أن نعرف أن مؤلّفه صنفه في مدّة تتراوح بين ستة عشر إلى ثمانية عشر عاماً، زاعماً أنه كان يغتسل ويتوضأ ويصلّي ركعتين قبل أن يدوّن كل حديث فيه، وهذا يعني أن كل ما يرد فيه من أحاديث لا يعتورها سهو أو نسيان أو خطأ، فهناك إرادة حرّة في جمعه الاحاديث وضبطها.
على أن هناك مسألة هامّة، وهي أن الصحيح لم يكتمل على يد مؤلّفه محمد بن إسماعيل البخاري، وإنما اكتمل على يد اثنين من تلامذته: محمد بن يوسف الفربري ومحمد بن ابراهيم المستملي، وهما يصرّحان بذلك قائلين إنهما شاهدا في الصحيح أوراقاً بيضاء «فأضفنا»، فهذا ما نجده في مقدمة فتح الباري التي فصّل فيها ابن حجر ولم يردّ على ذلك معترفاً بوجود بياض في صحيح البخاري وأنه أضيف إليه(كما أننا نجد روايات يرد فيها محمد بن إسماعيل البخاري كحلقة في سلسلة الرواة والاسناد; بمعنى أن المؤلّف يتحول إلى راو للحديث فقط كما هو الحال في كتاب العلم
وهناك مسألة أخرى: هي تعدد نسخ البخاري، إذ يؤكد بعض المحدّثين من أهل السنة وجود روايات نسبت إلى الصحيح لا توجد في نسخه الاخرى.. أكتفي ولضيق الوقت بذكر بعض النماذج:
في استحباب الشرب بكأس النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ يورد ابن حجر قول
البخاري: رأيت كأس النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالبصرة فشربت منه.
وهذه ليست موجودة في النسخة التي بين يديه، ويذكر وجودها في نسخة القرطبي.
وهناك أيضاً رواية «زنا قردة في الجاهلية ورجمها»، وقد وردت في نسخ صحيح البخاري بزيادة ونقصان
وإنما أخرج البخاري حديث «ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»
وفي صحة حديث عمار قال ابن عبدالبر: «تواترت الاخبار بذلك وهو من أصح الحديث، وقال ابن دحية: لا مطعن في صحته، ولو كان غير صحيح لردَّه معاوية».
وفي تخريج الزركشي على أحاديث الرافعي ذكر الفاظ هؤلاء المخرجين للحديث، وقيل عن ابن دحية أنه قال: كيف يكون فيها اختلاف، وقد رأينا معاوية نفسه حين لم يقدر على انكاره قال: إنما قتله من أخرجه! ولو كان حديثاً فيه شك لرده وأنكره، وقد أجاب علي(عليه السلام)عن قول معاوية بأن قال: فرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قتل حمزة حين أخرجه وهذا من علي(عليه السلام) إلزام لا جواب عنه، انتهى بلفظه(2) .
وقال الزركشي: وقد صنف الحافظ ابن عبدالبر جزءاً سماه «الاستظهار في طريق حديث عمار» وقال هذا الحديث من إخبار النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالغيب وأعلام نبوته، وهو من أصح الاحاديث، ثم قال
الزركشي: عماراً كان مع علي وقتله أصحاب معاوية
وقال ابن الوزير: وأما ترك البخاري لاول الحديث فغير قادح; لان آخره أشدُّ وعيداً من أوله، ولعله ترك أوله تقية من المتعصبين، فقد ثبت في ترجمته أنه امتحن، وذكر ابن حجر أنه مات وكتابه مسودة لم تبيض، ثم قال: ويدل على تقية البخاري في شأن عمار، أنه لم يذكر حديثه هذا في مناقبه وفي صحيحه، وإنما احتال لذكره في مواضع لا ينتبه الطلبة فيها، مثل باب: مسح الغبار في كتاب «الجهاد»والتعاون في بناء المساجد في كتاب «الصلاة»(4) موهماً أنه ما أورده إلاّ للتعريف بهذه الاحكام المعلومة التي لا يهم محصل بايثارها على معرفة الحق من الباطل في فتنة أهل الاسلام، انتهى كلام المصنف في هوامش «التلخيص».
