ت 231 هـ ) ـ عالم الكتب؛ بيروت.
9 ـ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ( ت 656 هـ )، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم ـ ط دار إحياء الكتب العربيّة 1385 هـ.
10 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد ـ دار صادر، بيروت.
11 ـ العبر في أخبار من غبر، للذهبيّ.
12 ـ الغارات، لأبي هلال الثقفيّ.
13 ـ الفتوح، لابن أعثم الكوفيّ ( ت 314 هـ ) ـ دار الكتب العلميّة، بيروت 1986 م.
14 ـ الكامل في التاريخ، لابن الأثير ( ت 630 هـ ) ـ مؤسّسة الأعلميّ، بيروت.
15 ـ مروج الذهب، للمسعوديّ ( ت 346 هـ )، تحقيق محمّد محيي عبدالحميد ـ ط 4، القاهرة 1964م.
16 ـ المؤتلف والمختلف، للآمديّ ( ت 370 هـ ) ـ دار إحياء الكتب العربيّة، القاهرة 1961 م.
17 ـ وقعة صفيّن، لنصر بن مزاحم المنقريّ ( ت 212 هـ )، تحقيق عبدالسلام محمّد هارون ـ مكتبة المرعشيّ النجفيّ، قمّ 1403 هـ.
*****
ولكم افضل التحيات والشكر على مبادراتكم بذكر قائد جيش الامام مالك الاشتر النخعي رضوان الله عليه