قال الراوي: خرج الامير بندر بن سلطان عن صمته المعهود، وهدد الولايات المتحدة بالحد من علاقات بلاده معها، معربا عن الاسى والغضب من انحراف سياستها الخارجية وتخليها عن ثوابتها واصدقائها. ويضيف الراوي، وهو هنا وكالات الانباء العالمية المعروفة، ان الامير الخطير بث همومه، وشكا هواجسه وآلامه، لعدد من الديبلوماسيين الغربيين الذين استدعاهم الى قصره المنيف، وابلغهم بأن السياسة السعودية الجديدة ستشهد انعطافة كبيرة، سواء من حيث الاستثمارات او مبيعات انتاجها الوفير من النفط ومشترياتها الخاصة بالتسلح.
الا ان اخطر ما نقل عن السفير السابق، ورئيس الاستخبارات الحالي، ومجهول المصير مستقبلا، ان بلاده لم تعد تقبل ان تلعب دور التابع لأحد، لا سياسيا ولا عسكريا، ولا امنيا طبعا!
ولكي نفهم هذه الانتفاضة الاميرية التي يقودها غيفارا العائلة السعودية، لا بد من الاطلاع على تاريخه النضالي وخلفيته الفكرية واستراتيجيته السياسية، محليا واقليميا ودوليا! ولكن قبل ذلك نسأل بعض الاسئلة البريئة:
هل ما يقوم به بندر بمساعدة ومعاضدة وزير الخارجية، الذي لا يزال حيا بكامل قدراته العقلية والحمد لله، هو سياسة سعودية منسقة مع مؤسسات الدولة وقياداتها؟ زهل الملك عبد الله يشرف فعلا على هذه السياسة؟
هل هناك في السعودية مراكز ابحاث او مجالس سياسية يشارك فيها خبراء ذوو خبرة في العلاقات الدولية، تقدم خيارات مدروسة لصاحب القرار قبل اتخاذ المواقف الكبرى والاستراتيجية؟ وهل وضع الامير بندر خطة متكاملة للرد على الانحراف الاميركي، وعجز واشنطن عن مسايرة الطموحات الكبيرة لمملكة آل سعود، تشمل كافة الجوانب؟
هذه الاسئلة ليست بريئة تماما، بل واضح ان كل الاجابات عليها سلبية، في ظل ما هو معروف عن شكل الدولة السعودية التي لا تخضع لعمل المؤسسات، والتي يديرها تحالف العائلة مع المؤسسة الدينية السلفية المتشددة المعروفة باسم الوهابية.
من حيث الجوهر، وفي ظل مسيرة هذه الدولة الهرمة، فإن من يتحكم بالقرار الفعلي هو مراكز القوة في العائلة المالكة، التي نجحت حتى الان في ادارة صراعاتها الداخلية العنيفة والدموية دون ان تنفجر العائلة بالكامل، مستفيدة من خوفها من فقدان ملك اتاها بالدعم الخارجي الصريح، وخسارة ثروة لم يحلم بها عربي منذ زمن هارون الرشيد.
ولا شك ان الامير بندر يستفيد من حالة الضعف والترهل في المؤسسة الملكية، والحديث عن توازنات لم تكتمل بين اجنحة تحاول توزيع إرث السلطة في ما بينها، وليس من بينها لا ابناء الملك فهد ولا ابناء فهد وربما أبناء سلطان أيضا. في كل الاحوال لن يكون لبندر مقعد متقدم في السلطة. وقد بات الاميران بندر وسعود الفيصل من اشد الخائفين من ان يكونا كبش فداء لعلاقات متوترة بين المملكة وراعيها الاميركي! وقد خانهما ذكاؤهما هذه المرة ولم يستطيعا ان يقدرا اتجاهات السياسة الاميركية، فوقعا ضحية ما قاله صديقهما جيفري فيلتمان، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى قبل ان يكلف مهمة وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية، إنه سياسة يحركها الحقد، وإنها أوقح وأسوأ سياسة عرفها.