وقد علمنا أن ابن حجر أيضاً علَّم ذلك من البخاري في تغيير مواضيع الكلمات حيث نبَّه عليها بعض الاحناف في تعريضه عليه: «ومن دأبه في كتبه لا سيما «فتح الباري» أنه يغادر حديثاً في باب يكون مؤيداً للحنفية مع علمه به ثم يذكره في غير مظانه لئلا ينتفع به
الحنفية» .
وعلى كل ذلك، قال ابن حجر في «فتح الباري» في الاعتذار للبخاري عن عدم إخراجه (ويح عمار تقتله الفئة الباغية) ما لفظه: إعلم أن هذه الزيادة لم يذكرها الحميدي في الجمع، وقال إن البخاري لم يذكرها أصلاً، وكذا قال أبو مسعود، قال الحميدي: لعلها لم تقع للبخاري، أو وقعت فحذفها.
قال ابن حجر: قلت: يظهر لي أن البخاري حذفها عمداً، وذلك لنكتة خفية وهي أن أبا سعيد اعترف انه لم يسمع هذه الزيادة من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فدل على أنها في هذه الرواية مدرجة والرواية التي بينت ذلك ليست على شرط البخاري; وقد أخرجها البزار من طريق داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد فذكر الحديث في بناء المسجد وحملهم لبنة لبنة وفيه: «فقال أبو سعيد: فحدَّثني أصحابي، ولم اسمعه من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أنه قال: يا بن سمية تقتلك الفئة الباغية» ابن سمية وهو عمار وسمية اسم أمه وهذا الاسناد على شرط مسلم.
ثم قال: وقد عين أبو سعيد من حدَّثه بذلك، فعن مسلم والنسائي من طريق أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: حدَّثني من هو خير مني أبو قتادة فذكره، فاقتصر البخاري على القدر الذي سمعه أبو سعيد من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) دون غيره، وهذا دالٌّ على دقَّة فهمه وتبحره في الاطلاع
على علل الاحاديث، انتهىوالعجب من الحافظ ابن حجر في قوله: «إنه حذفها البخاري بعد سماع أبي سعيد لها من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع قوله: «حدثني أصحابي» وقوله: «حدثني من هو خير مني أبو قتادة» ولا يعلم أنهم يُعلّون حديثاً بكونه لم يشافه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) به الصحابي الذي رواه، أو بكون رواية سمعه من صحابي آخر يزكيه ويفضله على نفسه، فقوله: «إن حذفها دالّ على تبحر البخاري في الاطلاع على علل الاحاديث»!! أعجب، فايّ علة أبداها؟ ويلزم على جعل هذه علةً أن جميع رواية ابن عباس كلها معلولة، لتصريحهم بأنه لا يبلغ ما سمعه عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مشافهة عشرين حديثاً وكذلك غيره من صغار الصحابة.
إذا عرفت هذا، فعذر المصنف للبخاري أرفع من عذر ابن حجر، ولابن حجر في شرح الحديث في «فتح الباري» كلام تمجه الاسماع، عند من له تحقيق واطلاع، وقد بنيا ما فيه في حواشيه وروايته عن أحمد صحة الحديث وأمثال ذلك(2) .
وما يثير الدهشة إنه ومع كثرة المناقشات في حذف رواية عمّار المذكورة هو وجودها في النسخ التي بين أيدينا!! فمن أين مصدر ذلك إذن؟!! وقد بحثنا في ذلك في كتابنا وقفة مع البخاري فراجع.
ومن هنا يمكن القول أن ما يوجد بين دفتي البخاري وفي جميع مجلداته ليس كلّه من تصنيف محمد بن إسماعيل البخاري، وهذه نقطة أخرى.
