بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
لم يخش رسول الله على أمّته كخشيته عليها من أن تقع بعد اتّباع الهوى في طول الأمل، ومن هنا جاء تحذيره لها: "أخوف ما أخاف عليكم اثنتان؛ اتّباع الهوى، وطول الأمل".
التّحذير من طول الأمل
وطول الأمل، يعني أن تشعر بأنّ حياتك ممتدّة أمامك لا تقف عند حدّ، وأن بينك وبين الموت مساحات شاسعة وواسعة... ترى النّاس من حولك، أقاربك، جيرانك، ومعارفك، وكلّ من تسمع بهم، يغادرون الحياة الدّنيا، وقد تشارك في جنائزهم وإقامة مراسم عزائهم، ولكنّك لا تتصوّر نفسك يوماً محمولاً مثلهم على الأعواد، وإن خطرت لك هذه الفكرة، أو جرى أمامك حديث عنها، سرعان ما تطردها من رأسك.
قد يقول قائل: لكنّنا بحاجةٍ إلى الشّعور بالأمل وطرد فكرة انتظار الموت دائماً، وإلا لن نعمل... صحيح، وهو أمر إيجابيّ، وإيجابيّ جدّاً، فنحن بحاجة إلى هذا الشّعور الّذي يدفعنا إلى العمل والطّموح والإبداع والقيام بمشاريع قد تفوق عمرنا العاديّ، وإلى هذا أشار رسول الله(ص) عندما قال: "الأمل رحمة لأمّتي، ولولا الأمل لما أرضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجراً"، وإلى ذلك أشار الشّاعر:
أعلّل النّفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ولكن ما حذّر منه الرّسول(ص)، هو طول الأمل بمعناه السلبيّ، وهو الذي يُنسي الإنسان هدف وجوده، ينسيه الموت، ينسيه أنّه سيقدم على ربّه ليواجه حسابه، فيستغرق في مشاغل الحياة ومتاعبها وشهواتها وأطماعها، ولذلك قال رسول الله(ص): "وأمّا طول الأمل فيورث حبّ الدنيا"، وفي حديث آخر للإمام عليّ(ع): "... فيُنسي الآخرة".
وطول الأمل ليس مجرّد فكرة، لأنّه ينعكس في سلوك الإنسان تسويفاً ومماطلة، إذ ترى كثيراً من النّاس، لإحساسهم بأنّ الحياة أمامهم طويلة، يسوّفون ويؤخّرون أعمالهم، ولا يشعرون بالاستعجال، من دون أن يفكّروا في أنّ الموت قد يكون على الباب.
والموت عندما يأتي لن يأخذ موعداً من أحد، حتّى إنّه لا يأخذ موعداً من أعزّ الخلق إلى الله، فحتّى النبيّ سليمان، الّذي أعطاه الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، عندما طلب من حرّاسه أن لا يدخلوا عليه أحداً حتّى أقرب النّاس إليه، لأنّه يريد التفرّغ لأعمال مملكته الشّاسعة والممتدّة، وعندما دخل عليه شخص، استغرب النّبيّ سليمان(ع) كيف دخل، قال له: من أنت؟ ومن أذن لك بالدّخول؟ قال له: أنا الّذي سمح لي ربّي بأن أدخل إلى كلّ مكان، وفي أيّ وقت، أنا ملك الموت.
قال له: ما الّذي جاء بك الآن، هل جئت زائراً أم قابضاً؟... قال له: جئتك قابضاً، قال: لِمَ لم تخبرني؟ قال له: أخبرتك... وراح يسأله عن أهله، فيقول إنّهم توفّوا، فقال له ملك الموت: كلّهم كانوا رسلي إليك. ثم قبض روحه وهو متّكئ على عصاه ينظر إليه.
التّهيئة للموت
أيّها الأحبّة: إنّ التّربية الإيمانيّة الّتي ربّانا عليها الإسلام، لاحظت موضوع التّهيئة للموت والتّذكير به، ليكون الموت أمراً طبيعيّاً، نألفه ونترقّب حضوره في كلّ وقت. وها هي الآيات القرآنيّة تذكر مراراً وتكراراً:
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء: 35]. {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ...}[الجمعة: 8]. {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ...}[النساء: 78]. {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق: 19].
وكذلك كان التّذكير بالحقيقة المرحليّة للحياة الّتي نعيشها، بأنّها مرحلة نتحضّر فيها للدّار الأساس: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت: 64]. {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف: 46].
وقد أشار إلى ذلك الإمام عليّ(ع): "إنّ الله قد جعل الدّنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيّهم أحسن عملاً، ولسنا للدّنيا خلقنا، ولا بالسّعي فيها أمرنا".
وعنه(ع): "أخرجوا من الدّنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها اختبرتم، ولغيرها خلقتم".
وإلى ذلك أشار رسول الله(ص): "إنما أهل الدّنيا كركبٍ، بينا هم حلّوا إذ صاح بهم سائقهم أن ارتحلوا".
وقد قال عليّ(ع): "أيّها النّاس، إنما الدّنيا دار مجاز والآخرة دار قرار، فخذوا من ممرّكم لمقرّكم".
والكثير الكثير من الأحاديث والآيات المتعلّقة بهذا الإيمان بالمعاد، كعقيدة راسخة من أصول الدّين، وهدف لا بدّ من السّعي لبلوغه.
