الآية خاتمة السورة تصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تصف الذين معه بما وصفهم به في التوراة و الإنجيل و تعد الذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات وعدا جميلا، و للآية اتصال بما قبلها حيث أخبر فيه أنه أرسل رسوله بالهدى و دين الحق.
قوله تعالى: «محمد رسول الله» إلى آخر الآية، الظاهر أنه مبتدأ و خبر فهو كلام تام، و قيل: «محمد» خبر مبتدإ محذوف و هو ضمير عائد إلى الرسول في الآية السابقة و التقدير: هو محمد، و «رسول الله» عطف بيان أو صفة أو بدل، و قيل: «محمد» مبتدأ و «رسول الله» عطف بيان أو صفة أو بدل و «الذين معه» معطوف على المبتدإ و «أشداء على الكفار» إلخ، خبر المبتدإ.
و قوله: «و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم» مبتدأ و خبر، فالكلام مسوق لتوصيف الذين معه و الشدة و الرحمة المذكورتان من نعوتهم.
و تعقيب قوله: «أشداء على الكفار» بقوله: «رحماء بينهم» لدفع ما يمكن أن يتوهم أن كونهم أشداء على الكفار يستوجب بعض الشدة فيما بينهم فدفع ذلك بقوله: «رحماء بينهم» و أفادت الجملتان أن سيرتهم مع الكفار الشدة و مع المؤمنين فيما بينهم الرحمة.
و قوله: «تراهم ركعا سجدا» الركع و السجد جمعا راكع و ساجد، و المراد بكونهم ركعا سجدا إقامتهم للصلاة، و «تراهم» يفيد الاستمرار، و المحصل: أنهم مستمرون على الصلاة، و الجملة خبر بعد خبر للذين معه.
و قوله: «يبتغون فضلا من الله و رضوانا» الابتغاء الطلب، و الفضل العطية و هو الثواب، و الرضوان أبلغ من الرضا.
و الجملة إن كانت مسوقة لبيان غايتهم من الركوع و السجود كان الأنسب أن تكون حالا من ضمير المفعول في «تراهم» و إن كانت مسوقة لبيان غايتهم من الحياة مطلقا كما هو الظاهر كانت خبرا بعد خبر للذين معه.
و قوله: «سيماهم في وجوههم من أثر السجود» السيما العلامة و «سيماهم في وجوههم» مبتدأ و خبر و «من أثر السجود» حال من الضمير المستكن في الخبر أو بيان للسيما أي إن سجودهم لله تذللا و تخشعا أثر في وجوههم أثرا و هو سيما الخشوع لله يعرفهم به من رآهم، و يقرب من هذا المعنى ما عن الصادق (عليه السلام) أنه السهر في الصلاة.
و قيل: المراد أثر التراب في جباههم لأنهم كانوا إنما يسجدون على التراب لا على الأثواب.
و قيل: المراد سيماهم يوم القيامة فيكون موضع سجودهم يومئذ مشرقا مستنيرا.
و قوله: «ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل» المثل هو الصفة أي الذي وصفناهم به من أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم إلخ، وصفهم الذي وصفناهم به في الكتابين التوراة و الإنجيل.
فقوله: «و مثلهم في الإنجيل» معطوف على قوله: «مثلهم في التوراة» و قيل: إن قوله: «و مثلهم في الإنجيل» إلخ، استئناف منقطع عما قبله، و هو مبتدأ خبره قوله: «كزرع أخرج شطأه» إلخ، فيكون وصفهم في التوراة هو أنهم أشداء على الكفار - إلى قوله -: «من أثر السجود»، و وصفهم في الإنجيل هو أنهم كزرع أخرج شطأه إلخ.
و قوله: «كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع» شطء النبات أفراخه التي تتولد منه و تنبت حوله، و الإيزار الإعانة، و الاستغلاظ الأخذ في الغلظة، و السوق جمع ساق، و الزراع جمع زارع.
و المعنى: هم كزرع أخرج أفراخه فأعانها فقويت و غلظت و قام على سوقه يعجب الزارعين بجودة رشده.
و فيه إشارة إلى أخذ المؤمنين في الزيادة و العدة و القوة يوما فيوما و لذلك عقبه بقوله: «ليغيظ بهم الكفار».
و قوله: «وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما» ضمير «منهم» للذين معه، و «من» للتبعيض على ما هو الظاهر المتبادر من مثل هذا النظم و يفيد الكلام اشتراط المغفرة و الأجر العظيم بالإيمان حدوثا و بقاء و عمل الصالحات فلو كان منهم من لم يؤمن أصلا كالمنافقين الذين لم يعرفوا بالنفاق كما يشير إليه قوله تعالى: «و من أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم»: التوبة: 101، أو آمن أولا ثم أشرك و كفر كما في قوله: «إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى - إلى أن قال - و لو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم»: سورة محمد: 30.