والثالثة تتعلق بنفس الكتاب أيضاً وهي مسألة تصحيحه، فالصحيح يعني إطلاق الصحة على جميع رواياته، مع أن تخصيص الاكثر في العمومات قبيحة، وفي الوقت الذي يؤكد فيه البعض خروج الاكثر أو القريب منها عن إطار الصحة وفيها: التعليقات، والتراجم، والشواهد، والمقرونات.
وتعليقات البخاري وهي على قسمين: تعليقات مجزومة معتبرة وتعليقات غير مجزومة ليست معتبرة(1) ، وهكذا المتابعات والشواهد والتراجم والمكررات، وجميعها يشتمل على نصف الكتاب تقريباً،
هذا العدد ليس قليلاً، لانه يشكل علامة استفهام كبرى، فهل يبقى صحيح البخاري على صحته بعد إخراج هذا الكم؟
وهناك روايات البخاري التي تنقسم إلى أربعة أقسام:
1 ـ مسندات.
2 ـ تعليقات
3 ـ متابعات
4 ـ شواهد، وهي في الاغلب من المرسلات.
ولكل قسم منها حكمه الخاص.
وما ادعاه البخاري حول صحيحه ينحصر في الروايات المسندة، يعني اتصال السند بالمتون الخبرية، وما يخرج عن هذا العموم متابعات وشواهده وتعليقاته، ولذا فاننا وعندما نريد الاستدلال على صحيح البخاري فانه ينبغي الاشارة في الاستدلال إلى أي قسم من هذه الاقسام: الشواهد، التعليقات، المسندات؟
هناك مقولة مشهورة تقول: إن فقه البخاري يكمن في تراجمه، وهذا يعني أن فقاهة محمد بن اسماعيل البخاري تستكشف من هذا القسم، أي تحسب من اجتهاداته وآرائه الفقهية، ومن المحتمل أن يكون هذا صحيحاً أو غير صحيح.
والمسألة الاخرى التي ترتبط بذلك الكتاب هي العناوين التي لم يرد تحتها أي من الروايات، يعني انحصارها في الترجمة فقط دون وجود ذكر للرواية.
ويعدّ هذا نقصاً في الكتاب; وعادة ما يبرره البعض بأن البخاري يبتدأ عمله بادراج العنوان أولاً فاذا وجد رواية سجلها وإلاّ فلا
شخصية البخاري
شخصية محمد بن اسماعيل البخاري من وجه نظر رجالية هناك توثيقات كثيرة له، كما ذكر أيضاً اسمه في طبقات المدلسين! وتدليسه ورد على لسان جماعة من المحدِّثين منهم ابن حجر في «طبقات المدلسين» «تبيين اسماء المدلِّسين» لسبط بن العجمي طبع في كراس ذكر فيه محمد بن اسماعيل البخاري وجماعة من مشايخه .
وبالطبع هذا بحث رجالي في أن تدليس الائمة مضرّ أم لا، فيناقش في محلّه.
معارضة البخاري لفقه أبي حنيفة
ويبحث في هذه المسألة فقه أبي حنيفة، وخلافات أهل الحديث وأهل الرأي بهذا الخصوص.
رأى المحدّثون انتشار الصحابة بعد النبي في البلدان، وتحديثهم الناس بقدر ما سمعوه من أحاديث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فاذا صادفهم شيء لم يسمعوا فيه من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)حديثاً فامّا توقفوا حتى استفتوا أهل المدينة عنه، أو يعملون بآرائهم الشخصية، ففتح بذلك أبواب الرأي والنظر.
وعبدالله بن مسعود من الذين قدموا الكوفة فلم يكن على غرار الصحابة في موقفه، فقد كان يحدّث ما سمعه عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فاذا صادفته مسألة لم يسمع فيها حديثاً أشار إلى ذلك بقوله: أقول برأيي ، فهو إذن اجتهاد منه.
