ووقف الإمام يعمّق ويركّز ـ في وفرة هائلة ـ الأحكام : ابتداء من أوّل الدين ، وتوحيد الله ، وصفاته تعالى ، ومروراً بفلسفة الرسالات ، وتقييم الإسلام ومفاهيمه وأحكامه ، وشرح مواقف الرسول ، وأبعاد القيادة ، والحقوق المتكافئة بين الأطراف الكونية والبشرية ، وانتهاء بوصف السماء ، والأرض ، والطاووس ، والنملة ، وأشياء كثيرة ، وبحوث متنوّعة ... ؛ لولاها لكان في الإسلام فراغ كبير وغموض شديد .
وهو عندما يعمل في موضوع ـ أي موضوع : وضيع أو رفيع ـ لا يسرد سرداً ولا يجتر اجتراراً ـ كما نفعل نحن ، أو حتّى كما يفعل الفلاسفة والمفكّرون ـ وإنّما يجسّد شيئاً حاق به ، ويفرغ شحنةً ضاق بها ، فلا تأخذه كيف شئت وإنّما يأخذك كيف شاء ، حتّى كأنّك في مشهد أو محراب لا أمام خطيب أو كتاب .
ثمّ : التسلسل المنطقي المتين وتولّد الأفكار من الأفكار ، فكل فكرة نتيجة طبيعية لما قبلها ومقدّمة طبيعية لما بعدها ، فلا فكرة إلاّ وتمسّك بك للتأمّل ، ولا جملة إلاّ وتطلّك على آفاق تطل على آفاق ، بدون أي تلكّأ ، أو تكلّف ، أو جهاد ، أو لهاث ... ؛ بل كما ينفجر الفجر ، وينسرح العطر ، وتهرب المياه في الأنهار ، وتفرز القطوف من الأشجار ...
وهذه المقدرة الذكية مظهر لواقع الإمام المعجز في كل ما قال أو كتب ، حتّى وهو يتناول أعتى الأشياء على القلم واللسان .
فاستمع إليه وهو يتحدّث عن الدين وعن التوحيد وعن الله : ( أوّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه : لشهادة كل صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة ) .
( فمن وصف الله ـ سبحانه ـ فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّاه ، ومن جزّاه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال : ( فيم ) ؟ فقد ضمّنه ، ومن قال : ( علام ) ؟ فقد أخلى منه ) .
( كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كل شيء لا بمقارنة ، وغير كل شيء لا بمزايلة ، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه ، متوحّد إذ لا سكن يُستأنس به ولا يستوحش لفقده ) (7) .
فالأصل الأوّل للدين هو ( معرفة الله ) ، ولا يمكن معرفة الله إلاّ بـ( التصديق ) فمجرد ( التصوّر ) ليس ديناً ، وإنّما الدين هو الإذعان المطلق ، ولا يكمل ( التصديق ) إلاّ بالإله الواحد ، فالتصديق بالآلهة المتعدّدة بدائي يزول بالتأمّل ، لأنّ الإله لو كان متعدّداً لتناقضوا وعلا بعضهم على بعض ففسدت السماوات والأرض (8) ، هكذا تنبسط الأفكار الجليلة الماورائية لمدى الإمام ، فتتولّد وتتناسق بمثل هذه الجزالة وهذا العمق .
ويقول قبل ذلك : ( ليس لصفته حد محدود ، ولا نعت موجود ، ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود ) (9) .
فالله ( مطلق ) غير متناه ، فلا تطوّقه دائرة الأبدية التي طوّق بها خلقه ، وإنّما هو فوق هذه الدوائر ومعها وبعدها .
والوقت هو وليد حركة الأجرام الكونية ، فلا يرقى إلى الله ، فبالنسبة إلى المقهورين بالزمان يوجد شيء اسمه ( الأبد ) ، أمّا بالنسبة إلى قاهر الزمان فلا يلغي مولدات الزمان إلاّ ويكون ( الأبد ) قد رحل .
وسئل الإمام عن التوحيد والعدل ، فكان الجواب : ( التوحيد : أن لا تتوهمه ، والعدل : أن لا تتهمه ) (10) .
فالصور الذهنية مخلوقة لأصحاب الأذهان ، وليست خالقة لهم ، والإله المتهم ليس عادلاً ، أمّا الله فهو : خالق الأوهام ، وبعيد من الاتهام .