التّربية على قصر الأمل
أيّها الأحبّة: لقد جعل الإسلام التّربية على نبذ طول الأمل أساساً في عمليّته التّربويّة، وفي بنائه لشخصيّة الإنسان المسلم، والمسألة ليست مجرّد مسألة روحيّة تتّصل بالآخرة، أو مسألة زهد بالدّنيا، إنما تنعكس على نوعيّة الحياة وليس كمّيتها.
إنّ هذه النّظرة المتكاملة للحياة والموت وما بعده، تزرع في الإنسان الاطمئنان النّفسيّ، عكس ما هو سائد، حيث يعمل الطبّ النفسيّ على معالجة آثار فكرة الموت، وما تسبّبه من قلق ومرض وخوف... أمّا عند المؤمنين الحقيقيّين بالمعاد، المتحضّرين نفسيّاً وعمليًاً له، فإنّهم يرون في الموت جسر عبور إلى الآخرة، إلى حياة أفضل...
والتّربية على قصر الأمل لها شقّان؛ شقّ ينعكس على الأعمال الأخرويّة؛ فلا تأخير في الواجبات الّتي فرضها الله على عباده، ولا تهاون. ثم إنّ الإنسان غير الآمل في هذه الدّنيا، يصلّي دائماً صلاة مودّع، ويصوم صيام مودّع، ويحجّ كأنّها آخر مرّة، وهذا يعني بالنّسبة إليه دقّةً في العمل، والحرص على أن يكون خالياً أيّ شوائب مع خلوص النيّة... وشقّ يتعلّق بالحياة. فهذه النّظرة إلى الحياة، انطلاقاً من قصر الأمل، تجعلها أكثر صفاءً وأكثر طهارةً وأقلّ تشنّجاً وأكثر سلاسةً، حيث يصبح الإنسان أكثر تواضعاً مع من حوله من النّاس، وأكثر حذراً ومسؤوليّة في معاملاته.. ينتبه إلى كلماته، ويراقب مواقفه، لا يبيّت طلب المسامحة من أحد أساء إليه، ولا يؤخّر ردّ مظالم أحدٍ ظلمه، ويتذكّر دوماً: {وقفوهم إنّهم مسؤولون}[الصّافّات: 24].
دعوة لإبراء الذّمّة
أيّها الأحبّة: من يتربّى على قصر الأمل، لا مكان للعبثيّة في قاموسه، ولا في كلماته أو مواقفه أو تأييده أو رفضه، فهو واعٍ لكلّ ما يقوم به، والفرق كبير بين أن يتصرّف الإنسان مع غيره وهو مدرك أنّه سيُحاسب، وبين أن يفترض أن لا حساب البتّة.
إنّ شعورك بقصر الأمل، يعني أن لا تترك ملفّاتك مفتوحة، فتحرص على أن تنهي كلّ شيء قبل مغادرة الحياة...
إنَّ العمل بمبدأ قصر الأمل، يساهم في تعديل عقليّة النّاس لصالح تخليص الذمّة وإبرائها... إنّ هناك من يعتبر مطالبة النّاس له بحقوقهم مذلّة أو إهانة، وينسى أنّ الإهانة الحقيقيّة والمذلّة الحقيقيّة هي عندما يعلن الأمر على رؤوس الأشهاد وأمام العدل الحكيم.
ومع الأسف، الكثير من النّاس ممن يؤمنون بالآخرة ويعظون النّاس بها وبعقابها، يتصرّفون في أحيان كثيرة وكأن لا آخرة ولا موت ولا حساب، لا يهمّهم إن أساؤوا أن يعتذروا، وإن ظلموا أن يتراجعوا، وكأنهم غير معنيّين بالمراجعة أو الحساب أو الاستغفار أو التّوبة...
لهذا هي دعوة: لا تؤجّل؛ لا تؤجّل اعتذاراً، لا تؤجّل إرجاع حقّ إلى أصحابه، لا تؤجّل إدخال سرور إلى قلب من يحتاج إليه، لا تؤجّل إصلاح عداوة أو مكاشفة أو صراحة، لا تؤجّل أن تبلسم جراح فقير أو أن تمسح على رأس يتيم... لا تؤجّل تفجير طاقتك أو موهبتك.. انتق أعمالك وغربلها وحسنها لتكون أنفع ما يكون.. حتّى حالة فرحك، حوّلها إلى قوّة تعينك على طاعة الله.. وليكن شعارك دوماً: "اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً".
أيّها الأحبّة: ليكن شغلنا بمشاريع الحياة وطموحاتها بحجم الزّمن الممتدّ، وليكن الوقوف بين يدي الله حاضراً في كلّ وقت، فلا يكون حالنا حال من يقول: {... رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}[المؤمنون: 99-100].
{وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ}[المنافقون: 10].
وندعو بدعاء الإمام زين العابدين: "اللّهمّ واكفنا طول الأمل وقصره عنّا بصدق العمل، حتّى لا نأمل استتمام ساعة بعد ساعة، ولا استيفاء يوم بعد يوم، ولا اتّصال نفس بنفس، ولا لحوق قدم بقدم، وسلّمنا من غروره، وآمنّا من شروره، وانصب الموت بين أيدينا نصباً، ولا تجعل ذكرنا له غبّاً، فإذا أوردته علينا، وأنزلته بنا، فأسعدنا به زائراً، وآنسنا به قادماً، ولا تُشقنا بضيافته، أمتنا مهتدين غير ضالّين، تائبين غير عاصين...".
والحمد لله ربّ العالمين.