وجاء بعد ابن مسعود تلميذه علقمة الذي سار على خطى معلمه،
وجاء بعد علقمة إبراهيم النخعي، وبعد إبراهيم حماد بن أبي سليمان(2) ، وبعد حماد جاء أبو حنيفة.
وقد صعّد أبو حنيفة من اتجاه أهل الرأي في دمجه الاجتهاد بالقياس.
فمثلاً قوله: إن أبا هريرة لم يكن مجتهداً، وكان يسمع أحاديث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، ولا علم له بالناسخ والمنسوخ، وإذن فلم يكن مجتهداً ولا طائل من وراء رواياته.
وينسحب رأيه أيضاً على بعض رواة الحديث مثل طاووس اليماني وعطاء بن أبي رباح وطعنه على بعض التابعين.
ومن هنا فقد انتشر فقه أبي حنيفة في البلدان وتلقفه الناس دونما اعتراض حتى بلغ ذروة انتشاره في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث.
وقد أثار ذلك حنق المحدّثين، فقد أُعتبروا «صيادلة» في قبال الفقهاء الذين هم «أطباء».
فالاطباء من طبقة أبي حنيفة هم القادرون على استنباط الاحكام الفقهية، والافادة من نبوغهم الفكري.
ولان أبا حنيفة يقول بصحة الحديث الذي يقول: «من كذب علي متعمداً..» ولذا خطّأ العمل بالاخبار قائلاً بأن العقل هو حجة الباطن وملاكه في الافتاء رأيه الذاتي في تصويب حديث ورواية ما، إضافة إلى الاستناد إلى آيات القرآن ولا حاجة لاعتماد أخبار الاحاد.
هذا هو فكر أبي حنيفة وحجته الشرعية، فهو لا يريد كما يزعم التورّط في الكذب على النبي، لانه غير واثق من صحة الروايات والاحاديث النبوّية، ولذا كان لديه كمّ ضئيل من الاخبار الصحاح في رأيه، مما جعله يتشبث بالقياس.
وقد دفع إعلانه حول المحدّثين واعتبارهم صيادلة مقابل الفقهاء دفع بالمحدّثين إلى اللجوء إلى أجهزة الدولة والافادة من سلطات الخلفاء في قمع أهل الرأي .
ومن هنا فأنا أوصي بمطالعة التاريخ، لانه ينطوي على كثير من الحقائق التي تلقي الضوء على المسار الفكري والحركة الفقهية في تاريخ الاسلام، وسوف نواجه من خلال ذلك صوراً مؤلفة من ثلاثة أبعاد، ويجب أن ندقق في هذه الصور جيداً، لتبدو الصورة الحقيقية في كيفية تدوين تاريخ الاسلام؟ وكيف اتجهت المسيرة الفكرية والفقهية؟ وكيف وصل كل ذلك إلى أيدي المسلمين؟
فمثلاً ورد في التاريخ أن أول من نهض ضد أبي حنيفة هو عبدالله بن الزبير الحميدي في مكة، وهذا الاخير وصفه البخاري: شيخ كبير كثير الرواية، ولعبدالله الحميدي هذا كتاب «مسند الحميدي» مطبوع وموجود في المكتبات.
ويعد الحميدي من أبرز ثقات المشايخ الذين اعتمدهم البخاري في الرواية.
وهناك امتياز للحميدي في الصحيح حيث يتعدّى الرواية عنه، وخلو الكتاب من مقدّمة، والرواية عن الحميدي هي بمثابة افتتاحية للكتاب وخطبة له، كما يشرع كتابه: بسم الله.. وبعدها: حدثنا الحميدي.
والحميدي هذا وكما نقل الخطيب البغدادي في تاريخه والذهبي في تاريخ الاسلام والسير: أنه شيخ الحرم كان يجلس في المسجد الحرام ويحدّث فإذا وصل إلى ذكر أبي حنيفة قال: «أبو جيفة» فهو يعبّر عن أبي حنيفة ـ بأبي جيفة!!