وفي كل ما قرأت عن الله لم أجد جملتين بهذا الجلاء والمضاء : كل جملة تتضمّن مدلولاً واضحاً يرفض أي احتمال ، ودليلاً مكيناً لا يترك مجالاً لجدال ، وهل يمكن أن يوجد إنسان يتحدّث عن صفات الله بمثل هذه السيطرة على التفكير والتعبير ؟!
ويمضي ـ متابعاً خطوه ـ في دائرة المعارف التي نهجها لتعميق المفاهيم وتركيز المقاييس الجديدة ، ويقف على فلسفة الرسالات ، فيلخصّها في بندين :
1ـ إنّ الله أخذ الميثاق من بني آدم ـ قبل أن ينقلهم إلى هذا العالم ـ على أنّ الله ربّهم ، فأعطوا الميثاق من أنفسهم : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ـ مِن ظُهُورِهِمْ ـ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) ؟! قَالُواْ : ( بَلَى شَهِدْنَا ) ... ) الأعراف : 172 .
وأخذ نفس الميثاق من الأنبياء ـ بصورة أكيدة ـ : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) الأحزاب : 7 .
ثمّ تمرّد بنو آدم على الميثاق الذي أعطوه من أنفسهم ـ لما انتقلوا إلى هذه الدنيا ـ فكفروا بالله ، فبعث الله الأنبياء ليطلبوا من بني آدم العمل بذلك الميثاق .
2ـ إنّ الله أرسل إلى كل إنسان رسولاً هو ضميره ، وهذا الرسول يقول للإنسان كل شيء ، يقول : هذا حق ، وذاك باطل ، ولماذا فعلت الشر وتركت الخير ؟! ففي بعض الحديث : ( إنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة ، وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة : فالرسل والأنبياء والأئمّة ( عليهم السلام ) ، وأمّا الباطنة : فالعقول ) (11) .
ومحكمة الضمير تبقى مفتوحة ليل نهار ، وتدأب في أعمالها وإصدار أحكامها حتّى في حالات النوم ، فتصوّر الأحكام بالأحلام ، ولكن الضمير قد يضعف بكثرة تسفيهه وتقريعه ، وقد يدفن تحت ركام من الشهوات والعادات ، فأرسل الله الأنبياء لتحرير الضمائر المكبّلة ، وتفجير الضمائر المهلهلة : ( واصطفى ـ سبحانه ـ من ولده ( آدم ) أنبياء : أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ؛ لمّا بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم … فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبيائه ؛ ليستأدوهم ميثاق فطرته ... ويثيروا لهم دفائن العقول ... ) (12) .
فالأنبياء ما جاءوا ليناقضوا الإنسان ، وإنّما جاءوا ليشجّعوه على الالتحاق بواقعه ، ويفجّروا طاقاته الدفينة تحت أنقاض التخلّف والإجرام ، أو لم يفسّر القرآن فلسفة بعثة الرسول بقوله : ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... ) الأعراف : 157 ؟!
من هنا ، من مصدر الوجود ومبعث الرسالات ، يبدأ الإمام في فلسفة الوجود ، ولا يحاول ـ مطلقاً ـ أن يبرك فلسفة مستقلة ، وإنّما يتابع الرحلة التي صدح بها القرآن منذ بدأ القرآن رحلته إلى الأرض إلى أن بلغ ختامه ، ويواكب سير الرسالة منذ أن دثر الله رسوله بالوحي إلى أن خلع الحياة ، وإن كان ـ في بعض الأحيان ـ يبدو أنّه ينسج من جديد ، ولكن ـ لدى التحقيق والمقارنة ـ يظهر أنّه يستقي من الضمير القرآني المجيد ، والعمق الرسالي الرشيد .
وإن يكن ـ هناك ـ أي زهوق أو مروق ، ففلسفة الوجود واحدة : عبّر عنها القرآن بأسلوبه الدستوري ، وعبّر عنها الرسول بأسلوبه التأسيسي ، وعبّر عنها الإمام بأسلوبه التركيزي ، أمّا سائر الفلسفات الأخر : فإنّها تعاني من التخلّف أو التجاوز ، وفي كلتا الحالتين لا تطابق بينها وبين الواقع .