كان على بندر ان يعرف ـ وهو الذي عمل عن قرب مع المسؤولين الاميركيين طيلة عقدين من الزمن ـ أن اميركا تقود العالم وتتحكم بقراراته، وترسم استراتيجيتها انطلاقا من مصالحها الخاصة ونظرتها للتوازنات الدولية ومراكز القوة في العالم، دون تنسيق مع احد لا من حلفائها الكبار ولا أدواتها الصغيرة، بل انها تنتظر من الجميع فهم ما تريد لحظة بلحظة ومواءمة سلوكهم مع ارادتها ومصالحها.
ولا شك ان الأمراء السعوديين يحتفظون بالتسجيلات المؤكدة لمصير زعماء وانظمة واحزاب ومنظمات عملوا تحت العباءة الاميركية فترة من الزمن، قبل ان تلفظهم الآلة الامبريالية العملاقة بعد زوال الحاجة اليهم، من فيتنام الى الفيلبين الى شاه ايران الى حسني مبارك وزين العابدين، الى خروجها من العراق وقرب خروجها من افغانستان بحماية خصومها واعدائها، بل اننا لا نغالي اذا قلنا ان اسرائيل نفسها باتت تحسب حساب لحظة التخلي هذه، على رغم ما بين الكيانين من علاقات تتعدى اطار المصالح الاقتصادية بالمفهوم الضيق!
الامير المصدوم يريدنا ان نصدق انه استفاق الان على ضرورة ان تكون بلاده دولة مستقلة فعلا تعتمد على شعبها وعلاقاتها الايجابية مع محيطها، وحضارتها! بعد أن فرطت عائلته ولعقود طويلة بفرص ثمينة لبناء دولة تحترم نفسها وشعبها. إن العمل على اقامة دولة مستقلة لا يكون بردود الفعل الغاضبة والحرد والغنج والدلال، ولا يكون الاستقلال وعدم التبعية بمعاداة الدول الجارة وبث الكراهية والاحقاد في الداخل والخارج القريب، ولا باستبدال سماحة الدين العظيم بالفتنة المذهبية ومناهج التكفير واستباحة الدم والحرمات.
الاستقلال الحقيقي لأي دولة مهما كان حجمها وقوتها لا يكتمل بغير التلاحم مع الاقليم والمحيط الجغرافي، فكيف اذا كان ذلك الاقليم يشكل وحدة حقيقية قوميا ودينيا وحضاريا، كما هو الحال مع الدول العربية والاسلامية الخليجية وغير الخليجية، وبديهي القول ان هذا التلاحم لا يتم بالسيارات المفخخة ولا بجيوش الانتحاريين الذين يعيثون في الارض فسادا، فيقتلون النساء والرجال والاطفال، ويدمرون الثروات والممتلكات.
هل يريدنا الامير بندر بن سلطان وحليفه الامير سعود الفيصل ان نصدق انهما بدءا ثورة على واقع الذل والتبعية، الذي عاش في ظلاله نظامهما الهرم، ردحا من الزمن؟ هل فعلا يريدان الاستقلال عن اميركا؟ فكيف يستوي ذلك مع استمرار حشدهما لقوى التكفير والتفجير والتضليل والتجهيل والتقسيم والتفتيت، التي تقدم اعظم خدمة وتمهد السبيل بأفضل السبل لكل مستعمر وطامع؟ وهل سنبني دولنا ونحيي ثقافتنا وتراثنا وندخل بثقة الى مستقبلنا عبر ارهاب القاعدة ام داعش ام جبهة النصرة، وما شاكلها؟ أليست هذه خيارات آل سعود لنا؟!
الأميران الآفلان استشعرا بما تبقى لهما من ذكاء اعماه الحقد، انهما باتا ورقة لا حاجة لها في اليد الاميركية.
الأبطال يموتون فتخلدهم ذاكرة شعوبهم، اما الأتباع والاجراء فيخرجون الى الفراغ والنسيان.