ومن هنا يمكن الاستنتاج بأن البخاري إنما يريد من وراء ذلك الاعلان عن موقفه من أبي حنيفة.
كما أن البدء برواية حديث «النيات»يؤكد ذلك، لان الاحناف يشكلون على هذا الحديث وشموليته في أحكام العبادات والمعاملات!
وقد كرر البخاري ذلك الحديث سبع مرّات(3) ، ليؤكد نافذيته في المعاملات والنكاح وحتى في الطلاق.
هناك مسألة هامّة في هذا الموضوع، وهي كتاب الحيل الذي لم يكتب فيه أي من محدّثي أهل السنة.
فأبو حنيفة أو بعض تلاميذه ربما كان الشيباني أو أبو يوسف، إذ دوّن أحدهم كتاباً بعنوان «كتاب الحيل»، وهو يشتمل على طرق الالتفاف على الاحكام وبكلمة واحدة تحليل الحرام.
فهناك أحكام تنص على حرمة موضوع معيّن، ولكن عند تغيير الموضوع فان حكم الحرمة سوف يتغير بالتبع، فمثلاً في باب الزكاة.. فهي مثلاً تجب عند اكتمال النصاب، ولكن أبا حنيفة يفتح باباً للهروب من دفع الزكاة بأن يعمد صاحب المال الى هبة ابناءه جزءً منه فيخرج المال قبل حلول رأس السنة بليلة واحدة من حدّ النصاب، وهكذا في كثير من المسائل الاخرى التي وضعت لها طرق التفاف على الموضوع والحكم بصورة مدهشة.
وقد سبب هذا الاتجاه ردّ فعل عنيف لدى أهل الحديث، الذي عدّو اهمال الحديث النبوي اهانة كبرى.
وقد أسفر موقفهم عن تأليف كتاب الحيل، وقد تم ذلك على يد محمد بن اسماعيل البخاري، حيث بدأه بحديث الاعمال بالنيات.
فأصبح الملاك في العمل النيّة في العبادات والمعاملات، سواء بقي الموضوع أو تغيّر، فالنية هي وحدها الاساس في العقاب والثواب الالهي.
وهل أن نيّتي من وراء هذا الفعل مثلاً ضرب النصاب الموجب للزكاة للفرار من أدائها فان فعلاً كهذا سيكون حراماً.. غير أن أبا حنيفة يرى ألاّ مدخليّة للقصد والنية في ذلك، ومن هنا برزت الحاجة إلى
إجراء مقارنة بين فقه أبي حنيفة وروايات صحيح البخاري، حيث تظهر بوضوح العلاقة خاصّة في كتاب الحيل .
وذكر البخاري أئمة المذاهب الاربعة بالاسم باستثناء أبي حنيفة، فقد ذكر اسم الشافعي صراحة وذكر اسم أحمد بن حنبل ومالك، ولكنه عندما يتعرض إلى أبي حنيفة فانه يكنّي عنه بهذه العبارة: «وقال بعض الناس» أو «قول بعض الناس».
وقد ورد هذا التعبير 27 مرّة، أربع عشر منها في كتاب الحيل وحده.
ويؤكد الشارحون أن هذه العبارة هي كناية عن أبي حنيفة وبعض تلامذته كالشيباني وأبي يوسف.
والجدير ذكره في هذا الموضوع أن البخاري قد شدَّد بصورة أخرى على أبي حنيفة في كتاب الهبة، فانه بعد عبارته: «وقال بعض الناس، يصرّح أن ما يقوله «بعض الناس» يعدّ مخالفة لسنّة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) .
وفي الكتاب الذي ذكر في أسماء الكتب تحت عنوان «الضعفاء والمتروكين» للبخاري يورد ابن عبدالبر لعن أبا حنيفة ، وفي التاريخ
الاوسط المطبوع مواضع أخرى عن قول نعيم بن حماد المروزي وهو من مشايخ البخاري، وهذه مسألة هامّة في تأثر البخاري بشيوخه.