أو آمن و لم يعمل الصالحات كما يستفاد من آيات الإفك و آية التبين في نبأ الفاسق و أمثال ذلك لم يشمله وعد المغفرة و الأجر العظيم.
و نظير هذا الاشتراط ما تقدم في قوله تعالى: «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه و من أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما» و يؤيده أيضا ما فهمه ابن عباس من قوله تعالى: «فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم» حيث فسره بقوله: إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء، و قد تقدمت الرواية.
و نظير الآية أيضا في الاشتراط قوله تعالى: «وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض - إلى أن قال - و من كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون»: النور: 55.
و قيل: إن «من» في الآية بيانية لا تبعيضية فتفيد شمول الوعد لجميع الذين معه.
و هو مدفوع - كما قيل - بأن «من» البيانية لا تدخل على الضمير مطلقا في كلامهم، و الاستشهاد لذلك بقوله تعالى: «لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم» مبني على إرجاع ضمير «تزيلوا» إلى المؤمنين و ضمير «منهم» للذين كفروا، و قد تقدم في تفسير الآية أن الضميرين جميعا راجعان إلى مجموع المؤمنين و الكافرين من أهل مكة فتكون «من» تبعيضية لا بيانية.
و بعد ذلك كله لو كانت العدة بالمغفرة أو نفس المغفرة شملتهم شمولا مطلقا من غير اشتراط بالإيمان و العمل الصالح و كانوا مغفورين - آمنوا أو أشركوا و أصلحوا أو فسقوا - لزمته لزوما بينا لغوية جميع التكاليف الدينية في حقهم و ارتفاعها عنهم و هذا مما يدفعه الكتاب و السنة فهذا الاشتراط ثابت في نفسه و إن لم يتعرض له في اللفظ، و قد قال تعالى في أنبيائه: «و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون»: الأنعام: 88، فأثبته في أنبيائه و هم معصومون فكيف فيمن هو دونهم.
فإن قيل: اشتراط الوعد بالمغفرة و الأجر العظيم بالإيمان و العمل الصالح اشتراط عقلي كما ذكر و لا سبيل إلى إنكاره لكن سياق قوله: «وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم» يشهد باتصافهم بالإيمان و عمل الصالحات و أنهم واجدون للشرط.
و خاصة بالنظر إلى تأخير «منهم» عن قوله: «الذين آمنوا و عملوا الصالحات» حيث يدل على أن عمل الصالحات لا ينفك عنهم بخلاف قوله في آية النور: «وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم»: النور: 55، كما ذكره بعضهم، و يؤيده أيضا قوله في مدحهم «تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا» حيث يدل على الاستمرار.
قلنا: أما تأخير «منهم» في الآية فليس للدلالة على كون العمل الصالح لا ينفك عنهم بل لأن موضوع الحكم هو مجموع «الذين آمنوا و عملوا الصالحات» و لا يترتب على مجرد الإيمان من دون العمل الصالح أثر المغفرة و الأجر ثم قوله: «منهم» متعلق بمجموع الموضوع فمن حقه أن يذكر بعد تمام الموضوع و هو «الذين آمنوا و عملوا الصالحات»، و أما تقدم الضمير في قوله: «وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم» فلانة مسوق سوق البشرى للمؤمنين و الأنسب لها التسريع في خطاب من بشر بها لينشط بذلك و ينبسط لتلقي البشرى.
و أما دلالة قوله: «تراهم ركعا سجدا» إلخ، على الاستمرار فإنما يدل عليه في ما مضى إلى أن ينتهي إلى الحال، و أما في المستقبل فلا و مصب إشكال لغوية الأحكام إنما هو المستقبل دون الماضي إذ مغفرة الذنوب الماضية لا تزاحم تعلق التكليف بل تؤكده بخلاف تعلق المغفرة المطلقة بما سيأتي فإنه لا يجامع بقاء التكليف المولوي على اعتباره فيرتفع بذلك التكاليف و هو مقطوع البطلان.
على أن ارتفاع التكاليف يستلزم ارتفاع المعصية و يرتفع بارتفاعها موضوع المغفرة فوجود المغفرة كذلك يستلزم عدمها.
التفسير مقتبس من تفسير الميزان للسيد محمد حسين الطباطبائي