وهناك مزاعم حول انتماء محمد بن اسماعيل البخاري إلى المذهب الحنفي حتى وصوله مكّة، فالمذهب الحنفي هو المذهب السائد في بخارى ومرو وخراسان بشكل عام، والفقه الحنفي هو الفقه المعمول به في تلك الاقاليم.
كما أن آباء البخاري كانوا أحنافاً، باستثناء جدّه الثالث الذي كان مجوسياً في الاصل.
فمذهب البخاري كان في البدء على مذهب أبي حنيفة، ولكنه انتقل إلى الشافعي لدى وروده مكة، وهو كما يقال قد تلقاه عن شيوخه!
فمن شيوخه نعيم بن حماد المروزي، ونعيم هذا كان من شيوخ البخاري بلا واسطة، وهو وضاع للحديث يفعل ذلك من أجل تعزيز موقع السنة.
فابن حجر ومعه الذهبي يقولان بأن نعيم المروزي وضاع للحديث
في تقوية السنة.
وقد وضع الاحاديث نكاية بأبي حنيفة، وهي مزورة تفتقد إلى الصحة، ومسألة تأثر البخاري بشيوخه تصل إلى تبلور عقائده وافكاره، فهو متأثر بكل من حسين الكرابيسي وابن كلاب كما نجد ذلك في فتح الباري، وعندما نبحث في ترجمة ابن كلاب نجده نصرانياً(2) بل رأس الكلابيةوهي فرقة من الفرق الكلامية.
وابن حجر يصرّح بأن البخاري أخذ عقائده من هذين الشخصين وكلاهما مجروح لدى أهل الرجال.
ومن الشيوخ الذين تأثر بهم البخاري في أفكاره وعقائده أبو بكر بن أبي شيبة صاحب كتاب «المصنف»، وله في الجزء الاخير كتاب سماه بـ«الرد على أبي حنيفة»، وفيه مسائل الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث جمعها ابن أبي شيبة وطبع.
ويعتقد البعض أن البخاري في معارضة أبي حنيفة قد تأثر باسحاق ابن راهويه ونعيم بن حماد المروزي والحميدي وأبي بكر بن أبي شيبة
ولذا فان من يريد قراءة أفكار البخاري ينبغي عليه أن يأخذ ما ذكرنا بنظر الاعتبار، يعني يتعيّن عليه أولاً أن يتعرّف شيوخه وطبيعة عقائدهم، وما هي أفكارهم، ومواقعهم لدى الخلفاء المعاصرين لهم، ومدى استقلالية اتجاههم الفكري وعدم تأثرهم بمتبنيات وسياسة الخلفاء الفكرية.وهذه مسألة جوهرية جداً، لانه من المستحيل البحث في فقه وحديث أهل السنة دون التحقيق في شكل العلاقة مع أجهزة الدولة والخلفاء، ولذا من الضروري بمكان دراسة سياسات الخلفاء الفكرية في العهدين الاموي والعباسي، خاصّة الفترات التي شهدت عملية تدوين الحديث.
ومن الضروري أيضاً التركيز على الخليفة العباسي المتوكل الذي مارس سياسة اتسمت بالارهاب والعنف الجنوني، حتى وصلت سياسته العدائية لعلي وأبناءه مثلاً إلى أن يقدم علي بن الجهم الشاعر ـ ومن ندماء المتوكل ـ على شتم أبيه لانه سمّاه عليّاً!!
واذن، فان المتوكل كان يقود بنفسه ومعه امكاناته الضخمة تياراً
ناصبياً تجلّى واضحاً في إقدامه على تدمير مرقد الحسين وتسويته بالتراب وحرث الارض وغمرها بالمياه، كما فرض حصاراً رهيباً حول المنطقة ومنع المسلمين من زيارة سبط النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وريحانته.
إن دراسة هذه الفترة السوداء ضرورية عند دراسة شيوخ البخاري وفي دراسة صحيح البخاري أيضاً.